الرجوع لزمن البرابرة

By _Azlen_

42K 2.3K 1.3K

كيف ستتعايش فتاة هربت من عواقب جريمة قتل إلى الزمن الذي عاش فيه البربر والفراعة والروم والتاتار مع ثقافتهم وط... More

مقدمة
الفصل الأول: أين أنا... ومن أنتم.
الفصل الثالث: مجرمة عاشقة.
الفصل الرابع: منزل النور.
الفصل الخامس: أخت الواشي.
الفصل السادس: مالكة الحانة.
الفصل السابع: ضيوف الغفلة.
الفصل الثامن: سر سيفاو.
الفصل التاسع: سوء فهم.
الفصل العاشر: هكذا أفضل.
الفصل الحادي عشر: أجمل وأحلى خطأ.
الفصل الثاني عشر: من الماضي.
الفصل الثالث عشر: على شفى حفرة من الموت.
الفصل الرابع عشر: الأمور العالقة.
الفصل الخامس عشر: أهلا بعودتك.
الفصل السادس عشر: أنا أيضا أعشقك.
الفصل السابع عشر والأخير: حفل الانتصار.

الفصل الثاني: دار الأيتام من جديد.

2.8K 149 13
By _Azlen_

أنتم تستمتعون بالرواية... وأنا أستمتع بردود أفعالكم عليها.

____________________


-"ليس مجددا".
بدأ الامر بشهقاتٍ متباعدة ثم تحوّل لبكاءٍ مكتوم، كيف لم تفكر في الأمر؟، بالطبع كان ليضعها ذاك الزعيم في دار الأيتام... أين يتوفّر التعليم والإقامة والمأكل والمشرب والملبس والحماية في مكان واحد.
هو يظنّها بأمان هناك، لكنها ليست كذلك حقا... ليس نفسيا على الأقل. هي لا تزال تتذكر اليوم الذي أحرقت فيه مطبخ الميتم عن طريق الخطأ وتمّت معاقبتها من قبل المستشارة العجوز بالبقاء طوال الليل في مخزن المؤون القديم، أين قضت أسوء ليلة في فترة طفولتها على الإطلاق... أين كانت تشعر بأقدام الفأران والصراصير تمشي فوق أقدامها الصغيرة دون أن تراهم، بعد أن أطفأت المشرفة الأنوار عنها، تسمع حركاتهم في أكياس الحبوب القديمة... أين أمضت ثمانِ ساعات من الليل دون أن يفارق الارتجاف جسدها الصغير، دون التوقّف عن البكاء والتوسل طلبا للرحمة، دون أن يفارقها الإحساس بالخوف... بالذعر... الوحدة... الضعف والعجز.
لم تلاحظ تيزيري لكم من الوقت بقيت تبكي بتلك الطريقة، لكن اكسيل لاحظ... هو لم يعرف ما يحدث داخل رأسها لكنه شهد انهيارها، سمع ترديديها لجملة 'ليس مجددا' ولم يكن من الصعب الاستنتاج انها كانت يتيمة قبلا ولم تحظى بوقت جميل أثناء ذلك.
راقبها تنظر لكل مكان ترفرف برموشها تمنع الدموع المحبوسة من النزول، كأنها تريد أن ترتدي قناع القوة حتى في أوقات انهيارها... كأنها تحاول منع نفسها من الانهيار أمامه هو والمديرة التي كانت ترمق تيزيري بقلق وتمد يدها لها تحاول لمسها ومواساتها، ثم تتردد وترجع يدها في آخر لحظة لتعود وتنظر له بقلق وتساؤل.
لا يعلم اكسيل ما اللعنة التي جعلته يشعر بالمسؤولية تجاه تيزيري التي لم تنفكّ عن شتمه منذ أن رأته لكنه فعل، تعاطف معها بشكل ما وأحسّ كأنه يرى أخته الصغرى في مشكلة عويصة، رغم أنه لا يملك أختا حتى وتيزيري أكبر منه بثلاث سنوات لكن كان ذلك ما شعر به في النهاية.
لذا قرّر أن يساعدها، لكن بطريقته... وقف من مكانه فجأة بعد أن كان جالسا يباعد بين ساقيه ويشبك يديه لصدره بنظرة تبدوا كأنه يكره جميع من حوله، ويبدوا أن المديرة وتيزيري معا تفاجؤوا من وقفته تلك دون استئذان لأن الاثنتان توقفتا عمّا كانا يفعلانه ونظرا له بقليل من الغرابة.
نظر لتيزيري من مكانه هو واقف وهي جالسة وكانت تبدوا له كقزمة خرجت من قصص الأطفال المصورة، ثم ودون سابق إنذار أمسك بساعدها وأجبرها على الوقوف يجرّها وراءه للخارج، وما إن أصبحا خارج المكتب حتى دفعها بعنف وبسرعة لم تستوعبها ثم ألصق ظهرها بالحائط ووضع خنجرا على رقبتها.
وضع ساعده على طول أكتافها فوق صدرها وركبته على أحد أفخاذها يمنعها من الحراك الذي امتنعت عنه هي أصلا حين أحسّت بشيء حاد على رقبتها، شهقت تيزيري وتسمّرت مكانها من الرعب ثم حرّرت دموعها بصوت مكتوم أخيرا، أما هو فاقترب منها أكثر ليمنع اليتامى المارّين على الرواق من رؤية الخنجر.
"كفّي عن التدلّل واسمعيني جيدا"، لاحظ ارتجافها من الخوف ومحاولتها للمس الخنجر بأصابعها لتتأكد من وجوده هناك كأنها لا تصدق الأمر لكنه فقط أكمل يخبرها بهمس حاد ونبرة قاتلة:
-"إن أردتِ العيش والنجاة في عالمنا فعليكِ أن تعرفي كل شيء عنه... على الأقل كل شيء عن هذه القبيلة".
توقّفت أصابع تيزيري عن محاولة الوصول للخنجر وهدأ ارتجافها قليلا قبل أن ترفع عيناها لاكسيل الذي عرف ما تفكر فيه من ردة فعلها تلك، لذا تابع:
"أجل... أمغار أخبرني كل شيء عنك وعن سرّك، لا أعرف ما الذي يجعلك تخافين دار الايتام لهذه الدرجة ولا يهمني حقا، لكنها ستساعدك على فهم القبيلة وكيفية سير الأمور هنا. ستتعلمين طرقا وحتى بعض الأشغال اليدوية التي يمكنك استثمار أموالكِ فيها".
ولأنه لم يجد أي رد فعل منها اقترب منها أكثر واشتدّ غضبه، لا يعلم إن كان غاضبا منها أو من نفسه لأنه يشعر بضرورة مساعدة فتاة سليطة اللسان لم يعرفها سوى منذ ساعات، لعق شفته السفلى يحاول تهدئة نفسه وأشاح بنظره عنها لحظة ليتنهّد قبل أن يعيد أعينه الخضراء لها:
-"واجهي الحقيقة تيزيري، أنتِ تحتاجين هذا المكان أكثر من أي شيء آخر الآن، ويبدوا أنه عليّ تذكيركِ أن إقامتكِ فيه ليست دائمة"، هنا فقط لاحظ اختلاف نظرة تيزيري له كأنها بدأت تهتم لما يقوله أخيرا... كأن الفهم بدأ يدخل لعقلها وهذا ما جعل غضبه يهدأ قليلا لأن جهده العقلي الذي بذله من أجل ذلك لم يذهب سدى.
-"كلما بذلتِ جهدا أكبر وتعلمتي أسرع كلما كان خروجكِ من هنا أقرب".
تذكّر اكسيل خوف تيزيري الذي لا يعرف سببه فأراد طمأنتها ببعض الكلمات قبل أن يذهب:
-"لن يتجرأ أحد على لمسكِ هنا تيزيري، كان ايصالي لكِ لهنا أمام أنظار الجميع أمرا من أمغار لفهموا أنكِ مهمة له... أنه مسؤول عنكِ وأنكِ تحت حمايته، وإلا لمَ يجعل أكبر ضبّاطه يوصل مراهقة مجهولة الهوية لدار أيتام؟".
انغماس اكسيل وتركيزه في محاولة مساعدة تيزيري على تخطي خوفها ورعب الأخيرة جعلهما يغفلان عن وضعيتهما التي تبدوا حميمية للجميع من بعيد، أحد أكبر الضباط يحصر مراهقة بحجم صغير ولباس غريب بين جسده والحائط يضع يدا فوق صدرها وأخرى على رقبتها بينما ركبته تثبت قدمها وشعرها الطويل الفحمي يتناثر في كل مكان حولهما ولم تغب عليهم الصبغة البنفسجية الغريبة عليه.
توقف كل الأيتام المارين من ذاك الرواق وأيضا بعض العاملات يحملقون في ذلك المنظر بذهول، كان وجه ضابطهم المعروف بكونه أصغر ضابط لهذا العقد يكاد يلتصق بوجه يتيمة جديدة، يقسمون أنهم يتنفسون نفس الهواء وقد يقبلان بعضهما في أي لحظة كقبلة وداع.
تعالت همسات الجميع حولهما، البعض ظهرت عليهم علامات الإعجاب والبعض الآخر لم يحب الأمر بتاتا، وكل من لم يعجبهم الأمر كانوا مراهقات معجبات بالضابط حتى الموت، ومنهن كانت فتاة بعينين بنيتين وشعر أسود مموج قصير تقف في زاوية في آخر الرواق تنظر لهما بهدوء.
لو رأوا الخنجر الذي يدسّه اكسيل في رقبة تيزيري وسمعوا همسه لتغيّرت فكرتهم عن الثنائي تماما، لكنهم لم يفعلوا، وكهذا بقيت فكرة الثنائي الرومانسي الجريء تدور في عقولهم.


***

-"اوه، تريدين لعب لعبة الاختباء يا صغيرة؟، لك ذلك"...
ما إن سمعت تيزيري ذلك حتى استدارت واستدار معها شعرها تعطي ذاك اللص الأشقر ظهرها، ركضت في شقتها بأعين مفتوحة وصوت كعبها يتردّد صداه حول المكان، نزعت كل كعب على حدا في طريقها وهي تهرب فهي لن تنجح في الاختباء أو الهروب وهو يسمع خطواتها، والآن أصبحت تسمع ضربات قلبها المتسارعة وأنفاسها الحادة إضافة إلى ضحكات اللص الموجود معها يمشي بخطوات بطيئة كأنه متأكد من إمساكه لها عاجلا أم آجلا.

I only want to play a little، Ding dong you can't keep me waiting its already too late for you to try and ran away...

سمعت تيزيري اللص يردد التهويدة بصوت هادئ وباستمتاع فعرفت أنها داخل شقة مغلقة مع مختل يحاول قتلها وهو مستمتع بذلك فزاد رعبها ووتيرة تنفسها أكثر، دخلت غرفتها وأغلقت الباب ثم هرعت لزاوية ما في الغرفة تتكور على نفسها بينما تركت الأضواء مغلقة، ستموت هنا لا محالة... هو أربعيني عزم على قتلها ما إن رأت وجهه يحمل سكينا يطاردها به، بينما هي مراهقة عزلاء لا حول لها ولا قوة، كانت تضم ركبتيها لصدرها تلفهم بيديها وهي تميل للأمام والخلف بسرعة تنتظر موتها بينما ارتجاف جسدها يزيد كل لحظة.
لأكثر من دقيقة لم تسمع تيزيري شيئا... فتحركت تزحف على يديها وركبتيها ببطء تتأكد من عدم إصدار صوت تتجه نحو الباب تريد رؤية الرواق من تحته، كانت يداها ترتجفان كلما رفعتهم عن الأرض للتقدم أكثر وشعرها الطويل يزحف معها، أنفاسها تتثاقل لدرجة أنها تسمعها بوضوح.
فتحت فمها لتدخل الهواء لكن أسنانها اصطكّت ببعض من الرعب مصدرةً صوتًا فأغلقت تيزيري فمها بسرعة تكتفي بالهواء القليل الذي تدخله من أنفها بصعوبة، وما إن وصلت للباب حتى لمحت خيال أرجل تسدّ ضوء الرواق تمر من أمام الباب فرجعت خطوتين للوراء بسرعة ودقّت طبول الخطر في صدرها.

I can sense your horror، though I'd like to see it closer...
Ding dong here I came to find you hurry up and run، let's play a little game and have fun...

كان صوته أوضح من ذي قبل، وقبل أن تشرع تيزيري في الهروب نحو الحمام فتح الباب فتجمّدت مكانها وفتحت عينيها على أوسعهما...
شهقت تيزيري بقوة تنهض بجذعها من السرير وهي تمسك رقبتها بيدها تنظر للمكان تحاول تذكّر أين هي وماذا حدث، مسحت على جبهتها بكفها المرتجف تتنفس بعنف حين أدركت أنه كان مجرد كابوس... أو ذكرى لعينة على وجه التحديد.
استدارت بجذعها لليمين تمد يدها للمنضدة الخشبية الصغيرة بجانب سريرها لتمسك بكوب الماء فاهتزّ سريرها لذلك، شربت الماء بجرعات قليلة كونها لم تستطع شربه دفعة واحدة بسبب أنفاسها المسلوبة.
نظرت للمكان بهدوء أثناء ذلك... ست عشرة سرير مصفوفين بشكل منظّم بأفرشة بيضاء وكلها مرتبة... عدى خاصتها طبعا. كل الأسرة تملك منضدة صغيرة على جانبها الأيمن موضوع عليها قوارير ماء وأكواب من الفخار إضافة إلى شمعدان، النوافذ الكبيرة على اليسار كانت مفتوحة والستائر كذلك، كان ضوء النهار يملأ المهجع.
نظرت يسارها كأنها تحاول حفظ مكان سريرها مجددا، السرير الثاني على اليسار في آخر المهجع أين لا يوجد خلفها سوى الجدار. سمعت أصوات صراخ وضحكات الأطفال في الحديقة الخلفية لدار الأيتام... الحديقة التي تطل عليها نوافذ المهجع فألقت نظرة عليها دون أن تتحرك من مكانها، وأول شيء رأته هو اختفاء رأس فتاةٍ كانت تسترق النظر لها من النافذة للأسفل، فتاة بشعر قصير أسود مموج وعينين بنيتين داكنتين وبشرة حنطية... صوفينيا، الفتاة التي رحبت باكسيل بحرارة يوم أتى بها إلى هنا، منذ ذلك اليوم وهي على هذا الحال تراقبها أينما ذهبت، وفي كل مرة تصطادها أعين تيزيري وهي تراقبها تتهرب منها بسرعة، منذ أول يوم لتيزيري في مركز الأيتام... أي منذ أربعة أيام.
وقفت تيزيري من سريرها حين انتظمت أنفاسها فانسدل ثوبها الأبيض حتى ساقيها، كان مجرد ثوب نوم أبيض بدون أكمام ولا شيء مميز فيه، رتبت فراشها ومتعلّقاتها على المنضدة ونظفت المكان حوله كأنها مبرمجة على فعل ذلك. تقدّمت للخزائن المصفوفة على يسار المهجع لتفتح خزانتها، كل يتيم في المهجع يمتلك خزانة ومنضدة خاصة بمفاتيح للخصوصية.
حملت ما أعطوه لها كأدوات للنظافة الشخصية... مشط، فرشاة أسنان يدها مصنوعة من الخشب مع علبة خشبية تحتوي على معجون أسنان سميك القوام بمذاق مرٍّ داخلها، لوح صابون لا رائحة له، علبة خشبية أخرى لغسول الشعر، وليفة غريبة تبدوا كنوعٍ من النبات الجاف، بالإضافة إلى أدوات أخرى بصنع غريب.
تقدمت من باب المهجع المفتوح عن آخره وهي تمسك أشيائها بيديها، خرجت وأول ما قابلها في الرواق كانت رفوف الأحذية فارتدت خِفًّا يحمل نفس رقم سريرها، هي تعرف أنه رقمها الذي يدل على أنها مجرد يتيمة نكرة أخرى في هذا المركز.
توجهت للحمام الذي لا يوجد فيه سوى حوض استحمام بدون حنفية ومكان لتعليق الملابس وموقد من الخشب فوقه قدر ماء يغلي، أحسّت تيزيري أخيرا بطعم الرفاهية التي كانت تعيش فيها دون أن تقدر قيمتها.
كان عليها أن تحمل القدر للحوض وتعدل درجة حرارته بنفسها، الشيء الجيد الوحيد في الموضوع أنها لن تضطر للانتظار حتى يغلي الماء فقد كان يغلي بالفعل حين دخلت، الحمام والماء الساخن متوفر من الساعة السادسة صباحا وحتى التاسعة، ثم من السابعة مساءا وحتى التاسعة أيضا من أجل من لديهم حصة رياضة في المساء، غير ذلك عليك أن تنتظر حتى الغد.
خرجت بعد نصف ساعة ترتدي ملابس الرسمية لليتامى هناك... ثياب المدرسة، والتي كانت عبارة عن تنورة بنية تصل حتى الركبة مصنوعة من الجلد الخفيف مع قميص أبيض قطني بنصف كم وحذاء جلدي أسود مع كعب مرتفع قليلا بجوارب بيضاء، رفعت شعرها على شكل ذيل حصان باستخدام شريط حريري أسود تم تقديمه لها كون الميتم يمنع الشعر المنسدل في الصف، إلا إذا كان الشعر قصيرا جدا كخاصة صوفينيا مثلا، لكن شعر تيزيري وصل لآخر ظهرها حتى وهو مرفوع.
أول أمر تم إصداره لها حين دخلت كان قصُّ أظافرها، كانت تملك أظافر طويلة مطلية باللون الوردي الخفيف المتدرج للأبيض، لم تغب عنها نظرات الاستغراب التي كانت تملأ وجه المديرة وهي تقول أنه ممنوع إطالة الأظافر في الميتم.
توجهت بعدها لمكتب المديرة تطلب جدولها الدراسي وجدول روتين اليتامى وأعمالهم، تيزيري لم تبدأ الدراسة بعد وكان ذلك طلب من أمغار للمديرة بتركها ترتاح لمدة أسبوع بحجة تعبها بسبب السفر برا وبحرا من إنجلترا لنوميديا لكنها تعرف الحقيقة وراء ذلك، فعلها من أجل راحتها العقلية والنفسية كونها لم تستوعب بعد التغيير الكبير الذي طرأ في حياتها، وهي ممتنة كثيرا لتفهمه ذلك وهذا ما فعلته في أربعة أيام الماضية حقا، لم تتحرك من سريرها تحاول استيعاب ما يحصل، لكنها ملت الجلوس دون فعل أي شيء في الأخير وخشيت أن يصيبها الاكتئاب من جديد، لذا قررت أن تبدأ بسرعة لتنتهي بسرعة من كل ذلك.
انتظرت تيزيري حوالي عشرون دقيقة عند باب المديرة حتى أُذِن لها بالدخول، كانت المديرة تعطي الباب ظهرها تمسك كوب قهوة وتنظر من النافذة للأطفال يلعبون في الساحة المخصصة لهم، تلك الساحة الصغيرة على يسار الحديقة التي تم تعليق بعض المراجيح فيها، غير ذلك كان الطلاب في صفوفهم يدرسون.
لم يسع تيزيري سوى أن تشعر بنفسها داخل أحد الأفلام التاريخية، منذ أن دخلت هذا العالم من ستة أيام وهي تشعر بذلك ولم تتعود بعد. كان المكتب مليئا بالأثاث ذو الطراز القديم، مكتب خشبي وكرسي خشبي أيضا، نفس الشيء بالنسبة لرفوف الكتب على يمين باب المكتب والخزانة على الحائط المقابل له، كان لون الخشب يسود المكان، حتى البساط السميك على الأرض كان بنفس اللون. مررت تيزيري عينيها على جدران المكتب، ثلاثة شمعدانات على كل جدار معلقة بمسافات متساوية، بالإضافة إلى اثنين على أطراف المكتب نفسه.
بعد أن اكتفت تيزيري من التحديق في المكان أنزلت عينيها للمديرة مجددا ثم أغلقت الباب، شعرها الأسود المسرح بعناية كان ينسدل على ظهرها يصل لمنتصفه، كانت ترتدي نفس ألوان الزي الرسمي لليتامى في المدرسة. بنطال بني غامق من جلد خفيف لم يكن واسعا ولا ملتصقا بقدميها يظهر طولها، قميص أبيض قطني بأكمام طويلة ملتصق بجسدها ليظهر قوامها الأنثوي الجميل وطبعا كان يحمل خيوطا بنية متشابكة عند الرقبة بدلا عن أزرار، وأخيرا كعب عال من الجلد الأسود.
استدارت المديرة لتيزيري حالما سمعت صوت الباب يغلق ومنحتها ابتسامة هادئة مليئة بالمشاعر الطيبة، ردتها تيزيري بابتسامة جميلة تنظر للأرض وتتمتم بالتحية.
تكسّرت أشعة الشمس القادمة من النافذة على جلد المديرة البرونزي، فتأملت تيزيري جمال لمعان وجه ورقبة المديرة لذلك، خرجت من شرودها حين سمعت طرق كعب المديرة تتقدم نحوها بخطوات هادئة بطيئة واثقة لا تؤكد إلا أنها لسيدة بشخصية قيادية.
-"هل قررت تقليص مدة راحتك آنسة آيت بعمران؟"، قالت المديرة ذلك باللغة الإنجليزية تراعي كون تيزيري من إنجلترا في نظرهم وهي تتقدم من كرسي مكتبها بخطوات محسوبة هادئة تحمل كوب القهوة بأناقة.
-"أظنني أخذت كفايتي من الراحة سيدتي وأيضا... أريد الانتهاء من هذا بسرعة لأباشر بصنع مكان لي في هذه المدينة"،
لاحظت تيزيري أن المديرة قضبت جبينها وهي تضع الكوب على طرف المكتب بعد أن جلست وأشارت لتيزيري بالجلوس كذلك.
-"لكنتك الإنجليزية وكلماتها مختلفة عما ندرسه هنا"،
طبعا... حتى تيزيري لاحظت ذلك، هم يستخدمون الإنجليزية القديمة ولذلك ردت عليها بهدوء واحترام.
-"لقد تعودت على استخدام اللغة العامية سيدتي، لا أحب أن أبدو مختلفة عن العامة. سيكون من الصعب قليلا أن أستخدم اللغة الرسمية مثلكم لكنني أعدك بالمحاولة"،
كذبة صغيرة بيضاء من أجل إتقان التمثيل لن تضر. ابتسمت المديرة لذلك ثم أخفضت عينيها للدرج أمامها تفتحه وتخرج بعض الأوراق الخشنة الصفراء منه ثم مدتهم لتيزيري التي سارعت في أخذهم منها بإيماءة خفيفة وبسمة هادئة، هذا ما أصر والديها على تعليمه لها أولا... احترام الأكبر سنا والأعلى شأنا.
-"من المفترض أن تملئي استمارة معلوماتك بنفسك آنسة آيت عمران، لكن الضابط اكسيل أصر على إراحتك من تلك المهمة وملأها بنفسه، من الواضح أنكما تعرفان بعضكما جيدا".
طبعا سيتأكد اكسيل من ملئ استمارة معلوماتها بالترّهات التي ألّفها أمغاره المخيف عنها، كانت تيزيري ستجيب المديرة بخصوص معرفتها باكسيل أنها لم تلتقِ به سوى منذ ستة أيام وأن دردشتهما كانت قليلة ومحترمة جدا جدا، لكنها تذكرت أنها ابنة أحد نبلاء إنجلترا في نسخة أمغار ومن المفروض أنها التقته وضابطه أكثر من مرة في عشاء عمل هناك أو هنا في مملكتهم لذا كان جوابها كالتالي:
-"عدى اسمه ورتبته لا أعرف شيئا عنه في الحقيقة، طبعا استضافه أبي في منزلنا في إنجلترا أكثر من مرّة هو وزعيمكم لكنهما كانا قليلا الكلام ولا يتحدثان سوى عن العمل، وذلك أمر أحترمه كثيرا لو تسألين... أن يفصل المرء بين العمل والحياة الاجتماعية".
كان ذلك آخر ما نطقت به تيزيري تمنح المديرة ابتسامة هادئة في النهاية قبل أن تنزل بصرها للأوراق التي قدمتها لها تقرأها، لم تكن جدولا دراسيا كما توقعت بل كانت مليئة بالأسئلة في كل المجالات باللغة الانجليزية... الرياضيات، العلوم، اللغات، وغيرها من المواد فرفعت أعينها للمديرة بتساؤل، ويبدو أن المديرة فهمت ما يدور في خلد تيزيري لأنها أجابتها قبل أن تسأل:
-"يجب أن أعرف مستواكِ الدراسي قبل أن أجعل السكرتيرة تخطط جدولا لكِ، هكذا سنتمكن من معرفة ما تحتاجين دراسته حقا"،
أشارت المديرة بيدها لمكان ما فتتبعتها تيزيري بسوداويتيها لتجدها تشير لطاولة منخفضة وراءها وسادة حريرية باللون الأحمر القاني.
-"يمكنكِ الإجابة عنها هناك إن كنتِ مستعدة".
كانت الطاولة تحمل ريشة وقارورة من المؤكد أنها حبر، حسنا الأمر أصعب مما كانت تتوقعه تيزيري، هي لم تستعمل ريشة وحبرا في حياتها، بل لم ترهم يوما في حياتها أصلا. لذا قررت أن تطرح مشكلتها بألطف طريقة على الإطلاق:
-"لا أريد أن أبدو مدللة ثرية لكني لم أجلس على طاولة منخفضة لمدة طويلة يوما، وأيضا... لم أستخدم الريشة والحبر في الكتابة من قبل أيضا".
تعودت على رؤية الطاولة المنخفضة كثيرا أثناء زيارتها لجدتها في مناطق الأمازيغ، كانت كأبيها جدة أمازيغية بامتياز تملك أرضا تزرع فيها أشجار الزيتون قرب منزلها الريفي. لكن رغم ذلك فتيزيري لم تجلس على طاولة منخفضة لأكثر من ربع ساعة دون ان تفقد الإحساس بأطراف أرجلها.
-"طبعا، الأوروبيون لا يستعملون سوى الطاولات المرتفعة، من حسن حظكِ أننا نستخدمها في الصفوف الدراسية وقاعة الطعام أيضا لكن... ما الذي تستعملونه للكتابة إن لم تكن الريشة والحبر؟".
أجابتها تيزيري بتقضيبة على حاجبها وهي لا تزال تنظر للطاولة وما عليها بغرابة:
-"شيء يصعب علي شرحه".
-"حسنا، ستجيبين على الأسئلة في أحد الصفوف الفارغة لكنكِ مضطرة لاستخدام الريشة في الكتابة فنحن لا نستعمل طرقا أخرى غيرها".
وهذا قضت تيزيري فترة الصباح تجيب عن الأسئلة المطروحة لها، ليس لأن الأسئلة كانت صعبة بل لأن كتابتها كانت صعبة. لطخت أكثر من خمسة أوراق بالحبر قبل أن تتعود على الكتابة به، كانت تعقم يدها بالمعقم الذي تركته في جيبها حين صعدت لسيارتها في كل مرة تتلطخ بالحبر، أيضا الكتابة على أوراق كبيرة خشنة صفراء غير مستوية تماما تصدر صوتا كلما مررت الريشة عليها كان غريبا. بالإضافة إلى أن الإجابة عن أسئلة مادة الكيمياء كان أمرا مستحيلا فهم يستخدمون أسماء الأعشاب بدل المركبات الكيميائية، كالسؤال على ماذا سنتحصل لو خلطنا العشبة الفلانية مع العشبة الأخرى، أو ما النبتة التي تستعمل في تخفيف الصداع. هم حتى لا يسمون المادة بمادة الكيمياء بل بمادة الأعشاب، ومن المستحيل أن تعرف عن أي مركب يتحدثون باستخدام أسماء الأعشاب فهي لم تدرس عنها كثيرا، هي ليست عالم النباتات ابن البيطر في النهاية.
غير ذلك... لم تغب عن تيزيري النظرات المترقّبة للفتاة صوفينيا من النافذة طوال ذلك الوقت، جديا، ألا تملك تلك الفتاة حصصا دراسية كالجميع؟، أدركت حينها أنها أصبحت تملك مترقبا في حياتها هنا... تماما كالباباراتزي في حياتها السابقة في عالمها، لكنها قررت أن تمثل عدم ملاحظتها هذه المرة.
لم تستطع تيزيري الجلوس كل ذلك الوقت في المقعد فكانت تتمشى داخل الصف بين الحين والآخر تفتح الخزانة في آخره تستكشف ما فيها، وأحيانا تحاول قراءة ما نقش في طاولات الطلبة، هي تعرف أن محاولتها فاشلة لأن النقوش كانت باللغة الأمازيغية لكن اضطرابها يمنعها من فعل لا شيء والجلوس فقط.
بدأ مرضها يطفو على السطح من جديد وكل ذلك بسبب التغيرات المفاجئة في حياتها. كانت طبيبتها لتنصح بإحاطة نفسها بالأصدقاء لكن كل اليتامى يتجنبونها خوفا من زعيمهم لأن الأمر بدا واضحا أن هناك علاقة ما تربطها به، يبدو أن حماية زعيمهم لها أتت مع بطاقة تحذيرية لهم جميعاً، وكان ذلك سلاحا ذو حدين. الحل الوحيد المتبقي لها هو الأدوية، وتلك الأخيرة موجودة في سيارتها أين لا تعرف كيف تصل لها أصلا، هي فقط ترجوا ألا يتأزم الأمر وتحتاجهم بشدة بعدها.

***


" تعتبر الحضارة الأمازيغية من أقدم وأعرق الحضارات التي وجدت، من قبل الميلاد وأكثر، وهم اول من سكن منطقة شمال إفريقيا. تميزوا في العديد من المجالات كالطب والعمارة والصناعة والتجارة والفلاحة وغيرها... بالإضافة لامتلاكهم قوة عسكرية وجيش قوي لا يقهر".
كانت تيزيري تستمع لمعلمة التاريخ بملل يقتلها ببطء، كانت تعرف كل شيء عن الحضارة بالفعل، بالإضافة لكونها تعشق القراءة عن كيفية سقوط الحضارات القديمة وحبها للنبش في التاريخ، والدها كان يحكي لها كل شيء وخصوصا عن أصوله... عن الأمازيغ.
قرأت عن كيف فتحت شمال إفريقيا على يد عقبة ابن نافع وعلى يد الأمويين بقيادته في القرن السابع، وعن الفتوحات الإسلامية التي قام بها الأمازيغ كفتح الأندلس بقيادة طارق ابن زياد، عن جيشهم وكيف كانوا فرسانا يجيدون امتطاء الخيل وقيادتها في الحروب دون استعمال السروج حتى. وكلها أعادها والدها على مسامعها مرات عديدة حتى حفظتها عن ظهر قلب، لكنها استنتجت أن الفتوحات الإسلامية لم تطل شمال إفريقيا في هذا العالم كون مركز الأيتام يحتوي على كنيسة أو معبد صغير بدل مصلى.
-"من الأشياء التي تميز الأمازيغ في صنعها هي الزرابي والأواني الفخارية والملابس الملونة وصناعة الحلي، تميزوا برسم وشوم على أيديهم ووجوههم أيضا".
هي تعرف كل هذا... تقسم أنها تعرف، لقد رأت جدتها تضع وشما على وجهها والآن ذاك الزعيم الغاضب أكد لها ذلك. لكن ها هي تسمعها الآن من جديد مع حفنة من أطفال لا يتعدون سن التاسعة.
بدأت تيزيري دراستها بعد يومين من تقييم مستواها الدراسي، وكان جدولها مميزا حقا، تماما مثلها بينهم. كانت تدرس وفق ما تحتاج دراسته لتعيش هنا كما طلب أمغار بالضبط، لكنهم أضافوا تاريخ الأمازيغ وعاداتهم لها ظنا منهم أنها لا تعرف شيئا عنه، وكان عليها الادعاء أنها لا تعرف عن حضارتهم الكثير ليصدقوا الكذبة التي أحاكها الزعيم الغاضب عنها.
لذا هي تجلس في الطاولة الثالثة بمحاذاة النافذة تنظر ناحيتها أحيانا بشرود كونها شعرت بالملل من الدرس ومن نظرات الأطفال الغريبة نحوها وحتى المعلمة.
بعدها ستدرس مادة الأعشاب مع الصف الأول الذي لا يتجاوز طلابه سن السادسة، ثم الرياضيات وبعدها اللغة الانجليزية مع الصف الأخير وهم أصحاب سن الخامسة عشر والأكبر بين اليتامى، وبعدها اللغة العربية والتي كانت لغة اختيارية وبالطبع تيزيري اختارتها لأنها تجيدها وسترفع نقاطها حتما، سن الرشد في عالمهم هو السادسة عشر وينتهي معه آخر صف دراسي.
عندما سألت عن اللغة العربية ولمَ يتعلمها الأمازيغ، كانت الإجابة أن ثلث العالم هنا يتحدث بها، وهي لغة لا يجيدها سوى القليل من العامة لأنها غير مستعملة إلا عند كبار المسؤولين في القبيلة كونهم يقابلون العرب كثيرا، على الأقل احتلت اللغة العربية مكانة يناسبها هنا في العالم الغريب هذا.
كل هذا الضغط سينتهي حين يواكب مستواها الدراسي سنها المزعوم وهو الرابعة عشر، بعدها تصبح تدرس معهم كل الفصول لكن دون رفاهية الحصول على ساعات راحة مثلهم فهي ستدرس وقتها مع الصف الأخير لتنتهي من دار اليتامى بسرعة.
-"كان هذا كل شيء لدرس اليوم، سنتطرق في الحصة القادمة لنظام الحكم القبلي للمملكة النوميدية والنظام الإداري فيها".
كان هذا آخر ما قالته معلمة التاريخ الثلاثينية بعد وقت طويل وهي تسترق النظر لتيزيري التي ملّت من هذا التحديق الكثير فيها وأصبحت تتظاهر أنها لا تلاحظهم، وإن كانت تظن أنها سترتاح منه حين تحمل أشياءها وتخرج أولا فهي مخطئة للمرة المئة، لأنها وما إن خرجت من الصف حتى تبعتها نظرات ليست نظرات المعلمين فحسب، بل اليتامى أيضا وحتى العمال المتواجدون في نفس الرواق معها.
أصبحت تنزعج من ذلك حقا وتتساءل متى يتعودون عليها، هي لا تعرف حتى السبب الحقيقي وراء كل ذلك، بسبب لون شعرها الغريب ربما، أو صغر حجمها بينهم، وإن كان السبب الأخير هو السبب الحقيقي فهم محقين إلى حد ما، هم لا يعرفون أنها من عالم آخر متقدم في أسلوب الحياة عليهم ولا أن حجم الانسان تقلّص مع مرور آلاف السنين كما لم يحصل معهم هنا.
دراستها لا تتوقف عند الظهيرة أيام الاثنين والخميس كما يحصل مع الجميع حتى، فجدولها يستغل الوقت لدراسة كتابة وقراءة الحروف الأمازيغية.
ضغط الدراسة، الوحدة، تغير أسلوب الحياة المفاجئ، نظرات الجميع وابتعادهم عنها، ولا ننسى ترقب صوفينيا المستمر لها دون كلل أو ملل. كل ذلك أثر على نفسية تيزيري وبدأت تلاحظ أعراض اضطراباتها أكثر، تحتاج إما لجلسة علاج نفسي أو لأدويتها في أسوء الحالات.
قضت حصة مادة الأعشاب كلها على أعصابها بسبب التحديق الفضولي المستمر لها، هي تعرف أنهم مجرد أطفال وتحديقهم كان عفويا وبريئا لا يحمل أي شر لكن الأمر أوصلها لحدود صبرها حقا.
بعدها تأخرت لأكثر من ربع ساعة على حصة الرياضيات لأنها تاهت في الأروقة ولوحات التوجيه باللغة الأمازيغية وحدها لم تساعدها، في كل مرة تظن نفسها وصلت للصف تجد نفسها في المراحيض أو في فصل آخر. عرفت أنها وصلت الصف الصحيح فقط حين رأت الطلاب يبدون بنفس حجمها تقريبا ولاحظت هدوءهم مقارنة بالآخرين، لم تشأ تيزيري طلب إذن الدخول أو حتى الطرق على الباب لأنها تعرف بتأخرّها الكثير، في كندا لا يسمح للطلاب الدخول بعد خمس دقائق من بداية الحصة فما بالك بربع ساعة.
رجعت تيزيري خطوتين للخلف بنية الابتعاد عن المكان والانتظار حتى الحصة القادمة لكنها توقفت حين ساد الصمت، لقد كان الطلاب هادئون بالفعل حين وصلت لكن الآن بدا كأن الصمت قد ساد أكثر. رفعت تيزيري عينيها لداخل الصف فوجدت معلم الرياضيات والذي يبدوا في عقده الخمسين من ملامح وجهه قد توقف عن شرح أي ما كان يشرحه منذ قليل وينظر لها بعقدة على حواجبه، مررت أنظارها سريعا على الطلاب لتجد عيون الجميع عليها مما جعلها تتوتر أكثر فعادت خطوة للوراء وهي تمسك بتنورتها بيدٍ تدعك عليها بقوة بينما اليد الأخرى تحمل أوراقا وحبرا وريشة، أعادت أنظارها للمعلم الذي استدار للساعة الرملية فوق مكتبه ينظر لها ثم التفت لتيزيري يمرر عينيه عليها بتفحص دام لثانيتين قبل أن تنحل عقدة حواجبه كأنه عرف من تكون.
-"سأقوم باستثناء هذه المرة فقط لتجنب رسم صورة سيئة لنا عند الأجانب، لكن فقط إن أخبرتنا بالسبب الحقيقي وراء تأخرك".
أرادت تيزيري أن تدافع عن هويتها وتقول بحدة أنها عربية من أصل أمازيغي وابنة أمازيغي، أرادت أن تشتمه كثيرا لأنه جردها من هويتها لكن... التصرف بانفعال والاندفاع وقول كلمات بذيئة في العلن هم أحد أعراض اضطراباتها، خصوصا وأنها تود قوله لرجل بعمر أبيها وذلك يسيء لتربيتها واسم عائلتها. لذا قررت أن تتصرف كأنها تتحدث باسم عائلتها فقالت بهدوء:
-"لافتات التوجيه مكتوبة باللغة الأم لهذه المدينة، والأمازيغية ليست شيئا أبرع فيه حقا".
-"لكنك تتحدثين بها يا آنسة، ليس بطريقة جيدة جدا لكن مخارج حروفك ممتازة"،
كان يتحدث بنبرة رسمية مختلطة بحنان أبوّة جعلها تندم وتعض على شفتها السفلية كونها فكرت في شتمه، فقررت أن تمنحه ابتسامة دافئة لتكفر عن ذنبها تقول:
-"لم أحظى بشرف تعلم كتابتها وقراءتها للأسف، لكنني أضعها على لائحة أولوياتي الآن".
منحها المعلم ابتسامة واسعة كرد على ما قالته قبل أن يمد يده يدعوها للدخول:
-"كانت المديرة هنا قبل قليل وكانت تأمل رؤيتك لمعرفة رأيك في قرارها نحوك"،
قضبت تيزيري جبينها وهي تتقدم للداخل بخطوات هادئة ثابتة تنظر للمعلم الذي يبدو أنه فهم استغرابها وعدم فهمها فتابع حين توقفت أمامه تقابل الطلاب دون النظر لهم:
-"طلبت متطوعا من الصف الأخير ليساعدك على مواكبة دراسة أقرانك من السن وكانت صوفينيا أول من تطوع بكل حماس، وإن سألتني عن رأيي فأنا أجدها جيدة جدا لك فهي الأولى في الصف منذ انضمامها لنا".
فليخبرها أحد ما أنه يتحدث عن صوفينيا أخرى من فظلكم فهي لن تستحمل أكثر، هذا طبعا كان مخالفا تماما لرأي تيزيري التي نظرت ناحية صوفينيا والتي كانت تجلس في الطاولة الأولى أمام مكتب المعلم، نعم... إنها هي لا غير. كانت بالفعل تلوح لها بحماس مكتوم فردت تيزيري عليها بإيماءة وابتسامة لم ترقى لعينيها. لم يعد ما تفعله تلك الصوفينيا يسمى ترصدا في نظر تيزيري بل وقاحة ستتعامل معها بالتأكيد في وقت لاحق.
أما الآن... فعليها أن تجلس في المقعد الوحيد الشاغر والذي كان وراء مقعد صوفينيا، فكرت تيزيري أن ذلك لم يكن بالتأكيد مجرد صدفة لكنها فقط تنهدت تتقدم نحوه لتجلس.
وككل الحصص، لم تمر حصة الرياضيات على تيزيري بسلام... بل في الحقيقة كانت الأسوء. يمكنها تجاهل تحديق الجميع لها من حين لآخر وبالمناسبة كان هذا شيئا لم يفعله المعلم فجعلها تحبه أكثر وتندم على الأفكار والانطباع الأول الذي منحته له، الشيء الإضافي الذي جعل تيزيري تتنفس بوتيرة متسارعة تحس أن حرارة جسدها مرتفعة عن العادية هو همسات الطلاب وهم ينظرون نحوها، يتهامسون حين يتكلم المعلم أو حين يكتب على السبورة يعطيهم ظهره ويسكتون حن يسكت.
مزيف، أمغار، اكسيل، عروس، وغيرها من الكلمات التي استطاعت سماعها من بين همساتهم. استدارت صوفينيا تمنح تيزيري ابتسامة صادقة عكس نظرات الآخرين لها بارتياب، وستكذب إن قالت أنها لم تخفف عنها بعض الشيء، على الأقل هي لم تهمس بأي شيء لأي أحد ولم تزعجها أثناء الحصة عكس ما كانت تتوقعه بل منحتها ابتسامة كأنها تعرف ما تمر به وتساندها أيضا. ردت عليها تيزيري بفعل كان ليكون أي شيء غير ابتسامة نظرا لهزّها المتواصل والسريع لقدمها اليمنى أحيانا وطرقها لأصابعها اليسرى على الطاولة بينما تسند ذقنها على يدها اليمنى أحيانا أخرى، لقد كانت على شفى حفرة من الوقوف والصراخ في وجه الجميع وشتمهم بأقذر الكلمات واحدا بواحد، وهذا ما فعلته في عقلها مئات المرات وهي تسمع همسهم ونميمتهم عنها.
لم تصدق تيزيري نفسها حين انتهت حصة الرياضيات فوقفت تلملم حاجياتها بسرعة تزامنا مع ارتفاع أصوات الطلاب وتداخلها ببعضها مع أصوات تزحزح الكراسي وصوت احتكاك الأوراق ببعضها أيضا.
-"أخمن أنكِ تحتاجين المساعدة للوصول لغرفة الطعام"،
كان صوت صوفينيا ما جعل تيزيري ترفع رأسها عن أشيائها تحدق بها بشك، لقد كان وقت استراحة الغذاء لمدة ساعتين قبل حصة الانجليزية وهي للأمانة تحتاج من يوصلها لقاعة الطعام حقا بدل اللف حول المركز وتضييع نصف ساعة أخرى لكن صوفينيا؟!!، حسنا في الحقيقة هي تحتاج التواصل معها لتعرف سبب ترصّدها وعما تدور همسات الجميع إن كانت محظوظة، وأيضا تحتاج لمن يرجعها لحصة الإنجليزية كونها غالبا ستنسى الطريق مجددا لذا أومأت لها دون كلام وتبعتها بعدما وضعوا أغراضهم في خزاناتهم.
كانا يسيرات بين الأروقة، تيزيري بهدوء وصمت بينما الأخرى تكاد تتفجر منها السعادة والحماس كأنها حصلت على جائزة ما، كانت تلعب برجليها وهي تمشي ومرات تقفز دون أي سبب ولمعة الحماس في عينيها تكاد تعمي تيزيري.
أول شيء تعرفت عليه هو أن صوفينيا فتاة ثرثارة، لأنها وبعد خمسة عشرة ثانية بالضبط تحدثت بحماس وبصوت مرتفع تقفز أثناء استدارتها نحو تيزيري وراءها وشعرها الأسود القصير يقفز معها وهي تمشي بشكل عكسي:
-"أنا أدعى صوفينيا بالمناسبة"،
ردت عليها تيزيري بملل وصوت منخفض:
-"أعرف، لقد سمعت اسمك مرتين قبل الآن... من معلم الراضيات مرة ومن اكسيل مرة حين أتى بي إلى هنا في أول يوم لي".
توقفت صوفينيا عن المشي بالعكس ولاحظت تيزيري حين توقفت معها اختفاء لمعة عين صوفينيا واختفاء ابتسامتها الواسعة بالتدريج قبل أن تتمالك نفسها وتعيد الابتسامة مكانها لكنها أخفقت في إعادة لمعان الحماس في عينيها:
-"أنتِ تتذكرينني إذا"،
أجابتها تيزيري بنفس نبرتها السابقة:
-"سيكون من الصعب عدم تذكر شخص يراقبك طوال اليوم لمدة أسبوع دون خجل".
علمت تيزيري أنها لمست الوتر الحساس حين راقبت ابتلاع صوفينيا لريقها بتوتر والنظر للمكان بتفحّص كأنها تتأكد من ألا أحد سمع ذلك. لقد كانوا في أحد الأروقة الكبيرة أين يوجد بعض اللوحات الفنية المعلقة على الجدران مع شمعدانات واللون البني بكل تدرجاته يملأ المكان، لقد كانا لوحدهما تقريبا كون الجميع الطلاب قصدوا قاعة الطعام، أكملت تيزيري تعبر عن استياءها من ذلك:
-"أتعرفين ما الكلمة الأولى التي تخطر في بالي حين أراك آنسة صوفينيا؟".
لم تتكلم صوفينيا كأنها عقلها تجمد ولهذا أجابت تيزيري نفسها دون انتظار الرد:
-"الوقاحة".
وهنا بدت صوفينيا كأنها سمعت شيئا لم تتوقع سماعه ولم تقصده حقا حين اعتدلت في وقفتها تشبك يديها على صدرها:
-"أنا أعتذر إن كان هذا ما جعلتكِ تشعرين به حقا، لم تكن مراقبتي لكِ سوى لأنني أحببتكِ من أول مرة رأيتك فيها وأردت أن أحدثكِ حقا لكنك كنت تلازمين المهجع طوال الوقت في أول أيامكِ وكنت تبدين كمن لا يريد التحدث لأحد".
تيزيري طبعا تتذكر كل دقيقة مرت عليها في أربعة أيام الأولى لها، بكاء حتى التعب والنوم... كوابيس وأشباح ماض معلقة، ثم البكاء من جديد حتى الصداع والتعب ثم النوم وهكذا. تحركت صوفينيا في وقفتها تنظر للنوافذ المطلة على حديقة من حدائق المركز الكثيرة فتبعت تيزيري أنظارها. كان الطلاب متوزعون على طاولات كمجموعات من خمسة أو ستة يتامى ويبدو عليهم الارتياح لبعضهم، يتناولون غذائهم بين ضحكاتهم العالية، حتى بعض العمال والمعلمين يجلسون في مجموعات أيضا.
-"أنا هنا منذ سنوات ولم أنجح في تكوين صداقة واحدة على الأقل، أعرف الجميع لكن بطريقة رسمية وكلهم لا يقتربون مني إلا من أجل دعمهم دراسيا أو منحهم ملاحظاتي أثناء الدروس. يبدأ الامر حين تقترب الامتحانات بأيام وينتهي عند انتهاءها، لكن حين رأيتك فكرت أنك مختلفة عنهم".
قالتها بلمعة حزن ونبرة منخفضة كأنها متعبة فقط من قول ذلك، وحيدة... تماما كتيزيري الآن. هي لا تستطيع الشعور بألم صوفينيا كونها كانت اجتماعية كثيرا ومحبوبة في الثانوية في عالمها، كانت تلك نصيحة طبيبتها النفسية وكان ذلك ما حرصت عليه كل الوقت، إحاطة نفسها بالأصدقاء، لم يكونوا كلهم مزيفين ولم يطمعوا في دراستها لأنها لم تكن متفوقة فيها، هي بالكاد كانت تحصل على علامة مقبول بل أصدقاؤها من كانوا يعينونها على الدراسة وتنظيم وقتها، أعراض اضطراباتها كما تعلمون.
ذلك لا يعني أن هناك من أرادوا التقرب منها لكونها مشهورة في كندا وغنيّة بسبب أبويها رواد الأعمال، وفي الثانوية أيضا لكن فقط لكونها تيزيري وليس لسبب آخر، كانت فقط نفسها وتتصرف على طبيعتها والكل أحبها لذلك.
عدم شعورها بألم صوفينيا لا يمنع أنها تفهمه، لهذا قررت مسامحتها والتخفيف عنها بطريقتها حين ابتسمت ومدت يدها لصوفينيا:
-"اسمي تيزيري بالمناسبة، تيزيري آيت بعمران. وسأتشرف بمصادقتك صوفينيا"،
نظرت صوفينيا ليد تيزيري الممدودة لها كأنها لا تصدق الامر ثم مدت يدها تصافحها بحرارة وسعادة كأنها حصلت على جائزة ما، سألتها بعدها عن لقبها الذي يحمل اسم القبيلة أولا فهم هنا قانون التسمية يبدأ باسم الشخص ثم اسم أبيه واسم جده وبعدها اسم قبيلته.
سمحت تيزيري بعدها لصوفينيا بقيادتها لقاعة الطعام، كانت قاعة ضخمة لا تشبه بتاتا قاعة الطعام في دار الأيتام التي تذكرها في طفولتها، كانت تحمل ستة طاولات طويلة بثمانية عشر كرسي أو أكثر في كل واحدة. ويبدو أن صوفينيا لاحظت اندهاش تيزيري فقالت بصوت مرتفع لتسمعها بين ثرثرة الموجودين:
-"هذه ليست قاعة الطعام الوحيدة، هي فقط مخصصة للعمال ويتامى مهجع ماتيا وأبرانيس، هناك ثانية مخصصة لمهجع أدريان وتافوكت، وثالثة مخصصة لمهجع أغالي ونومينسا".
دار الأيتام هذه تضم البنات والأولاد لكنها تفصل بينهم في المهاجع والفئات العمرية أيضا، فمثلا مهجع ماتيا هو مهجع البنات من سن الثانية عشر للسادسة عشر وهو اسم دار الأيتام ككل أيضا، مهجع أبرانيس هو مهجع الأولاد من نفس الفئة العمرية. نفس النظام بالنسبة لمهجعي تافوكت وأدريان للبنات والأولاد على التوالي من سن الثامنة للثانية عشر. ونفسه بالنسبة لمهجعي نومينسا وأغالي من سن الخامسة حتى الثامنة.
مهاجع البنات تحمل أسماء بنات ومهاجع الأولاد تحمل أسماء ذكور، فكرت تيزيري أنهم ربما كانوا مناضلين بشكل ما أو شيء من هذا القبيل كونهم أسموا المهاجع بأسمائهم، أما الرضّع من اليتامى فلم ترهم تيزيري يوما ولا تعرف إن كانوا موجودين حتى ولم تفكر بالسؤال عنهم.
جلست على المائدة وكانت كالعادة مملوءة بالأكل الشعبي الأمازيغي، عادة يفطرون بحليب الماعز أو الغنم مع خبزهم الخاص وأطباق من الجبن والعسل وزيت الزيتون والبيض إلى جانب الفاكهة، لم تنعم دار الأيتام في طفولتها بهذه الرفاهية يوما، أرادت بشدة أن تسأل صوفينيا حول من يموّل الميتم لهذه الدرجة لكنها لم ترد أن تبدو لئيمة مادية في أول ساعة من صداقتهما.
كانت تتناول طبقا مكونا من قطع دجاج وزيتون وجزر وطبق آخر من البطاطا المقلية والخبز حين سألت صوفينيا عن الذين رأتهم يتناولون أطباق مغايرة في الحديقة حين كانوا يتحدثون في الرواق، أجابتها صوفينيا التي كانت قد انتهت من غذائها وهي تقضم ثمرة تفاح أنهم ببساطة يشترونهم، في البداية ظنت تيزيري أنهم يملكون المال بطريقة ما لكن صوفينيا أوضحت أن المقابل هو المال حقا بالنسبة للعمال لكنه عبارة عن نقاط بالنسبة لليتامى. يحصل اليتيم على نقاط حين يتطوّع في المساعدة حسب شدّة العمل الذي تطوع فيه، كتنظيف الصفوف أو المهاجع أو حتى مكاتب الأساتذة والإداريين أو المساعدة في البستنة أو قطف الثمار من الأشجار المتوزعة في الحدائق، وينفق اليتامى تلك النقاط في شراء طعام مغاير لنظام الميتم أو شراء حبرٍ بلون مختلف أو حتى دبابيس الشعر ومعدات تجميل بالنسبة للبنات.
بعد الغذاء توجهت الصديقتان نحو الحديقة وجلستا على العشب يستمتعان بأشعة الشمس، وهناك عرفت صوفينيا تيزيري بكل عامل وإداري ورتبتهم، عرفتها على المشرفين والإداريين والمرشدين الاجتماعيين، طبعا لم تتعرف عليهم بشكل رسمي لكن على الأقل أصبحت ترى وجه كل عامل مع نوع عمله.
بعدها تحدثتا عن نوع المساعدة التي تحتاجها تيزيري ولم تطلب الأخيرة سوى المساعدة في دمجها في مجتمعهم مع بعض الإعانة في تعلم الكتابة بالأمازيغية فقد كانت تجد صعوبة في ترجمة ما يقوله المعلمون بالأمازيغية للإنجليزية وكتابتها، وبالمقابل عرضت تيزيري على صوفينيا مساعدتها في تعلم اللغة العربية فهي تجيدها جيدا، هذا إن كانت صوفينيا تحتاج المساعدة أصلا فهي تبدو كشخص رضع الكتب بدل الحليب في طفولته.
كان وقت حصة اللغة الإنجليزية قد اقترب حين اتفقا على مكان وزمان محدد للدراسة معا ولم يكن ذلك صعبا جدا كونهما ينامان في نفس المهجع ونفس الغرفة، مهجع ماتيا الغرفة رقم اثنان.
وأثناء ذهابهما لصف الإنجليزية تعرضت تيزيري لنفس التحديق والهمسات فقررت سؤال صوفينيا عن الأمر:
-"أتعرفين السبب وراء كل هذا؟، أعني... أتفهم سبب تجنبهم لشخص أتى به أحد كبار الضباط بنفسه إلى هنا لكن ماذا عن الهمسات والتحديق الذي لم يقل حتى بعد مرور أسبوع على مجيئي، من غير الممكن أن يكون ذلك فقط بسبب صبغة شعري البنفسجية".
-"إلى جانب صبغة شعرك البنفسجية التي تتوق كل البنات معرفة سرها وأنا من بينهن، هناك إشاعة تدور حول أنكِ ابنة أحد أمراء إنجلترا وأنك هربتِ من زواج مدبر رغم سنكِ الصغير لأنكِ على علاقة مع الضابط نفسه الذي أتى بكِ إلى هنا. يقولون أنه تعرف عليكِ هناك وأحبكِ وحين سمع بزواجكِ قرر تهريبكِ لهنا وأنتما الآن تنتظران بلوغكِ سن السادس عشر لتتزوجا".
حسنا هناك الكثير من الصدمات فيما قالته صوفينيا لدرجة أن تيزيري لا تعرف حتى من أين تبدأ، لكنها نطقت بعكس ما كان يدور في رأسها تماما:
-"وأنت تصدقين الإشاعات؟".

-"حسنا لم أصدقها في البداية، لكن حين تتكلمين عنه تنعتينه باسمه فقط دون رتبته وبدون رسمية، إضافة إلى أنه كاد يقبّلك أمام مكتب المديرة أمام الجميع"،
لم تكمل جملتها ولم تحتج تيزيري لذلك كي تفهم أنها تشك في الأمر.
ك

انت صوفينيا تقول ما تقوله بنبرة هادئة وببطء كأنها لا تود قول ما قالته، أو أن الأمر يؤلمها، لا يحتاج المرء ذكاء ليعرف أن صوفينيا معجبة باكسيل بشكل كبير وبعمق، وهذا جعل تيزيري تتساءل إن كانت صوفينيا قد أرادت مصادقتها فقط لتعرف نوع العلاقة بينها وبين اكسيل أو أنها كانت وحيدة حقا كما قالت.
لقد كانت تتحدث عن اليوم الذي وضع فيه اكسيل خنجرا على عنقها دون سابق إنذار، وللسخرية الجميع هنا يعتقد أنها كانت لحظة رومانسية بين حبيبين. هي طبعا لن تخبر صوفينيا بذلك كونها متأكدة أن الأخيرة ستسأل عن سبب تهديد ضابطهم المفضل لها بالقتل، لذا قررت تيزيري أن تمنح صوفينيا جوابا على الشائعات فقط لترى إن كانت ستوقف علاقتهم هنا بما أنها حصلت على جوابها، أو أنها ستحافظ على صداقتهما القصيرة وتثبت أنها كانت صادقة حين أخبرتها أنها تحتاج صديقا فقط.
تنفست صوفينيا الصعداء بسعادة حين نفت تزيري الشائعات، واحتفظت الأخيرة برأيها لنفسها حول إعجاب صوفينيا لعاهر كاكسيل.
أمضت تيزيري حصة الإنجليزية بعدها تفكر عمن يمكن أن يسرب معلومات شخصية ليتيم ومن بمإكنه الوصول لهم أصلا فالأمر ممنوع، أو ربما هو كذلك في عالمها فقط. ستحتاج لطلب ورقة حقوقها وواجباتها كيتيمة هنا لكنها لن ترفع شكوى حول انتشار معلوماتها الشخصية كونها ببساطة... ليست كذلك، ليست معلوماتها الشخصية الحقيقية فلم تهتم؟.

***

أمضت تيزيري أول شهرين لها في الترحال ما بين الصفوف والأمر أرهقها كثيرا نفسيا وجسديا، كان الخريف قد حل بالفعل. لم تستطع تكوين أي صداقة بعد صوفينيا رغم أن الأخيرة تكفيها وتيزيري تعترف بذلك. ساعدتها في تلك المدة على قراءة وكتابة اللغة الأمازيغية فباتت تقرأ لافتات التوجيه بسهولة، لكنها استغنت عنها كونها حفظت المكان بالفعل، قلّت الهمسات والأحاديث حولها فأصبحت تقريبا غير مرئية... إذا تغاضينا النظر عن الأحاديث حول لون شعرها الغريب وكونها الأجنبية الوحيدة بينهم.
اعتادت على روتين دار الأيتام هنا، يتولى كل يتيم تنظيف وترتيب فراشه بعد الاستيقاظ ويتم تعريض الأفرشة والأغطية لأشعة الشمس مرتين في الأسبوع على الأقل، يتم مساعدة الصغار من اليتامى وتدريبهم على ذلك، ومن يفعل يحصل على نقاط... تيزيري كانت تركض لمهاجع الأطفال فقط لتعليمهم والحصول عليها، لنفس السبب كانت تساعد عاملات النظافة على تنظيف جدران وسقف مهجعها مرتين في الشهر، وكانت بارعة في ذلك رغم ثراءها الذي يجعل الجميع يعتقد أنها لم تنظف شيئا في حياتها يوما. على كل يتيم عمره فوق عشر سنين أن ينظف ثيابه ومكانه بنفسه، والمقصود بالمكان هو المهجع والصف الدراسي.
عرفت من حصص التاريخ أن سيرتا لا تعد مدينة هنا بل قبيلة، وما فهمته عن القبيلة أنها مجموعة من الناس الذين ينتمون لعرق واحد ويعيشون في مكان واحد، لكل قبيلة زعيم واحد، وفي سيرتا الزعيم هو ذاك الجثة الضخمة الغاضبة الذي قابلته في أول يوم، لم تعرف لحد الآن اسمه الحقيقي كون الجميع ينادونه امغار، وهي كلمة أمازيغية تعني الزعيم. مملكة نوميديا عبارة عن مجموعة من القبائل يترأسها ملك من قبيلة الطوارق، ولم تفهم أي شيء بعدها كون تركيزها انتهى عند هذا الحد.
تم إعطاء تيزيري جدولا بالأنشطة الأسبوعية وطلب منها اختيار نشاطٍ ما، كانت الأنشطة تتضمن البستنة، الزراعة، تربية النحل، رعاية الأبقار وغيرها من المواشي، وبعض الحرف اليدوية كالخياطة والحياكة والتطريز وصنع أواني الفخار. الهدف منها تعليم اليتيم شيئا ما يدرّ عليه المال إن لم يجد وضيفة، وتيزيري اختارت الخياطة دون التفكير حتى، أبويها امتلكا علامة تجارية من الأزياء والسلع الجلدية وحتى مساحيق التجميل والعطور، كانت مولعة بتصميم الأزياء لدرجة أنها كانت تحصل على دروس فيها أيام الثانوية ودعمتها أمها بحرارة.
يحصل اليتيم على نقاط أيضا إن تم بيع ما صنعه وهناك استثناءات في ذلك، فمثلا من اختار رعاية المواشي أو تربية النحل أو البستنة يحصل نقاط حتى لو لم يتم بيع العسل أو الحليب ومشتقاته وأنواع اللحوم أو الفاكهة، فكلها تجعل دار الأيتام تكتفي ذاتيا من تلك المواد ولا تضطر لشرائهم، وحتى من يجيد خياطة الأغطية والفراش أو ملابس اليتامى يحصل على نفس الشيء، والآن عرفت من أين تحصل دار الأيتام على تلك الرفاهية.
المشكل الوحيد أن اضطراب تيزيري ظهر على تقرير الكشف الطبي الدوري، نال منها التعب والضغط واكتظاظ جدولها الدراسي لدرجة أنها بدأت تنسى بعض الأعمال وبعض الصفوف الدراسية في الحالات القصوى، لاحظ معظم المعلمين قلّة تركيزها في الصف مقارنة بأقرانها، مما جعل المديرة تحجز لها جلسة علاج نفسي كل أسبوع.
تيزيري تعرف بكل اضطراباتها وأعراضها وحتى حلولها لكنها لا تريد أن يكتشف المركز ذلك ويجعلها تمكث فيه أكثر، هي لا تنكر أنها لم تتعرض للتنمر ولا أي شيء من العنصرية كما حصل معها في السابق لكنها لا تود البقاء هنا مدى الحياة فهي تعرف أن اضطراباتها من المستحيل أن تشفى... يمكن تقليل الأعراض لكن الشفاء التام شيء صرّحت طبيبتها النفسية أنه حلم لن يتحقق، اكتشافهم لاضطراباتها سيعرقل خططها خصوصا مع اقتراب امتحانات منتصف السنة الدراسية.
تم تحديد أول جلسة لها مع الطبيبة النفسية التي تعاقدت مع المركز، ولحسن الحظ سيكون ذلك بعد الرحلة التي تم تنظيمها لزيارة ضريح الملك ماسينيسا في قبيلة سيرتا فهي لا تريد أن تشغل بالها في أي شيء أثناء الرحلة وتفسد المتعة، في الحقيقة تم تنظيم الرحلة فقط لطلاب السنة الأخيرة لكن تيزيري حالة خاصة فهي ليست هنا لتلتزم بنظامهم وإنما لتتعلم وتخرج، ولهذا كتبت المديرة تسريحا لها بالذهاب.
لم ترى تيزيري القبيلة ولم تخرج من المركز منذ أن دخلته، ولهذا هي متحمّسة جدا للخروج وأيضا لمعرفة إن كان الملك ماسينيسا في هذا العالم هو نفسه الذي قرأت عنه في عالمها أم لا.
يسمح للجميع بارتداء ما يريدون أثناء الرحلات أو أثناء القيام بأنشطتهم المختارة ما داموا يرتدون شعار الميتم ويظهر في لباسهم بوضوح، لذا اقترحت صوفينيا ارتداء نفس الملابس هي وتيزيري حين كانت تغمّس الخبز في زيت الزيتون أثناء الإفطار وهي تصدر أصوات تلذّذ.
فستان بدا للأخيرة أنه من العصور الوسطى، وكان عبارة عن قطعتين، فستان قطني أبيض طويل بأكمام طويلة منفوشة عليه سترة طويلة بدون أكمام تغلق عند منطقة البطن فقط بخيوط متشابكة، كانت تيزيري ترتديه باللون الأحمر القاني وصوفينيا باللون الأزرق السماوي، أطلقت تيزيري العنان لشعرها أخيرا بعد وقت طويل بينما اكتفت صوفينيا بجمع نصف شعرها الأمامي بشريط أزرق ليتماشى مع لون فستانها على شكل ذيل حصان وتركت النصف السفلي مسدولا متموجا.
استعملوا العربات للوصول للمكان المنشود، خمسة طلاب مع مشرفة في كل عربة، ولم تضيع تيزيري ثانية واحدة بدون الحملقة في الطريق والسكان والمباني.
كان موقع دار الأيتام قريبا من المدارس والخدمات الطبية والتجمعات السكانية مما سبّب عرقلة حركات العربات في البداية، اغتنمت تيزيري الفرصة وهي تتأمل الأشكال المعمارية بإعجاب، لطالما قرأت أن الأمازيغ كانوا يجيدون الهندسة ويمتلكون مبانٍ وأشكال معمارية مميزة والآن فقط تسنى لها رؤية ذلك بأم عينها.
بعد حوالي ساعة وصلوا لمكان الضريح، ورغم أن تيزيري كان تود بشدة الركض ورؤية كل شيء بنفسها إلا أن المشرفين كانوا ملتزمين بالنظام، وذلك يعني أن يبقى كل اليتامى في مجموعة واحدة وممنوع تماما الانحلال عنها.
-"هو مؤسس وأول ملوك نوميديا، قبل أن يصبح كذلك قاتل في حرب أولا مع قرطاج ضد الرومان قبل أن يصبح حليفهم. من أهم إنجازاته أنه وحد القبائل تحت شعار أفريقيا للأفارقة، وبذلك أسس مملكة نوميديا الكبيرة المستقلة عن الحكم القرطاجي وأصبح ملكا لها يحمل اسم أكَليد (الملك باللغة الأمازيغية)، ازدهرت التجارة والصناعة في عصره... ".
تحطمت آمال تيزيري حين أدركت أنها ليست في نزهة مثلما أرادت، وأنهم لن يزوروا سوى الضريح دون غيره، كانت تريد رؤية السكان والشوارع بشدة، كانوا يمشون أزواجا أزواجا وراء بعضهم بينما أحد المرشدين يسرد لهم متى وكيف تم بناء الضريح متجاهلا حقيقة ألا أحد يستمع له.
كان كل اليتامى يهمسون لبعضهم يتحدثون عن اهتماماتهم وتيزيري لم تكن حالة خاصة، كانت الصديقتان تحرصان على إبقاء مسافة بينهم وبين الثنائي أمامهم ووراءهم كي لا يستمع أحد لنميمة صوفينيا على الجميع، تيزيري كانت تسمع لكل حرف تقوله صديقتها باهتمام وسط انبهارها بكمية الأسرار التي تعرفها صوفينيا على الجميع، حتى بعض العاملين وعلاقاتهم العاطفية السرية، لكنها هدأت فجأة وسكتت بعد فترة، لاحظت تيزيري ابتلاعها لريقها وتنهدها لأكثر من مرة، أخبرها حدسها أن ذلك كان بسبب ما يقوله المرشد عن كيف أن الملك ماسينيسا استطاع بناء أسطول بحري قوي يحمي تجارة مملكته في حوض البحر الأبيض المتوسط، لكن ما علاقة هذا بذاك؟. أتاها الجواب فوريا حين بدا وأن صوفينيا لاحظت تساؤلات تيزيري على وجهها فقالت بخفوت:
-"أبي كان قبطان سفينة في الأسطول البحري"، أحسّت تيزيري وكان صخرة ثقيلة وضعت في صدرها تمنعها من التنفس، هي تعرف معنى فقدان الأب... تعرف معنى فقدان الوالدين، ومن بين كل عبارات المواساة التي تحفظها إلا أن كل ما خرج من ثغرها كان
-"أنا آسفة"،
خرج صوتها خافتا مخنوقا ببحة ألم
-"أنا لست كذلك، لقد مات بالطريقة التي كان يتمناها كما قالت أمي، مات دفاعا عن أرضه".
ورغم أن الألم كان ظاهرا على محياها ونبرة صوتها إلا أن شيئا في تعابيرها جعل تيزيري تتأكد أنها صادقة، وهكذا قررت تيزيري منح صوفينيا بعضا من ألمها وماضيها كما فعلت الأخيرة:
-"لقد مات أبواي معا منذ عامين تقريبا".
حاولت أن تزيح الصخرة من على صدرها وتتحدث بقليل من الصلابة لكنها لم تفعل، بالكاد كانت تتحكم بغصة حلقها. لاحظت تفاجئ صوفينيا التي وضعت يديها على فمها فعرفت أنها أخرجت أفكار موت أبيها من رأسها.
-"كيف؟"،
في تلك اللحظة كان قد حان وقت تيزيري لتخرج من دوامة حزنها وتفكر في الأزمة التي وضعت نفسها فيها، تحوّلت الصخرة التي كانت فوق صدرها إلى عقلها مباشرة، كيف ستخبرها أنهما ماتا إثر حادث سيارة؟، صوفينيا على الأغلب لن تفهم وستطرح أسئلة أخرى.
-"حادث مركبة كانا يستعملانها في التنقل".
-"تحطم سفينة كأبي؟".
لاحظت تيزيري أن الفضول يكاد يخرج من عينيها فعرفت أنها في مأزق وحاولت تشغيل عقلها لتخرج منه.
-"مهلا لحظة، من أجبرك على الزواج إن كان والداك ميتان؟".
اللعنة كيف ستتخلص منها.
-"صوفينيا، تيزيري"،
استدارت الصديقتان لمصدر الصوت فوجدوها المديرة بعينها، لم تعرف تيزيري أنها قادمة معهم ولم تراها حين وصلوا.
-"يكفي تنزها، عودا إلى الصف حالا، إياكما والابتعاد مرة ثانية"، قالت كلماتها بحدة وعيناها تلهب. صوفينيا وتيزيري عن بعد من مكانها، لكن لمعة القلق في عينيها لم تغب عن الأخيرة. نظرت تيزيري حولها فعرفت أنها تخلفت وصوفينيا عن بقية الطلاب، مشاركة الأحزان لها آثارها الجانبية.
-"حاضر أمي".
حاضر أمي؟، حاضر أمي؟ ... حقا؟، هل نادت صوفينيا للتو المديرة بأمي؟؟، لكن لم الاستغراب؟، كلاهما يمتلكان نفس لون الشعر ونفس لون العينين، هما حتى يتشابهان في الشكل وللسخرية تيزيري لم تلاحظ ذلك حتى الآن، وبالرؤية لنبرة صوفينيا وطريقة حديثها فهي لم تكن تخفي الأمر حتى، تيزيري فقط لم تسأل ومن المؤكد أن صوفينيا ظنّتها تعرف بالفعل.

***

خضعت تيزيري في اليوم التالي لاستجواب بأكثر من أربعين سؤالا لتحديد مستواها، وحده من يستطيع تأكيد إن كانت مؤهلة لتدرس مع أقرانها في الصف العاشر والصف الأخير أم تبقى على نفس الحال لشهر آخر، أتاها الجواب بعد ثلاثة أيام يؤكّد أنها خطت خطوة نحو الحرية، طبعا تيزيري لم تقل لصوفينيا أنها هنا فقط لأشهر والأخيرة تظنّها ستبقى لمدة عامين وتخرج كما يفعل جميع اليتامى في سنهم السادس عشر، لذا بقيت دراسة تيزيري لصفين معا في نفس السنة علامة استفهام، هي تدرس في الصف العاشر مع من هم في سن الرابعة عشر، وفي الصف الأخير مع صوفينيا، ولسبب ما صوفينيا لم تسأل يوما... وهي من النوع الفضولي جدا، معرفتها بأسرار الجميع دليل على ذلك.
تم تحديد جلسة تيزيري النفسية في أحد أيام الاثنين بعد الضهر، أين الجميع كان يأخذ استراحة عداها كالعادة، يوم الاثنين لا يحتوي سوى على حصة تدريب أسبوعية لمدة ثلاث ساعات صباحا، من المفترض أن الحصة اسمها حصة رياضة لكنهم لا يمارسون أي نوع من الرياضة سوى فنون الدفاع عن النفس، واحزروا ماذا... كان أداء تيزيري فضيعا في كل مرة، حتى مع محاولات صوفينيا المستميتة لمساعدتها في رفع مستواها ولو قليلا.
كانت قد قررت التصرف كفتاة طبيعية خالية من الاضطرابات، المشكلة أن خطتها كانت خالية من التفاصيل. سوء التخطيط هو أحد أعراض أحد اضطراباتها لذا استسلمت للأمر وبدل كل ذلك قررت أن تسأل نفسها نفس السؤال في كل مرة تجبر على أخذ قرار ما أو إبداء أي ردة فعل... ما الذي كانت صوفينيا لتفعله لو كانت مكاني؟.
ارتدت ثوبا تقليديا أمازيغيا طويلا باللون أسود، مزركش بألوان كثيرة في منطقة بين الرقبة والصدر، طرقت طرقتين بهدوء على باب مكتب الطبيبة النفسية ثم تراجعت خطوة تضع يديها خلف ظهرها بعدما أخذت نفسا قويا لم تفلته إلا حينما سمعت الطبيبة تأذن لها بالدخول.
فتحت تيزيري الباب تتقدم بخطوات واسعة واثقة كخاصة صوفينيا وهذه المرة لم تتمتم بالتحية كما تفعل دائما، بل قالتها بصوت مرتفع مليء بالثقة والحماس كأن الشمس تشرق داخل صدرها، كأن الزهور تتفتّح على كامل بشرتها، نبرة كخاصة صوفينيا بالضبط.
تقدمت ثم رتّبت ثوبها من الخلف بيديها قبل أن تجلس على الكرسي وهي تتمتم لنفسها أنها ستنجح في كونها طبيعية لمدة ساعتين، كانت تنظر للطبيبة ببسمة واسعة غير حقيقية بالمرّة، قابلتها الطبيبة الشقراء اليافعة بنفس البسمة لكنها كانت صادقة عكس خاصة تيزيري.
-"اضطراب الوسواس القهري، هذه أسرع ردة فعل أتلقاها منذ بداية مسيرتي المهنية".
فجّرت الطبيبة كلماتها في وجه تيزيري بنفس البسمة الواسعة بينما خاصة تيزيري اختفت في اللحظة التي نطقت فيها الطبيبة.
اللعنة... اللعنة، اللعنة ما الذي فعلته لتكتشف الأمر بهذه السرعة، جالت أنظار تيزيري حول المكتب فهي تعرف خدع الأطباء، أوراق بيضاء على الجانب الأيمن من المكتب، أوراق مليئة بالحبر على الجانب النقيض وغالبا هي ملاحظات لليتامى ممن زاروها قبلا، ورقة وحيدة فارغة في الوسط تضع الطبيبة عليها يديها بينما تشبك أصابعها، ومن دون شك هي لتدوين الملاحظات حول حالة تيزيري، علبة حبر أمامها خمس ريشات تم ترتيبهم بعناية وبفارق مسافة متساو و.... تبا، لقد وقعت في الفخ، هي حتى لم تشعر بنفسها حتى حين رتبت الريشة الخامسة التي كانت مائلة ليبدوا المظهر مثاليا، لقد وقعت في المصيدة دون أن تشعر حتى، أعادت مقلتيها للطبيبة فوجدتها تناظرها بنفس البسمة السخيفة رغم أنها تعرف أنها كشفت سرا لم ترِد تيزيري أن يُكشف نظرا لمعالم الدهشة البادية على الأخيرة، هي تحتاج أدويتها بجدية... والآن.

__«___{^_^}___»__

Continue Reading

You'll Also Like

14K 1.1K 56
لا زلت أتذكر ... ... أتذكر ذلك اليوم بكل تفاصيله! السماء صافية، وشجرة الدراق تلمع بين أشعة الشمس، تجلسين أنتِ تحتها مع كراسة الرسم. وقتها فقط، خفق ق...
77.9K 6.6K 24
"أحبَبتُك وكَأنَّك آخِرَ أمَلٍ لى بالحَيَاة، فَكُلُّ شَئٍ فى الحَيَاةِ مُقَدَّر، وأنتَ كُنتَ قَدَرى الأخِير."
1M 51.8K 36
"كنت بمفردي طوال الوقت" "اهزم" "اتعثر" "اتألم" "دون ان ينتبه احد او يلاحض وكانت هاذه الوحده رغم وحشتها هي مصدر قوتي"
63.7K 5.2K 141
إديث وكيليان رواية كورية مترجمة التفاصيل في الوصف والشخصيات