الرجوع لزمن البرابرة

By _Azlen_

25.2K 1.5K 1.2K

كيف ستتعايش فتاة هربت من عواقب جريمة قتل إلى الزمن الذي عاش فيه البربر والفراعة والروم والتاتار مع ثقافتهم وط... More

مقدمة
الفصل الأول: أين أنا... ومن أنتم.
الفصل الثاني: دار الأيتام من جديد.
الفصل الثالث: مجرمة عاشقة.
الفصل الرابع: منزل النور.
الفصل الخامس: أخت الواشي.
الفصل السادس: مالكة الحانة.
الفصل السابع: ضيوف الغفلة.
الفصل الثامن: سر سيفاو.
الفصل العاشر: هكذا أفضل.
الفصل الحادي عشر: أجمل وأحلى خطأ.
الفصل الثاني عشر: من الماضي.
الفصل الثالث عشر: على شفى حفرة من الموت.
الفصل الرابع عشر: الأمور العالقة.
الفصل الخامس عشر: أهلا بعودتك.
الفصل السادس عشر: أنا أيضا أعشقك.
الفصل السابع عشر والأخير: حفل الانتصار.

الفصل التاسع: سوء فهم.

1.2K 76 59
By _Azlen_

عيد حب أسود لكل من قتله الحب قبلي...

للكاتب عبد الحليم بدران.

__________________________

كانت أريناس وعائلتها في طريقهم للمنزل بعدما رأت منزل النور وصاحبه كما أرادت، هي تملك كلمة على زوجها فهي تخرج به حين ترغب وتدخل حين ترغب وفي الوقت والمكان الذي ترغب به، المغفل يحبها بينما هي لا تحب سوى سيفاو، هي من طلبت من سيفاو أن يعزم مياس وتتحجّج بالأمر كي تذهب له وتحدّثه أمام زوجته وزوجها دون خجل، ابتلع مياس المسكين الطعم وحصل ما أرادته بالضبط. هي تعشقه من قبل أن تتزوج أصلا لكن غباءها جعلها تنتظر أن يُقدم هو على الخطوة الأولى، انتظرت وانتظرت حتى تزوج من عليّة القوم وخطف قلبها دون مقابل، تزوج من غيرها رغم أن تصرفاتها والتصاقها به على الدوام كان كافياً ليفهم رغباتها، تزوجت بعدهاهي الأخرى أملا في نسيانه لكنها لم تفعل، حتى كل تلك السنين الطويلة لم تكن كافية لمحو المشاعر التي تكنها له. بعد حوالي سبع سنين من زواجها بدأ سيفاو يتقرّب منها فجأة وهي لم تستطع المقاومة رغم أنها كانت قد أنجبت يور بالفعل وهو كان قد أنحب أولاده جميعا، بعد فترة أيقنت أنه لا يحبها بل ينجذب لجمالها فحسب، رغم أنه كان ولا يزال يكذب ويقول كلمات عشق كثيرة إلا أنها تعلم أنها جميعها مزيفة لكنها لم تستسلم ولا تزال تطمح لنيل قلبه في يوم ما، ذاك اليوم الذي يقول كلماته الرومانسية بكل جوارحه دون كذب.اللعين لا يزال يعشق زوجته رغم الخلافات التي لا تعرف نوعها بينهما، لكن النظرة التي يخص سيفاو بها ماتيا لم ينظر حتى بربعها إليها.

خرجت من شرودها بعدها وهي تستمع لشجار رجال العائلة عن أن يور لم يكن عليه أن ينجرّ لاستفزازات أنير ومناقشته فيما يقول، ثم رجعت وتذكرت بعض اللحظات التي حصلت عليها مع سيفاو الليلة فابتسمت بتلقائية ثم فكرت.. يور لا يستلطف سيفاو بل وينفر منه أحياناً، ربما لأنه يذكره بديهيا، تلك الفتاة التي أحبها في صغره ومنعه عنها أخواها. لكن من تخافه أريناس حقا هو اكسيل... هي تحبه بشكل لا يصدق كأي أم تحب ابنها، لكنها قلقة حقا من اكتشافه لعلاقتها مع والد زعيمه فهو فطن ودقيق الملاحظة حين يتعلّق الأمر بالأفعال المشبوهة، هي تعرف رأيه جيداً بموضوع المتاجرة بأجساد النساء والخيانة سواء كان ذلك بدافع الحب أو غيره، هو يضع الجميع دون استثناء مع خانة بائعات الهوى.

وفي مكان آخر كانت تيزيري تحظن ناتير لصدرها بعد أن نامت دون عناء لكن هي لم تفعل، تجمد عقلها وكذا تفكيرها وضلت حبيسة تلك الذكرى التي تودّ لو تمحيها من عقلها للأبد... تتمنى بشدة لو أنها لم ترى ما رأته يوماً، لكن بمجرد أن يعرف المرءبأمر ما لا يستطيع أن لا يعرف أو يكود كما كان.

***

كان النسيم البارد يداعب بشرتها البيضاء ويراقص خصلات شعرها الأمامية الليلية بينما أعينها الفحمية تسكر برؤية المنظر أمامها، كانت تقف على حافة بناية ما تتكئ بيديها على الجدار الزجاجي أمامها، كانت ترتدي معطفا قصيرا أبيض بريش أبيض على قلسونته ينافس بياض الثلوج التي تغطي كل الجبال أمامها، كان المنظر خلابا.

-"أحقا تودين إمضاء أول موعد لنا في تأمل الإطلالة؟!".

التفتت برأسها للخلف لترى ايدير يجلس على الطاولة المستديرة ينظر لها وحواجبه مرتفعة، كان يرتدي معطفا مماثلاً لخاصتها بسروال جينز أسود وحذاء رياضي بنفس اللون، كان قد قص شعره ورفعه لأعلى فظهرت خصلاته الشقراء أكثر من البنية.
ابتسمت له وتقدّمت تضع يديها داخل جيوب سروالها الجينز الضيق وصوت قرع كعبها العالي يكسر صوت أحاديث الناس وثرثرتهم من حولهم، ثم جلست على الكرسي المقابل له تقول:
-"إذا، ما رأيك بكندا".
نظر حوله لبقية الطاولات في المطعم ثم أجابها:
-"مكتضة".
-"أنت من رفض أن يكون المطعم لأصحاب الشخصيات المهمة".

حملت عصير الكيوي من على الطاولة تشرب منه بينما ينتظران الغذاء، مرّت لحظات صمت ثقيلة لم تعرف تيزيري ما يجب أن تفعل لتوقفها، هي تعرف أنه لن ينطق ولن يفتح أي موضوع قبل أن تفعل هي لكنها متوترة ولا تعرف ما يجب أن تتحدث عنه لذا بقيت صامتة وانتهى بهم الأمر بتناول الغذاء والتحدث عن أمورهم الاعتيادية كتصرفات ناتير ودلالها أو انتقاد ايدير لتيزيري ولباسها المكشوف.

تنزه الاثنان بعدها في أحد المتنزهات المشهورة أين كانت هناك الكثير من العائلات حولهم يلعبون بالثلج، كان صوت ضحكات الأطفال يملأ المكان، تمنت تيزيري لو أحضروا ناتير معهما، على الأقل كانت لتخفّف من توترها قليلاً.

تردّدت كثيراً قبل أن تبادر قائلة:
-"تبدو أوسم بالشعر المرفوع، لكني أفضلك بشعرٍ طويلٍ كما اعتدتك دائما".

التفت لها يراقب تحركات خصلات شعرها مع النسيم البارد لبعض الوقت ثم قال بابتسامة خفيفة خطفت أنفاسها:
-"سأتركه ليطول مجدداً إذا".

توقفت عن المشي ففعل هو أيضا، بقيت تنظر له بتعابير جامدة ثم قالت بصوت خافت:
-"أستغيّر من تسريحة شعرك من أجلي حقا؟".

راقبت ابتسامته تتسع أكثر بينما خُضرة عينيه أصبحت أفتح بسبب المعطف الأبيض الذي يرتديه والثلوج حولهم، انحنى بجذعه أقرب لها وهمس:
-"سأغير اسمي إن أردت ذلك أيضا".
لم يترك لها المجال لتستوعب ما قاله بل اقترب من وجهها أكثر ببطء، وصل الأمر لدرجة اختلاط أنفاسهما فأغمضت عينيها تستعد للقادم، لكنها فتحتهم بدهشة حين أحست بالأرض تهتز تحت أقدامها... هل على الزلزال أن يضرب الآن؟، أو انتظروا... ليس زلزال، إنها ناتير تقفز على السرير لتوقظ تيزيري ككل يوم...

وقفت تيزيري بجذعها العلوي عن السرير بعيون ماعسة ووجه عابس بينما شعرها مبعثر في كل مكان، نظرت مطولاً لناتير التي كانت ترتدي فستانا أصفر باهت يحمل الكثير من التطريز باللون الأبيض، كانت تيزيري من صممته لها من قبل حين كانت تتدرب، لقد امتلأت خزانتها وخزانة ديهيا والخالة ماتيا بتصاميمها حتى الآن.
كانت ناتير تعطيها بظهرها فلم ترى أن تيزيري استيقظت بالفعل ولهذا بقيت تقفز على السرير وصوت ضحكاتها يملأ الغرفة، استدارت بعد فترة وهي تقفز فرأت تيزيري وتوقفت عن القفز تنظر لها بحيرة، بالطبع ستفعل فتيزيري كانت تنظر لها كمن يفكر كيف يتخلص من جثة شخص ما دون أن يُكشف أمره.

قالت ناتير بصوتها الرقيق وبعض التردّد:
-"صباح الخير؟".
تنهدت تيزيري وهي تنظر لعينيها الخضراء الواسعة ولم تحب نظرة الخوف في وجهها، ما يصبرها أنها صغيرة لطيفة محبوبة، وأنها ورثت عيون أبيها.
-"ناتير... حبيبتي، أكان عليكِ حقا ايقاظي في اللحظة الحاسمة؟".

كانت تعابير ناتير اللطيفة وخدودها المنتفخة كفيلة لتجعل المقابل لها يسامحها مهما كان خطؤها:
-"أي لحظة؟!!، جدتي قالت أن وقت الفطور قد حان".

رفعت تيزيري الغطاء بعنف لتقف وهي تقول بسخط:
-"وأنا التي أردت أخذكِ معنا للتنزه، بالفعل فقدت عقلي".

شهقت ناتير وراءها بخفة ثم قفزت من السرير تسرع للحاق بتيزيري التي كانت تقصد الحمام:
-"أي تنزّه؟، مع من؟؟، بالطبع ستأخذينني تيزيلي فأنا صديقتك صحيح؟".

واصلت تيزيري طريقها دون إجابة بل وأغلقت باب الحمام قبل أن تحاول ناتير الدخول معها، زمّت الأخيرة شفتيها بغضب ثم صرخت أمام الباب ليصل صوتها لمن بالداخل قائلة:
-"سألتصق بكِ وبعمتي اليوم بطوله، لن يكون هناك تنزّه بدوني أتسمعين؟".

***

جلست تيزيري هي وناتير قرب بعض على طاولة الإفطار التي كان موضوعا بالفعل، لم تنظر للذي كان يجلس على رأس الطاولة وهي بجانبه الأيسر، لم تشأ النظر له لأن الحلم ما يزال يدور في عقلها، أيصح التعبير إن قالت أن الحلم كان كالحلم بالنسبة لها؟، ليت ناتير أيقظتها قبل أن تحلم به، أو بعد القبلة على الأقل، ألقت نظرة خاطفة عليه ثم عادت تفكر... ما احمالية أن يستأنف قبلته الآن؟.
على أية حال لمَ لا يأكل الجميع؟، اه... الخالة ملتيا وزوجها الخائن ليسا على الطاولة بعد، لكن هل يجب عليها التدخل؟، هل يجدر بها قول ما رأته لبقية العائلة أم ادعاء أنها لم ترى شيئا وتدع العائلة تحل مشاكلها بنفسها؟.
سمعت أخيرا صوت الخالة ماتيا من بعيد وتبدو غاضبة لأول مرة، اتضح صوتها شيئا فشيئا مع اقترابها لطاولة الإفطار:
-"جديا سيفاو، لقد ظننت أنك توقّفت عن تصرفاتك الطفولية أخيرا".

كانا قادمين من وراء تيزيري، التف الجميع لرؤيتهم إلا هي، ضلت متصنّمة تنظر ليديها على حجرها تحاول تمالك نفسها وعدم إظهار ارتباكها ومشاعرها، في النهاية جلس الجميع على الطاولة فرفعت بصرها لترى وجه سيفاو الذي لم يبقى فيه مكان بلون بشرته الطبيعي، لقد كان مليئا بالكدمات، بدون وعي نظرت تيزيري مباشرة لأنير كونه الوحيد الذي يظهر غضبه من والده بسبب جعل أمه تقلق لهذه الدرجة وكان ما توقعته، كان ينظر له بغضب زاما شفتيه واضعاً قبضته عليهم، لكن هذه المرة كان لتيزيري احتمالات أخرى لسبب غضبه، توسعت عينيها وهي تدرك أنه ليس غاضباً منه لأنه يصارع الحراس بل هو سبب الكدمات أصلا، أنير يعرف... هو يضرب أباه لأنه يعرف.
هنا أدركت حجم خطورة إخبار الخالة ماتيا بالأمر، سيتوقف قلبها للأبد حتما إن عرفت ولهذا أنير لايزال ساكتا بالتأكيد، المرأة تعشق زوجها لأبعد حد. الأمر أخطر مما تصورت بكثير، حتى سيفاو أخبث مما تصورت فهو يعرف أن ابنه قد كشف سره ولا يزال يمارس قذارته بوقاحة.

***

كان يور يمشي بلا مبالاة بين مكاتب الضباط وهو يمرّر أعينه الكحلية على كل شيء عدى النساء الاتي يحدقن فيه قبل أن يصل لمكتب أخيه الفارغ، استغرب الأمر فهو متأكد أنه يعمل اليوم وأنه سيخبره لو كان عمله في الميدان للقبض على أحد ما أو التحري عن أمر، لذا اقترب من أول ضابط يسأله عن أكسيل فقال أنه وقت استراحته ثم أشار له للمكان الذي يمضي فيه أخاه وقته في الغالب، شكره بسرعة واقترب من المكان وهو يفرك يديه ببعضهم يفكر في طريقة لتغيير رأي أخيه والتغطية عليه مرّة أخيرة بعد.لو اسطاع اقناعه فسيكون قادراً على خطبة ديهيا من أخويها في أقل من ستة شهور وكله ثقة أنه لن يتم رفضه، حتى لو رفضه اللعين أنير فسيقف الزعيم في وجهه لمصلحة أخته، سيد التجارة ومستشار مستقبلي للمملكة بأكملها... من سيكون أفضل منه زوجا لديهيا.

توقّف لبرهة حين رأى صوفينيا تأكل غذاءها مع أخيه والخجل بادٍ على وجهها، تلك الفتاة عزيزة عليه حقا، هو يعتبرها أخته منذ اليوم الذي رأى فيه جارهم القبطان يحملها بين يديه والفرحة تملأ عينيه بمولودته الأولى، كان عمرها لا يتعدى الشهور حينها، هو يحبها لدرجة أنها السبب في خلافه مع التوأم حتى... حسناً هو يبالغ، هي لم تكن سبب الخلاف لكنها كانت النقطة التي لم يعد يور بإمكانه الصبر بعدها.

أفاق من شروده حين رأى أخاه اللعين يقيّد يدي صوفينيا بيديه وهو يقترب منها ببطء يحاول تقبيلها، لو لم يعرف أن أخاه جاد معها وأنه لم يكن ليواعدها أمام الجميع لو لم يكن كذلك لما تركه يقترب منها حتى، والآن ها هو اللعين يستمتع بوقته معها، حسناً إما يحصل جميعهم على قصة حب ونهاية سعيدة أو لا أحد سيفعل.

-"عذرا منكم يا سادة أظنني قاطعت شيئا مهما".
قالها يور بكل وقاحة وابتسامة شماتة تشق وجهه ثم اقترب من عصافير الحب يقطع عليهم لحظاتهم الرومانسية، أدارت صوفينيا ظهرها تماماً ليور وهي تزم شفتيها من قوة الإحراج بينما أكسيل تنهّد بقلّة حيلة ثم وقف عن مقعده يتقدّم من أخيه، وما إن فعل حتى دعس على قدم يور بقوة ثم أجابه:
-"نعم أخي، لقد قاطعت أهم أمر للتو لذا ما رأيك أن تعود من حيث أتيت".

تحامل يور على ألم قدمه واستدار يعطي أخاه ظهره يعود أدراجه بعرج وهو يقول:
-"لقد قاطعتك وانتهى الأمر، أحتاجك في أمر مهم لذا فلنجد مكانا هادءا نتحدث فيه".

لحظات وسمع خطوات أخاه وراءه وهو يتمتم:
-"لماذا لا تقول ما لديك حين نعود للمنزل ببساطة؟".

خارجاً وحين ابتعد الإخوة عن المقر قال يور:
-"سأحرق مستندات يوغرطة في مكتبه".
-"ستفعل ماذا؟".
-"كما سمعت، اللعين سيوقع عقداً مع دولة اوروبية لاستيراد الأدوات النحاسية وسيؤخرني عن هدفي كثيراً إن فعل".

لعق اكسيل شفتيه وهو ينظر للأرض مليا ثم رفع رأسه لأخيه قائلا:
-"أرجو أنك تخبرني لأنك تسلّم نفسك لتلقي عقوبة أقل لا لشيء آخر".
نظر يور لأخيه بملل ثم أجابه:
-"أنت تعلم لمَ أخبرك".
-"لا".
-"أنا لا أطلب منك التدخل اكسيل، فقط أبعد رجال أمنك عن المكان لتسهيل الأمر".
-"قلت لا يور".
-"أنت تملك حبيبة الآن وتعرف جيداً ما أعانيه، ظننتك ستفهمني حين تقع في الحب".
اقترب اكسيل من يور بغضب حقيقي على وجهه ثم أمسك بذراع أخيه وجذبه إليه حتى اصطدم صدره بذراع الآخر وقال:
-"سأتصرف كأنني لم أسمع شيئا, أنت لم تخبرني أنك تحاول اقتحام مكان ما وأنا لم أفهم أنك تدس جواسيسك بين خصومك. إن كانت تحبك حقا فستصبر يور, ستفعل أي شيء لمماطلة أخويها عن زواجها ففي النهاية أنت تفعل كل هذا من أجلها".

***

كانت تيزيري تصعد الدرج للطابق الأول وهي تفتح ضفائر شعرها لتستحم، كانت قد ترجّت ناتير من قبل لكي تنام معها فهي اعتادت عليها حتى أصبح النوم في غرفة لوحدها أمر يؤرقها، لكن الصغيرة أصرت على النوم عند والدها قائلة أنها قد اشتاقت إليه.. ما إن فتحت تيزيري باب غرفتها حتى تسمّرت مكانها بعيون متوسّعة وفم مفتوح بينما يديها لا تزال على شعرها، كان كل شيء في غرفتها رأسا على عقب، لا الستائر في مكانها ولا الفراش، تقدمت بخطوات بطيئة وهي تحمل كتبها من على الأرض وتفكر في أن ناتير هي الفاعلة، لهذا لم ترد الصعود معها تلك الشيطانة الصغيرة.

وقفت واستدارت لتضع الكتب فوق المكتبة وهي تشتم بأقذر الألفاض ثم صرخت بفزع ووضعت يدها على موضع قلبها وأغمضت أعينها تستند بيدها على طرف المكتب لتهدئ نفسها، فتحتهما مجدداً لتتأكد مما ترى، لكنه كان هناك حقا، كان واقفاً يتكئ على إطار باب الخزانة ينظر بأعينه الخضراء لها... سيفاو.

حمحمت بتوتر مبالغ فيه وهي تحس بقلبها يكاد يهرب من بين أضلعها، ولوهلة تذكرت ما رأته مع السيدة أريناس:
-"مساء الخير، هل هناك ما تبحث عنه سيدي؟!".
كانت قد عرفت ما إن رأته أنه من فعل هذا بغرفتها، ولا يوجد سبب آخر غير أنه يعرف أنها كشفت سره اللعين.

بقي سيفاو ينظر لها بصمت لفترة طويلة فابتلعت تيزيري ريقها للمرة الثانية، ابتسم أخيرا ورفع ورقة ما إلى مستوى بصرها وقال:
-"نعم، وقد وجدته أخيرا".
كانت الورقة التي يحملها ورقة بيضاء رقيقة، أي أنها من عالمها وكانت مطوية لذا لم تفهم تيزيري ما يرمي إليه فعقدت حواجبها، حلّل سيفاو ردة فعلها فأجابها قبل أن تسأل:

-"استدعاء لاستئناف الحكم بتهمة القتل، والجاني هو تيزيري آيت بعمران".
تقدم سيفاو خطوة فتراجعت تيزيري بخطوتين ودموعها تسبقها قبل أن تقول بهمس:
-"لم أفعل".
تجاهل سيفاو قولها وبقي يقترب منها ويقول:
-"ايدير يعرف أنكِ قتلت أحدا ما قبل أن تصلي إلى هنا، لكنه لا يعرف أنك متهمة بقتل شخصين قبله، وأي شخصين؟!، لا أفهم اللغة الاجليزية خاصتكم بشكل جيد لكني متأكد أن هذا هو المغزى من الاستدعاء هذا، أتساءل إن كان سيبقى يساعدكِ أو حتى ينظر لكِ بالطريقة نفسها التي يعتمدها الآن".

قالت باكية:
-"لم أفعل، لم أقتلهما".
في ذاك الوقت كان سيفاو قد اقترب منها بالشكل الكافي ليهمس في أذنها قائلا:
-"أتساءل إن كان سيصدقكِ أم يصدق الورقة المُصادق عليها التي بين يدي".
ابتعد عنها ينظر لعينيها دون أن يرمش وهو يقول:
-"الأمر بسيط يا صغيرة، أغلقي فمكِ وسأغلق فمي".

هزت تيزيري رأسها بعنف ودموعها تنهمر ثم ابتعدت عنه بعدة خطوات لأنها لم تعد تحتمل قربه منها بهذا الشكل، أعطاها نظرة متفحصة أخيرة قبل أن يبتعد عنها متجها للباب، انتظرت لتسمع صوت قفل الباب كي تنهار باكية لكن بدل ذلك سمعت شهقة تفاجؤ صادرة من سيفاو فاستدارت لترى أنير واقف أمام الباب من الجهة الأخرى... لوهلة ظنت أنه سمع كل شيء لكن عقدة حواجبه ونظرات الاستغراب التي كان يوجهها لوالده كانت كفيلة لتعرف أنه لا يعرف ما يحدث هنا، ابتعد سيفاو عن الغرفة دون قول كلمة وتركها تصارع الذي أمامها بأعينها، راقبت أنير ينظر لأنحاء الغرفة باسغراب دون أن يدخلها ثم خصها بنظرة لم تفهم معناها لكنها دبّت الرعب في قلبها فتسارعت دقات قلبها وانهمار دموعها أكثر، لكن أنير ابتعد أخيراً دون قول شيء أو التدخل.

أغلقت تيزيري باب غرفتها بسرعة وانهارت باكية، لابد أن أنير يظن أن أباه قد فعل ما يفعله مع أريناس لها أيضاً، إن كان يفعل فهو لن ينظر لها بنفس الطريقة يوما. ما الذي سيفعله ايدير حين يعرف؟، سيعرف، هي متأكدة من ذلك، الاستدعاء بين يدي ذاك اللعين وهي مسألة وقت قبل أن يضعه بين يدي ايدير، إما سيفعلها ليجعله يطردها من القبيلة ويرتاح منها أو يستعمله لابتزازها واستعمالها لمصلحته. اللعنة، لقد كانت اضطراباتها هي العائق الوحيد الذي يقف بينها وبين علاقتها مع ايدير أما الآن... ماذا لو عبرت الدوامة قبل أن يفعل أصلا، قد تعيدها لعالمها لتواجه كل الاتهامات الموجهة لها أو قد تعبر بها لعالم آخر تماماً وتبدأ من جديد، وقد يكون الأمر أسوء.طُرق الباب طرقتين ففزعت ونظرت للباب، وقبل أن تأذن للقادم بالدخول دخل ذاك الجسد الصغير ذو الشعر الأشقر الطويل للداخل، التفتت تيزيري تكفّف دموعها كيلا تراها ناتير وهي تبكي ثم رسمت بسمة على وجهها وقالت باختناق:
-"هل غيّرتي رأيك؟".
أجابتها ناتير وهي تتقدم نحوها:
-"لقد أخبر الحارس أبي أن رسالة طارئة وصلت من الملك فتغيّرت الخطة، لقد حملني حتى باب غرفتك وراح مسرعا للخارج".

أومأت لها تيزيري وآثار البكاء ما تزال على وجهها، جلست ناتير في حضنها فحضنتها دون قول شيء فهي كانت تحتاج لذاك الحضن حقا، بعد فترة قالت لتهرب من تفكيرها:
-"أتودي ن الخلود للنوم الآن أم الرسم بالأقلام الملونة؟".

***

لم تنزل اليوم التالي للإفطار، تحجّجت بحاجتها للنوم أكثر وضلت حبيسة غرفتها تفكر، في النهاية اضطرت للنزول للغذاء فالخالة ماتيا لم تنفك عن الاطمئنان عليها والإلحاح لطلب طبيب لها إن كانت تشعر بالمرض.
لم تنطق ولم تفعل أي شيء غير الأكل وإلهاء نفسها بإطعام ناتير كيلا تبدو تصرفاتها غريبة أكثر مما هي بالفعل للجميع، لم تنظر لايدير ولا لسيفاو وخصوصاً ليس لأنير الذي هي متأكدة أنه ينظر نحوها من حين لآخر بطريقة ما.
فعلت نفس الشيء اليوم بطوله، التصقت بناتير ولم تفارقها دقيقة واحدة، حتى أن كل ما فكرت ناتير للذهاب لأبيها أو عمتها تغريها تيزيري بشيء ما لدرجة أنها شغّلت حاسوبها لأول مرة منذ سنة بعدما شحنته بما تبقى من بطاريتها المتنقلة وجعلتها تشاهد فيلم باربي الكرتوني، الفيلم الوحيد المناسب لعمر ناتير والمحمّل في حاسوبها.

في المساء تأكدت أن الجميع لاحظ محاولتها في الابتعاد عنهم، حيث أنها وعلى غير العادة أنزلت رواية ما معها وجلست في أبعد أريكة تدعي قراءتها، أوراق الرواية كلها كانت مملوءة بخطوط عشوائية بألوان كثيرة، من سيفعل هذا غير ناتير.
وبالمناسبة، ناتير كانت تجلس على حجرها، ليس محبة فيها بل كانت تحمل عدّة أقلام ملونة تنتظر تيزيري أن تملّ من الكتاب لتبدأ هي بتلوين الأوراق السليمة المتبقية منه.

فجأة أحست بالأريكة تنخفض على جانبها الأيمن، صرخت ناتير تنادي أبيها بتفاجؤ حين رأته وقفزت لحجره تحتضنه بينما الأقلام لا تزال بين يديها، لم ترد تيزيري أن تبتعد عنه مباشرة كيلا تعطه فرصة ليسأل عن السبب لذا قالت تخاطب ناتير:
-"أوراق هذا الكتاب مستهلكة بالفعل ناتير، لذا ما رأيك أن أحضر بعض الأوراق البيضاء ونحاول تصميم فستان لك؟".
لم تنتظر الرد بل وقفت مباشرةً لتصعد غرفتها لكن ايدير قاطعها قائلا بجدية:
-"ناتير ليست مهتمة بتصميم فستان الآن وأنتِ سيئة جدآ في اختلاق الأعذار، لذا لمَ لا تجلسين وتقولين ما الذي يجعلك تتجنبين الجميع هكذا".

جلست بطريقة مائلة على الأريكة لتقابله وتصنعت الغضب والانزعاج لتحاول ابعاده عن التفكير في الأمر أو تغيير الموضوع إن كانت محظوظة:
-"أنا لا أتجنب الجميع، أنا فقط أتجنبك أنت لأن وقوفي أمام جسد ثور كخاصتك يجعلني أشعر أنني مجرد نملة".

لم ينظر لها ايدير حتى الآن، ما يزال يحاول ابعاد يديه عن ابنته التي تريد تلوين أظافره:
-"لن أرد عما قلتهِ بسوءٍ الآن تيزيري فيبدو أنكِ تنزعجين مني ولهذا تنزعجين من كل شيء يخصني حتى لو لم يكن فيه أي مشكلة، أنتِ وبشكل ما تكرهينني ولذلك تكرهين كل شيء متعلق بي... قد يبدو ما سأقوله مبالغ فيه أو تكبّر وغرور لكن جسدي الذي تكرهينه هو في الحقيقة حلم كل رجل أن يصل له".

-"غير صحيح".
كانت ناتير من نطق هذه المرة وهي تمسك سبابة أبيها بيديها بكل قوتها لتثبيتها وتلوين ظفره.
نظر ايدير لابنته التي كانت تنظر له بدورها بعينيها الخضراء الواسعتين:
-"تيزيلي دائما ما تقول لي أنها معجبة بجسد بابا وتتمنى لو يكون زوجها بنصف ضخامته".

فتحت تيزيري فمها ثم أعادت إغلاقه، ثم فتحته من جديد لكن الكلمات علقت في حنجرتها، ما الذي ستقوله، ناتير تلك الشيطانة اللعينة لم تكذب يوماً وهكذا لن تستطيع تيزيري اتهامها بالكذب لتتهرّب من الموقف.
-"بالضبط، نصف ضخامته وليس كلها".
اللعنة ما الذي ستقوله غير هذا لتبرئة ساحتها، انتهى أمرها حقا.

لم يعلّق ايدير ولم ينظر لها حتى الآن، لكنه كان طابقاً شفتيه كمن يحاول كبت الضحك فأدمعت عينها من الاحراج، بعد لحظة سمعته تيزيري يقول لابنته بعدما تمالك نفسه:
-"لوّني كل أظافري عزيزتي، وأعدكِ بكعك التفاح كل يوم وحصة إضافية من العسل كل إفطار لمدة أسبوعين".

عانقته ناتير من الفرح ثم جلست على حجره تقابله وباشرت بتلوين أظافره مخرجةً لسانها لتركّز أكثر. راقبتها تيزيري لبعض الوقت ثم قالت بصوت باكٍ من الإحراج:
-"وأنا أعدكِ ألا أخبركِ بأي شيء حتى تتعلّمين ما معنى الأسرار".
وقفت بسرعة تركض لغرفتها بعدما أخذت كفايتها من هذا اليوم، جديا... كيف استطاع ايدير إقناع ابنته ألا تتحدث عن ذاك اليوم الذي رقصت فيه أمامها بشكل خليع.

***

بعد أيامفتحت تيزيري ورشتها أخيرا، عرضت القليل من تصاميمها وركّزت على المستوحاة من الثقافة الأمازيغية أولا ولم تفتح صالون تجميل بعد. كانت الزبونات قليلات جدآ في أول أسبوع وكان الأمر محبطا لكنها لم تيأس.
جلست في غرفة المعيشة مع الخالة ماتيا التي أخذت تشجعها وتحاول رفع معنوياتها ثم في النهاية اقترحت أن تأخذ ديهيا معها للورشة لعدة أيام فبنات القبيلة يقلدونها في ملابسها أحياناً وجلوسها في المقدمة يجعل البنات يشعرون بالفضول لرؤية ما تبيعه.
فكرت تيزيري مباشرة أن محلها سيصبح المقر الرئيسي لمقابلات ديهيا وحبيبها منذ اللحظة التي يعلم فيها يور أنها تتواجد هناك لكنها لم تهتم كثيراً، من المحتمل أن يزور التوأم المكان على غفلة ويرونهم لكنها تعلم أن ديهيا تحرس على سرية علاقتها أكثر من أي أحد لذا من المؤكد أنها ستكون حذرة.
كانت ناتير معهما تحاول نيل رضى تيزيري رغم أنها لم تفهم سبب غضبها منها، هي لا تعرف أن ما قالته لأبيها منذ أسبوع كلام محرج لذا لا تفهم موقف تيزيري.
أما الأخيرة فكانت تحاول عدم النظر لوجه ناتير فهو وحده كفيل لجعل الجليد يذوب، كانت تركز نظرها على الخالة ماتيا بينما تبعد الصغيرة عن حجرها كلما حاولت الجلوس عليه وتمتنع عن محادثتها لتعلّمها حفظ الأسرار، أما ماتيا فكانت تراقب أفعالهم بفرح وتضحك أحيانا على تيزيري فهي تعرف حفيدتها ومتأكدة أنها ستنال ما تريده في النهاية، وهذا ما حدث فعلا... يئست ناتير من محاولات تسلق جسد تيزيري والجلوس على حجرها فتنحّت جانبا وبدل ذلك وقفت على نفس الأريكة التي تجلس عليها تيزيري ثم وبدون انذار لفت يديها على عنق الأخيرة وقبّلت خدها بقوة ولطافة.
توقفت تيزيري عن الحديث مدهوشة من مكر تلك الصغيرة، لم تستطع مقاومتها أكثر فطلبت قبلة أخرى لمسامحتها ففعلت.

نزل أنير السلم ليقطع ضحكات تيزيري التي بدأت بالارتباك والتوتر، هذا ما يحصل معها حين تراه منذ الليلة التي هدّدها اللعين سيفاو ورأى أنير كل شيء وفهمه بشكل خاطئ.

مرّ من أمامهم بهدوء ثم قال وهو يتوجّه للباب مخاطباً أمه:
-"سأذهب للسوق".
توقف قبل أن يصل للباب للحظة ثم استدار لهم:
-"إنها التاسعة بالفعل تيزيري، لمَ لستِ في المحل بعد؟".

ابتلعت تيزيري ريقها ثم تنحنحت تحاول الإجابة بهدوء دون فضح ارتباكها وخوفها منه:
-"كنت سأطلب من ديهيا النزول معي، ربما سيجذب وجهها المألوف الانتباه لنا".
-"ديهيا مشغولة اليوم، ستذهب للمدرسة من أجل السنة الدراسية الجديدة لناتير، فلنذهب معا مادام طريقنا واحد".

دق قلب تيزيري بعنف لدهائه، يريد الاختلاء بها وبالتأكيد سيتحدث عما رآه، وربما سيطردها ويطلب منها الخروج من بيتهم دون أن يخبر الباقيين، هو لا يعرف حقيقة ما حصل لكنه وضعها في زاوية الآن بعد أن قرّر ما سيفعله بها، لا تستطيع حتى رفض الذهاب معه فهو قال أنه متجه نفس المكان.

ركبت العربة وركب هو بعدها، لم يكن ذاك المرح المحب للأحاديث التافهة كعادته، بل كان أشبه لتوأمه في هدوءه مما جعلها ترتعب أكثر، هي متأكدة أنه يظنها عشيقة أخرى لوالده لكنها لا تملك ما يخلّصها من تهمة كهذه. على الأغلب ستقول الحقيقة، تهمة قتل أهون من تهمة خيانة امرأة تعتبرها ابنتها وعائلة تعتبرها فرداً منهم.
انحرفت العربة عن الطريق في نقطة ما، هو لن يأخذها للسوق كما قال، دمعت عيناها بصمت وهي تنتظر حتفها على يديه.

توقفت العربة بعد حوالي نصف ساعة في حديقة كانت فارغة نوعاً ما، ترجّل أنير دون قول كلمة فتبعته تيزيري للكرسي الخشبي الذي كان يقصده.
-"الأمر ليس كما تظن".
قالتها تيزيري قبل أن يجلس أنير ثم لا تعلم ما حدث حتى وجدت رقبتها بين أصابعه يشدّ الخناق عليها، تخبّطت بين يديه ودموعها تنهمر بينما جسدها ينتفض ليحرّر نفسه، نظرت له بين دموعها فوجدت تلك التعابير التي كانت تتمنى ألا تراها يوما، قالت مختنقة ويديها ما تزال تحاول تحرير عنقها:
-" أقسم أنه ليس كما تظن".
جذبها أنير بيده التي في عنقها بعنف وأجبرها على الجلوس ثم حرّر عنقها أخيراً لكن ليس جسدها فهو كان قد حبسه بين يديه حين وضعهما على كل جانب منها يستند على ظهر المقعد:
-"أخبريني الحقيقة إذا، أكاد أجن تيزيري، عقلي يرفض ما رأته عيناي وأنا عاجز عن معرفة أيهما أصدق".

لم يكن يصرخ، كان هادئاً بطريقة أرعبتها أكثر، رؤية ندوب وجهه بذاك القرب وهو يميل بجسده عليها جعل الأمر أسوء بكثير، قالت وهي تسمع دقات قلبها يدق داخلها بعنف:

-"أنا أعرف بما يفعله، وهو جاء لتهديدي من أجل السكوت في ذلك اليوم".
-"وما الذي يبجعلني أصدق كلامك".
-"أنا لا أملك ما يثبت العكس لكنني أقسم أني لم أنوي الشر للعائلة يوما".
انفجرت تبكي عجزها عن الدفاع عن نفسها وفقرها دليل براءتها، لمحة صغيرة لعيناه كانت كفيلة لرؤية الحيرة فيهما، فهمت أنه حقا محتارة فيما يصدق، إما كلماتها ومعرفته السابقة بها أو ما رآه بعينيه. اتسعت حدقتها حين تذكرت الاستدعاء لذا ابتعلت ريقها وقالت بصوت مهزوز من الرعب:
-"الاستدعاء".
ضيّق أنير عينيه لتكمل:
-"استدعاء المحكمة بتهمة القتل عنده، هو يهددني به كي أسكت وبالمقابل لا يريكم إياه".
-"وهل تظنين أنني سأترككِ تتجولين بيننا بينما أبحث عن استدعائك هذا حتى أصدقك؟".
نفت تيزيري برأسها وعادت للبكاء:
-"أنا لم أفعل شيئا أقسم لك, لم أقتل إلا دفاعا عن نفسي ولم أواعد أحدا من قبل لا سرا ولا جهرا ولم يلمسني أحد".
دفع أنير جسده بيديه يبتعد عنها وهو يدور حول نفسه، غلغل أصابعه في شعره مغمض العينين يحاول التنفس بهدوء، كان يفكر... لم تعرف تيزيري ما يجب أن تفعله لكنها لم تتوقف عن البكاء.
ضل الاثنين على نفس الحال لأكثر من ربع ساعة فكرت تيزيري فيها بالهروب للدوامة حتى وإن لم تكن تعرف مكانها حتى الآن. رجع أنير لها لكنه لم يعنّفها ولم يقسو عليها بل جلس بجانبها بهدوء وجديّة لم تعتد عليها منه يوماً:
-"متى عرفتِ".
-"يوم حضرت العائلة بدعوة منه".
تنهّد وسكت قليلاً، شعرت أنه متعب من حمل ثقيل كذاك، من المؤكد أن لا أحد يعرف غيره والآن يظن أن أكثر الناس المقربين للعائلة تخونهم.
-"ما الذي يؤكد لي أنه لا يستعمل الاستدعاء ليستمتع بك".
كلماته الأخيرة جعلتها تشمئز من نفسها حتى لو لم تفعل شيئاً لكنها تفهمه، لا وقت للعتاب الآن.
-"هو يملك ما يكفي ليبتزني بتلك الطريقة لكنه لم يفعل... ليس حتى الآن على كل حال".
تنهّد مجددا ووضع مرفقيه على ركبتيه ومال يغطي وجهه بيديه:
-"لا أعلم تيزيري، أريد تصديقكِ لكني لا أستطيع".
لم تملك تيزيري ما تقوله ليصدقها فسكتت، بعد لحظات سمعته يقول:
-"من قتلتِ أيضا؟".
-"لقد قتلت سارقا حاول قتلي بعدما رأيته في المنزل وهو ظن أنه فارغ، أما التهمة الأخرى فأقسم أنه لا دخل لي فيها".
من اتُهِمت بقتلهم؟، هي لن تخبره حتى وإن جرّها بنفسه وألقاها في الدوامة.
-"سأساعدك".
نظرت له بعيون واسعة لا تصدق ما تسمع:
-"هااا؟؟".
نظر لها هو الآخر أخيراً لكنه لم يكن الشخص نفسه، لم يكن أنير الذي تعرفه، أنير الذي أمامها هو الشخص الذي لا يظهر إلا حين يكون وحده:
-"سأساعدك على استرجاع ورقتك منه أو التخلص منها قبل أن يراها البقيّة لكنكِ ستسكتين عما رأيته في المقابل".
لم تسأله لمَ يريد التستّر على خيانه والده لأمه لأنها تعرف، ستسوء حال ماتيا التي تعشق زوجها إن عرفت بالأمر وعلى الأغلب ستفارق الحياة بما أنها تملك قلبا مريضا بالفعل. ما يفرحها أنه صدّق براءتها، هو لم يقل ذلك لكن عرضه بمساعدتها يؤكد ذلك.
نطقت بعد فترة طويلة من الصمت المريح:
-"ما الذي سيفعله ايدير لو رأى الاستدعاء برأيك، هل تظنه سيصدقني؟".
نظر أنير للأفق ففعلت المثل، كان منظر المنازل من مكان مرتفع منظراً خلابا خصوصاً مع وجود الكثير من المساحات الخضراء.
-"هو رجل عملي يسبّق الأدلة على المشاعر لذا على الأغلب كان ليصدق الموجود في الورقة المُصادقِ عليها".
-"لقد فكّرتُ في استخدام الدوامة مرّتين حتى الآن".
نظر لها فأكملت:
-"يوم هدّدني سيفاو وعرفت أنك تراني مجرد بائعة لجسدها... واليوم".

لم تتلقى إجابة منه بسرعة فظنت أنه لا بهتم للأمر وإن فعلت، لكنه قال بعد فترة:
-"لقد كانت الدوامة منصة إعدام للخونة والخارجين عن القانون منذ فترة طويلة، طبعاً كنا نعرف حقيقتها لكننا لم نخبر العامة بها، قرّر الملك تخويف من تسوّل له نفسه للإجرام بها وإخبارهم أن من يدخل لها مصيره مجهول ومن يفعل لا يعود يوماً".
ضحك قليلاً وأكمل:
-"صدّق الناس ذلك لدرجة أنهم أصبحوا يلقون بأنفسهم فيها كنوع من الانتحار حين يعلمون أن الملك اكتشف خيانتهم للمملكة، كانوا يعلمون أن الملك يعذب الخونة بأبشع الطرق قبل إلقائهم فيها فكان إلقاء نفسهم في الدوامة أرحم من أن يعتقلهم الحراس".
استنتجت تيزيري أن الملك لم يكن يرمي الخونة في الدوامة ولا أي من ذلك بل يعدمهم مباشرة بعد التعذيب، هذا إن لم يموتوا من الألم أولا.
-"لقد خدعتنا تلك العاهرة حين رشت بعضاً من العامة الذين يسكنون قرب الدوامة وقالوا أنهم رأوها تتجه نحوها، ظننا أنها ألقت نفسها فيها فأخبرنا العالم أنها ماتت، لم نخبر العائلة حتى".

.
.
.
.

-"ديهيا تخفي شيئا ما".
قشعريرة أصابت جسد تيزيري حين سمعت ذلك، نظر لها فأبعدت عينيها عنه كيلا تكشف نفسها.
-"هل صادف وأخبرتكِ عن أي شيء يجعل أي أحد يبتزها... شيء كتهمة القتل الخاصة بكِ".
حاولت بجهد أن تبدو مستهزئة بكلامه حين قالت:
-"هل انتقل الشك مني إليها الآن أنير؟، أنت تعرف أختك أكثر مني".
تجاهلها قائلا:
-"ايدير لا يخبئ عني أي شيء يخص حياته الخاصة، أخبرني أن تانيرت اتهمت ديهيا بالتواطؤ معها بشأن سرقة الذهب من والدتي وأخبرني أنكِ سمعتِ بالأمر بشكل ما. توجهنا لأختنا العزيزة جرّبنا الحديث معها كل منا بطريقته فاعترفت بالسرقة، لكنها لم تقل سوى أنها أخبرت تانير بسر ما كونها كانت تعتبرها كأخت لها وكان المقابل هو ابتزازها لسرقة الذهب. أقسمت نئات المرات أنها لم تكن تعلم بعلاقة اللعينة مع نويا ولا عن نيتها بما ستفعله بالذهب".

لم يشد انتباه تيزيري سوى عبارة 'كل منا بطريقته'، لقد تم استجواب ديهيا من قبل إخوتها ومن المرجّح أنهم قسوا عليها أكثر مما فعل أنير الآن معها، ورغم ذلك لم تقل شيئا عن يور.

-"في النهاية عرفنا أنها استعملت الذهب لرشوة السكان القريبين من الدوامة من أجل شهادة الزور وأيضا الجنود على الحدود كيلا يفتشو عربة نويا اللعين حين تعبر. لم يكن سفيراً في ذاك الوقت بعد ولم يكن يملك المال الكافي لفعل كل ذلك. لكني لازلت أريد معرفة ما الذي يجعل ديهيا تسرق أمها وتغش إخوتها".

هي لن تقول له طبعاً، استحملت ديهيا كل ذلك الألم والذنب طوال سنين ولم تخبر أحداً حتى الآن، لن تكون تيزيري وغدة وتجعل كل ذلك الجهد يذهب في مهب الرياح.

-"لن تخبريني إذا؟".
قالت تيزيري بعزم:
-"أنا لا أعرف شيئا لأخبرك إياه، ثم ما الذي يجعلك تظن أن ديهيا ستكرّر نفس الخطأ وتفشي سرها مرة أخرى؟".
-"لقد قلتِها من قبل تيزيري، أنا أعرف أختي، وهي خرقاء بعض الشيء لذا لن أستغرب إن قالت لكِ ما تخفيه".
هي ليست خرقاء لتلك الدرجة في النهاية فديهيا لم تخبر تيزيري بأمر علاقتها بل كان الأمر محض صدفة.

-"حسنا ربما ستغيّرين رأيكِ إن أخبرتكِ أن تانيرت صفعت أمي قبل أن تهرب".

كادت تُكسر رقبة تيزيري حين التفّت له بشكل سريع تزم شفتيها وعينيها تكاد تخرج من محاجرهما، هي لم تتوقّع هذا أبدا، بل لا تستطيع تخيّله أصلا.
نظر لداخل عينيها يحاول قراءة أفكارها ثم أبعدهما عنها وهو يرفع حواجبه يقول:
-"لست أنا أو ايدير من رأى ذلك فلو كنا نحن الفاعلين لما تركنا الأمر يمر دون عقوبة".
إن لم يكن التوأم فهو إما سيفاو أو ديهيا، أكمل أنير يجيب عن تساؤلاتها قائلا:
-"لم تكن ديهيا لتقول ذلك لو لم أضغط عليها أكثر، هي لم تكن تعرف السبب وراء ذلك لكنها قالت قالت أن أمي أجبرتها على السكوت. سألت أمي عن ذلك قبل أيام وتفاجأت حين قالت أنها كانت تعرف بخيانة اللعينة لايدير وحين قابلتها بذلك هدّدتها بما فعلته ديهيا وصفعتها أيضا".

هو يظن أن ماتيا سكتت عن الخيانة كيلا تفشي تانيرت سر سرقة ديهيا للذهب لكن تيزيري فهمت الأمر بسرعة، ماتيا تعرف بعلاقة ابنتها بيور وتانيرت استخدمت نفس الورقة الرابحة لإسكاتها، حتى ديهيا لا تعرف أن أمها تعرف وتصون سرها، ربما هي تفعل ذلك لأن عشقها لزوجها جعلها تتفهم حب ابنتها لشخص ما لدرجة السرقة من أجل نجاح العلاقة.
نظر لها أنير ففهمت أنه ينتظرها أن تبوح بما يخفيه الجميع، ديهيا سرقت أمها وماتيا تلقّت صفعة وسكت الاثنتان لسنوات، حتى حين استجوباهما التوأم وضغط عليهما لم ينطقا بأي شيء، وهي لن تضحي بكل ذلك الآن.
-"ليتني أعرف".

.
.
.
.

عاد أنير وتيزيري للعربة في طريقهما لمنزل النور مجدداً، كان هناك سؤال ينهش عقلها فسألته عن مصير تانيرت بعد أن جاءت لتطلب ابنتها. أخبرها أنها لم تكن لتستطيع أخذها لا بالقانون ولا بالقوة فأرادت التلاعب بمشاعر ايدير ظنا منها أنه لا يزال يحبها وقد يفعل أي شيء من أجلها، قال أنه انتقم منها بنفسه عبر إرسال ستة بائعات هوى كهدية لنويا ليرافقنه أثناء إقامته عند الملك، قال أنه اختار أكثرهن دهاءا وحيلة.
-"لمَ فعلت ذلك؟، أتظنه وفي لزوجته لدرجة ألا يختار بائعات هوى بنفسه عند الملك إن أراد ذلك؟".
-"بل على العكس، نويا صديق قديم لايدير وأنا أعرفه جيداً، هو لا يؤمن بالحب والاخلاص، وكثيراً ما يقول أن مهمة الزوجة هو إنجاب الأولاد فقط ولا حق لها عند زوجها غير الانفاق عليها، ولهذا أرسلت الذكيات فقط، من يجعلنه يصرف نظره عنها تماما".
مرّر لسانة على أسنانه يضحك وقال بخبث لم تره فيه من قبل:
-"طلب أن يأخذهم معه لمصر ولم يمنعه أحد، قيل لي أنه تزوج اثنتان منهن حتى الآن".

تلك الغبية، تركت بلدها وعائلتها وزوجها وحتى ابنتها من أجل علاقة مزيفة، قال أنير أنه أراد الانتقام من نويا بشدة كونه من تلاعب بعقلها من البداية وهرّبها ودمر حياة أخيه، لكن ايدير أكد عليه ألا يلمسه وأنه سيأخذ انتقامه منه بيده.

ضحكت رغماً عنها وهي تستوعب مدى تماسك الإخوة ببعضهم رغم عدم امتلاكهم لأب نموذجي على الأقل كالجميع، أنير يبدو لأي أحد أنه شخص لا يهتم لما يحدث حوله، شخص سكير زير نساء وغير جدي في الحياة، لكنه أكثر من يعرف أسرار أفراد أسرته وأكثر من يهتم، لم يخبر إخوته بما يفعله والدهم خوفاً عليهم أن يشعروا بما يشعر به، قد يبدو ايدير هو المسؤول الأول والأخير عن العائلة لكن أنير أيضا يحمل مسؤوليات وبنفس القدر الذي يحمله أخاه، هو فقط لا يحب أن تُسلط الأضواء عليه. كم أرادت احتضانه وإخباره أنها من المستحيل أن تفكر أصلا في خيانة العائلة وأنها تعتبرهم محور حياتها الآن، كم أرادت إخباره أنه الفرد المفضل لها في الأسرة وأنه الأقرب إلى قلبها لكنه لن يصدقها الآن، لقد كاد يقتلها قبل ساعتين ظانا بها الأسوء ولن يغير نظرته تجاهها بهذه السرعة، هي لم تضر أي أحد منهم حقا وإن فعلت فهي لم تقصد ذلك، لكن عليها محاولة استرجاع ثقته بها وتلك النظرة الأخوية أيضاً، والأمر لن يكون سهلاً.

***

بعد يومين فقط حصل ما توقعته تيزيري، كان يور في منتصف محلها يود مقابلة ديهيا، لم تقل أي شيء خصوصا بعدما رأت نظرات ديهيا لها وهي تفكر أنها تدين لها بالكثير، جعلت لافتة الباب تشير على أنه مغلق ثم صعدت للطابق الأول أين تتم خياطة الأزياء وهي مكتفة اليدين.
أما عند الثنائي فكان يور يراقب احمرار خدود ديهيا ودعكها ليديها بقوة والنظر للأرض فعرف أنها تفكر فيما فعله آخر مرة، منظرها المشتت والخجول يجعله يرغب بإعادة الأمر مرة أخرى... أو فعل ما هو أكثر جرأة. سألها عن أحوالها كأن شيئا لم يحدث لكنها أصرت على توبيخه رغم خجلها وأكدت له أنها لا ترغب بتكرار قبلته وأن عليه أن يسرع فيما يفعله ليتزوجها إن كان يريدها حقا.
كانت ترتدي سروالا أبيضا واسعا وقميصا ضيقا بنفس اللون بأكمام بينما نثرت شعرها الأشقر المموج فوصل لخاصرتها، بعد فترة بدا كأنها تخلصت من خجلها أخيرا لتنظر له ببحارها الزرقاء بجدية ليفهم أنها مصرة على ما تقوله، ربما تظنه يماطل عن عمد أو أنه أصبح يهتم لجسدها أكثر مما ينبغي.
-"عام ونصف".
بقيت تنظر له دون تعابير على وجهها فأكمل:
-"سنصبر عام ونصف بعد وأعدك أنك سترتدين خاتم من الألماس على يدك في ذلك الحين".
-"لم هذه المدة بالتحديد؟".
شعر بدقات قلبه تتسارع، لم يظن يوما أنه ستكون هناك احتمالية لفشل علاقته معها وربما الانفصال، لطالما كان متأكدا أنها له ولن تكون لغيره، والآن تعابير وجهها تدل على أنها تفكر حتما أن ما بينهما لن يكون له عمر طويل وأنها بدأت تسأم الأمر. هو لن يقبل بذلك لذا قال بسرعة من الارتباك:
-"كانت لتكون ستة أشهر فقط لو ساعدني أخي اللعين، أما الآن فعلي فعل كل شيء دون الاعتماد على أحد".
راقب حواجبها تنعقد وقالت بحيرة:
-"وما الذي كان ليساعدك به اكسيل؟، هو لا يفقه في أمور التجارة على حد معرفتي به".
هنا ارتبك يور حقا، ما كان عليه إخبارها بهذا فهو ليس متأكدا من رأيها في حقيقة أنه يخترق القوانين نفسها التي وضعها أخويها ليفوز بها، وحتما هو ليس مستعدا لتلقي طلب الانفصال منها.
-"لا، هو لا يفقه في التجارة لكنه يعرف الكثير من رجال الأعمال الأجنبيين ورفض التوسط لي من أجل اقناعهم باستثمار أموالهم في مشاريعي".
هزت رأسها بالإيجاب له ثم أنزلت رأسها وضلت صامتة، لقد كانت محبطة... لم تنظر له بحب ولم تخجل كما تفعل في الكثير من الأحيان، حقيقة أنها تفكر في الانفصال عنه تجعله يرتعب، هو لا يرى غيرها من النساء ولا غاية له في الحياة غيرها.
بعد لحظات قليلة قالت بصوت مخنوق:
-"موافقة".
تركت قلبه ينتعش بالفرح لثواني قليلة قبل أن تكمل:
-"لكن وكما أخبرتك سابقا، لن أفرط في إخوتي مقابل البقاء معك ولن أخالف طلباتهم، لن أقطع علاقتي بهم من أجل أحد".
قال بهدوء:
-"ما كنت لأنصحك بغير ذلك".
لذلك هو يفعل كل ما يفعله من البداية أصلا، هو يحبها ويريدها بشدة لكنه لن يضعها في موقف يجبرها على الاختيار بينه وبين أكثر من تحب في حياتها، هو يعرف الكثير من الأمور التي فعلها التوأم من أجلها فقد شهد بنفسه بعضا منها بينما حكت له ديهيا عن البعض الآخر، حتى هي لا تعرف أن أنير تنازل عن ثلث أراضيه لها، ولا على أن ايدير ينقل جزئا من راتبه في خزنتها كل شهر ليضمنوا مستقبلها المادي أيا كان ما سيحصل. لهذا خطط أن يكون أكثر رجال القبيلة ملاءمة لأختهم، هذا ما سيجعلهم يفكرون بمستقبلها بعيدا عن خلافهم معه، سيصبح الخلاف بسيطا ولا يذكر مقابل الحماية والرفاهية التي ستحصل عليها أختهم إن تزوجته.
توسعت عينيه بدهشة حين رأى دموعها فرفع يده مباشرة ليمسحها لكنه لم يلمسها بل ترك يده بالقرب من خدها ليرى إن كانت ستسمح له بذلك، عرف أنها لا تعترض حين لم تفعل شيئا فتحسس خدها الطري ومسح دموعها برفق. كانت تنظر له بينما هو لا يزال يمسح على خدها رغم أنها توقفت عن البكاء، هو متأكد أنها لا تريد الانفصال عنه لكنها تشعر أن الأمر قد طال كثيرا وهي على حق.
-"أحبك".
قالها بجدية وعينيه مقابل عينيها لكنها لم تقطع التواصل البصرية أو تخجل كالعادة، بل ردتها له بنفس الطريقة:
-"وأنا أيضا".
لم يستطع منع نفسه أكثر فعانقها بقوة وهو يمسح على شعرها، قبل رأسها وعاد يردد أنهما سيجتازان كل هذا وسيتزوجان، كان يردد تلك الكلمات لنفسه أكثر منه إليها كي يقتنع أكثر، تمادى في الأمر حين استعاد رباطة جأشه فأخذ يهمس قرب أذنها بينما لا تزال في حضنه أنه يريد الكثير من البنات بينما هي تضحك عليه، فرح كثيرا حين نجح في إخراج حبيبته من حزنها لكنها قطعت اللحظة عليه حين قالت أنه لا يجب أن يطول لقاؤهما في المحل أكثر من ذلك فقد تطردهم تيزيري يوما ما، ابتعدت عن حضنه فعرف أنه الوداع.
-"متى سنلتقي مجددا حبيبتي".
وها هي تعود لابتسامتها الخجولة الآسرة لقلبه، ليتها تبقى كذلك مدى الحياة، رفعت أعينها عن الأرض ثم أجابته بدلال:
-"هناك حصة دفاع لناتير بعد ثلاثة أيام صباحا، وأيضا ستبدأ دراستها في الأسبوع القادم".
قال بابتسامة كبيرة:
-"ستوصلينها أنت كالعام الماضي وسنلتقي كثيرا إذا".
عادت بدلالها تجيبه:
-"بل ستراني من بعيد فقط أيها العاشق، قد يكون شوقك لي محفزا جيدا لك كي تتفوق بسرعة".
لم تترك له الوقت ليحتجّ على ما قالته لأنها صعدت للطابق الأول فورا وتركته يحاول استيعاب ما قالته.

***

كانت صوفينيا تنظر للخارج من نافذة العربة بفاه مفتوح وعيون متوسّعة والفرحة عنوان وجهها، أخبرت أكسيل أنها تحلم بالتجول في كامل سيرتا في يوم واحد وها هو يحقق حلمها دون أن تطلب منه ذلك، قبل هذا كان الميتم هو عالمها الوحيد مما جعل الفضول حول المملكة يزداد كل يوم. التفتت ليمينها لتراه يضع يده على النافذة بجانبه بينما يجلس بطريقة مائلة تسمح له برؤيتها وهو يبتسم بحب، كان كل منهما يتأمل منظره الخلاب.
-"شكرا"، قالتها وهي تميل برأسها تحاول إيصال مدى امتنانها له.
-"لا شيء يدعى شكرا بيننا إن كنا نحب بعضنا حقا".
صوفينيا لم تنطق بالكلمة حتى الآن، ليس لأنها تخجل من مشاعرها بل لأنها لم تصدق حقيقة ما تعيشه، لكنه فعل... اعترف لها قبل أيام حين أصر على ايصالها للميتم حين قالت أنها ترغب بزيارة أمها، اعترف لها في حديقة الميتم أمام الجميع حين استشعر غيرتها عليه من الفتيات وقبّلها أيضا ليؤكد الإشاعات التي تدور هناك لكنها تجمدت ولم تقل شيئا، لم يستوعب عقلها الأمر فركضت للداخل دون قول كلمة وكم ندمت بعدها، وها هو الآن يضغط عليها لتقولها... كأنه يتحداها أن تفعل أو ربما يحاول جعل الأمور تبدوا واضحة أكثر بينهم.
-"أنا أحبك"، لقد قبلت التحدي، اتسعت ابتسامة أكسيل لتسلب منها أنفاسها ثم انحنى يقترب منها يقول بمكر :
-"أعرف".
ابتسمت بخجل وعادت تنظر للشوارع بشرود لكنه قاطعها بعد فترة حين قال :
-"منذ متى؟".
تسارعت دقات قلبها فقالت وصوتها يهتز :
-"ماذا تعني؟".
رجع أكسيل يتكئ براحة وأجابها:
لقد عرفت من اليوم الذي أخبرتك فيه أنني معجب بك، كنت شبه متأكد أنك تحبينني بالفعل من ردة فعلك والآن أيقنت الأمر.
-"لمَ تريد أن تعرف، أقصد... ما الذي ذكّرك بسؤالي ذلك الآن؟".
-"أريد أن أنال شرف إخبار أولادي بالقصة حين يسألونني عن قصة حبنا".
اقترب من وجهها وقال ببسمة:
-"أم ستكونين أنانية وتأخذي ذلك الحلم مني؟".
ألجم لسانها بكلماته فبقيت تنظر له بفم مفروج، هل تخبره؟، أتخبره بكل شيء أم تسلط الضوء على الأفعال الجيدة فحسب؟، لكنها تريد علاقة شفافة وصلبة معه وهذا لن يحدث إلا بالصدق... لذا إما أن يتقبّلها ويتقبّل أفعالها أو يرفضها، وفي كلى الحالتين سيرتاح قلبها، ربما ستندم كثيرا بعدها لكن هذا ما تريده.
-"منذ تسع سنوات".
راقبت أعينه الخضراء الساحرة تتوسع وهو يحاول استيعاب ما قالته فطأطأت رأسها بهدوء ثقيل، سيسألها عن التفاصيل بالتأكيد. خرج صوته بعد لحظات:
-"أي منذ الطفولة؟! ".
هزت رأسها له بالإيجاب وهي تنظر ليديها على حجرها ثم قصّت له ما كانت تشعر به في طفولتها له، وصلت للحظة التي يجب عليها إخباره بالجهة المظلمة من القصة فقالت باختناق تحت سكونه التام:
-"لم أستطع منع نفسي من ذلك ما إن فكرت في الأمر، أصبحت أراقب كل خطأ من أي شخص وأبتزه به من أجل المال ورشوة رجالك".
نظرت له فرأت تلك التعابير التي كانت تخاف أن تراها في عينيه، تلك التعابير التي كانت تراه يخص بها المجرمين حين يبدؤون بالاعتراف، تعابير يصنعها حين يلوم أحدا ما. لم تستطع التحمل أكثر فأنّت من الحزن قبل أن تكمل ببكاء:
-"كنت أتلقّى الشتائم ونظرات الاحتقار منهم كل يوم ولم ألمهم، كنت لأفعل أكثر لو كنت مكانهم، لكني لم أتوقف عن ابتزازهم أيضا".
ابتلعت ريقها تحاول التحكم في دموعها وانتظرت للحظات تتمنى أن ينطق بأي شيء لكنه التزم الصمت فتابعت هي:
-"كنت أقنع نفسي أنهم يستحقون ما أفعله لهم في كل مرّة أشعر بالذنب، كنت أقول لنفسي أنهم مذنبون أيضا بطريقة ما. والآن أصبحت أكثر أمنياتي هي النوم دون التفكير في العلاقات التي كنت السبب في تحطّمها، أو أرباب العائلات التي تسبّبت في طردهم من العمل".
شهقت لتنهار باكية بعد أن ختمت كلامها قائلة:
-"لم أعد قادرة على التحمّل، كان عليّ إخبار شخص ما بهذا".
بكت ذنوبها وبكت علاقتها التي حطّمتها بيدها الآن، كبتت أنينيها وشهقاتها لكنها لم تستطع التحكم لا في دموعها ولا في رعشة جسدها، ها هي تخسر من فعلت كل ذلك من أجله، ليتها صبرت وتركت مشاعرها وروحها نظيفة من أجل مستقبل أنقى وأفضل.
توقّفت عن البكاء بعد وقت طويل وتشجّعت لترفع وجهها له، كان ما يزال ينظر لها وهو صامت، تركته يفكّر لوقت طويل لكن صبرها نفذ أخيرا فقالت :
-"قل شيئا".
لكنه لم ينطق، انتظرت كثيرا ولم يفعل فعرفت قراره لذا ستميل برأسها للنافذة وستحاول جاهدة ألا تنظر صوبه، ستبقى كذلك حتى تتوقف العربة وستعود للمنزل بصمت، ستستقيل من العمل وتبحث عن عمل آخر بعيدا عنه، ستحاول أن تنساه وتبدأ من جديد بعيدا عنه.
مرّت أكثر من ساعة ولا تزال تشعر بعينيه على ظهرها، توقفت العربة أخيرا أمام باب شقتها فلم تنتظر لحظة واحدة لفتح الباب والنزول منها، أعادت شكره على النزهة وتمنت له ليلة طيبة كيلا تكون وقحة ثم سارعت تقصد باب المنزل.
توقّفت عند الباب وهي تمسك بالمفاتيح حين سمعت باب العربة يغلق فعرفت أنه نزل أيضا، أغمضت عينيها لتحارب دموعها وتستعيد رباطة جأشها، ليست مستعدة لتلقي اللوم والكلمات الجارحة وخصوصا ليس الآن. ما إن استدارت له حتى اصطدم جسدها بخاصته أين وضع كلتا يديه خلف عنقها من كل جانب وقبلها بقوة، تصادمت أفكارها داخل رأسها وتسارعت نبضات قلبها، لا تريد التخمين في كونه رفض انفصالهما ثم تُصدم بحقيقة أنه ربما يحاول جعل النهاية جميلة.
ابتعد عنها بعد لحظات ونظر لداخل عيونها وهو يبعد شعرها البني عن وجهها، قال بهمس:
-"هشششش إهدئي، هناك الكثير ممن يرتكبون الجرائم في العالم، وكل الناس ترتكب الأخطاء... لكن القلّة القليلة منهم فقط من يعترفون بها ويندمون عليها، وأنتِ واحدة منهم صوفينيا. شكرا على كونكِ صادقة معي".
كانت هي الفرد الصامت هذه المرة، كان وجهها بين يديه بينما يمسح بإبهاميه دموعها المتساقطة وأكمل قائلا:
-"لا تفكري في الأمر كثيرا حبيبتي، فقط انسي الماضي ولا تعيدي ما فعلته وانتهى الامر".
ابتسم تلك البسمة الهادئة التي تجعلها كالعجينة بين يديه ثم قرّب وجهه لها قائلا :
-" سأسألكِ عمن رشوتِ من رجالي فيما بعد لتطهير محيط عملي منهم".
ضحكت بألم أخيرا وفرحتها لا توصف، لم تشعر براحة نفسية قبل هذا يوما لكنها لم تعبّر ولم تقل شيئا، وطبعاً لا هي لن تخبره عمن رشتهم من رجاله فهو بالطبع سيطردهم وهي لا تريد المزيد من مشاعر الذنب. ختم أكسيل اللقاء بجدية يطلب منها:
-"إن كنتِ تريدين معرفة أي شيء عني في المستقبل لا تتردّدي في الطلب وأحدكِ أن أحكي لكِ كل شيء بالتفاصيل المملة إن أردتِ".
هزت رأسها له وهي تعض على شفتها السفلى بفرح فقبّل جبينها وطلب منها الدخول للمنزل قبل أن يذهب.

***

كانت تيزيري تجلس في حديقة المنزل ترتدي سروالا قطنيا مريحا باللون الأبيض بينما ترفع ركبتيها عن الأرض لتسند الأوراق عليهم، كانت تحاول تصميم أي شيء جديد في تلك الظهيرة بينما تقابلها ديهيا على الطاولة المستديرة تساعد ناتير في تعليمها كلمات عربية جديدة، الخالة ماتيا على الأغلب تتغزّل بزوجها داخل المنزل كعادتها حين يكون متواجدا.
دخل أنير للحديقة أولا وهو يهرول بثياب متسخة بالطين من كل جهة ثم دخل توأمه وراءه ببطء وعلامات التشفّي ظاهرة على وجهه حين كان يتابع تحركات أنير، رمش بعدها حين سمع صراخ ابنته باسمه فانحنى يحملها ببسمة ثم تركها تعانقه وتقبّل وجنته، سألت ديهيا أخويها إن كانا قد تغذيا خارجا أم تحضر لهم طبقا ما، دخل أنير مسرعا للمنزل وهو يقول أنه على عجلة من أمره وأنه ليس جائعا بينما ايدير قال أنه يتضور جوعا خصوصا بعدما هزم أخاه في صراع حين تحداه، قال ما قاله بصوت عالٍ كي يسمع أخاه ذلك وهو يضحك، جلس على نفس المقعد الذي تجلس عليه تيزيري فكان يتسع لثلاثة أشخاص وجلست ناتير في حجره ثم مدّ ذراعه على طول ظهر الكرسي لتكتمل صورة المغرور المتكبر في نظر تيزيري، أو ربما هي مجرد ثقة بالنفس فهي لم تحدّد ذلك بعد.
بقي ايدير يلاعب ابنته ويدغدغها بينما ينتظر الغذاء ثم وقف يرميها في الهواء ليعيد حملها بعدها فتعالت صرخات ابنته من المرح، نفس المنظر... نفس الحركات... وحتى نفس الأصوات والمشاعر لكن الأشخاص مختلفون.
كانت كاترينا أم تيزيري تجلس على أرض رملية مفروشة أين وضعت الكثير من الكعك في سلة وبعض المشروبات والحلويات وغيرها من المأكولات التي اكتشفت أن ابنتها بالتبني تحبهم أملا في جعلها تتقّرب منهم أكثر وتنغمس في العائلة بشكل جيد، تيزيري لم تقل أنها تحب أي نوع من المأكولات فقد كانت خجولة جدا في البداية، إضافة إلى تخويف تلك المستشارة العجوز لها بأنهم قد يعيدوها للميتم ويتراجعون عن تبنيها إن لم تحسن التصرف، لكنها كانت تتناول مربى التين أكثر من أي نوع آخر وتأكل لحم البط أكثر من غيره وهكذا عرفت الأم ما تحبه ابنتها بالتدريج. أما زوجها دالان فقد كلّفته بشواء اللحم قرب الشاطئ أين كان بعيدا عنها قليلا لترسم حدود مساحة لعب ابنتها، كانت النزهة بناءً على طلب صغيرتهم أين كادت كايت تطير من الفرح حين جعلت تيزيري تخبرها أخيرا بما ترغب به حقا، قالت بعد الكثير من المحاولات أنها أحبت البحر حين رأته في التلفاز وتريد رؤيته في الحقيقة، السيد والسيدة آيت بعمران لم يكن يسمح وقتهم ولا عملهم بالتنزه في أي مكان لكنهما قررا التنازل عن بعض الأعمال من أجلها فما فائدة المال إن لم يكونوا سعداء. تيزيري الصغيرة كانت تجول وتلتقط أي أحجار ملونة تجدها على الرمال ثم تضعهم داخل علبة زجاجية شفافة لتسمح لنفسها بتأملهم فيما بعد حين تمتلئ، ظنت بعقلها البريء أنها استغفلتهم فركضت لمياه البحر تحاول دخوله لكن دالان كان حائلا بينها وبين رغبتها حين حملها قبل أن تلامس أرجلها الصغيرة تلك المياه المالحة، أدار وجهها له ليقول بابتسامة :
-"يا لكِ من محتالة مشاكسة".
ضحكت تيزيري ثم عادت تحاول إقناعه بتركها تدخل البحر لكنه رفض بلطف كون الجو كان لايزال باردا على السباحة ثم قال:
-"أتجيدين حفظ الأسرار تيزيري؟".
هزت رأسها له وعيونها السوداء تلمع من السعادة فعاد يقول بطرافة:
-"أنا أجاف أمك، قد تحولني إلى ديك رومي مشوي إن مرضتِ وعرفت أنني تركتكِ تتبللين بالمياه الباردة في هذا الجو".
ضحكت تيزيري ببراءة لكنها عادت تصر على أن تدخل مياه البحر فلم يعد دالان قادرا على الرفض أمام وجهها فنزع عنها حذاءها واتفقا على أن تدخل أرجلها فقط، ثوانٍ وعلى صراخها وضحكاتها حين أحست بالمياه تسري بين قدميها وهي تدك الأرض برجليها حين يقترب المد منها، دقائق قليلة ورفعها دالان عن المياه يجفف رجليها وهو يقول :
-"والآن، ماذا ترغبين".
فتحت تيزيري ذراعيها في الهواء وهي تقول بصوت مرتفع بابتسامة واسعة وعيون تلمع من السعادة :
-"أريد أن أطير".
ضحك دالان على ما تطمح به تلك الصغيرة لكنه قال أنه سيلبي طلبها في الحين، أخد يرميها في الهواء ثم يلتقفها حين تنزل ويعيد رميها وهي تصرخ من المرح، لحظات وصرخت كايت ليسمعها زوجها :
-"يكفي ذلك حبيبي، قد يؤذي ذلك معدتها فقد أكلت الكثير منذ دقائق".
نظرت تيزيري لوالدها بعبوس فعبس هو أيضا يعاندها بطفولية ثم همس في أذنها وهو يعيدها لأمها قائلا ليرضيها:
-"أعدك أن نلعب هكذا كثيرا حين لا ترانا، سيكون هذا سرا آخر بيننا".

.
.
.
.

نزلت دمعة يتيمة على خد تيزيري حين أفاقت من شبح ذكرياتها فرفعت يدها لتمسحها ثم أعادتها أين كانت، رمشت عدّة مرات وعقدت حواجبها تستغرب ما تلمسه فأنزلت بصرها لترى يد ايدير المملوءة بالخواتم على فخذها بينما هي تدير الخواتم داخل أصابعه، ارتعشت بفجأة تعيد له يده وهي تعتذر وتنظر لكل شيء عداه، شعرت بارتفاع الحرارة في خدودها وهي تفكر أنها من لمست يده وداعبتها حين انجرفت بأفكارها وهو لم يمنعها من ذلك.
شعرت بالحرج أكثر حين تذكرت أنها ليست المرة الألى التي تفعلها، كثيرا ما تلعب بخواتمه حين تشعر بالتوتر أو الانزعاج وكان هو في كل مرة ينزع يده عنها لكنه لم يفعل هذه المرة.
-"ما كان عليّ فعل ذلك أمامكِ وجعلك تشعرين بالشوق أكثر مما تفعلين بالفعل".
ابتسمت تيزيري بأسى ثم ردّت عليه وهي تنظر لحجرها :
-"ليس عليك أن تتوقف عن كونك أبا أمامي".
في تلك الأثناء خرج أنير مسرعا مغيّرا ثيابه وشعر مبلول وهو يحمل موزة وقطعة كعك وبعض الخبز، لم يلتفت لهم ولم يقل شيئا غير أنه سيتأخر في العودة ليلا. تجاهله الجميع بينما رفعت تيزيري أعينها الامعة من الدموع لأنير فوجدته ينظر لها بعمق وبابتسامة هادئة، رمش مرّتين ثم قال :
-"أخبريني عنه".
ابتسمت وعادت لشرودها تنظر للأفق وهي تصف حنانه ولعبه معها دون قيود أو حدود، عن تدليله لها وخوف أمها غير المحدود عليها، عن تعليمهم لها السباحة واللغات وغيرها من الأمور التي أحبت بعضها وقبلت البعض الآخر منها من أجلهم فقط. خرجت شهقة خفيفة منها حين وضع يده بين يديها التي كانت على حجرها فعرفت أنه يسمح لها بفعل ما كانت تفعله لشعوره بحزنها وهي لم ترفض الأمر، عادت تلعب بخواتمه وتداعب أصابعه، تمنّت لو حصل هذا في موقف مغاير لكان الفراشات تملأ بطنها وصدرها الآن، لكن كل ما كان يملأ أحشاءها في ذاك الوقت هو الشوق والحزن.
أخبرته عن هوس أبيها وصرامته فيما يخص العلاقات العاطفية والجسدية خصوصا ففاجأها حين قال أنه يؤيده بشدة.
-"أتخبرني أنك ستحول بين ابنتك ورجل ما إن أحبته حين تكبر؟".
لم ترد أن تضرب المثال بأخته كيلا تزرع الشك داخله أنها ربما تواعد أحدهم وتخفي الأمر، فاجأها مرة أخرى حين قال وهو يعدل جلسته:
-"فليتزوجها إن كان يريدها، لمَ عليه أن يواعدها سرا عني. على الأغلب كنت لأقتله خصوصا إن لمس جسدها بأي شكل، وسأحاول معرفة لمَ تخبئ عني ابنتي أمرا مهما كذلك".
فتحت تيزيري فمها بدهشة ثم قالت بصوت مرتفع قليلا :
-"لمَ كل هذا بحق كسل قامبول وغباء سبونج بوب؟، لمَ تترك أنير يواعد ماسيليا سرا عن والدها إن كان هذا هو موقفك؟".
ترك ايدير السؤال المهم ولم يهتم سوى بمعرفة من هم قامبول وسبونج بوب:
-"أهؤلاء أحباؤك السابقين أيضا تيزيري؟".
أجابته تيزيري وهي تمثل الجدية :
-"لا، بل كانوا أسماء وصفات أطفالنا المستقبليين الذين حلمنا بإنجابهم".
كيف لعلاقاتها أن تصل لدرجة تسمية أبناءهم الذين لن يكونوا بل وتخمين طباعهم وشخصياتهم أيضا؟.
قاطعتهم ديهيا وهي تدلف بأطباق غذاء ووراءها ناتير التي تسلّلت للمطبخ مستغلّة نقاش والدها مع تيزيري كي تأكل بعض العسل، قرّرت تيزيري مساعدة ديهيا على تحضير الشاي فذهبت للمطبخ وهي تقاوم ضحكتها من تعابير وجه ايدير، لقد أصبحت متيقّنة من مشاعرها تجاهه وقرّرت إبقاء ما يفعله سيفاو سرا حرصا على سلامة الجميع واستقرار العائلة، كانت تفكّر في الاعتراف لايدير بمشاعرها وليكن ما يكن، لكنها لم تُوفّق في التوصّل لقرار خصوصا حين عادت للحديقة بصينية شاي وكعك ورأت ذلك المنظر.
كان ايدير يقف عند الباب الخارجي للمنزل وهناك امرأة تقبّله، كان يبدوا جامدا ومتفاجئا خصوصا مع عيونه المتوسعة ويديه المتوقّفة في الهواء بعشوائية، آلمها المنظر لدرجة لا تصدق لكنها خمنت أنه ربما تكون أحد معجباته وخدعت حراسه بطريقة ما لتحظى بلحظة لا تنسى، لكن لا... لم يترك لها المجال حتى في أن تسكّن آلام قلبها بتخمين كذلك فها هو يخرج من صدمته ليبادل تلك المرأة القبل وهو يضع يديه على ظهرها.


__«___{^_^}___»__

Continue Reading

You'll Also Like

27.9K 2.3K 34
تعلم بأنها مميزة وفريدة من نوعها ولكن ليس إلى درجة تجعلها.......... حرب دامية قتالات عنيفة وتحديات لم يسبق لها مثيل .....لا ننسى انه بالنهاية الخضوع...
15.8K 1.1K 15
تنتقل الكاتبة ريجينا بشكل مفاجئ الى عالم رواية قد قامت بكتابتها ، لتتفاجئ برؤية الامبراطور الذي كان وسيما كما كانت تتخيل تماما ، ولكنه يطلب منها البق...
951K 47.2K 20
في هذا العالم .. كُل كائن يولَد تكون عليه علامة تُطابق نصفه الآخر .. فقط المقدران لبعضهما يمكنهما رؤية علامة الآخر .. ولكن! ماذا ستفعل بطلة قصتي حي...
Lelice By جيمي

Historical Fiction

32.9K 2.7K 34
علاقتنا علاقة زمن طويل روبي اعرفكِ منذ كنتي في الثامنه لقد غبت عنكِ كثيراً هل سوف تسامحيني لغيابي اثنتا عشر عام ؟ جيون جونكوك روبي ماكبرايد