بعد اكتمال اجراءات التأبين عادت انجلينا برفقة سيدات القرية الى ذلك المنزل الصغير و جلست حزينة على الكرسي و جلسن السيدات حولها في المطبخ قالت بتفكير: "انا تعيسة لفراقكن و فراق هذه القرية التي طالما احببتها و تعلقت بها....... عزيز علي ذلك"
قالت احداهن و هي سيدة بدينة و طيبة: "جدك كان شيخا كبيرا و مريضا و توقعنا موته هذه المرة.......... كان رجلا حسن الطباع و رائع....... حقا سنفتقده و نفتقدك"
قالت الاخرى و هي تربت على يدها: "ابلغي تحياتنا للسيدة سيلينا و ابلغيها وافر حزننا"
دخلن فتيات القرية و اجتمعن حولها ببكاء و مواساة ثم قالت احداهن: "ستذهبين يا انجلينا الى والدتك؟"
اومأت هي موافقة و قالت الاخرى: "مازالت تعمل في قصر مالك؟........ ماذا ستفعلين هناك؟"
اجابتها السيدة: "نعم سيدة سيلينا تخدم منذ عشرة اعوام في قصرمالك....... ستذهب انجلينا اليها و ستجد لها عملا هناك.... فقد انهت دراستها هنا و بعد ان توفي جدها ماذا تفعل هنا؟"
اسدلت انجلينا اهدابها الشقراء و اكتست ملامح الحزن عينيها الزرقاوين ثم قالت بعدم رغبة: "لا اريد ان اعمل كوالدتي...... انا اكره ان اخدم في البيوت"
قالت احدى الفتيات: "يقال ان عائلة مالك من الاشراف و من الاثرياء المعروفين في الارياف ربما ستجدين الحياة هناك افضل...... يقال انهم مترفين"
هزت رأسها ببطء قائلة: "لو كان هذا المنزل ملكا لجدي لما رحلت....... امي تعاني حياة شاقة و تمضي ك حياتها في خدمة عائلة مالك و اخشى ان اكون مثلها و انهي بقية حياتي في ذلك القصر"
بعد مرور اسبوع ودعت صديقاتها و عجائز القرية الثرثارات و معارفها الطيبون و استقلت القطار المؤدي الى محطة ارياف هايبورن و كانت طوال رحلتها تستعيد الذكريات مع جدها الحنون باكستر كان يبالغ في تدليلها و اسعادها
هو الذي رفض ان تذهب مع والدتها و اصر على ان تنهي دراستها هنا في تلك القرية الرائعة الا انها لم تحقق حلمه كان يريدها ان تدخل الجامعة و هي الان تذهب الى والدتها لتقتل كل طموحها و تبقى ابنة الخادمة الى الابد.
اشاحت بنظرها باستياء و انزعاج من الشابين اللذان يجلسان امامها و يحملقان بها طوال الطريق
كانت محمرة الوجه و مرتبكة من كل من حولها فهي قليلة التجربة و ساذجة و تخشى عندما تكون بمفردها ليست معتادة على الاعتماد على نفسها كما انها لم تخوض أي علاقة او صداقة مع شاب ابدا رغم جمالها و مع ان الكل كان يتطلع اليها الا انها كانت تقطع السبيل امامهم للوصول اليها كان باكستر يحذرها من مغبة الوقوع في الحب لأن ذلك اكثر ما يؤلم القلب و يجرحه
نساء القرية يخبرنها دائما ان الرجل مهما كان جيدا فانه يريد استغلال الفتاة خاصة الجميلة مثلها....... هي مرتاحة هكذا قلبها نظيف و هادئ لا تعاني كما يعانين فتيات اخريات من جروح و قصص بائسة بسبب التورط بالحب و الغرام في تلك القرية الصغيرة المغلقة
كانت صديقتها المقربة دائمة التفكير والكآبة لأن حبيبها هجرها بعد سنوات من الحب الحقيقي هجرها و تزوج بأخرى.... بقيت حزينة لأجلها و ادركت ان ما تقوله نساء القرية صحيح و ان جدها محقا.
تأملت الاشجار و المنازل الصغيرة المنتشرة هنا و هناك في الطريق و المزارعين و الاطفال
ابتسمت و تنفست بارتياح ثم قطبت جبتها مجددا عندما رأت الشابين ما زالا يراقبانها ..... اخرج احدهما كيسا من حقيبته فيه بعض المعجنات و الفواكه و قدم لها تفاحة و هو يقول بتركيز: "تفضلي يا حلوتي"
قالت بسرعة: "اشكرك لا اريد" و ابعدت بصرها الى النافذة.... سمعت الاخر يقول له: "لا تضايقها الا تراها مرتبكة"
التفتت اليهما و قالت بتأمل: "من فضلكما لا داعي لأن تسمعاني كلامكما..... و الا سأغير مكاني"
هي تعلم ان المقاعد مشغولة و مزدحمة لكن كان ذلك تهديدا لا اكثر..... بقيا يضايقانها بالكلمات المحرجة حتى نهضت و ابتعدت عنهما و سارت متوجهة الى الخلف و من حسن الحظ وجدت مقعدا فارغا و جلست و هي تتنفس الصعداء و فوجئت بأحدهما جاء خلفها.... قالت باستياء: "ماذا تريد مني؟"
قدم اليها حقيبة ملابسها و قال بتأمل: "نسيت حقيبتك الم اقل لك انك مرتبكة"
تناولتها و ابعدت بصرها... ابتسمت امرأة متوسطة العمر و هزت رأسها عندما انصرف الشاب.
سار القطار طوال الليل بذلك الصوت الرتيب و السرعة المعتدلة و قبل بزوغ الشمس كانوا قد وصلوا المحطة و نزل كلا الى طريقه.
سارت و هي مستمتعة بذلك الوقت من اليوم و ما غير مزاجها انها رأت الشابين يسيران خلفها زفرت انفاسها بضجر و قال احدهما: "الى اين تقصدين ايتها الفتاة سنرشدك الى المكان المطلوب"
اقبل رجل من مرور المحطة و قال : "ماذا هناك؟"
اجابت بسرعة: "لا شيء كنت اسأل الشابين عن مزارع مالك"
ارتاحا الشابين لأنها لن تشكوهما الى الرجل و ابتعدا عنها بسرعة.
قال الرجل: "سيري بهذا الاتجاه يا فتاة ستجدين لافتة على الطريق تشير الى مزارع مالك"
سارت وقد راقبت طلوع الشمس على هذه الواحات الرائعة و المراعي الخضراء الندية.... كانت مزارع عملاقة كأن لا نهاية لها كلها مزروعات و قطعان من الاغنام و كلاب الحراسة تهرول هنا و هناك.
وصلت الى اللافتة التي تشير الى ان هنا مقاطعة هايربون و مزارع مالك.
اشرقت الشمس بضيائها الذهبية ببطء بين الجبال و التلال الندية البنية...... وقفت و قد انزلت حقيبتها و تأملت هذا المكان المذهل بإعجاب شديد و كان الطقس باردا منعشا و اصوات الطيور اختلطت بأصوات الدابة و همسات الفتيات و ضحكاتهن السعيدة و هن يتجولن بالمزارع بنشاط
هناك التي تعمل و التي تسير مع حبيبها الذي يحيطها بذراعه و الاطفال يلعبون قرب آبائهم المزارعين......
ابتسمت بتألق و قالت لسيدة تطعم دواجنها: "اسعد صباحك سيدتي........ الا ترشديني على قصر مالك؟"
تأملتها المرأة بتفحص ثم قالت: "ماذا تريدين يا صبية من قصر مالك؟"
اجابت بلطف: "اريد الوصول اليه فحسب"
اشاحت المرأة بنظرها بعيدا و قالت: "تلك الاسوار البعيدة انظري هناك........ انها معالم القصر"
شكرتها و مضت..... جذب بصرها من بعيد منظر رجالا يمتطون الجياد الذهبية و فرحت جدا لأنها شعرت بشعور مختلف هنا كأنها في عالم الخيال و القصص الرومانسية التي تصور الطبيعة بأبهى صورة و جمال.
مرت على فتيات صغيرات يلعبن معا و يبتسمن لها ببراءة كاشفات عن اسنان صغيرة جميلة تتلألأ بياضا وقفت عندهن و داعبت جدائلهن الذهبية و قالت مغيرة صوتها كأصواتهن: "اريد ان اشارككن اللعبة....... اعطني هذه الدمية"
سحبتها الطفلة و اخفتها خلفتها خلفها و ضحكت انجلينا و مضت تسير بمرح حتى بدأت تقترب من اسوار القصر الذي لم تتصوره بهذا البهاء حتى في خيالها و عند ذلك الطريق الترابي المؤدي الى القصر الذي تحيطه المزارع من الجهتين لمحت رجلين ينطلقان بجواديهما الاسود و البرونزي الذهبي من جهة القصر الى ذلك الشارع الذي تسير فيه و بدوا يقتربان منها محدثان خلفهما هياجا من الاتربة المتصاعدة نتيجة حوافر الجوادين القوية و عندما نظرت الى كليهما ابطأت السير بدوا رجلين نبيلين بملابسهما و هيئتهما و عندما وصلا اليها احدهم اوقف جواده الذي صهل بصوت مرتفع و الاخر بقي يدور حولها بجواده الاسود اللامع....
قال الرجل الذي وقف: "اول مرة ارى هذه الصبية هنا"
بقي الاخر يدور حولها ببطء ويرمقها بعينيه الجذابتين بصمت و جسده يظهر مدى قوته ووسامته و جذبتها ابتسامته التي لوحتها الشمس.... كانت نظراتها تدور معه ببطء ثم جذب حصانه و انطلق بسرعة مبتعدا ثم لحق به الرجل الاخر و هو يقول: "مهلا انتظرني"
بقيت واقفة متأملتهما مبتعدين و قد فتحت فاها بدهشة أهنا كل الرجال هكذا بهذه الوسامة و الجاذبية؟!
عند باب القصر قال لها الحارس العجوز: "ماذا تريدين يا صغيرتي ابحاجة الى المساعدة؟"
هي و بابتسامة: "اريد السيدة سيلينا"
ضحك و قال بتأمل: "سيدة سيلينا! لا سادة هنا و لا سيدات الا اصحاب القصرتقصدين سيلينا كبيرة الخدم"
عبست و قالت بسرعة: "نعم انا ابنتها"
اشرقت ملامحه المجعدة و قال بدهشة: "مرحى انت ابنتها؟
انجيلينا؟..... اهلا بك يا حلوتي..... تفضلي... تفضلي..... لكن ادخلي من المطبخ هه..... لم تخبرنا سيلينا ان لديها ابنة حسناء"
و هي تسير في الحديقة تأملت ما حولها بابتسامة و دهشة ان حديقة القصر تختلف عن الواقع الريفي هنا تبدو فيها الديكورات الحديثة جدا كما في التلفاز!
توقفت و ابعدت الشجيرات لتنظر الى حديقة اخرى صغيرة تبدو كواحة حمراء مليئة بالزهور القانية و في وسطها ارجوحة فخمة مستلقية فيها فتاة شابة ذات شعر كستنائي مجعد متوسط الطول و بشرة بيضاء.... وضعت انجيلينا يدها على فمها و هي تبتسم عندما رأت الفتاة ترتدي الملابس الخليعة يا للخجل.... قميص يظهر بطنها المنحوت وتنوره قصيرة جدا تكاد تخفي القليل...... الفتاة جذابة و كأنها ممثلة سينمائية!
فزعت و تراجعت الى الخلف عندما قال لها شاب بصوت مرتفع: "ماذا تفعلين يافتاة؟"
اسرع اليه الحارس قائلا: "ادخلها الى المطبخ يا نايل انها ابنة سيلينا"
تغيرت ملامح الشاب و قال بابتسامة: "ابنة سيلينا!........ اهلا.... انا نايل ابن ذلك العجوز جايمس"
اومأت برأسها لتحيته و تبعته و هما يصعدان السلم الضخم المؤدي الى الباب الخلفي للمطبخ و جناح الخدم.
عندما دخلت معه المطبخ و غمرت انفها رائحة الفطور الزكية قالت بلطف:
"مرحبا ادعى انجيلينا ابنة سيلينا"
كلا ترك ما بيده و نظروا اليها بدهشة و ذهول............