طائف في رحلة ابدية

By nanono3726

7.3M 138K 13.4K

من بين جموع البشر ... كان هو الاول والاخير... واخر من رغبت بمواجهته في هذه الارض القاصية الواسعة صرخ بها وال... More

المقدمة
الفصل الاول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس ....الجزء الاول
الفصل الخامس ... الجزء الثاني
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر ..الجزء الاول
الفصل التاسع عشر ..الجزء الثاني
الفصل العشرون
الفصل الواحد والعشرون
الفصل الثاني والعشرين
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرين
الفصل الخامس والعشرين ..الجزء الاول
الفصل الخامس والعشرون..الجزء الثاني
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الاربعون
الفصل الواحد والاربعون
الفصل الثاني والاربعون
الفصل الثالث والاربعون
الفصل الرابع والاربعون
الفصل الخامس والاربعون..الجزء الاول
الفصل السادس والاربعون
الفصل السابع والاربعون
الفصل الثامن والاربعون
الفصل التاسع والاربعون
الفصل الخمسون
الفصل الحادي والخمسون
الفصل الثاني والخمسون
الفصل الاخير
الخاتمة

الفصل الثالث والثلاثون

104K 2.1K 114
By nanono3726


( عذرا ...... هل يمكنك أن تدليني على غرفة مكتب السيد ليث ؟؟ ....... )
كانت متذمرة و هي ترمي بعض الملفات فوق بعضها , حتى أوشك حاسوبها ان يقع أرضا لولا أن أمسكت به في اللحظة الأخيرة , فثبتته و أزاحت الملفات بلا اهتمام , عابسة الوجه و على ملامحها يبدو الضيق واضحا و كأنها قد ملت العمل و كل شيء .....
الا أن الصوت الهادىء القوي ... بنبرةٍ أنثوية ثابتة , وصلها و جعلها ترفع وجهها ذو الملامح المتجهمة لتنظر الى صاحبة السؤال البسيط .....
للحظات لم ترد دليلة وهي تتطلع بإهتمام الى الشابة التي تقف أمام مكتبها , .....
كانت امرأة في أوائل الثلاثينات على ما يبدو ... تصغرها ببضع سنوات , .... جميلة الوجه , أو هكذا يمكن أن تبدو ..... تميزها عينان عسليتان كبيرتان .....
ترتدي عباءة سوداء , تغطيها من أعلى رأسها و حتى أخمص قدميها , حتى تمازج وشاح رأسها بالعباءة في سوادهما الحالك .....
أكثر ما يميزها هو أنها ثابتة الملامح بشكل غريب , مرفوعة الوجه بكبرياء فطري ....
لكن ملابسها غريبة ... على الأقل بالنسبة الى المكتب هنا , لا توجد مهندسة بينهن ترتدي عباءة .......
بدت شفتا دليلة مستقيمتين في خطٍ ثابت ... و بملامح قاتمة سألتها دون ترحيب
( هل يمكنني معرفة من تكوني أولا ؟! ......... )
ارتفع حاجب سوار للحظة , الا أنها سيطرت بسرعة على ثبات ملامحها و هي تقول بود و رزانة
( أنا زوجته ............. )
عند هذه اللحظة , تركت دليلة القلم الذي كان يلازم يدها ببطىء و هي تتراجع في مقعدها لترمق سوار مجددا بنظرةٍ أكثر بطئا ..... نظرة بدت ..... مهينة دون سبب معين ....
ضاقت عينا سوار بعدم ارتياح أمام تلك النظرات الغريبة البطيئة ..... الى أن قالت دليلة أخيرا دون مرح
( العروس ؟!! ........... )
هزت سوار رأسها قليلا و كأنها تجيب على السؤال ' بإستهانة مندهشة من هذه الصراحة الشديدة ....
ثم بدأت تتحقق من شكل هذه الشابة .... كانت متوسطة الجمال أو أقل ,... سمراء و ذات شعرٍ أجعد مصفف
في منتصف الثلاثينات من عمرها تقريبا .... لكنها كانت شديدة الإهتمام بمظهرها و زينتها .... و ملابسها عصرية و ذات طراز خاص ....
ابتسمت سوار في النهاية و قالت بثباتٍ أكبر
( بالكاد يمكن وصفي بالعروس !! ..... لقد مضى على زواجنا أكثر من ثمانية أشهر حبيبتي ..... )
لم تتحرك دليلة من مكانها و هي ترمقها بنفس النظرات الغريبة و التي بدت أكثر شرودا و أكثر .... نفورا .....
تابعت سوار بنبرة أكثر عفوية
( يبدو أن الأخبار تتناقل هنا أسرع مما تخيلت !! ......... )
رفعت دليلة عينيها الى عيني سوار , ثم قالت أخيرا بنبرةٍ باردة مختصرة
( ليس بالضرورة ...... لكن خبر كزواج السيد ليث من المؤكد أنه يكون قد أحدث جلبة ...... من التهاني بالطبع ....... )
ابتسمت سوار دون سعادة حقيقية ....
ترى كيف أخبرهم بالأمر و كيف كانت المناسبة ؟!! ...... ترى هل يعرفون بأنها الزوجة الثانية له .؟! ....
بالتأكيد !! ..... أي سؤالٍ أحمقٍ هذا .....
إن كان قد أخبرهم بزواجه منذ ثمانية أشهر , فمن المؤكد يعرفون بزواجه الأول و الذي استمر لسنواتٍ قبلها ...
شعرت سوار بنوع من الضيق لتصنيفها كزوجة ثانية لليث الهلالي أمام العاملين معه .... الا أنها لم تسمح لأي من مشاعرها بالظهور على ملامحها الثابتة ....
أسبلت دليلة جفنيها و هي تلاعب القلم المستكين على سطح مكتبها .... ثم قالت بفتور
( مكتبه في نهاية الرواق ......... )
ارتفع حاجبي سوار الآن , الا أنها هزت رأسها بتعجب ... تستدير كي تغادر هذا المكتب , لكن و قبل أن تخرج ... التفتت الى الفتاة الجالسة و سألتها بفضول
( لم نتعرف !! ......... )
رفعت دليلة عينيها الى سوار مجددا , ثم قالت دون ابتسام
( مهندسة دليلة ....... أعمل هنا منذ بضعة سنوات ........ )
ابتسمت سوار بأناقة و هي تقول بصوتٍ هادىء
( تشرفنا ................ )
ثم استدارت لتخرج , الا أنها اصطدمت بفتاة أخرى كانت على وشكِ الدخول للمكتب فاعتذرت منها بتهذيب و خرجت ......
دخلت الفتاة الى المكتب و هي تنظر الى دليلة التي كانت تشيع سوار بنظراتها , حتى بعد خروجها .... فسألتها بفضول
( من تلك المرأة التي خرجت للتو من المكتب يا دليلة ؟!! ....... )
لم ترد دليلة على الفور , بل ظلت تنظر الى الباب المفتوح بشرود , ثم قالت أخيرا بصوتٍ فاتر
( زوجة ليث الجديدة ......... )
اتسعت عينا الفتاة و هي تجلس خلف المكتب المقابل لتقول بذهول
( حقا !!!!! ..... العروس !!!! ........ )
استدارت دليلة في كرسيها المتحرك ... ثم قالت ببرود
( ليست عروس كما ذكرت للتو .... الآن فقط انتبهت الى أنه قد مر حوالي ثمانية أشهر منذ ذاك اليوم الذي أتى فيه الى العمل يخبرنا بزواجه مبتهجا و كأنه شاب في مقتبل عمره .... )
ضحكت زميلتها و هي تقول
( نعم .. نعم ..... اتذكر هذا اليوم , لقد اندهشنا جدا بمدى مباهاته بزواجه الثاني ..... بل أنه قام بتوزيع الحلوى .... و لم ينس العمال في إكراميات احتفالية ..... كان كمن يتزوج للمرة الأولى .... والله كان لطيفا جدا .... )
لم تشاركها دليلة الضحك .... بل ظلت على شرودها و هي تلاعب قلمها , ثم قالت أخيرا بصوتٍ قاتم
( ليس لطيفا , بل ساذجا ......... )
ارتفع حاجبي زميلتها و قالت بإهتمام
( لا ليس ساذجا ..... لا تنسي أنه صبر طويلا قبل قرار الحصول على طفل .... لهذا من الطبيعي أن يكون سعيدا بزواجه الثاني و سرعان ما سيدخل المكان مبتهجا بخبر الحمل ...... )
نظرت اليها دليلة نظرة طويلة , ثم قالت بإختصار
( زوجته ليست حاملا يا ناريمان , رغم مرور ثمانية أشهر على زواجهما ........ )
اتسعت عينا ناريمان و قالت بصوتٍ ذو مغزى
( هل استطعتِ تقدير حجم بطنها بهذه السرعة و خلال لحظات رغم ارتدائها ملابس فضفاضة !! ........ )
نظرت اليها دليلة و هي تقول ببرود
( بالنسبة لزواج غرضه الأول الحمل .... فمن الطبيعي أن تكون الآن في الأشهر الأخيرة من الحمل , أي أنه مهما كانت ملابسها فضفاضة فلن تنجح في اخفاء بطنها أبدا ..... كما أنها ترتدي كعبا عالي رفيع .... )
مطت ناريمان شفتيها و قالت متنهدة
( تحليل منطقي , لكنه ليس دليلا مطلقا ...... )
ابتسمت دليلة بسخرية و استياء دون أن ترد .... بينما كانت ناريمان تراقبها بإهتمام , الى أن قالت بحذر
( دليلة ...... آن الأوان كي تخرجيه من رأسك , السنوات تمر دون جدوى ...... )
نظرت دليلة اليها بنظراتٍ بلا معنى .... ثم قالت أخيرا بجمود
( وإن أخرجته ؟!! ..... ماذا سيحدث ؟!! ........ هل لديكِ بديل مقنع ؟!! ...... )
لوحت ناريمان بكفيها و هي تهتف بدهشة
( بالله عليكِ يا دليلة .... و لماذا يجب أن يكون هناك بديلا من الأساس ؟!! .... لا أصدق أنكِ أساسا كنتِ متقبلة فكرة أن تكوني زوجة ثانية !! ...... )
كان هذا الموضوع موجعا بالنسبة لها , الا أنها اعتادت الألم ...و بات تتقبله بشكل فاتر , لذا قالت بصوتٍ ميت
( و ما المشكلة في هذا ؟؟ ...... أنا إنسانة تفكر بعقلها , و لا مانع لدي في مشاركة أخرى بزوج ..... )
هزت ناريمان رأسها بعدم تصديق , ثم قالت بصبر محاولة أن تثنيها عن طريقة تفكيرها
( المشكلة أنكِ مهندسة .. ... ذات مكانة ووظيفة مرموقة ,لم يسبق لكِ الزواج بعكسه .... لكنك تفكرين بطريقة تجعلك تبخسين حق نفسك ....... )
رفعت ناريمان وجهها و هي تقول بصلابة
( لأنني ذات مكانة ووظيفة مرموقة فأنا أفكر بعقلي قبل أي شيء ..... أنا لا أحتاج الى بيتٍ يأويني أو رجلٍ ينفق علي ..... أنا فقط احتاج الى زوج لا يقل عن مستوى اختياري ..... يناسبني عمرا و عقلا و مكانة .... و لا مانع لدي في المشاركة ...)
زفرت ناريمان و هي تهز رأسها بيأس ... ثم قالت بخفوت
( لا فائدة ..... نفس الكلام منذ سنوات و لا أمل في تغيير رأيك .... لماذا أحاول حتى ؟! .... )
صمتت للحظة ثم رفعت وجهها تنظر الى دليلة قائلة ....
( لكن ما يدهشني هو أنكِ على ما يبدو لم تنسي الأمر بعد زواجه الثاني !! ......... )
عادت لتصمت للحظات , ثم قالت بذهول و بنبرة هامسة
( دليلة !! ....... هل تفكرين في أن تكوني زوجة ثالثة ؟!! ....... )
رمقتها دليلة بنظرة قصيرة , قبل أن تقول ببرود
( و هل هناك فرق بين الثالثة و الثانية ؟! .......... )
رفعت ناريمان كفيها و هي تقول بنفاذ صبر
( يالله ..... عقلي لم يعد يستوعب ...... أنتِ حالة لا تصدق !! ..... )
نهضت دليلة من مكانها و هي تغلق حاسوبها بقوة , قائلة بنبرة جليدية
( صدقي اذن ....... إن وجدت من هو أفضل لصرفت نظر عنه , لكن حتى هذه اللحظة , لا يمكنك حتى أن تنكري علي الأمل .... فهذا أبسط حقوقي .... )
ارتفع حاجبي ناريمان و هي تقول بصوتٍ ذاهل
( حقوقك !! ....... أي حقٍ هذا ؟! ...... )
التفتت دليلة تنظر اليها بقوة و هي تقول من بين أسنانها
( نعم حقي ...... حقي في البقاء حوله منذ سنوات ..... أنتظر عودته بعد كل سفرةٍ و كل زيجة ..... لقد كنت أعرفه قبل زواجه الأول حتى .... )
هزت ناريمان رأسها و هي تهمس لها بلطف
( لكنه لم يمنحك أي أملٍ من قبل ..... فلماذا توقفين حياتك من أجله ؟! .... )
ضحكت دليلة بسخرية و هي تستند الى حافة مكتبها قائلة ببرود
( أوقف حياتي ؟!! ....... ما الذي أوقفته تحديدا ؟! .... أين هي تلك الخيارات التي تجاهلتها لأجله ؟! .... )
بدت ناريمان مرتبكة قليلا , الا أنها قالت بخفوت
( كانت هناك بعض الفرص .......... )
أرجعت دليلة رأسها للخلف ضاحكة و هي تقول
( آه نعم ...... واحد غير قادر على فتح بيت واحد حتى .... و آخر أرمل لديه ثلاث أطفال يريد مني رعايتهم .... و الألطف من هذا و ذاك ثالث لم يتم شهادته الجامعية ...... )
صمتت للحظة و هي تنظر الى الأرض قائلة
( أخبريني بصدق و امانة ...... كامرأة .... من أفضل لكِ .... زوج مقتدر و في شخصية ليث حتى و إن كان المقابل المشاركة مع زوجة أو زوجتين أم أحدى تلك الفرص ؟!! ...... )
أطرقت ناريمان برأسها قليلا ... ثم قالت بخفوت
( ربما لو صبرتِ قليلا , لوجدتِ من يناسبك ......... )
ابتسمت دليلة بفتور ثم قالت
( وصلت الى منتصف الثلاثينات و لم أجد من يرضي فكرتي عن الزواج ..... لذا لا تلوميني على الأمل على الأقل ..... )
رفعت ناريمان وجهها تنظر الى دليلة , ثم قالت بهدوء
( لكن بماذا قد يفيدك الأمل سوى المزيد من العشم و الألم مرة بعد مرة ؟! ......... )
هزت دليلة كتفها و هي تبتسم بحزن قائلة
( لا يفيد بشيء ..... مجرد أمل و ها أنا أتابع حياتي و عملي .... و أرى المتاح من الفرص .... )
تنهدت قليلا بنفسٍ مختنق , قبل أن تنظر الى الباب المفتوح حيث خرجت سوار منذ قليل ثم قالت بخفوت
( تبدو مختلفة جدا عنه ..... لقد سافر الى كل بلدان العالم , ... لسانه و أناقنته و عصريته .... كل ما فيه يختلف عنها ..... ألم يفكر لحظة في هذا قبل أن يتزوج مجرد امرأة بسيطة الهيئة مثلها ؟!! ...... )
قالت ناريمان بصدق
( لا ...... أنتِ تبالغين , لقد رأيتها , وجهها يشبه القمر ........ )
ابتسمت دليلة بسخرية و هي تعاود النظر اليها قائلة ببرود
( من منا السطحي في تفكيره الآن ؟!! ..... ماذا يفيد الوجه الذي يشبه القمر بينما يبدوان مختلفين تماما .... على الأرجح أنها مجرد ربة منزل .... لا تعرف سوى العباءة السوداء .... و هي ضخمة الحجم كذلك ..... )
قالت ناريمان بحذر و تردد
( هل قيمتِ نفسك على أنكِ أفضل منها ؟!! ......... )
هزت دليلة كتفها مجددا , ثم قالت بثقة
( بنظرة سريعة ...... أنا مهندسة و اعمل في مجالي منذ سنوات , أهتم بشكلي و ملابسي و لغتي حتى و إن كان وجهي لا يشبه القمر ..... أما هي فمجرد سجينة لبلدة صغيرة و تقاليدٍ بالية كما يبدو عليها ..... حتى لهجتها مختلفة ....لذا الوجه الشبيه بالقمر يخسر في تلك المقارنة .... )
.................................................. .................................................. ......................
في تلك الأثناء .....
أخذت سوار نفسا عميقا و هي تقف أمام باب مكتب ليث المغلق ...... تؤخر نفسها عن فتحه قليلا ....
إنها المرة الأولى التي تأتي فيها لزيارته في مكان عمله و دون معرفة مسبقة منه .....
لقد خرج اليوم غاضبا كعادته في الكثير من الايام بسبب خلافٍ بينهما .... لكن هذه المرة شعرت بعد خروجه بضيق أخذ يتزايد الى أن بدأ يكتم أنفاسها , لذا قامت فجأة بتجهيز ملابسها ثم أتت الى مكتبه حيث سبق و املاها العنوان و أرقام هواتفه كلها ....
طرقت سوار الباب و انتظرت الى أن سمعت صوته الهادىء يدعوها للدخول .... ففتحت الباب ووقف به تنظر اليه خلف مكتبه عن بعد .... ثم قالت بخفوت
( هل أعطلك لو دخلت قليلا ؟!! ............ )
رفع ليث وجهه بسرعة عن حاسوبه و لم يكن هناك مجال أي مجال للشك في تلك السعادة التي تجلت على ملامحه برؤيتها .... و كأنه لم يخرج من البيت غاضبا منذ ساعات قليلة .....
للحظات ظل مكانه ينظر اليها مبتسما و كأنه يرسم لها صورة و عي تقف في باب مكتبه , الى أن نهض من مكانه و استدار حول مكتبه ليقول بصوتٍ مبتهج رجولي ووقور
( تعالي يا مليحة .......... كنت أشعر بأن اليوم سيحمل لي بعض الحلوى خلال العمل ..... )
ابتسمت و هي تسبل جفنيها بثقة .....
حسنا إنه يغذي غرورها و لا يمكنها إنكار هذا ...... لقد ظنت أنه سيقابلها متجهما , أو على الأقل لن ينسى خلافهما صباحا .....
لكن هذه المقابلة كانت أروع من أن تتخيلها .....
حين ظلت واقفة مكانها بصمت .... تبدو مترددة قليلا , تطوع ليث قائلا بحنان
( هل ستظلين واقفة عند الباب طويلا ؟! .... هل ندمتِ على قدومك ؟!! ..... )
ابتسمت قليلا الا أنها بدت أكثر ارتباكا و هي تتسائل عن سبب قدومها الى هنا بالفعل ..... فتحرك ليث من مكانه مقتربا منها و هي تراقبه خلسة من بين أجفانها المسبلة ...
عطره شديد الوضوح و كأنه قد وضع منه للتو ..... و أناقته لا جدال عليها , تزيده وقارا و احتراما و جاذبية ...
وصل اليها أخيرا فأمسك بكفها قبل أن يغلق الباب خلفها بيده الأخرى .... ثم أمسك كلتا يديها معا وهو يقول مبتسما ناظرا الى عينيها
( صباح الخير يا مليحة ....... )
و قبل أن ينتظر منها ردا كان قد أخفض وجه ليقبل وجنتها بنعومة .... ثم حرك وجهه ليقبل وجنتها الأخرى !! ....
يقبلها ببساطة و كأنه صديق ..... قبلتين دافئتين صباحيتين رائعتين ....
من المفترض أن تكونا مجرد قبلتيين ودودتين الا أن تأثيرهما مذهل ....
ابتعد وجهه عنها فرفعت وجهها المحمر اليه و هي ترد عليه بصوتٍ ثخين أجش
( صباح الخير ........ أشعر أنني تسرعت حين حضرت الى هنا دون موعد ...... )
ابتسم لعينيها وهو يشدد على قبضتيها و كأنه يخشى هربها سريعا ... ثم قال بجدية رغم ابتسامته التي لم تفارق وجهه
( بل كان أجمل تسرع قمتِ به ............ )
نظرت حولها قليلا و هي تشعر بإضطراب متجنبة النظر اليه , الى أن وقعت عينيها على مقدمة عنقه الظاهر من قميصه ... فأبقتهما هناك و هي تقول بخفوت
( لقد ...... لقد خرجت دون فطور اليوم ......... )
ارتفع حاجبي ليث وهو ينظر اليها بدهشة .... ثم قال مبتسما بتعجب
( و هل أنبك ضميرك على هذا ؟!! ........... )
لعقت سوار شفتها و هي تزفر قليلا بينما بدت أكثر اضطرابا كفرسٍ على وشك الإندفاع جريا , ... لكنها قالت بصدق
( نعم ......... لم أشأ أن يبدأ يومك بشكلٍ سيء , لكنك تنفعل ما أن نختلف في الرأي فتخرج سريعا غاضبا كالأطفال ...... )
ترك ليث كفيها ليمسك بوجهها يرفعه اليه فجأة .... ثم قال بجدية
( لم أغضب كالأطفال ..... بل خرجت كي لا ترين غضبي الحقيقي و هذا ما لا أرضاه لكِ .... )
ارتجفت سوار قليلا , الا أنها قالت بخفوت و هي تنظر اليه
( هل تهددني يا ليث ؟! .......... )
لم يرد عليها على الفور , بل ظل صامتا قليلا و عيناه تنطقان بألف معنى , الى أن قال أخيرا بصوتٍ أجش خافت
( هل هذا هو كل ما استطاع عقلك الغبي استنتاجه ؟! ....... )
بدأت شرارات الغضب تلمع في عينيها و هي تنفعل تلقائيا ... فقالت بحدة
( ليث أنا لا ............. )
الا أنه قاطعها بجدية و دون ابتسام
( أنا أحبك .......... لا تشكي في هذا مطلقا .... )
أخفضت وجهها قليلا و هي تقول بخفوت
( نعم أعلم ............. )
ابتسم ليث بسخرية , قبل أن تفلت ضحكة مستاءة من بين شفتيه قائلا بحدة
( لا تبالغي في اظهار سعادتك بالأمر رجاءا ....... فقلبي الذي شاب على حبك لن يحتمل هذه السعادة المتوهجة البادية في اجابتك العميقة !! .... )
بدت سوار أكثر ارتباكا و كأنه قد احرجها ..... فأخذت نفسا عميقا و قالت بحزم و هي تحاول تحرير يديها من كفيه ..
( أنا .... لم آتِ الى هنا كي نزيد من حدة نقاشنا , لقد أتيت فقط كي ...... )
صمتت و هي تعجز عن استعادة كفيها فتذمرت و تململت بينما قال ليث بهدوء جاد
( اذن لماذا أتيتِ ؟! .......... )
رفعت وجهها اليه و قالت بحدة ,
( ربما لو تركتي يداي للحظة لتمكنت من اخبارك ....... )
ترك ليث كفيها ببطىء , فاستعادت سوار أنفاسها معهما و حاولت الوقوف بثبات قبل أن تتحرك لتفتح حقيبتها الضخمة الأنيقة السوداء , ذات الشريط الوردي الشاحب .... و بهدوء أخرجت حافة علبة بلاستيكية تحتوي على بعض الشطائر و الفواكه المقطعة .... و قالت بخفوت دون أن ترفع وجهها اليه
( أتيت اليك بفطورٍ خاص ..... كبادرة صلحٍ بيننا ...... )
ثم أخرجت العلبة و أمسكت بها بين كفيها تقدمها له دون أن تنظر اليه .... و قالت بقنوط
( إن ..... إن حدث و اختلفنا فيما بعد , لا تترك فطورك ...... على الأقل فكر في استيقاظي مبكرا كي أعده لك ......... )
ساد صمت طويل بينهما وهو ينظر اليها بينما هي تتجنب النظر اليه تماما , و حين اضطرت الى رفع عينيها الى عينيه حين طال صمته .... احتوتها عيناه كالعادة , ككل مرةٍ تفعل .....
وضع ليث يديه فوق كفيها الممسكتين بالعلبة , ثم انحنى اليها و قبل أطراف أصابعها وهو يهمس لها بصوتٍ أجش
( كم هي حركة غالية منكِ يا مليحة ........ )
ابتسمت سوار رغما عنها و شعرت بالرضا يفيض بداخلها بعد أن كانت تشعر بالأسى و القنوط بعد خروجه من البيت غاضبا ......
رمشت بعينيها و هي تشعر بخجلٍ أحمق يمتزج بسعادة طفولية ... و قالت بحزم
( لن أعطلك أكثر ..... سأعود للبيت الآن ....... )
حاولت التراجع خطوة , الا أنه سارع بوضعِ كفيه على خصرها هذه المرة فأصبح الحصار أقوى و لا فكاك منه .... رفعت اليه عينين متسائلتين فقال بهدوء
( هل تظنين أن أتركك تخرجين هكذا ببساطة !!...........خاصة بعد تكلفك العناء في المجيء الى هنا خصيصا كي تراضيني !!.. )
قالت سوار بعنفوان
( لم آتِ كي .............. )
رفع ليث حاجبا متحديا ينتظر منها انكارا وقح أو كبرياء غبية ..... لكنها تنهدت و قالت بقنوط
( حسنا كما تشاء ..... أتيت كي أسترضيك ......هل انت راضٍ الآن ؟! ...... )
قال ليث بصوته الاجش العميق
( ليس تماما ..... لماذا لم تتصلي بي كي أرسل اليكِ السيارة بالسائق ؟! ...... )
رفعت سوار وجهها و قالت بسرعة
( لم أرى لهذا داعيا .... المكان بسيط و ليس بعيدا ..... آمل الا أكون قد أغضبتك أكثر بخروجي دون اذن منك !! ...... )
كانت لهجتها دفاعية , حادة ..... بل أقرب الى الهجومية , لذا لم يرد ليث على الفور , بل ظل صامتا وهو ينظر اليها نظرة ألجمت باقي الكلمات في حلقها .... فتراجعت , حينها قال بجدية
( أنتِ لستِ سجينة هنا يا سوار ..... بإمكانك الخروج كما تريدين ...... بل هذا ما كنت أحثك عليه منذ فترة و أنتِ تماطلين ...... )
شعرت بإحراجٍ أكبر و هي تطرق برأسها ,. فقال كي يهون عليها الأمر
( هل استقليتِ سيارة أجرة ؟؟ ........... )
أومأت سوار برأسها دون أن تجيب , فقال لها مقترحا ببساطة
( ما رأيك لو علمتك القيادة ؟؟ ........ حينها قد تأتين كل يومٍ لإصطحابي , فقد مللت القيادة ..... )
نظرت اليه سوار متفاجئة ..... و للحظات راق لها الأمر ....
فهي تستطيع حمل السلاح و مؤخرا ركوب الخيل .... و لم تتعلم القيادة قبلا ...... و هذا يبدو مضحكا .....
لكنها عادت و قالت بصوتٍ جاد
( لا أعتقد أنني سأجيد القيادة في مثل هذا الزحام .... فهي تحتاج الى أعصابٍ باردة و أنا كما تعرفني .... )
صمتت ساخرة بينما ابتسم ليث ليتابع عنها بنبرة أكثر عمقا
( كتلة من نار .......... )
ابتسمت قليلا و هي تضحك بخفوت , ثم قالت أخيرا
( لا أعلم ماذا دهاني اليوم ..... ربما لأنه يوم تخشاه كل امرأة لكن لم أظن أنني سخيفة الى هذه الدرجة , طبعا أنت لا فكرة لديك عما أعنيه ...... تظن أنني على الأرجح أتكلم بالألغاز ..... )
لم يرد على الفور .... بل ظل صامتا وهو ينظر اليها مبتسما , ثم تناول العلبة منها , ليضعها جانبا على طاولة صغيرة .... ثم رفع وجهها اليه و قال بنعومة
( بلى أعرف ...... اليوم هو يوم مميز جدا لدي , لأنه يوم بلوغك الثلاثين ...... أجمل ما قد تبلغينه في حياتك و لا أدري إن كنتِ ستزدادين جمالا مع كل عام أم أنها ميزة خاصة بالثلاثين تحديدا دون غيرها .... اليوم هو يوم مولدك , و لولا معرفتي بأنكِ لا تفضلين الإحتفال بيوم مولدك لأقمت لكِ حفلا كبيرا ...... )
كانت سوار تنظر اليه فاغرة شفتيها , تنظر اليه بذهول ....بينما هو يتكلم بمنتهى البساطة ..... و ما أن انتهى من خطابه الرقيق حتى انحنى اليها وهو يقول بخفوت
( كل عام و أنتِ بخير يا مليحة ..... كل عامٍ و أنتِ معي الى أن يحين الأجل ..... )
فغرت شفتيها أكثر و هي تظنه سيقبل وجنتيها كما فعل لحظة دخولها , الا أنه أغلق شفتيها بقبلة أكثر رقة صدمتها و جعلتها ترتبك و تبتعد بسرعة , لتعدل من وشاحها و قد احمرت وجنتاها بشدة من هذه الجرأة ...
هزت رأسها قليلا , ثم قالت بصوتٍ أجش مختنق
( كيف ...... لم أظن أنك ستتذكر تاريخ مولدي !!! ....... )
ارتفع حاجبي ليث وهو ينظر اليها بعجب , ثم قال ببساطة
( أتذكر ؟!! ....... إنه يعد أهم يوم من أيام حياتي , ...... إنه اليوم الذي أهدتني الحياة بكِ يا مليحة , فكيف أغلف عنه !! ....... )
رمشت بعينيها قليلا و هي تنظر أرضا بإرتباك ...... لا تعلم هل تفرح أم تستلم لتلك القبضة المقفلة على صدرها ... و التي تذكرها أنها ببلوغها الثلاثين , فهو في المقابل على وشكِ بلوغ الأربعين ....
دون طفل واحد !! .......
اظلمت عينا سوار بشدة و هي تصل الى هذه النقطة ....
يالله ... لم تكن يوما سوى نكبة في حياة أي رجلٍ يدخل حياتها !! .....
إنها لا تزال حتى الآن تعاني من ذنب الحياة التي عاشتها مع سليم رحمه الله .... و الآن تعاني من حرمان ليث من الطفل الذي يتمنى , لكن بداخلها رفض هي غير قادرة على ابعاده عن نفسها و عقلها كي تتمتع بحياة مستقرة .....
ربت ليث على وجنتها وهو يقول بجدية صلبه
( فيما كل هذا الشرود ؟!! ......... هل هي مناسبة حزينة اليكِ الى تلك الدرجة ؟! .... لولا معرفتي بكِ أكثر من نفسك لظننت بالفعل أنكِ تخشين بلوغ الثلاثين !! ..... )
لعقت سوار شفتيها و هي تقول بحزمٍ خافت .... نادمة على قدومها الى هنا , بقدميها .....
( أنا ...... لقد عطلتك أكثر مما ينبغي ...... لذا سأخرج الآن و أتركك الى عملك , ..... )
أمسك بها ليث بقوة , جعلت عينيها تتسعان قليلا و هي تنظر اليه بدهشة , بينما بادلها هو النظر بجدية .... ثم قال بقوة
( دخول الحمام ليس كالخروج منه ...... تأتين الي صباحا و معك فطور معد بيديكِ .... في يوم مولدك , بنية خالصة منكِ في استرضائي .... ثم تنوين الخروج هكذا ببساطة ؟!!! ..... )
عقدت سوار حاجبيها و هي تنظر اليه بشك , ثم قالت بحدة لم تستطع السيطرة عليها .... هجومية كنبرة ساكني الجبل من الفارين من العدالة
( ماذا تريد بعد ؟!! ......... )
ابتسم ليث وهو يقرص وجنتها قائلا بمزاحٍ أجش
( هدىء من أعصابك يا عم الحاج ...... لم أقصد شيئا يتعارض مع سطوتك يا وحش الليل ..... أنا فقط قصدت الخروج في نزهة صباحية بريئة مع زوجتي الجميلة المتفانية في اسعادي ..... )
عقدت سوار حاجبيها غير متجاوبة مع مزاحه .....
متفانية في اسعاده ؟!!! ..... لا .... هذا ليس حقيقيا أبدا , فهي ليست متفانية في إسعاده , بل لم تحاول حتى ....
قالت سوار بتردد
( لا ...... لن أقبل أن تترك عملك و تخرج بسبب زيارتي ...... )
قال ليث بصوتٍ قوي لا يقبل الجدال
( هذه الزيارة تأخرت أكثر من اللازم يا سوار .... لذا أرى أنها مناسبة تستحق الإحتفال , فضلا عن مناسبة يوم مولدك ..... )
فتحت فمها تنوي المعارضة .... الا أنها اكتشفت أنها لم تخرج من البيت في نزهة منذ فترة طويلة .....
كانت ترفض بتهذيب كلما عرض ليث عليها الخروج .... لكن الآن شعرت بنفسها تميل للتنزه و استنشاق هواءٍ ناعم عليل يهدىء من قسوة قلبها عليه ....
ابتسم ليث وهو يرى استسلامها النادر ... فتركها قائلا بهدوء
( لحظات و سأكون جاهزا ......... )
اتجه الى مكتبه , ليأخذ سترته و مفاتيحه و يغلق حاسوبه بينما هي تراقبه بتفحص .....
ثمانية أشهر .... ثمانية أشهر كاملة من المفترض أن تكون قد اعتادته خلالها ........ لكن هذا لم يحدث بعد ...
كان هناك حاجز يفصل بينهما ....
إنه يعود الى نفس الشخص الذي عرفته طوال حياتها .... ليث , معلمها و صديقها الوحيد ....
أحيانا تترك لنفسها متعة الضحك معه ..... تستمع اليه مساءا لساعات طويلة و هي مبتسمة ... مستندة بذقنها الى كفها دون ملل ....
و كأن السنوات قد عادت بهما ..... حتى أنها بدأت تتحداه و تضحك و تحتد معه و تلاعبه كما كانت تفعل في مراهقتها ....
الى أن يصل الأمر بينهما الى منطقة الزوج و الزوجة ..... حينها تبدأ في غلق الأبواب حول نفسها بتوتر ....
لم تحرمه من حقه أبدا ..... فيكفيها حرمانها له من الأطفال , لكنها لم تكن معه .....
كيف تشرح لنفسها هذا ....... لم تكن مثله ......
إنه يحيا فيها حلما قديما .... بينما هي تتذوق ما يقدمه لها بحذر ....
كان شغوفا .... و كانت مترددة .......
رفع وجهه اليها فجأة ... فارتبكت و أشاحت بوجهها خوفا من أن يدرك فيما تفكر فيه .... و أبقت على رأسها منخفض الى أن وصل أليها و أمسك يدها فأجفلت بقوة .... الا أنه قال ببساطة
( هيا بنا ............. )
أومأت برأسها صامتة ..... لكن و قبل الخروج من الباب , أمسك بالعلبة التي أحضرتها له , فقالت و هي تفتح حقيبتها
( سأعيدها في حقيبتي ......... )
الا أن ليث أبعد العلبة عن يدها وهو يقول بإصرار
( بل سأمسكها في يدي ............. أريد للجميع أن يراها .... )
ابتسمت قليلا و هي تتقدمه .... لكنها قالت بدهشة
( رائحة عطرك واضحة جدا ...... هل تجدد وضعه في المكتب ؟!! ........ )
ابتسم ليث وهو يقول ببساطة
( إنه العطر الذي تحبيه ........... )
مطت سوار شفتيها و هي تقول بإمتعاض
( نعم أعرف ...... لكن لماذا تجدد وضعه في المكتب , طالما أنني أنا من أحبه .... و أنا في البيت لا هنا !! .... )
أمسك ليث بمرفقها وهو يقودها خارج المكتب .... مبتسما دون رد .....
هل يخبرها أنه كان يعلم بقدومها اليه ؟!! .....
هل يخبرها أنه وضع العطر خصيصا , استقبالا لها ؟!! .....
هل يخبرها أنه لم يكن ليحتجزها في البيت .... لكنه لم يكن ليجازف بحمايتها في نفس الوقت .... من الحقير راجح من جهة .... و من نفسها من جهة أخرى , فربما تهورت و قررت فعل أي شيء يخص الثأر الذي لا تزال عازمة عليه .....
هل يخبرها أنها مراقبة ؟!!! ........
لا .... لن يفسد يومها مطلقا بمعلومة تافهة مزعجة كهذه ......
خرجا من المكتب , لكن ما أن فعلا حتى أوقفتهما دليلة التي اقتربت منهما و هي تقول ناظرة الى كل منهما بتفحص
( ليث ..... كنت أريدك في أمرٍ هام ......... )
ابتسم ليث بلطف دون أن يترك مرفق سوار , ثم قال بهدوء
( ليس الآن يا دليلة ..... مضطر للخروج ..... بالمناسبة أحب أن أعرفك على زوجتي .... سوار الرافعي .... )
ابتسمت دليلة ببرود و هي تقول بنبرة فاترة
( سبق و تعارفنا .......... مرحبا مجددا ....... )
ردت عليها سوار بإبتسامة مقتضبة , بينما انخفضت عينا دليلة لترمق العلبة في يد ليث رافعة حاجبيها ...
ابتعدا عنها ..... و بقت هي على نظرتها ,و لم تدرك أن سوار قد التفتت تنظر اليها ... تتحقق من مراقبتها لهما ..... أو له على الأصح ...
.................................................. .................................................. ..................
ابتسمت سوار برقة و هي تغمض عينيها للهواء الجميل الملامس لبشرتها ....
كان الجو أكثر من رائع هذا الصباح .... كانت كالمساجين اللذين يطلقون سراحهم لبعض الوقت .....
المكان مفتوح و الخضار يحيط بهما حول طاولة مميزة .... بينما هو يراقبها مبتسما بصمت ....
الى أن قال أخيرا بخفوت
( هل أنتِ تعيسة الى هذه الدرجة يا سوار ؟!! ....... )
فتحت سوار عينيها و هي تنظر اليه بدهشة مجفلة من سؤاله الخافت العميق .... فقالت بتردد بعد فترة
( لماذا تقول هذا ؟!! ................. )
ضيق ليث عينيه وهو ينظر اليها ثم قال بخفوت
( لو رأيتِ تلك الملامح التي أراها الآن .... تبتسم لنسمة هواء و كأنها المتبقي لها من الحياة , لعرفت الجواب ..... )
ضحكت سوار بعصبية و هي تقول
( لا تكن سخيفا ...... أنا فقط أستمتع بالهواء , لا تضخم الأمر ....... )
لم يرد عليها ليث على الفور ....بل ظل ينظر الى عينيها ثم قال أخيرا
( لم أقصد أن أحتد عليكِ صباحا ........... )
أطرقت سوار بوجهها دون أن ترد .....
من معرفتها الخاصة به خلال الأشهر الماضية .... ادركت أن هناك جوانب كثير من ليث الهلالي لم تكن تعرفها الا بمكوثها معه في بيتٍ واحد ..... كزوجين ....
صحيح أنه تهذيبه لا جدال حوله .... رقته في معاملتها تذيب المفاصل ....
لم يحتاجا الى خادمة مطلقا ..... كان يعاونها في كل شيء و لم يثقل عليها في الطلبات أبدا ......
رائع .... بإختصار هو رائع ......
طالما كانت في حيز توقعاته ..... دون أن تتجاوزه ......
لكن إن تجاوزته , حينها يبدأ الجانب العنيد منه في الظهور .... جانب جنوبي يابس لا يعرف الدلال ....
يصطدم بمثيله لديها .... فيتناطحان كثورين هائجين .....
لم يكن هذا الصباح هو الخلاف الأول بينهما .... بل كان واحدا من سلسلة طويلة , كلما تعارضت رغباتهما معا .....
لم تعرف رجلا في مثل عناده من قبل ..... حتى جدها ووالدها و أعمامها .... و بالتأكيد سليم رحمه الله ...
على الرغم من رقته الشديدة و تهذيبه .... الا أنه كان الأشد عندا في كل من دخل حياتها من رجال
عندا أقرب الى التسلط أحيانا ..... يسمح لها بما يريد و يمنع عنها ما لا يحب .....
و هي لم تنصاع أبدا للتسلط ......
قال ليث بجدية حين طال شرودها
( لا رد لديكِ ...... من الواضح أنني قد جرحتك بالفعل ...... )
رفعت سوار وجهها اليه و قالت بهدوء
( لم تجرحني ...... أنت فقط تحاول زرعي في حياة لا تناسبني ...... )
انعقد حاجبي ليث وهو يقول بحدة
( أنا ؟!! .......... لقد تركت كل شيء لأجلك ........ )
ارتجفت شفتي سوار و هي تقول بصوتٍ غريب
( هذا تحديدا ما أقصده ...... يفترض بي أن أكون شاكرة لك و ممتنة , لكن هذا الشعور لا يلائمني ..... كنت أفضل البقاء و المواجهة , لا البقاء ممتنة لزوج قبل بي مع وصمة عار لن تزول لسنوات طويلة ... )
انعقد حاجبي ليث بشدة .... بينما تابعت سوار تقول بقوة
( أريد العودة الى حياتي و بلدتي ..... أريد البقاء مع جدي ...... أريد أن أخرق عين كل من يتجرأ على ذكر اسمي بالسوء ...... أريد ال ........ )
صمتت متعمدة و هي تطرق بوجهها , فقال ليث بنبرة غريبة
( تريدين الأخذ بثأرك ............ )
رفعت وجهها اليه و قالت بعد فترة
( نعم ........... لا زلت أريد هذا , فبعد شهور طويلة من تدليلك و تضحيتك لي , ظننت انني بدأت أتأقلم مع حياة مختلفة تماما .... و أنني نسيت سليم رحمه بالله .... لكن العكس هو ما يحدث , بداخل صدري نار لا تهدأ .... لكنها تستعر أكثر مع كل شهر يمضي ....... أنا أتألم يا ليث ....... )
كان يستمع اليها بملامح غاضبة .... قاتمة .....
فقالت بهدوء
( ها هي طاقات غضبك تهدد بالإنفلات ............... ماذا ستفعل الآن ؟! تتركني هنا و ترحل ؟!! .... )
أغمض ليث عينيه وهو يزفر بصمت .... ثم قال بعد فترة طويلة
( ماذا أفعل معكِ ؟!! ....... أخبريني بالله عليكِ ماذا أفعل معكِ ؟!!! ....... أمنحك كل ما أستطيع و أنتِ لا تن........ )
مالت سوار اليه و قالت بحدة
( أنصاع ...... لا أنصاع ........ لماذا لم تتابع ؟!! ......... )
ضرب بقوةٍ فجأة على الطاولة وهو يقول من بين أسنانه
( لن تمسكين بسلاحٍ و تهدري دما ....... لن يحدث .... و لن تعودي للبلد ...... الأمر ليس له علاقة بحب أو عشق .... بل له علاقة بحمايتك و هذا ما عاهدت الله عليه .... لن أتركك لنفسك مطلقا ..... )
تسببت ضربته في انسكاب كأس الشاي الخص بها على الطاولة .... و تساقطت قطراته على عبائتها ....
أجفل ليث بقوة وهو يدرك ما فعل , فنهض من مكانه مسرعا وهو يتفحص ساقيها
( هل أحرقك ؟!!! ...... هل أصبتِ ؟!! ......... )
قالت سوار و هي تنظر حولها بإرتباك
( لقد انسكب معظمه فوق الطاولة ...... بضعة قطرات فقط تساقطت على العباءة , هلا جلست من فضلك ..... الجميع يتطلعون تجاهنا ..... )
بدا ليث منعقد الحاجبين بشدة .... وهو يضع يدا على ظهر مقعدها , بينما اليد الأخرى رفعت وجهها اليه و استقرت على وجنتها و كأنه يعتذر لها اعتذار صامت دون كلمات .... لا يهينه ....
أسلبت سوار جفنيها و هي تقول
( أرجوك اجلس .............. )
بدا ليث مترددا قليلا , لكنه ابتعد عنها أخيرا .... ثم أشار الى النادل كي يأتي و ينظف تلك الفوضى ... و طلب منه كأسا جديدا .....
بقت سوار صامتة و هي تتطلع الى البعيد .... ثم قالت أخيرا بهدوء
( أنت تظنني غير سوية ...... اليس كذلك ؟!! ..... امرأة متعلمة و مثقفة و لا تزال تدور في قيد الثأر ....... لا يمكنك أن تشعر بما أشعر أنا به ...... )
لم تتجرأ على النظر اليه , الى أن قال أخيرا بصوتٍ قاتم
( لا ...... لا أظنك كذلك , أعرف أنكِ أمضيتِ فترة طويلة جدا في البلد , تشبعتِ خلالها بكل كيانها .... الصالح منها و الطالح ..... حتى أثناء سفرك للدراسة , ما كانت سوى محطات .... تعودين بعدها للبلد التي تحيا بها جذورك ....... )
رفعت وجهها اليه و هتفت بحدة
( اذن لماذا تلومني ؟!!! ...... لماذا تمنعني ؟!!! ........ )
ابتسم ليث ابتسامة غريبة .... بهما من العنف و الخوف معا ما جعلها ابتسامة هزمت قلبها للحظة .... ثم قال بخفوت
( سأمنعك ....... لم أحصل عليكِ أخيرا كي افقدك بهذه البساطة ..... سأتمكن من عمل غسيل مخٍ كامل لكِ .... سأقتلعك من تربتك و أزرعك في أرضٍ جديدة إن اقتضى الأمر ..... )
انعقد حاجبي سوار و هي تهتف فجأة بتمرد
( الا رأي لدي ؟!!! ............. )
بقى ليث صامتا قليلا , ثم قال أخيرا وهو يهز رأسه نفيا
( لا ...... فيما يخص هذا الأمر , لا رأي لديكِ .... أنا آسف ..... تعقلي و انسي الأمر ... )
كان كلا منهما ينظر للآخر بحدة و قد بدأت الحرب الجنوبية تحدتم بينهما مجددا .... الى أن نهضت سوار من مكانها فجأة و هي تقول بحدة
( يوم مولد رائع و احتفال أكثر روعة ..... أريد العودة ........ )
و دون انتظار رأيه كانت قد خرجت مسرعة , بينما أشار هو الى النادل تاركا ورقة مالية ليلحق بها بسرعة ....
و ما أن وصل اليها حتى أمسك بمرفقها , فقالت بحدة
( لا تمسك بي بهذا الشكل ..... ... )
قال ليث من بين أسنانه
( اصمتي يا سوار و كفى جدالا ..... لقد أوشك صبري على النفاذ ...... )
فتح باب السيارة ثم دفعها للداخل بفظاظة ..... ثم صفق الباب , ليدور حولها و يحتل مكانه مكفهر الوجه ....
نظرت سوار الى جانب وجهه وهو يقود السيارة مندفعا بصمت .... فقالت بصوت قاتم
( ربما علينا العودة لشجار الصباح اذن ..... انا أريد السفر لجدي , أبسط حقوقي الإطمئنان عليه في مرضه ...... )
قال بقوة قاطعا
( لن تسافري بمفردك ....... بالله عليكِ كفي عن الشجار , لقد بدأت أصاب بارتباك في الأمعاء بسبب عنادك الصباحي كل يوم ..... )
هتفت سوار بحدة أكبر
( أريد رؤية جدي ...... إنه يحتاجني ..... كيف لك أن تكون عنيدا متصلب الرأس الى تلك الدرجة ؟!! .... )
ضرب ليث المقود بقوة وهو يصرخ و قد خرج عن طوره
( أنتِ تريدين السفر وحدك الى عرين الأسود ..... القصة لم تهدأ حتى يومنا هذا ..... )
صرخت سوار بقوة و عنف و هي تنزف بداخلها خزيا من طريقة اخفائها و كأنها فرطت في شرفها بالفعل ...
( لا يهمني مخلوق ..... أنا لست بمثل هذا الجبن ؟!! ....... )
ساد صمت ثقيل حاد ...... و حين نظرت اليه كان جانب وجهه غير مقروء الملامح , الى أن قال أخيرا بصوتٍ بارد
( تظننيني جبانا يا سوار ؟! ............ )
رمشت بعينيها و هي تقول بسرعة
( لا ...... لا ...... لم أقصد هذا , لا تستغل الكلمة كي تمثل دور المجروح .... )
ضحك ليث بسخرية .... ثم صمت ..... و كذلك هي , فلم يعد لديهما المزيد كي يقولاه ....
قالت سوار بعد فترة بخفوت كي تبدد هذا الجو العدائي
( هلا أنزلتني عند المجمع التجاري ...... و يمكنك العودة بعدها لعملك و أنا سأستقل سيارة أجرة .... )
حاولت الإبتسام عبثا ..... و هي تتابع همسا
( سأغير طريقة ملابسي ..... لن أرتدي العباءة السوداء , فما رأيك ؟؟ ........ )
نظر اليها ليث نظرة طويلة , ثم قال ببرود
( كنت على وشك طلب تغطية وجهك ..... و ها أنت تبادرين بخلع العباءة , فماذا بعد ؟! ...... )
ارتفع حاجبيها قليلا , ثم قالت بخفوت
( أحاول التأقلم مع التربة التي تريد زراعتي بها بالقوة ....... )
قال ليث بقسوة
( التربة الجديدة تحتوي الكثيرات ممن يرتدين العبائات ..... إن كنتِ قد لاحظتِ ...... )
قالت سوار بحدة
( لكن لا توجد واحدة منهن في عملك إن كنت قد لاحظت ......... )
نظر اليها بسرعة , و فتح فمه ليتكلم .... الا أنه رمقها بنظرة غامضة , ثم صمت تماما و تابع طريقه فظنت أنه أذعن و سيذهب بها الى المجمع ...
في الحقيقة , لم تفكر للحظة في خلع عبائتها .... لقد هتفت بالفكرة في موجة عناد مفاجئة و هي تتظاهر بتلطيف الجو .... كيف ستفعل الآن اذن ؟!! ....
كتفت ذراعيها بقنوط شاردة , الى أن لمحت بنايتهما فجأة .... اتسعت عيناها بدهشة قبل أن تلتفت اليه هاتفة
( أظنني طلبت منك أن ............. )
الا أن ليث لم يستمع اليها وهو يوقف السيارة قائلا يقاطعها بصوتٍ صلب
( لا تغيير للعبائات ... أعتقد أنه يحق لي ابداء رأيي في الأمر , لقد تزوجتك و أنتِ ترتدينها و ستبقين كذلك .... و لأنني لم أتزوجك و أنتِ تغطين وجهك فهذا هو السبب الوحيد الذي يمنعني من فرضه عليكِ .... انتهت المناقشة في هذا الأمر .... )
فتحت سوار فمها تنوي شن الحرب عليه ..... الا أنه قال مجددا دون أن يمنحها الفرصة
( سنسافر سويا خلال الاسبوع المقبل .......... )
فغرت فمها و هتفت بحدة و غضب
( أنا أرفض أن تلحقني في كل مرة أذهب فيها لزيارة جدي هذا الأمر يجعل مني .... )
قاطعها ليث بصوتٍ أكثر تسلطا ....
( لست ألحق بكِ ..... سأرافقك , ثم أذهب الى ميسرة .......... )
تسمرت سوار مكانها تماما و هي تنظر اليه نظرة غير مفهومة .... نظرة أقرب الى الضياع ....
خلال السبعة أشهر الماضية لم يهجر ميسرة بالكامل ..... بل زارها عدة مرات كي لا يتحمل وزر هجرها ....
في المرة الأولى حين أخبرها الأمر بلطف فغرت فمها ذاهلة .... فحاول أن يفهمها أنها و على الرغم من تصرفها عديم الأصل معه في عدم مرافقتهما .... الا أنها ليست مجبرة تماما على تحمل ما مرت به سوار , فتترك حياتها و بيتها و عائلتها .... كي ترافقهما ...
فكانت النتيجة أن تركها و سافر .... لكن ليس الى درجة أن يهجرها بالكامل فهو كرجل لا يرتضي هذا على نفسه أو على أهل بيته .....
كانت سوار تستمع اليه دون نطق .... و لم تتنازل حتى بمحاولة منعه , بل صمتت و تركته يوصلها الى بيت عمها سالم , فمكثت معهما الى أن عاد .....
و لم يتناقشا في الأمر أبدا ..... و تكرر الأمر مراتٍ قليلة جدا خلال السبعة أشهر ...
في كل مرة يذهب صامتا و يعود في نفس الصمت .... و هي كذلك , و تبقى الحياة بينها جافة صامتة الى أن يجذبها الى أحضانه بقوةٍ و كأنه يتعافى بها و يراضيها .....
فتحت سوار فمها لتقول بصوتٍ ميت باهت
( ماذا تفعل معها حين تذهب اليها ؟!! ............. )
التفت ينظر اليها بحدة .... وهو يعقد حاجبيه بشدة , ثم قال بسرعة قاطعة
( ما الذي تتوقعين سماعه ؟!! ....... )
احتدت نبرة سوار و هي ترد عليه بقوة
( سؤالي واضح ...... هل تقربها ؟!! ...... )
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يقول بتعجب مستاء
( كيف لكِ أن تسألي سؤال كهذا ؟!! ..... و تتوقعين مني الإجابة !! ..... )
صمتت سوار و هي تنظر اليه نظرة مظلمة ... تحمل قهرا محتجزا في عمق عينيها لم يستطع تفسيره .... الا أنها قالت في النهاية بصوتٍ قاسي خالي من الروح
( لقد حصلت على الإجابة التي أريد ...... سافر وحدك , فأنا لن أرافقك و أنتظرك بينما أنت ت ..... )
صرخ ليث بقوة يوقفها عند حدها قبل أن تتجاوزه أكثر
( اصمتي حالا يا سوار .... لقد تجاوزتِ كل الخطوط الحمراء ....... )
لم ترد عليه بل رمقته بنظرة أخيرة , شك معها أنها على وشك البكاء , لكن و قبل أن يتحقق من الأمر كانت قد فتحت الباب و هي تقول ببرود جليدي
( أخبرني بموعد سفرك كي أخير مسك و عمي سالم لأبقى عندهما ريثما تنتهي من ..... مهمتك .... )
ألقت بكلمتها الأخيرة و كأنها ترمي بقذارة من فمها تجاهه , فاشتدت أصابعه بقوة و كاد أن يفقد أعصابه .... الا أنها كانت قد خرجت بسرعة و صفقت الباب خلفها بكل قوة ....
أوشك على الخروج مندفعا خلفها , الا أنه استجمع كل طاقاته سيطرته المتبقية ... و مكث مكانه , مستندا الى ظهر مقعده , مرجعا رأسه للخلف وهو يحاول التنفس بإتزان ....
لقد أثارت غضبه اليوم بدرجة فاقت كل الأيام الماضية ,,,, و أكثر من مرة يوشك على فقدان سيطرته على أعصابه معها كمان كان يفعل مع ميسرة ....
لكن الوضع مع ميسرة كان مختلفا .... كانت تخطىء و تمعن في الخطأ و لا تسكت الا بعد أن يوقفها بردٍ رادع ...
لكن مع سوار الأمر مختلف .... إنها امرأة مختلفة , قوية و لديها عنفوان و جموع غير قابلان للتحكم بهما ....
صحيح أنها قادرة على إفقاده أعصابه في لحظة , لكنها سرعان ما تستردها في لمح البصر .....
يعلم أنها متألمة من زيارته لميسرة .... و كان يفترض به أن يكون راضيا عن هذا الألم , علها تكون غيرة أو اشتياق .... لكنه لم يكن يتحمل عليها ذرة ألم واحدة ....
إنها لا تعلم كيف يكون الحال هناك .... لا يعلم أنه في كل مرة كان يخير ميسرة بين الطلاق أو القدوم معه ...
الا أنها كانت تصرخ في وجهه بهياج مجنون
" أنها أفهم ما تريده جيدا ..... تريد أن يكون طلب الطلاق مني أنا , كي تلبيه متلهفا و تسعد بحياتك مع الساحرة ..... لكنني لن أسمح لك أن تنال مرادك .... أنا أرفض الطلاق , ليس من حقك أن تطلقني لمجرد أنك تزوجت من سيدة الحسن و الجمال التي كنت تحلم بها كل ليلة .... ليس من حقك أن تعاقبني أنا بسبب أفعالها الفاجرة ..... اتقي الله , أنا لم أفعل لك شيئا كي تطلقني .... "
لقد رفضت كل مساعيه كي يأخذها معه أو أن يسرحها بإحسان ... إنها تشكل عقبة و هي تخبره بذلك بكل وضوح ...
قديما كان انفصالهما أسهل ... لأن سوار لم تكن في الصورة , لكن الآن كلما ذكرت أن لا ذنب لها فيما حدث لسوار كي يطلقها و يسافر ... يعجز عن الرد , على الرغم من أن تلك لم تكن الحقيقة كاملة ....
الحقيقة ان الحياة بينهما انتهت منذ فترة طويلة جدا و هي ترفض الإعتراف بذلك , وهو لا يريد طلاقها الا أن يكون قرارا مشتركا .... كي لا يشعر أنه قد ظلمها يوما خاصة و انها ابنة عمه في الأساس قبل ان تكون زوجته ..... وهو سيتركها مطلقة و غير قادرة على الإنجاب أي أن فرصها المتبقية معدومة تقريبا ....
الأمر صعب جدا كلما حاول اتخاذ القرار بشجاعة ....
في الزيارة الأخيرة لها ..... حدث ما كانت ترفضه سوار , و الذي لم يعترف به ....
لقد قارب ميسرة بناءا على تشجيع منها , فلم يكن قادرا على تجاهل حقوقها الشرعية أكثر .....
لكنه كان كارها لكل لحظة بينهما .... لقد انعدمت المودة و الرحمة و أي مشاعر ايجابية تجعله ينظر اليها كحلاله ....
و حين عاد الى سوار ... ابتعد عنها لفترة , شعورا منه بالتقصير و الذنب .....
و هي كانت صامتة تماما , فدخلت غرفتهما و أغلقت بابها دون كلمة اضافية .....
وها هو على وشكِ تكرار تلك المأساة مجددا ......
زفر ليث بقوة وهو يغمض عينيه ..... لقد ظن أن زواجه بسوار هو الحلم الذي عاش يحرمه على نفسه لسنوات طويلة .... لكن اتضح له أن الواقع أصعب و أكثر مرارة .... لكن جماله يجعله يتحمل المرار بكل إرادة ..... 

دخلت مسك الى غرفتها بهدوء و هي تفتح الباب بحرص ....
كانت قد ارتدت ملابسها كاملة في الحمام , و لم يتبقى لها سوى تمشيط شعرها و تزيين وجهها ..... لذا دخلت برفق دون أن تحدث صوتا كي لا تيقظ تيماء ....
نادرا ما تنام منذ عودتها و خاصة بعد دفن طفلها ....... و اليوم حمدت الله أن وجدتها و قد خفت قليلا فوق الوسادة ..... فخرجت مغلقة الباب خلفها دون ان تصدر صوتا ....
لكن الآن و ما أن فتحت الباب بحرص ... حتى وقفت مكانها متنهدة و هي ترى تيماء جالسة في السرير , ممسكة بالمصحف تقرأ فيه بصوتٍ هامس ...
قالت مسك بيأس
( الم تنامي يا تيماء ؟!! ............... )
أنهت تيماء ما تقرأه ثم رفعت وجهها تنظر الى مسك ثم ابتسمت بارهاق و هي تقول
( لا لم أنام .... أغمضت عيني لأرتاح فحسب ..... )
اقتربت منها مسك حتى جلست بجوارها على حافة السرير , ثم قالت بجدية
( أنتِ لا تنامين مطلقا يا تيماء ..... مطلقا ..... لم أراكِ نائمة منذ أيام , كما أنكِ لا تأكلين أيضا ... لقد خسرتِ الكثير من وزنك ..... و الظلال الزرقاء تحت عينيك تزداد قتامة كل يوم )
قالت تيماء ببساطة , و بإبتسامة باهتة
( لا تبالغي في الأمر يا مسك , كيف كنت لأحيا إن لم آكل و أنام ..... أنتِ فقط لا تراقبيني كل الوقت ........ أنا آكل ما أحتاج و أنام حين يسقط رأسي ..... )
لم ترد مسك , و قد ظهر عدم الإقتناع في عينيها واضحا وضوح الشمس ..... لكنها قالت بهدوء و هي تضع يدها على ساق تيماء المثنية تحتها
( كيف تشعرين الآن ؟!! ...... أنتِ أيضا لا تتكلمين مطلقا , و قد انتظرت منكِ أن تفيضي بما يملأ قلبك , الا أن هذا لم يحدث حتى الآن ...... )
قالت تيماء و هي لا تزال مبتسمة ,
( أنا بخير يا مسك صدقيني ...... ألستِ أنتِ من أخبرتني ذات مرة أن الحياة تحمل اختباراتٍ أكثر وجعا ؟! ...... )
لم تبتسم مسك , بل ظلت ترمقها بقوة الى أن قالت بهدوء
( الصبر و التماسك لا يعني عدم التصريح بما تشعرين به ..... تكلمي كي تزيحي الألم عن كاهلك .... )
اتسعت ابتسامة تيماء و بدت أكثر عاطفية و هي تقول برقة
( أشكرك يا مسك ...... لقد حصلت منكِ بالفعل على كل الدعم الذي أحتاج , حتى إن لم أتكلم .... يكفيني وجودي هنا , ....لم اكن لأحظى بالراحة و السكون الذي أحتاج في أي مكانٍ آخر , كما وفرتهما لي ...... )
زمت مسك شفتيها بإشفاق .... لم تظن أن تكون تيماء بمثل هذه القشرة الصلبة أبدا ....
هي كمسك الرافعي , تستطيع ذلك و بكل جدارة .... تستطيع أغلاق ألف باب على آلامها و أوجعاها , لتخرج في اليوم التالي مبتسمة بأناقة دون أن يظهر عليها شيء ....
لكن تيماء مختلفة .... تيماء شديدة العاطفية و مشاعرها عنيفة و هذا النوع من البشر .... يصبح خطرا على نفسه إن صمت و تماسك كما تفعل تيماء الآن .....
لذا حاولت مجددا و بطريقة مختلفة , فقالت بتلقائية و هي تضع ساقا فوق أخرى
( اذن اخبريني ..... ما هي خططك بالنسبة لعملك ؟؟ ........ )
بدت تيماء غير مهتمة و هي تهز رأسها قليلا ... ثم قالت بخفوت
( الحقيقة لم يتسنى لي التفكير في الأمر مليا ..... سأحاول مراسلة الجامعة في الخارج مجددا لأرى أقصى فترة مسموح بها للتغيب ..... ثم , أحاول السفر إن كانت هناك فرصة , أما إن ضاعت تلك الفرصة فسأعود لألغي أجازتي من جامعتي هنا و أعود لعملي ....... )
ضيقت مسك عينيها و هي تقول بتقييم
( تبدو الحلول كلها متساوية في نظرك .... الا تشعرين باللهفة لشيء ؟!! ..... )
هزت تيماء كتفها و هي تقول ببساطة مبتسمة كدمية طفولية , ابتسامتها محفورة على وجهها الداري
( بالفعل كل الحلول متساوية ..... لن أخسر أكثر ...... )
أظلمت عينا مسك بشدة و هي تعرف هذه الجملة و تحفظها عن ظهر قلب
" لن أخسر اكثر ..... "
لم تعد خسارة أي مخلوق أو وظيفة بالنسبة لها تعد أمر جلل .... فبعد المرض و الخيانة , تبلدت تماما و تحولت الى أسطورة في القوة و عدم اللامبالاة .... من يغادر ليغادر ... و لتكن الخسارة خسارة ....
لا شيء مؤلم أكثر .......
قالت مسك بخفوت
( تيماء ...... ابكي .... اصرخي ..... لن يلومك أحد ..... )
ارتفع حاجبي تيماء و هي تقول مبتسمة بدهشة
( أصرخ ؟!! ...... ليس الى هذه الدرجة , من تلك التي تتكلم ؟!! .... هل هي مسك الرافعي فعلا ؟! .... )
انعقد حاجبي مسك و هي تستوعب ما نطقت به للتو ....
" ما الذي أقوله بالفعل ؟!! .... ما هذا الغباء ؟!! .... لقد أثر عليها الفظ زوجها أفظع تأثير ..... "
أغمضت مسك و هي تلوح بكفها ملوحة , مفكرة
" و ها أنا ألقبه بزوجي أيضا !! ..... بالفعل تأثيره فظيع .... "
ارتفع حاجبي تيماء و هي ترى مسك تغمض عينيها و تلوح بكفها و كأنها تشتم شخصية خيالية ... فقالت بحذر
( مسك .... ماذا تفعلين ؟؟ ....... )
فتحت مسك عينيها مجفلة على صوت تيماء المتسائل ..... فقالت بنفاذ صبر
( لا شيء .... تذكرت شخصا مزعجا ليس أكثر ...... المهم أنا سأجهز نفسي للخروج الآن و لدى عودتي سنراسل الجامعة كي لا أسمح لكِ بالتهرب ..... )
أومات تيماء مبتسمة دون أن ترد ... الا أن مسك عادت و استدارت اليها لتقول بحماس
( ما رأيك في الخروج معنا أنا و أمجد الليلة ؟؟؟ ........ ستجددين حالتك النفسية جدا و صدقيني الجلوس مع الحسيني ساعة واحدة من الزمن كفيلا بأن يجعلك تفقدين البقية الباقية من تهذيبك .... ربما كنت تحتاجين لبعض سلاطة اللسان كي تخرجي مما أنتِ فيه ...... )
ضحكت تيماء برقة و هي تستمع الى مسك ..... ثم قالت بشقاوة
( و ما دخلي أنا كي أكون عزولا بينكما ؟! ..... اذهبا انتما و استمتعا , فلا رغبة لي في الخروج أو الكلام ....... )
زمت مسك شفتيها متنهدة بصمت .... ثم قالت باستسلام
( لا بأس .... ربما غدا أو بعد غد ..... فالفرص مع الحسيني لا تنتهي , لدرجة تكاد أن تكون خانقة ..... )
ابتسمت تيماء أكثر دون أن ترد , لكن و قبل أن تنهض مسك من مكانها , عقدت حاجبيها قليلا و هي تنظر الى صدر تيماء .... فقالت بدهشة
( تيماء ..... ملابسك مبتلة !! ....... )
أخفضت تيماء عينيها الى صدر قميصها البيتي , فوجدته مبللا تماما , مما جعلها ترفع يدها لتتحسس صدرها و تجسه ببطىء بينما بدت شاردة تماما ... ثم قالت بخفوت
( آه نعم ..... هذا أغرب شيء .... الحليب لم يجف من صدري رغم مرور شهر على الولادة .... و الأغرب أن سليم لم يرضع من صدري قبلا كي يحفز نزوله أصلا ...... )
عقدت مسك حاجبيها و هي تقول
( هذا شيء غريب بالفعل ..... ما رأيك أن نذهب غدا للطبيبة .... فهذا الأمر قد يتسبب في احتقان لكِ و ارتفاع درجة حرارتك ....... ستجد حلا لإيقاف ادرار اللبن ...)
هتفت تيماء بقوة
( لا ........... )
ارتفع حاجبي مسك متسائلة , فتراجعت تيماء قليلا و هي تقول
( الأمر ليس مهما .... لا يحتاج للذهاب الى طبيبة , سيتوقف يوما ما .... لما العجلة ....... )
فتحت مسك شفتيها لترد ... الا أن جرس الباب قاطعها , فنظرت بعيدا و هي تقول متنهدة
( كعادته أتى مبكرا و كأنه نائم على باب البيت .... لم أجد الوقت لأزين وجهي حتى , عامة هذا أفضل .... ليس له نصيب في الزينة ..... )
نظرت الى تيماء و ربتت على كفها قائلة
( سنكمل كلامنا لدى عودتي .... اذهبي لتغتسلي و تبدلي ملابسك ..... )
أومأت تيماء برأسها هامسة بخفوت
( وقتا سعيدا يا مسك .... استمتعي قدر استطاعتك ....... )
ابتسمت لها مسك ثم نهضت برشاقة متجهة الى الباب ....
أما تيماء فظلت جالسة مكانها شاردة العينين .... و قد احتلتا وجهها الصغير كله , بدت كشخصية كارتونية كبيرة العينين , شاحبة الوجه و شديدة النحول .....
نهضت من مكانها و هي تتجه الى الدولاب كي تأخذ شيئا من ملابس مسك البيتية ... بدت محتارة ماذا تختار , ثم قالت فجأة بصوتٍ ممازح
( أنت تليق في اللون الأزرق الفاتح يا سليم .... لطالما لائم الأزرق امتلاءك في بطني و جعلني أبدو منتفخة و لطيفة ...... )
صمتت و هي تلتقط قميصا قطنيا واسعا .... رفعته لتنظر اليه مقيمة , ثم قالت بسعادة
( الا يكفيك كل الملابس الزرقاء الفاتحة التي اشتريتها لك ؟! .... )
عادت لتصمت فجأة و هي ترفع وجهها بصدمة .... فعقدت حاجبيها و هي تمد يدها لتمسك ببطنها المسطحة الخالية ....
نظرت الى الباب الذي خرجت منه مسك للتو .... ثم أعادت النظر الى بطنها الخالية و هي تقول بخفوت
( لم تمر سوى لحظتين فقط .... ثم عادوني النسيان !! ...... )
أغمضت عينيها و هي تهمس
( أشعر بك لا تزال موجودا داخلي , فثمانية أشهر ليست فترة قصيرة ...... )
أخذت نفسا عميقا ثم نظرت حولها بعدم تركيز و قالت
( على عيني رؤيتك و أنت تدفن يا حبيبي .... على عيني والله ..... يوما ما سآخذك في حضني بقوة و لن يفرقنا شيء مطلقا .... و سأمنحك كل الحب الذي كنت تحتاجه ..... )
أخفضت عينيها الى صدرها الذي فاض من جديد ... فعادت تجسه بكفها و هي تغمض عينيها مستسلمة لهذا الألم الحارق .... لم يكن غير طفلها ليريحها من هذا الألم ....
لكنها لا تريده أن يزول .... فاحساس وجود اللبن بصدرها يشعرها بأن طفلها لا يزال حيا .....
على أن استمرار نزول اللبن كل هذه الفترة يعد معجزة صغيرة .... و كأن طلفها رفض أن يغادرها قبل أن يترك لها هدية صغيرة منه ....
أغمضت تيماء عينيها مبتسمة و هي تقول بخفوت
( لا بأس .... أؤمن أنني سأحملك بين ذراعي يوما ما ...... في أمان الله يا حبيبي .... )
.................................................. .................................................. ..................
تعالى رنين الباب مجددا .... فزفرت مسك و هي تهز رأسها يأسا ...
الى أن وصلت اليه و فتحته قائلة بنفاذ صبر
( من يسمع الرنين المتواصل يظن أنني قد ............. )
توقف كلامها فجأة , و هي تنظر الى الرجل الواقف أمامها مطرق الرأس .... فقالت بجمود
( زاهر !! .......... )
رفع زاهر وجهه ينظر اليها متأملا .... بنظرةٍ طويلة جدا , بدت أكثر جرأة قليلا من احترامه السابق ....
فزمت مسك شفتيها بعدم راحة الى أن قال أخيرا مبتسما بصوتٍ خافت
( كيف حالك يا بهية ؟؟ ............ )
رفعت مسك وجهها و هي تقول ببرود
( بخير ..... كيف حالك انت يا ابن عمي ؟؟ ....... سمعت أنك قد تزوجت ....... مبارك )
نظر زاهر الى عينيها ثم عقد حاجبيه وهو يخفضهما قائلا بإيجاز
( آه نعم ........ شكرا لكِ ........ )
ساد صمت غريب بينهما , كان هو يتجنب النظر الى عينيها , بينما هي تراقبه بكل أريحية .... مثلما كان الحال تماما في مقابلتها الأخيرة مع أشرف .....
كتب عليها أن يتجنب الرجال النظر الى عينيها بعد كل فعلة من أفاعيلهم ....
راودها سؤال فضولي وقح ... لم تستطع كتمانه أبدا , فرفعت وجهها و هي تسأله ببساطة ساذجة و كأنها مجرد امرأة تافهة فضولية
( هل هناك حدث سعيد في الطريق ؟!! ......... )
ازداد انعقاد حاجبيه و بدا أكثر حرجا لدرجة جعلتها تشفق عليه ساخرة .... الى أن قال أخيرا بصوت غير مسموع متجهم
( آه ...... نعم ...... في البداية .... )
تظاهرت بالسعادة و هي ترفع حاجبيها قائلة بحماس
( كم هذا رائع !! ...... مبارك لك يا ابن عمي ....... )
لم يرد عليها زاهر ... بل بدا اكثر حرجا و أشد تجهما .... فانتظرت و قد طار حماسها الزائف ووقفت مكانها ترمقه بنظرة باردة .... لا تحمل أي قدر من الإعجاب أو الإمتنان .......
حين طال الصمت أكثر من اللازم ... تململت بملل و هي تقول بترفع
( عذرا يا زاهر .... أبي ليس هنا ,...... )
كانت تستطيع السماح له بالدخول إن ارادت .... فقد ذهبت الى قاصي في بيته بملىء ارادتها حين اقتضى الأمر .... لكنها كانت أكثر من راضية و هي تقول تلك العبارة اللطيفة ..... لترجعه من حيث أتى على ملىء وجهه ..... صفر اليدين .....
لكنه على ما يبدو لم يفهم الرسالة بعد ....فقد ظل واقفا مطرق الرأس , متجهم الملامح و كأنه يحاول ايجاد طريقه للكلام .... و تركته مسك مستمتعة بحيرته , فهو على الأرجح قد أتى ليعتذر منها و من والدها ....
و هي الآن في قمة سعادتها و في النهاية سترفض اعتذاره و تطرده بلطف .... صفر اليدين مجددا ....
فتح زاهر فمه , فاستبشرت بقرب زوال الغمة ..... الا أنه ما أن نطق , ليته ما نطق .... حتى قال بخفوت وهو يرفع وجهه ناظرا الى عينيها بلهفة
( أنا مستعد للتغاضي عما حدث يا بهية ....... لننسى ما فات , و لنجمع الشمل من جديد .... أنا لازلت على عهدي و أرغب في الزواج منكِ أكثر من أي وقتٍ مضى ..... )
فغرت مسك فمها بذهول .... كان الذهول مضاعفا ....
أولا بسبب وقاحة ما قال .... و ثانيا لأن باب المصعد كان قد فتح من خلفه و خرج منه الحسيني حاملا باقة الورد المعتادة وهو يسمع من المبجل زاهر عرضه الزواج على .... زوجته !!! .....
نظرت مسك الى أمجد الذي تسمر مكانه بعد سماعه العبارة الأخيرة ..... بينما تابع زاهر قائلا بنبرة خافتة
( لم أرغب في حياتي كلها امرأة كزوجة أكثر منكِ يا مسك ...... فما هو رأيك يا بهية ؟! .... هل أكلم عمي لأطلب منه يدك ؟!! ...... )
لم تستطع مسك الرد و هي لا تزال واقفة مكانها تنظر الى ملامح أمجد المنذرة بالجنون .... قبل أن يعلو صوته من خلف زاهر ليقول بصوتٍ صارم
( الأبدى أن تطلب يدها مني .......... )
انتفض زاهر مكانه وهو يسمع الصوت الرجولي الخطير المندفع من خلفه , فاستدار اليه ليجد أمجد واقفا بملامحه المتحفزة , ... و بنظرة واحدة الى باقة الورد في يده ... صرخ زاهر بذهول
( أنت ؟!! ...... ماذا تفعل عنها ؟! ...... و ما علاقتك بها ؟!!!! ...... )
ألقى أمجد بباقة الورد بعيدا حتى حطت بجوار احدى الزوايا عند المصعد , قبل أن يقول و قبضتيه تمسكان بمقدمة قميص زاهر وهو يدفعه للخلف حتى ارتطم بالحائط .
( أنا زوجها يا حبيبي .......... )
شهقت مسك عاليا و هي تتراجع مع ارتطام زاهر بالجدار بجوارها مباشرة , بينما هدر أمجد بجنون
( اياك و الإقتراب من زوجتي مجددا ........)
أمسك زاهر بقميص أمجد في المقابل .... , بينما هو ينظر الى مسك ليصرخ هادرا
( هل ما يقوله هذا الحيوان حقيقي ؟!! ...... هل تزوجتِ دون علم عائلتك ؟!!! ...... )
صرخت مسك به بعنف
( من تنعت بالحيوان ؟!! أنت الحيوان و عشر حيوانات معا .. .... نعم تزوجت بعلم والدي , و لا حاجة لي بموافقتكم ..أتركه ... .)
خرجت تيماء في تلك اللحظة جريا و هي تهتف بخوف ...
( ماذا يحدث ؟!!! ........ )
ثم اتسعت عيناها بذهول و هي ترى زاهر و أمجد يمسكان بخناق بعضهما أمام الباب ... و يبدو على كل منهما الجنون , و قد تمزق قميص كل منهما .....
مدت مسك ذراعها كي تمنعها من الخروج و قالت بحدة
( تراجعي يا تيماء قبل أن يصيبك مرفق أحدهما أو قدمه ........... )
نقلت تيماء عينيها الذاهلتين بين مسك و أمجد و زاهر الممسكين ببعضهما دون فكاك و قد استقرا على هذا الشكل على ما يبدو و كأنهما يتراقصان ...
فهتفت بقوة
( كفى فضائح ........ ماذا لو سمعكما الجيران .... توقفا حالا ...... )
الا أن أحد منهما لم يسمعها , و زاهر يهز أمجد بقوة صارخا
( و تتجرأ على حمل باقة ورد لها يا عديم النخوة و تأتي الى بيتها ؟!!! ...... )
اتسعت عينا أمجد بذهول وهو يهزه هو الآخر هاتفا
( ألم تستوعب يا بني آدم ؟!!!! ...... هذه زوجتي ؟!! ..... ما دخلك إن جلبت لها وردا أو فجلا أو ربطة بقدونس حتى ؟!!! ........ )
صرخت تيماء بعنف
( كفى يا زاهر أنت تجعل من نفسك أضحوكة , أمجد زوج مسك بالفعل و أبي موافق ..... لا تحرج نفسك أكثر .... من فضلك غادر ..... )
كان كلا منهما ينظر للآخر بمزيج من الجنون و الغباء و عدم استيعاب ..... و كأنهما قد فقدا القدرة على التفكير السوي ....
فصرخت مسك هي الأخرى بصوت قوي تردد صداه كضربة سوط ....
( أمجد أتركه حالا ..... أنت تفضحني في البناية ...... )
بقيا على حالهما بضعة لحظات في نظراتٍ غبية غير سوية ..... الى أن دفعه أمجد بكل قوته وهو يلهث بعنف .... ثم قال بصوتٍ يرتجف من فرط الغضب
( الآن عرفت أن مسك زوجتي ...... اذهب و أخبر عائلتك الكريمة كلها , و إياك ..... إياك والإقتراب منها مجددا , و الا والله لن أتمالك نفسي في المرة المقبلة ....... )
كان زاهر ينظر الى ثلاثتهم كالثور الهائج ..... قبل أن يمسح فمه بظاهر يده , ثم قال وهو يشير اليهما
( ما حدث لن يمر على خير ........ لن نسكت على زواجك بتلك الطريقة ...... )
هدر أمجد بجنون
( غادر من هنا حالا قبل أن اطلب لك الشرطة ...... هيا ........ )
نظر زاهر اليهما نظرة أخيرة قبل أن يتراجع وهو يصرخ عاليا
( حسنا يا مسك ..... حسنا يا بنت سالم ...... سترين عاقبة فعلتك تلك , أنت ووالدك ...... )
اندفع أمجد خلفه و قد فقد أعصابه , الا أن زاهر كان قد أغلق المصعد .... فضرب أمجد على الباب المغلق بكل قوته وهو يصرخ صرخة ترددت موجاتها عبر الطوابق كلها
( إياك و العودة و الا كسرت لك ساقك و عنقك .......... )
استدار أمجد وهو ينظر الى مسك التي كانت واقفة في اطار الباب المفتوح ... مكتفة ذراعيها ... و خلفها تيماء المذعورة ....
نظرة واحدة الى وجهها البارد و عينيها الجليديتين كانت كفيلة بأن تزيد من جنون غضبه , خاصة و أنها قد رفعت ذقنها عن قصد و هي ترمقه بنظرةٍ متعالية .... قبل أن تستدير داخلة الى البيت , متجاهلة له تماما ....
وقف أمجد مذهولا للحظة من رد فعلها المتبجح .... قبل أن يندفع خلفها وهو يصرخ
( انتظري هنا .......... إياكِ و الهروب .... )
لم تستدر مسك اليه , و لم تتنازل حتى بالرد ... بل تابعت طريقها الى داخل الشقة بخيلاء وهو يندفع خلفها هاتفا
( أنتِ يا هانم ..... استديري و خاطبيني وجها لوجه ...... )
استدارت مسك اليه فجأة فدار شعرها حول وجهها بنعومة .... لا تماثل القسوة في عينيها و هي تقول من بين أسنانها
( لا ترفع صوتك في هذا البيت ....... )
تسمر أمجد مكانه وهو ينظر اليها بعينين ذاهلتين عنيفتين وهو يقول غير مصدقا
( هل ترغبين في كسر عنقك ؟!! ..... صدقا أتسائل , هل ترغبين في التجربة ؟!! ..... لأنكِ الآن تلعبين في أرضٍ خطرة ..... )
تقدمت منه مسك خطوة و هي تهتف بقوة
( لقد تصرفت بمنتهى الغباء .... و جلبت لنا كارثة كنا في غنى عنها ...... )
صرخ أمجد وهو يشير الى الباب قائلا
( ماذا تتوقعين مني و أنا أرى رجلا يعرض الزواج على زوجتي ؟!!! .... )
هتفت مسك و هي تقول بحدة
( كنت أكثر من قادرة على ردعه دون تدخلك ........ لكنك تصرفت بهمجية لا تغتفر .... )
عض أمجد على أسنانه وهو يغمض عينيه ... حتى أنها سمعت صوت ضغط أسنانه واضحا .....
لكنه قال وهو يرفع كفه بحزمٍ مشددا على كل حرف
( سنقيم حفل زفافنا خلال أيام في أي مكانٍ كان ......... و إن أردتِ رؤية الهمجية التي لا تغتفر حقا , تجرأي على معارضتي .... )
برقت عينا مسك بعنفوان و هي تهتف بقوة
( لا يمكنك أن تفرض رأيك بهذه الصورة ..... خاصة بعد الكارثة التي تسببت بها للتو ... )
هتف أمجد بعنف
( أي فرض رأي ؟!! ...... كنا قد اتفقنا أن يتم الزفاف بعد اسبوعين , فمر شهر كامل ...... )
هتفت مسك بحدة
( كانت لدينا حالة وفاة ..... الا يوجد لديك ذرة احساس ؟!!! ..... كيف لك أن تفكر في الزواج و أختي تمر بهذه الظروف ؟!! ..... )
هدر أمجد يقول
( لا أريد أي احتفال ..... لا أريد أي زفاف , تنتقلين الى بيتنا و انتهى الأمر ..... )
صرخت مسك تقول بكل قوة
( بل أريد حفل زفاف و فستان أبيض ...... لن أتنازل عن أي حق من حقوقي لمجرد أن سعادتك متعجل ... )
هتف بها أمجد وهو يوشك على الإصابة بالجنون
( من منا عديم الإحساس الآن ؟!!!!! ..... أي زفاف هذا الذي تريدينه و أختك تمر بمثل هذه الظروف ؟!! ..... )
صرخت مسك تقول
( اذن ننتظر .... لا شيء يدفعنا الى التسرع , خاصة بعد ما حدث ...علينا الإنتظار الى أن تهدأ الأمور ... )

ساد صمت غريب بينهما و كل منهما ينظر الى الآخر بطريقة غريبة ...ثم لم يلبث أن اندفع أمجد اليها ليمسك بكتفيها وهو يتراجع بها الى أن ألصقها في الحائط فصرخت به
( أتركني حالا ......... أرفع يدك عني .... )
الا أنه لم يفعل بل قال من بين أسنانه بصوتٍ مشتد الأوتار
( ماذا تريدين ؟!! ...... أخبريني ماذا تريدين تحديدا لأنني سئمت من مراوغتك ..... )
سحبت نفسا حادا قبل أن تقول بصرامة أكثر حدة من نبرته ...
( أنا لا أوصف بالمراوغة .... لست أنا أبدا و أنت أكثر من يعرف هذا ......... )
قال أمجد بصوتٍ خافت شرير
( الى متى تنوين التأجيل ؟؟؟ ....... ما الذي يخيفك ؟!! .... ما هو هذا الشيء القاتم الذي يهدد أمن القفص الجليدي الذي تسجنين نفسك فيه ؟!! ...... )
هزت مسك رأسها و هي تهتف بحدة و قد بدأت ترتجف من شدة الغضب
( ما هذا الهراء الذي تنطق به ؟!!! .......... لا شيء يهددني , و أنا بالتأكيد لا أسجن نفسي في أية أقفاص ..... )
تدخلت تيماء و هي تنظر اليهما برعب
( اتركها يا أمجد أرجوك ....... أنت تزيد الأمور تعقيدا .....لما لا تغادر الآن و أنا سأتكلم معها طالما أنها تتحجج بي في مسألة التأجيل .... )
صرخت مسك تقول بنفاذ صبر
( تيماء .... أنت لا تتعاونين معي بهذه الصورة ...... )
لكن قبل أن تجيب تيماء .... تدخل صوت سالم وهو يقول بذهول
( ما الذي يحدث هنا ..... لماذا تركتكم باب الشقة مفتوحا ؟!! ....... )
ثم صمت وهو يستوعب منظر أمجد الممسك بكتفي مسك بقوة يحتجزها ..... فهتف متابعا
( اتركها حالا يا أمجد ...... كيف لك أن تقتحم بيتي في غيابي و تتهجم على ابنتي بتلك الصورة ؟!! .... )
لم يتحرك أمجد من مكانه ...... بل قال بفظاظة ووقاحة
( زوجتي و أنا حر بها ..... لا أحد يخبرني كيف اتعامل معها .... )
اتسعت عينا سالم بدهشة و غضب قبل أن يهتف
( زوجتك حين تكون في بيتك ...... أما هنا فعليك التزام أصول و حرمة هذا البيت ..... )
عند هذه النقطة رفع أمجد كفيه عن كتفي مسك وهو يقول مواجها سالم
( الحمد لله ..... أخيرا سمعت قول الحق , و أنا لا أريد سوى أن تكون في بيتي اليوم قبل الغد ..... ثمانية أشهر و نحن نلتزم السرية و كأنني أتستر على فعل شائن أو أصلح ما انكسر بيننا ..... )
هدر سالم يقاطعه غاضبا
( احترم نفسك يا ولد ....... )
قالت تيماء متدخلة بقوة
( لقد حضر زاهر الى هنا منذ قليل .. و عرف بزواجهما .....فتوعد و اقسم الا يمر الموضوع على خير ... )
ساد صمت مشحون بينهما قبل أن يقول سالم بصوت متشنج
( عرف ؟!!!! ...... من الغبي بينكم الذي أخبره ؟!! ....... )
رفعت كلا من تيماء و مسك اصبعيهما و أشارتا بهما الى أمجد .... فنظر اليهما باستياء , قبل أن يضرب اصبع مسك بقوة قائلا
( اخفضي اصبعك هذا ...... يكفيني أنفك بالله عليكِ ....... )
ثم نظر الى سالم وهو يضع كفيه في خصره قائلا بتحدي سافر
( نعم أنا من أخبرته ..... لكن فاتهما أن تخبراك بأن ابن أخيك الغالي كان يعرض الزواج على زوجتي .... )
اتعت عينا سالم أكثر و أكثر ..... فنظر الى مسك وهو يقول بحدة
( مسك !!!! ........ اشرحي لي ما حدث !! ........ )
أخذت نفسا عميقا و هي تقول بتقزز
( لقد أتى زاهر الى هنا كي يطلبني للزواج مجددا .... على باب البيت , علما بأن زوجته حامل و قد هنأته بنفسي قبل عرضه الكريم ....... )
انعقد حاجبي أمجد بشدة وهو يستدير لينظر الى مسك التي تكلمت بصلابة و قوة ..... لم يكن قد سمع هذه المعلومة .... فقال بصوتٍ غريب
( هل تزوج ؟!! ............ )
نظرت مسك اليه بصمت ثم قالت بلامبالاة
( تزوج منذ أشهر ...... و زوجته حامل ....... لهذا أتى كي يتم مهمة قديمة .... )
و كأن غضبه تجاهها قد تبخر فجأة .... و تحول الى جهة واحدة , و هي جهة زاهر الرافعي .....
كل ما حاول أن يداويه بداخلها على مدى أشهر .... أتى الحقير زاهر ليدمره في لحظة بحركةٍ مدمرة .....
و ها هي تقف أمامهم تحكي ما حدث بكل برود بعد أن عادت الى قوقعتها الجليدية مجددا ....
أظلمت عينا أمجد وهو ينظر اليها .... و دون أن يتكلم .... دون أن يسب أو يلعن .... مد يده ليمسك بكفها بقوة ....
أجفلت مسك و هي تنظر الى كفه الممسكة بكفها , و بدافع غريب داخلها .... لم تسحب يدها منه !!! ....
و كأنها كانت في حاجة اليها ..... و كأنه أدرك أنها تتألم على الرغم من كل هذا الصراخ و الحدة و الصلابة .....
نظر أمجد الى سالم و قال بنبرة قوية
( زاهر هو من تهجم على ابنتك .... تهجم عليها نفسيا و حط من قدرها مجددا .... ليس أنا , أنا زوجها و أريدها في بيتي كي أمنع عنها تلك الأنفس المريضة ..... )
رفع سالم عينيه ينظر اليهما .... ثم قال أخيرا بجمود
( ستدخل بها قبل أن أسافر للإصلاح من الكارثة التي ارتكبتها .......... )
فغرت مسك شفتيها و هي تقول بحدة
( الا رأي لي في الأمر ؟!!! ......... )
قال سالم بقوة
( الرأي كان لكِ حين وافقت على الزواج به ..... لكن ما يلي هذا فالكلمة للرجال ...... )
قال أمجد محييا بقوة و حماس
( لا فض فوك يا عمي ....... الكلمة للرجال , و لتبقى النساء في المطبخ .... )
قال سالم بإمتعاض
( عمي !! ............... )
أما مسك فقد نظرت اليهما و هي تهتف بحدة ,
( أنا لا أقبل بهذا بينما تيماء تمر بمثل هذا الظرف ........ )
قالت تيماء بخفوت
( لا تتحججي بي رجاءا ......... إنها حجة في منتهى السخافة يا مسك و كأنكِ تستغلين وضعي .... )
نظرت اليها مسك ذاهلة و هي تقول من بين أسنانها
( أنا أستغل وضعك يا ناكرة الجميل ؟!! ......... )
رفعت تيماء كفيها و هي تقول متراجعة
( الكلمة للرجال ......... )
زمت مسك شفتيها و هي تدلك ذراعها ملتزمة الصمت ... متوترة الملامح , صلبة العينين ....
ابتسم أمجد وهو ينظر اليها سعيدا منتشيا ..... بينما رمقته مستنكرة بطرف عينيها .....
فشدد من قبضته على يدها وهو يقول بهدوء
( تعالي لنخرج في موعدنا و سنعد للأمر ..... أعدك الا ينقصكِ شيء ..... )
ارتفع حاجبي مسك و هي تهتف
( أي موعد !! ....... انظر الى قميصك الممزق و حالتك المزرية ....... )
أظلمت عينا أمجد وهو يقول غاضبا
( مزرية ؟!!! ...... رجل خرج من المصعد وجد زوجته على وشك الخطبة لرجل غيره , ماذا تتوقعين أن تكون هيئته بعدها ؟!!! ...... بوردة في عروة السترة ؟!!! ..... )
ابتسمت تيماء و هي تبتعد عنهما لتتركهما الى جدالهما اللذيذ .... لعل قدوم زاهر الأحمق بفعلته السوداء كان خيرا لهما .....
شعرت بتشنج في بطنها فابتسمت أكثر و هي تضع يدها عليها هامسة برقة
( اهدأ يا حبيبي ...... لقد توترت كثيرا ........ )
لكنها عادت و صمتت مدركة أنها قد نست مجددا .... فلوحت بكفيها و هي تستند الى الجدار خلفها , مرجعة رأسها للخلف ....
لم تدرك أن سالم كان ينظر اليها عاقدا حاجبيه بعد أن لحق بها في الرواق .... فقال بصوتٍ أجش بعد لحظات
( هل أنت بخير ؟!! ........... )
رفعت تيماء وجهها تنظر اليه بتوتر ... فاستقامت بسرعة و هي تقول
( هل خرجا ؟!! ............ )
زم سالم شفتيه وهو مستنكرا
( خرجا بهيئة لا تشرف ...... المهم , كيف تشعرين الآن ؟!! ...... )
قالت تيماء بخفوت و تردد
( أنا بخير ....... لقد تعافيت تماما .... وكنت سأغادر غدا على الأكثر ...... )
عقد سالم حاجبيه بشدة وهو يقول ببطىء
( و لما العجلة ؟!! ........... )
رفعت عيناها الكبيرتين اليه بدهشة ......ثم قالت بحيرة
( و لماذا أطيل البقاء ؟!! .......... )
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يقول متذمرا , متجنبا النظر اليها
( هذا ....... بيتك ............ )
فغرت تيماء شفتيها قليلا , ثم قالت هامسة
( لم يكن يوما بيتي ........... )
حينها رفع سالم وجهه و نظر اليها قائلا بإستياء
( الى أين ستذهبين ؟!! ........ هل تنوين البقاء مع أمك و زوجها التافه ؟!! ....... )
أخذت تيماء نفسا عميقا و هي تفكر في تلك المعضلة ..... بالفعل هي غير قادرة مطلقا على الذهاب الى أمها و زوجها .... أما شقتها المستأجرة فقد فض مالكها عقد الإيجار قبل سفرها ......
بدت شاردة تماما و غير قادرة على التفكير ... فقال سالم مستغلا الفرصة
( تبدين متعبة للغاية ..... اذهبي لترتاحي , و اتركي فكرة الرحيل لما بعد ....... )
أومأت تيماء بصمت و استدارت كي تعود الى غرفة مسك .... لكنها توقفت للحظة , ثم عادت و التفتت الى والدها قائلة
( لم يتسنى لنا الكلام من قبل ....... أو بمعنى أصح كنا نتهرب من المواجهة ....... لدي سؤال واحد فقط , و أرجوك أجبني عليه بصدق ...... هل كان لك دخل في المؤامرة التي دبرتها ريماس كي تعيد قاصي الى هنا ؟!! ...... )
أطرق سالم برأسه دون رد .... بدا شديد التجهم , والإدانة بالذنب ..... فلم تحتاج الى رده ....
قالت تيماء بصعوبة
( لماذا ؟!! ........ لماذا ؟!! ........ هل وصل كرهك له الى الحد الذي يجعلك تحرم ابنه منه في حياته ؟!! ..... )
استدار سالم عنها وهو يقول بصوتٍ أجش
( كان خاطفا لابن امرأة ...... و كنتِ تأمرينه أمرا بالسفر و أعادته الى أمه .... )
نظرت تيماء الى ظهر والدها ثم قالت بخفوت ذاهل
( كنت تدافع عن امرأة غريبة ضد مصلحة ابنتك ؟!! ........ )
قال سالم بقوة مندفعا
( بل كنت أدافع عن الحق .............. )
هزت تيماء رأسها و هي تقول بيأس
( أي حق ؟!! ..... اي حق يا .... أبي ...... بعد كل هذه السنوات من ضياع حقي بك , جئت الآن لتحرم طفلي من والده بدعوى الحق ؟!! ...... )
صمتت قليلا و هي تنظر أرضا .... ثم همست بخفوت
( لما الكلام الآن؟!! .....ما فائدة السؤال , فلقد خسرت طفلي في كل الأحوال ..... ما الفائدة ؟؟ .... )
تحركت لتبتعد و هي تهمس لنفسها بصوت غير مسموع ..... فقال سالم من خلفها بقوة
( كانت خطة راجح ....... أنا فقط ساعدته بكلمتين لزوجك ........ )
لم تتوقف تيماء و لم تستدر اليه .... بل ظلت تهمس و كأنها لم تسمعه من الأساس ...
( ما الفائدة ؟!! .............. )
ظل سالم يراقبها الى أن دخلت الى غرفة مسك و أغلقت الباب خلفها بهدوء ...... حينها تراجع سالم الى أقرب كرسي , فجلس عليه , مستندا برأسه الى الخلف بملامح غريبة
لم يدرك معنى المثل القائل ... لا أعز من الولد .. الا ولد الولد .....
الا بعد أن رأى تيماء تحمل طفلها المتوفي بين ذراعيه و هي تتأرجح به و تهمس له في أذنه ....
حينها شعر بلسعة من الألم تصفع صدره .....
الغريب في الأمر أنه لم يتألم لتيماء وحدها ..... بل شعر بقبضة غريبة تغلف قلبه حين أدرك أنه بفعلته تسبب في سفر قاصي , فتوفي طفله بعيدا عنه قبل أن يستطيع حمله .....
خطأ لن يتم اصلاحه مطلقا ...... على الرغم من كرهه لقاصي و الذي لا يزال حتى الآن .... الا أنه لم يكن يتخيل أن يموت الطفل فور سفر والده ..... ضربة قوية جعلته يتصل بقاصي و يخبره بنفسه ....
فلم يسمع منه ردا حتى يومه هذا ......
لقد رآه خلال مراسم الدفن .... كان يقف بعيدا و يضع نظارة سوداء على عينيه وهو ينظر اليهم دون تعبير ....
لم يحاول حتى الإقتراب .... و لم يسعى أحد الى مواساته و كأنه لا يستحق .... و ما أن انتهوا من الدفن حتى ابتعد في صمت ... كما حضر في صمت ....
.................................................. .................................................. ....................
تحرك ببطىء متثاقل تجاه الباب ... حيث الرنين المتواصل و طرق الباب ....
ففتحه و نظر الى زائره الصباحي دون ترحيب .....
تراجعت امتثال خطوة الى الوراء و هي تنظر اليه مصدومة و هي تهمس
( بسم الله الرحمن الرحيم ...... لماذا تبدو بهذا الشكل ؟!! ....... )
لم يرد قاصي عليها وهو ينظر اليها دون تعبير .... ثم قال أخيرا و السيجارة في فمه
( ماذا تريدين ؟!! ............ )
رمقته امتثال بنظرة قلقة و هي تراه يقف أمامها لا يرتدي سوى بنطالٍ بيتي قصير فوق الركبتين .... و مبذل مفتوح تماما ... كاشفا عن صدره و بطنه المليئة بالخدوش و الجروح .....
أما لحيته فقد استطالت حتى أوشكت على تعدي حدود فكه .... كشعره الذي شاركها طولا .....
عيناه كانتا حمراوان بلون الدم ... و نظراته ميتة , حيث فقد الجمر الذي كان يشعلهما ببريقٍ من روحه الهائمة على وجهها ....
فتحت امتثال فمها لتقول بصوتٍ حذر
( هل أنت بخير ؟!! ........ )
لم يرد قاصي على الفور .... بل أخرج السيجارة من فمه و نفث دخانها في وجه امتثال التي سعلت بعصبية و هي تلوح بيدها كي تبعد هذا الدخان عن نفسها .... بينما كرر قاصي بنفس النبرة القاتمة
( ماذا تريدين ؟؟؟ ........ لقد طرقتِ بابي عشرات المرات ....... )
أخذت امتثال نفسا عميقا و هي تنفخ صدرها غضبا .... ثم هتفت بحدة
( هل لديك فكرة عن عدد القطط المتواجدة أمام باب شقتي اليوم بسبب كيس القمامة الذي وضعته أمام باب بيتك ليلة امس ؟!!! ......)
لم يرد مجددا قبل أن يأخذ نفسا عميقا من سيجارته , نفخه في وجهها مرة أخرى , قبل أن يقول بصوتٍ ميت
( كم قطة ؟! .......... )
لمعت عيناها بغضب و هي تهتف محتدة
( ست قطط ..... ست قطط بسبب بقايا السمك الذي القيت به لها .... على الرغم من تحذيري لك الا تفعل .... نحن نلقي بأكياس القمامة أسفل البناية .... مر عمر و أنت لا تفعل هذا الا لتستفزني ...... )
أخذ النفس الأخير ,,,, قبل أن يلقي بنهاية السيجارة على السلم بجوارها , فنظرت اليها ذاهلة قبل أن تهتف غضبا
( ما الذي ...!!!!! .......)
عادت لتنظر اليه و هي تنوي أن تصب جام غضبها عليه ..... الا أنه سبقها و قال ببرود
( لم تكن بقايا ..... بل ثلاث سمكات كاملة , اشتريتها كي أطعم القطة الحامل التي تسكن معنا ..... لم أدرك أنها ستأتي بقبيلتها ...... لكن كان الخير كثيرا فأكلت القطط كلها حتى أصيبت بالتخمة .... بالمناسبة , لقد تركت فضالاتٍ كثيرة في كل درجة من درجات السلم بين طابقينا ... هلا نظفتها ؟؟ سأكون شاكرا لكِ ..... ...... )
فغرت امتثال فمها غير قادرة على النطق .... تحاول البحث عن الطريقة المثلى كي تنفجر به بشكلٍ مبالغ فيه .... الا أنه سبقها و قال ببرود
( الحليب عليكِ ....... احرصي أن يكون فاترا , كي لا يتعب معدة القطط المسكينة .... وداعا .... )
و أمام ملامحها المذهولة كان قد صفق الباب في وجهها بكل قوة ....
تحرك قاصي ببطىء الى داخل شقته مجددا الى أن أرتمى على الأريكة محدقا في السقف ..... قبل أن يشعل سيجارة جديدة ....
سمع رنين هاتفه , فتأفف بقوة وهو يتحرك ليأخذه قبل أن يرد بملل
( نعم .......... )
وصله صوت رجولي يقول مبتهجا
( ألم تسمع الخبر ؟!! ......... )
نفث دخان سيجارته وهو يقول بفتور
( لم أسمع أي أخبارٍ مهمة مؤخرا ...... ماذا حدث ؟!! ..... )
أجابه المتصل يقول بخبث
( مبارك يا رجل ..... تم القبض على عمران الرافعي بعد ضبط شحنة آثار و تسجيلاتٍ خاصة بالصفقة في احدى مخازنه ..... نريد الحلوان .... )
لم يرد قاصي .... بل ظل صلب الملامح ميت النظرات وهو يسحب تفسا قاتلا من السيجارة المسممة ...
كان يظن يوما أن خبرا كهذا كفيلا بأن يجعله أكثر أهل الأرض نشوة و سعادة .... لقد أقسم على أن يرقص إن سمعه ....
لكن ها هو يتلقاه دون تعبير أو إحساس ..... و كأن ما فقده قد غضى على مراكز الإحساس لديه ....
تكلم قاصي أخيرا ليقول بخفوت
( الحلوان الكبير بعد النيل منه في السجن ان شاء الله ..... هذا ما قد يشفي غليلي أكثر .... )
أغلق قاصي الخط وهو يترك الهاتف فوق معدته بإهمال ....
كان يفترض به الصراخ فرحا .... الا أنه لم يفعل سوى التفكير بها .....
مر شهر كامل منذ أن رآها آخر مرة ..... أثناء دفن طفلهما .....
كان يراقب ما يحدث من بعيد ., غير قادرا على الإقتراب .... عيناه تتنقلان من اللفة الصغيرة البيضاء اليها و هي تقف مكتفة الذراعين متشحة بالسواد .... باهتة الملامح و هي تنظر الى المراسم بصمتٍ حزين .....
لم يهتم أحد به ..... ربما رؤوه و ربما لم يفعلوا .... لكن لم يكن ليهتم أحد بوجوده من الأساس ....
لقد فقد حق أن يقف بجوارها .....
كم بدت هشة و حزينة .... و صغيرة للغاية ... لم تتعدى الخامسة و العشرين من عمرها ... لكن ما مرت به يفوق قدرة كتفيها الصغيرين على التحمل ....
و على الرغم من ذلك وقفت ثابتة متماسكة .... تبتسم لكل من يواسيها برقة ....
الى أن بدأ الجميع في التحرك .... حينها رفعت وجهها اليه , و تقابلت أعينهما عن بعد فوقفت مكانها للحظة ....
كانت تنظر اليه بنظرة غريبة .... و كأنها تنتظر منه أن يقترب ... ان يحادثها .....
لكنها لم تعرف كم كان مرتعبا في تلك اللحظة .... خوفه من أن ترفضه كان أكبر من رغبته في الجري اليها واعتصارها بقوة حتى يمتص كل الألم بداخلها و يحتفظ به بدلا عنها ....
حتى الآن لا تزال رائحتها الطفولية من آخر لقاءٍ حميمي بينهما تزكم أنفه و رئتيه .....
خصلات شعره لا يزال يشعر بها تحك بشرته في دغدغة ناعمة ....
صوتها الهامس باسمه يرن في أذنه كل لحظة ..... لقد خسرها .... خسرها مع خسارته لطفليه .... خسرها للأبد ....
رنين هاتفه مجددا جعله يتأفف بصوتٍ عالٍ قبل أن يصرخ بقوة هزت جدران المكان
( لماذا لا يتركني الجميع في حالي كما كنت دائما ؟!!!!!! ......... )
أمسك بالهاتف و أجاب صارخا
( ماذا ؟؟ ............... )
ساد صمت لعدة لحظات قبل أن يصله صوت مسك و هي تقول ببرود
( هل أتصل في وقتٍ لاحق ربما كنت اكثر تهذيبا و آدمية ؟!! .......... )
أغمض قاصي عينيه وهو يقول بفتور
( ماذا تريدين يا مسك ؟؟ .............. )
ردت مسك بنبرة حازمة
( كلك ذوق والله يا مروض الخيول ..... اسمع , بإختصار ..... حفل زفافي سيكون بعد يومين ..... لن يكون حفلا بصراحة ..... سيكون جمعا بسيطا نظرا للظروف , لكن يهمني أن تحضر ..... )
ابتسم قاصي دون أن تصل الإبتسامة الى عينيه .... ثم قال بخفوت
( أنا سعيد لأجلك يا مسك ..... لعل أحدنا يستطيع الحصول على السعادة أخيرا .... )
صمتت مسك بضعة لحظات , ثم قالت بصوتٍ آمر
( ستحضر ............ )
أخذ نفسا عميقا , ثم قال بصوت مهتز
( اعذريني يا مسك إن لم أستطع الحضور .... فأنا ...... )
قاطعته مسك لتقول بحدة و استياء
( تيماء ستكون حاضرة رغم كل ألمها ..... هل أنت مصر على تجاهلها ؟!!! ...... )
أغمض قاصي عينيه وهو يشعر بالجملة الحادة تكاد أن تزهق روحه ..... بمنتهى القسوة
" هل أنت مصر على تجاهلها ؟!!! ....... "
من يخدع ؟!!! ....... إنه قادر على تجاهل روحه ,لا تجاهلها هي ....
.................................................. .................................................. ....................
كانت مسك تبدو رائعة .... بسيطة الى درجة قاتلة , هذا ما فكر فيه أمجد وهو ينظر اليها تجلس بجواره بكل بهاء ....
ترتدي فستانا بسيطا أبيض اللون ..... أنيقا و دون أي زخارف .... أما شعرها فقد تركته حرا ..... بنعومةٍ لينسدل متجاوزا كتفيها على بداية ظهرها ....
عيناها شاردتان قليلا .... مما جعله يرغب في اقتحام روحها الجامحة لمعرفة سبب شرودها ...
لم تكن معه بكامل روحها كما هو معها بكل كيانه في تلك اللحظة ....
إن كان قد انتابته المخاوف سابقا .... فهو الآن متأكدا من قراره تمام التأكيد ....... مد يده ليمسك بكفها المستريحة على فخذها , فانتفضت و هي تنظر اليه مجفلة .....
حينها سألها بخفوت
( ماذا بكِ ؟!! .............. )
ظلت على اجفالها للحظة , قبل أن تبتسم برزانة و هي تبعد شعرها الناعم عن وجهها لتقول بجمال
( كان يوما مرهقا فحسب ......... )
لم يتجاوب أمجد مع ابتسامتها , بل سألها بصوتٍ متحدي
( لا تخبريني أنكِ تشعرين بالنعاس مبكرا ؟!! ........ )
مطت مسك شفتيها و قالت ببرود هامسة كي لا يسمعها أحد
( لا فائدة ..... أتوقع أن تفكيرك كله منصب في جهة واحدة ......... )
ابتسم لها ابتسامة جعلتها ترتبك و هي تراقب الغمازة التي ازداد عمقها تحت لحيته ..... فشدد قبضته على يدها وهو يقول لها بجدية هامسا الى عينيها
( تفكيري كله منصب في كوني رابح الليلة ......... )
بهتت ابتسامتها قليلا و تشنجت أصابعها تحت أصابعه ...... الا أنه رفض أن يحررها وهو ينظر اليها متسائلا .... لكنها أشاحت بوجهها و هي تتظاهر بالإبتسام ..... على الأقل تحاول .....

وقفت تيماء تراقبهما مبتسمة ..... مفكرة أنهما أفضل زوجين متناسبين رأتهما في حياتها .....
لقد أصرت على مسك أن ترتدي ثوب زفاف .... الا أن مسك رفضت تماما , و حين رضخت أخيرا , اختارت هذا الثوب الأنيق الذي يناسب أمسية راقية .... و بدا اختيارا رائعا ....
أما هي فقد نبذت اللون الأسود بتصميم ..... و ارتدت فستانا عسلي شاحب ... جعلها أكثر هشاشة و شحوبا....
بصراحة لم تهتم كثيرا بزينتها , فزمن الإهتمام قد ولى ..... لم تحضر الليلة الا لتشعر مسك بأنها غير مستاءة اطلاقا من تقديم موعد زفافهما ....
و من بعيد كان هو يراقبها ..... واقفا في الخارج ينظر اليها و يراقب كل حركة منها .....
لم تغفل عيناه عن يدها التي كانت تضعها بإستمرار على بطنها .... و كأنها لا تزال تحتفظ بطفلها ....
أغمض قاصي عينيه وهو يزفر بصوتٍ خافت ....
مهلكة ..... مهلكة دون حتى أن تبذل أي مجهود في اظهار هذا ......
لم تكن هناك من هي أجمل منها الليلة ..... على الرغم من أنه لم ينظر الى أي امرأةٍ سواها .....
لكنه كان متأكدا من ذلك .... كانت شابة صغيرة رقيقة .... لكن عينيها غائرتين جدا ....
و كما حدث يوم دفن طفلهما ... رفعت تيماء وجهها و نظرت اليه مباشرة ..... فسارع الى الإختفاء خلف الجدار الذي كان يراقبها من خلفه .....
تحركت تيماء و هي ترفع حافة فستانها ..... الى أن خرجت من القاعة و وصلت للجدار الذي أقسمت أنه كان يقف خلفه ..... لكنه لم يكن موجودا .... بل كان مجرد وهما آخر .....
وضعت يدها على بطنها و هي تشرد قليلا .... لكن هذه المرة تذكرت .... تذكرت أن بطنها خالية تماما .....
.................................................. .................................................. .....................
أزاحت مسك ستار نافذة غرفتهما و نظرت الى الظلام خارجا ......
بينما كان أمجد واقفا خلفها يراقبها .... يتأمل انسياب جسدها و رشاقته التي لن تعرف يوما ترهل حمل أو علامات ولادة .....
جسد فارسة .......
لكنه لم ينجذب اليها بسبب جسدها أو جمالها أبدا ..... بل لسبب واحد , وهو أنها مسك الرافعي .....
فقط لا غير ..... حالة نادرة في حد ذاتها .....
اقترب أمجد منها ببطىء .... الى أن وضع يديه على خصرها فانتفضت بقوة و هي ترفع يدها الى صدرها مغمضة عينيها ..... كانت شاردة تماما كما توقع ......
فأدارها ببطىء حتى واجهته فرفعت وجهها اليه ترفض ادعاء الخجل ..... و على الرغم من ذلك كانت وجنتاها محمرتين بجمالٍ أخاذ .....
كان يرمقها بنظرة مختلفة ..... نظرة تطرق كل ذرة منها بصراحة و دون تردد .... ثم قال أخيرا بصوتٍ أجش خافت و كأنه يخشى أن تتبدد من أمامه إن ارتفع صوته عن درجة معينة
( ألماس ......... لا أصدق أنكِ بين يدي أخيرا .....هل تشعرين بالندم ؟!! .... )
لعقت مسك شفتها المرتجفة قليلا فخطفت عينيه خطفا الى حركتها البسيطة .... ثم قالت ضاحكة بعصبية و هي تبعد شعرها الى خلف أذنها ...
( هذا السؤال يفترض بي أنا أن أسأله لك ............ )
رفع يده ليحرر شعرها الذي حجزته خلف أذنها , فأعاده منسابا على وجنتها وهو يقول بصوتٍ أجش هامس
( أرى أنه من واجبي أن أثبت لكِ الى أي حدٍ أنا لست نادما ...... )
شعرت مسك بنبضات قلبها تتسارع بقوة عنيف تجاوبا مع همسته فقط .... دون حتى أن يبادر بلمسها ....
منذ أن عرض عليها الزواج و هي تدرك أن هناك جاذبية جسدية قوية بينهما .... رفضت أخلاقها الجموح في تخيلها حتى هذه اللحظة ....
الآن بدت غير قادرة على تجاهلها أكثر ....... لذا أقصى ما استطاعت فعله , هو أن قالت بتوتر
( س ...... سأذهب لأبدل ملابسي ....... )
ابتسم أمجد وهو ينهل من جمال ارتباكها بعينيه الشغوفتين .... و حجزت يداه خصرها النحيل فمنعتاها من الحركة وهو يقول بخفوت
( خسارة ....... هذا الفستان رائع و أكره أن تبدليه بأي شيء آخر ..... )
رفعت مسك وجهها اليه و قالت ببراءة
( الا تريد مني تبديله ؟!!! ......... )
رد عليها ببساطة دون أن يفقد ابتسامته الجميلة
( بل أريد منكِ خلعه ..... أمامي ..... )
شهقت مسك بعينين متسعتين .... لكنه لم يمنحها الفرصة للهرب , فقد طال به الصبر .... طال جدا ...
و لديه عمر طويل كي يعوض كل لحظة تمناها فيها .... كجوهرة نفيسة .... لم يعرف مثلها مطلقا ...
تاوهت مسك بضعف و هي تحاول التحرر من مرمى شفتيه و يديه .... الا أنه همس في أذنها برقة و حنان
( لا ...... لن أنصاع لتمردك الليلة ..... لن أستطيع .... فلا تحاولي ..... )
لكنها حاولت ... و لم تفلح سوى في زيادة جنون شغفه بها .... الى أن شعرت بثوبها الأنيق يسقط ببطىء و هي ترتفع بين ذراعيه ..... فأحاطت عنقه بذراعيها و هي تترك لنفسها العنان ....
ربما ستندم غدا على مضيها بإصرار أناني في تلك الزيجة و حرمان رجل بكامل صحته من الأبوة .... لكن الليلة ستنال ما تستحقه مسك الرافعي .... ستنال نصيبها من السعادة .....
.................................................. .................................................. .....................
فتح قاصي باب شقته و انحنى ليضع بعض الطعام لصديقته القطة التي تقف أمام باب شقته كل يوم ....
مد يده ليداعب فرائها الناعم برفق وهو يدغدغها .... الى أن ظهرت خلفها قطيطاتها الصغيرات فابتسم لهم ....
كانت تلك القطة و صغارها هي السبب الوحيد في جلب الإبتسامة الى فمه مؤخرا ........
نهض على قدميه , ثم دخل الى شقته و أغلق الباب خلفه ..... بينما كانت هناك امرأة تصعد السلم درجة درجة ..... بملامح شاردة و عينين كبيرتين ....
وقفت تيماء مكانها و هي ترى امتثال تحاول ابعاد القطط عن باب شقتها بمكنسة قديمة و هي تشتم و تدعو على شخص ما ....
فابتسمت رغم عنها .... لا تزال كما هي , سيدة عدوانية بطبعها .... او ربما كان قاصي هو السبب في استثارة عدوانيتها ....
فتحت تيماء فمها و قالت بتردد
( صباح الخير سيدة امتثال ......... )
توقفت امتثال عما تفعل و نظرت الى تيماء التي كانت واقفة أسفل الدرج مترددة و هي تضع يدها على حاجز السلم و كأنها تحاول أن تدعم نفسها ....
قالت امتثال بدهشة
( تيماء ؟!! ........ أين كنتِ كل هذه المدة ؟!! ........ لقد ظننتكما انفصلتما منذ زمن .... )
ابتلعت تيماء غصة في حلقها , ثم قالت مبتسمة بنبرة متداعية ...
( كنت مسافرة ..... و سأعود قريبا , كيف حالك ؟؟ ...... )
نطقت سؤالها الأخير و هي ترمش بعينيها ناظرة للأعلى .... حيث تقع شقة قاصي ..... الشقة التي جمعتهما و شهدت أول لقاء لهما ....
قالت امتثال بصوتٍ جاف قليلا ....
( أنت تسألين عن حاله .... لا عن حالي , اليس كذلك ؟؟ ...... )
أعادت تيماء عينيها الغائرتين الى امتثال .... ثم قالت بخفوت دون أن تنكر
( هل ترينه ؟!! ............ كيف حاله ؟؟ .... )
زفرت امتثال بغضب و هي تقول بعذاب
( استغفر الله ..... لقد تحول الى مجنونٍ سليط اللسان , سيء الأخلاق ... منظره مخيف .... و كأن عفريتا قد تلبس روحه .... لم يعد أحد يطيقه من سوء طباعه أكثر من ذي قبل ..... انظري الى كل تلك الفوضى حولك , هو السبب فيها و كأنه يسكن في مكب للنفايات .... )
نظرت تيماء الى بقايا الطعام المتناثرة و القطط الراكضة في كل مكان .... ثم همست بعدم تصديق
( الى هذه الدرجة ؟!! ........... )
كانت تصعد ببطىء الى أن وصلت لإمتثال .... ثم تابعت تقل بصوتٍ متردد
( ألم تتكلمي معه أبدا ؟!! .......... )
قالت امتثال غاضبة بنفاذ صبر
( و هل من في حالته يخرج من فمه سوى العيب ؟!! ...... لقد تحول الى كائن أكثر همجية من ذي قبل ......... )
تنهدت تيماء و هي تنظر الى القطط الصغيرة في كل مكان .... ثم قالت بخفوت
( اعذريه يا سيدة امتثال ..... لقد فقد طفله منذ فترة فصيرة , لذلك هو يتألم بشدة على الأرجح .... )
تسمرت امتثال مكانها و هي تحاول استيعاب الكلام البسيط الذي خرج من بين شفتي تيماء ....
ثم سألتها بذهول
( أي طفل ؟!! ..... ممن ؟!!! ...... )
رفعت تيماء يدها الى بطنها و قالت بخفوت شارد
( مني بالطبع ..... ممن سيكون غيري ؟!! ...... )
اقتربت منها امتثال و أمسكت بذرعها لتقول بصوت حار و نبرة متلهفة ... بينما غارت عيناها بنظرة أمومية متعاطفة بشدة
( و ماذا عنكِ ؟!! ........ )
رمشت تيماء و هي تقول بعدم فهم
( أنه يعاني حاليا لذا تحمليه قليلا ...... الى أن ....... )
قاطعتها امتثال و هي تقول بصوتٍ أكثر صرامة و حدة
( لم أسأل عنه ..... بل سألت عنكِ أنتِ . كيف تبلين بعد فقدانك لطفلك صغيرتي ؟!!! ......... )
انعقد حاجبي تيماء و هي تهمس بشرود
( أنا ؟!!! ....... أنا بخير ........ )
رفعت وجهها الى امتثال و ابتسمت برقة مؤكدة
( أنا بخير ....... لطالما كنت أكثر صلابة منه ....... )
تأوهت امتثال بصمت و انحنت عيناها ألما .... قبل أن تجذب تيماء الى أحضانها بقوة و هي تهمس لها بحنان
( ترفقي بحالك يا صغيرة ..... لقد كبرتِ بسرعة جدا ..... )
ظلت تيماء في أحضانها للحظة .... ثم أغمضت عينيها و هي تشعر و كأنها لم تكن صغيرة أبدا ........
.................................................. .................................................. ......................
التفت قاصي وهو ينظر الى الباب حيث تعالى صوت جرسه مجددا ....
ليس هناك سوى شخص واحد سمج قادر على ازعاجه في مثل هذا الوقت من الصباح .....
تقدم فجأة مندفعا وهو يصرخ عاليا بجنون
( لقد سئمتك ....... سئمتك ......... سئمت برودك و تدخلك فيما لا يعنيك .... )
فتح الباب بكل عنف .... مما جعل تيماء تتراجع للخلف بسرعة منتفضة , بينما تسمر مكانه وهو ينظر اليها مشدوها .....
ساد الصمت بينهما بضعة لحظات ..... قبل أن يرفع كفه لضغط أعلى أنفه و عينيه بأصابعه .... ثم نظر اليها مجددا ...
فوجدها واقفة على بعد .... تنظر اليه بحذر و كأنها المرة الأولى التي يراها فيها ....
نفس النظرة .... نفس الجمال .... نفس الطفولة ..... لكن هناك شيء ناقص فيها ......
كان ينظر اليها بذهول .... لا يصدق أنها تقف أمامه بالفعل ......
هز رأسه محاولا النطق , الا ان صوته تحشرج في حنجرته , فعجز عن الكلام وهو ينظر اليها بإختناق و ألم ...
ظلا على وضعهما طويلا .... الى أن أشار اليها بإصبعه كي تقترب .....
فاقتربت منه بالفعل بخطواتٍ غير ثابته ..... الى ان وقفت أمامه مباشرة و هي مكتفة ذراعيها بقوة ....
فغر قاصي شفتيه وهو يرفع اصابعه ليمررها على وجنتها و كأنه يتأكد من وقوفها أمام باب بيته .....
همس أخيرا بصوتٍ أجش متحشرج
( أنتِ هنا ....... أنتِ هنا بالفعل , هذا ليس حلما !! ........ )
فتحت تيماء فمها و قالت دون مقدمات بصوتٍ هامس
( أريد طفلا ............... )
تسمرت أصابع قاصي فوق وجنتها , ليسحبها بسرعة وكأنها لسعته .... ثم قال عاقدا حاجبيه بشدة
( ماذا ...... ماذا قلتِ للتو ؟!!! ....... )
ردت تيماء بنفس النبرة الخافتة , التي تكاد أن تكون همسا
( أريد طفلا ........ لأنني أتألم بشدة , و لا أظنني قادرة على التحمل اكثر ..... )
ارتجفت شفتي قاصي بشدة و غارت عيناه .... فابتلع نفس الغصة و انقبضت كفه بشدة , حتى ابيضت مفاصل أصابعه ....
ثم قال بصوتٍ غريب
( لما ..... لما لا أحررك مني ..... لعلكِ تحصلين على الطفل الذي تريدين من رجلٍ يستحقك ؟! .... )
للحظات شعرت أن هذا ليس صوته .... فعقدت حاجبيها و هي تنظر اليه مدققة النظر به ....
فرأت ملامحه مختلفة كنبرة صوته .... و كأنه يعاني من ألمٍ مبرح ....
لذا قالت بصوتٍ مندهش و كأنها تخاطب طفلا
( لا ...... أنا اريد طفلك أنت ..... لا أحد غيرك ...... )
ازدادت ملامح قاصي ألما و تشنجا ... ثم قال بصوتٍ مختنق
( و ماذا عني ؟!! ......... هل أنا موجود في هذه الصفقة ؟!! ........أم سأكون مطرودا بعدها ؟!! ..... ) 

Continue Reading

You'll Also Like

2.9M 60K 77
نتحدث هنا يا سادة عن ملحمة أمبراطورية المغازي تلك العائلة العريقة" التي يدير اعمالها الحفيد الأكبر «جبران المغازي» المعروف بقساوة القلب وصلابة العقل...
1.1M 45.4K 42
فتيـات جميلات وليالــي حمـراء وموسيقـى صاخبة يتبعهـا آثار في الجسـد والـروح واجسـاد متهالكـة في النهـار! عـن رجـال تركوا خلفهم مبادئهم وكراماتهم وأنس...
48.2K 1.9K 32
رواية بقلم المتألقة بلقيس علي الجزء الثالث من سلسلة حـــ"ر"ــــب حقوق الملكية محفوظة للكاتبة بلقيس علي
31.4K 1.3K 14
رواية كلّ شيء بقدر هي رواية اجتماعية بطابع ديني جميل وهادئ، تتحدث عموما عن الحياة بمنظور شابّ وشابّة. الشّاب بعد تخرّجه يبحث عن عمل، ثمّ فجأة يخسر أع...