الرجوع لزمن البرابرة

Galing kay _Azlen_

25.2K 1.5K 1.2K

كيف ستتعايش فتاة هربت من عواقب جريمة قتل إلى الزمن الذي عاش فيه البربر والفراعة والروم والتاتار مع ثقافتهم وط... Higit pa

مقدمة
الفصل الثاني: دار الأيتام من جديد.
الفصل الثالث: مجرمة عاشقة.
الفصل الرابع: منزل النور.
الفصل الخامس: أخت الواشي.
الفصل السادس: مالكة الحانة.
الفصل السابع: ضيوف الغفلة.
الفصل الثامن: سر سيفاو.
الفصل التاسع: سوء فهم.
الفصل العاشر: هكذا أفضل.
الفصل الحادي عشر: أجمل وأحلى خطأ.
الفصل الثاني عشر: من الماضي.
الفصل الثالث عشر: على شفى حفرة من الموت.
الفصل الرابع عشر: الأمور العالقة.
الفصل الخامس عشر: أهلا بعودتك.
الفصل السادس عشر: أنا أيضا أعشقك.
الفصل السابع عشر والأخير: حفل الانتصار.

الفصل الأول: أين أنا... ومن أنتم.

2.4K 104 21
Galing kay _Azlen_

أنا... لست... كاتبة.
أنا مجرد فتاة هاوية تناطحت الشخصيات والأفكار في رأسها فأخرجتهم على الورق لتريح عقلها.

________________________


لساعات... لساعات لم تسمع سوى طَقطَقة نيرانٍ بعيدة خمّنت أنها لمدفأة ما رغم أنهم في نهاية فصل الصيف لكنها، لم تهتم للعنتهم. رائحة الرطوبة والمعادن تملأ المكان، وقد اعتادت أذنها على سماع قطرات الماء التي تسقط من السقف بالفعل.
أحسّت أن بطنها قد التصقت بظهرها من الجوع وجفّ حلقها من العطش، أكلُّ هذا لأنها ارتكبت جريمة قتل دفاعا عن النفس؟! ... أليس من المفروض أن يكون هناك استجواب لعين من قبل أحد الضباط ولها الحق في إحضار محاميها فيه داخل المخفر قبل دخولها السجن؟.
إذا لماذا يعاملونها كالفضلات منذ ساعات دون استجواب أو حتى رفع قطعة القماش اللعينة هذه عن عينيها؟، أَعصبُ عينيها مسموح قانونيا حتى؟!! ...
كانت مكبلة على كرسي غير مريح بالمرة ومن ملمسه يبدو خشبيا، قطعة قماش أخرى على فمها وضعوها حين أكثرت الصراخ والثرثرة تطلب محاميها.
أخيرا وبعد لحظات سمعت الهمسات تقترب ناحيها وقد بدأت تتضح، لا تعرف إن كان يجدر بها الارتياح أم الخوف لذلك لكنها سمعت بوضوح كلمات كصغيرة الحجم... الإنجليزية... مركبة غريبة...
لم تكن لغتهم التي يتحدثون بها هي اللغة الإنجليزية، كانت لغة البربر... اللغة التي تعلمتها من والدها لأنه أمازيغي الأصل لكنها غريبة قليلا عن التي تعلمتها، بدت... أصعب قليلا. قد يصدف أن يكون أحد الشرطة من شمال إفريقيا ويتحدث اللغة تلك لكن جماعة؟! ... وفي وسط مخفر لعين أثناء العمل؟ ... كان ذلك غريبا كاللعنة!.
ثم هل كانوا يقصدونها بصغيرة الحجم؟، طولها ستة أقدام وخمسة عشر يا أوغاد، ما ذنبها إن كانوا هم عمالقة؟، إن حجمها طبيعي بالنسبة لامرأة يا عهرة.
هذا ما كانت تفكر به ثم انقطع ذلك حين سمعت صرير زنزانة يفتح... لم تكن في مخفر بل في السجن داخل زنزانة يدوية لعينة فهي لم تسمع صوت فتح الزنزانة الالكترونية.
سمعت صوت خطوات شخصين دخلا الزنزانة ولم تستطع رؤيتهم بسبب قطعة الحرير على عينيها، لكنّ أحدهم نزع القماش من على فمها بعنف ثم ساد الصمت للحظات طويلة. فكرت أنه لو كان هناك صرصور في المكان لسمعت صفيره، لو كان هناك فأر لسمعت أقدامه الصغيرة تركض في أنحاء المكان الذي لا تعلم شيئا عن لعنته حتى الآن. كسرت هي ذاك الصمت أخيرا حين نفد صبرها
- " لن أتحدث دون محاميَّ الشخصي".
صدى صوت صفعة قوية في المكان... ونعم نزلت على خد تلك المسكينة التي تشعر بالدوخة الآن إثر قوتها وصلابة يد من صفعها، ارتفعت الحرارة في وجهها وبدأت تحس بحرق خفيف في خدها... حرق بدأت تتصاعد شدته مع كل ثانية تمضي.
لا تعرف ما تشعر به، لا تعرف ما الذي يجب أن تفكر به، آلاف الأسئلة تدور حول رأسها تناغما مع الدوار الذي تشعر به. هل هي في سجن حقا؟، هل هؤلاء هم شرطة فعلا؟، وإن كانوا كذلك فكيف يتجرأ أحدهم ويمد يده على متهمة امرأة وخصوصا إن كانت مشهورة في البلاد؟ ... ألا يعرف عواقب ذلك؟، هل تم اختطافها ام ماذا؟؟؟.
أحكم أحدهم قبضته على ياقة قميصها وعلى صدرها فتقطعت أزراره الأولى
- "لستِ في موقف يخوّلك طلب أي شيء يا ساقطة، لذا ستجيبين عن الأسئلة بهدوء ودون مماطلة وإلا سأجعل رجالي يتناوبون على جسدك الصغير المثير هذا".
نعم... ليست داخل سجن او حتى داخل مخفر، هي مختطفة ولا شك في ذلك، والآن أصبحت تتمنى لو أمسكتها الشرطة قبلهم... واللعنة.
كيف عرفت؟ ... لأن صوت المتحدث ذاك كان يبدوا صوت مراهق لم يصل لأواخر العقد الثاني من عمره حتى، كان يمتلك لكنة غريبة ويتحدث الإنجليزية بثقل وصعوبة، وحتى تلك بدت أصعب وأغرب من اللغة الإنجليزية التي تعرفها رغم أنها لغتها الأم.

ربما هم عصابة ذاك السارق الذي قتلته في شقتها، وحتما هم حفنة مجانين، أعني... لقد نقلوها إلى هذا المكان عبر عربة بخيول... وقبلها أجبروها على المشي لحوالي ساعة حتى أحست بألم في أرجلها، بعدها توقفوا عند بوابة تعرفت عليها من قوة صرير فتحها، أحست بليونة الأرض في تلك المنطقة بعد أن كانت حجرية صلبة، وبدا الأمر أنهم ابتعدوا عن الأرض الحجرية... أو شيء من هذا القبيل فهي لم ترى شيئا، وهناك أركبوها في تلك العربة التي تجرها الخيول خيول لعينة تصهل، هل نفذ الوقود من شاحنتهم اللعينة؟، هل تلك هي طريقتهم كي لا تتعقب الشرطة سيارتهم؟، لقد كانت عربة بخيل بحق كل لعنات العالم.

نزع المراهق يده من عليها بعنف فنزل قميصها وكشف الكثير من مفاتنها بسبب الأزرار التي حطمها، أحست بالبرودة في تلك المنطقة فشهقت بدهشة. كانت تئن ببكاء تحاول ستر نفسها وإعادة القميص لمكانه بفكّها في محاولة فاشلة جدا.

محاولة راقبها كلا الرجلان للحظة قصيرة، المراهق بحقد والرجل الآخر بشك، أمال الأخير رأسه لليسار قليلا وضيق عيناه يحاول دراسة ردة فعلها، ليست ساقطة ولا بائعة هوى فهاذان الاخيران لن يهتما حتى لو كشفت مفاتنهن بالكامل امامهم، أما هذه فهي تحاول إخفاءها قدر الإمكان رغم تكبيل يديها وعصب أعينها، بالإضافة إلى صوتها الذي يوحي بصغر سنها. ومع ذلك هي ترتدي ثياب عاهرات، هو يعرف ذلك فقد ضاجع الكثير منهن في السابق.
كانت ترتدي قميصا أبيض خفيفا بدون أكمام ملتصقا بسروالها الأبيض القصير... قصير جدا بحيث لا يتعدى شبرا من يده حتى. يلتقي القميص والسروال القصير بقطعة قماش داخلها مطاط حول خصرها ترسمه بدقة، غرابة ثيابها، حذاؤها الأبيض غريب التصميم، قماش رديء الجودة مقارنة بخاصته، مركبتها الغريبة التي لم يستطع رجاله فتحها حتى الآن... يجب على أخيه حتما رؤية هذا.

لم يستطع تحمل سماع بكائها ورؤيتها تحاول ستر نفسها دون جدوى فنزع سترته الجلدية ووضعها عليها بالمقلوب كي يستر ما كشف عنه تمزّق قميصها، لكن قبلها لمح بنظرة خاطفة دون وعي منه وشما أسودا لسرب من الحمام يحلق من عظمة ترقوتها على اليمين وحتى بداية مفاتنها على نفس الجهة.

اشتمت هي في معطفه الثقيل رائحة عرق خفيفة مخفية برائحة عطر رجالية خالصة دون كحول، تعرفها جيدا بسبب شركة أمها التي تملك فرعا لصنع العطور، ليس من الصعب عليها أن تعرف أن العطر الذي يستعمله يكلّف ثروة.
أبعد الرجل عينيه سريعا عنها ثم قال للمراهق بلغته الأم
- " أكسيل اذهب أنت، سأتكفل بالأمر من هنا".
لاحظ انقباض فكّ أكسيل وزمِّ شفتيه بغضب لكنه استدار ولم يقل شيئا، انحنى الرجل لمستوى الفتاة يراقب وجهها وقطعة الحرير التي ابتلت إثر دموعها ثم نزعها عنها برقة عكس يد أكسيل القوية حتى مع النساء.
وهنا فقط رأته... رمشت عدة مرات تعتاد على الضوء لكنها لم تزل عيناها عنه لحظة.
أول ما رأته كان أنفه الكبير المعقوف وبشرته السمراء لأنه كان ينحني لمستواها، أعين خضراء قاتمة حادة مشدودة، حواجب سميكة ورموش بنفس لون شعره، شعره كان بني فاتح مع خصلات قليلة صفراء، كان طويلا لدرجة أنه يربطه برباط من الخلف. شفاه غليظة لم تستطع تحديد لونها، كانت تأخذ درجة من اللون الأحمر القاني الممزوج بدرجة من اللون البني.
لكن ما أرعبها حقا كانت الندوب... ندوب لعينة كثيرة في وجهه، في جبهته ووجنتيه. المكان الوحيد الذي لم يمتلئ بالندوب في وجهه كان ذقنه، وكان ذلك فقط لأنه مليء بلحية كثيفة طويلة بنية.
وربما لاحظ هو خوفها منه لأنه عقد حاجبيه لوهلة ثم وقف يبتعد عن وجهها، وإن كان يظن بحركته تلك انه يساعدها في تخفيف خوفها فهو مخطئ حد اللعنة.
فتحت فمها على أوسعه وهي ترتجف فقط عند رؤية جسده الضخم، حرفيا... لم يكن ضخما كمن يمتهنون رياضة المصارعة فقط بل كان أضخم بمرتين، تقسم أن طوله يتعدى المترين بقليل. ثم ثيابه... كانت غريبة... غريبة فحسب.
كان يرتدي ألف قطعة وقطعة ثياب فوق بعضها، قميص أسود قطني خفيف بدون أكمام فوقه سترة جلدية خفيفة بنية بدون أكمام أيضا، لم تكن تحمل أزرارا بل خيوطا لعينة متشابكة معقودة باللون البني لكن بدرجة أغمق من سترته. ثم سرواله الجلدي الأسود الذي يحمل خيوطا فوقه من الجلد الأسود أيضا والتي لا تعلم ما الغرض منها ولم تهتم في الحقيقة.
أما حذاؤه... كان بخياطة وتصميم رديء حقا لكن تبا جودة جلده ممتازة.
أعادت بصرها لجزئه العلوي، ذراعاه الضخمة التي تقسم أنهما أضخم من أرجلها حتى، كانت مليئة بالوشوم الغريبة، رقبته كانت كذلك أيضا. أجل... هي وسط حفنة مجانين بكل تأكيد.
بصعوبة أبعدت ناظرها عنه لترى المكان الذي هي فيه، لم تكن سجنا ولا مخفرا لعينا كما توقعت، كانت غرفة حجرية لعينة تقطر الماء من سقفها وتملؤها الرطوبة. لهذا كانت تشعر ببعض البرودة الخفيفة قبلا... هي لا تشعر بها الآن بفضل السترة الجلدية على جسدها.
تملك الغرفة قضبانا من الحديد السميك بدل الباب، ألقت نظرة خارجا للرواق فوجدته حجريا مظلما أيضا مع بعض من الإنارة التي تتراقص من بعيد فخمنت انها منبعثة من لهب المدفأة. ربما وضعوها داخل كهف لعين صنعه هتلر مثلا لتتعفن جثتها هنا قبل أن يصل إليها أحد.

حسنا... مجانين أم لا، هم عصابة واللص فرد منهم وجاء ليسرق أغراضا ثمينة لا غير، لذا كل ما عليها فعله هو الاتفاق معهم بطريقة سلمية لعينة ليأخذوا مجوهراتها من سيارتها مقابل إطلاق سراحها.
يجب أن تهدأ وتفكر بشكل سليم وتتأكد أن مخارج حروفها سليمة ونبرة صوتها هادئة.
-"لقد كان مجرد خطئ حسنا؟ ... لقد اجبرني على فعلها، لم أقصد ما فعلته بصديقكم حقا... هروبي كان غريزيا فقط. لذا ما رأيك بمجوهراتي كتعويض؟، إنها داخل السيارة في أحد الحقائب ومتأكدة انها تكفي لشراء سيارة وشقة لكل واحد منكم وستكفيكم ليعيش كل فرد منكم حياة رغيدة حتى مماته".

لم تنجح في جعل صوتها هادئا، خرج كل حرف من حروفها مهتزا جدا ويظهر كل الرعب الذي يعتليها. وإن لم ينجح صوتها في ذلك فسرعة حديثها فعلت. ولم ينبس هو ببنت شفّة فزاد ذلك من توترها، ضل يحدق بها بنظراته الحادة، وانعكاس النور المتراقص فيهما يزيد الأمر سوءًا، أمعن النظر لجسدها لفترة طويلة وهو يشبك يديه إلى صدره الضخم، ليس بطريقة منحرفة لكن بترقّب، ضيّق عيناه في حركة لم تفهم معناها، لم تستطع التنبّؤ بما يفكر فيه، ثم فقط استدار يعطيها ظهره وأغلق الزنزانة يبتعد عنها، سمحت لنفسها بالتحديق في ظهره وجسده الضخم حتى ابتلعته ظلمة الرواق.
ظلت تحدق في أثره تسمع صدى صوت خطواته يختفي ببطء فزاد الفراغ في صدرها، هذا فقط جعل أملها في إغواءهم بالمال يختفي، أم تراه ذهب ليستشير أصحابه المختلين؟، هي لا تعرف.... وذلك يوترها أكثر لو يعلم....


***


لا تعلم لكم من الوقت انتظرت وحدها لكن الجوع بدأ يقطع احشاءها، تمنت بشدة لو كانت تجلس تحت أحد تلك الثغرات التي يقطر منها الماء لتشرب منه القليل... ملوثا كان أم لا، فقط لتبلل حلقها الجاف قليلا، لقد وصلت لتلك الدرجة من اليأس.
نامت الصغيرة بتعب كبير على الكرسي الخشبي المزعج حين تمكن منها النعاس، ثم استيقظت بعد فترة طويلة لا تعلم مدّتها على رائحة زكية... رائحة طعام.
فتحت عينيها ونظرت أمامها ليقابلها شخص يتكئ على الجدار الصخري بكتفه ويلف ساقا على اخرى أمام زنزانتها وهو يحمل صينية أكل وماء بيديه الموشومتين، كانت ذراعاه عضليتان أيضا لكنها ليست بضخامة الرجل الذي رأته قبلا... ولا جسده كان كذلك أيضا.
دعونا نرى... أعين خضراء فاتحة وشعر بني داكن يرفعه لأعلى، رموش كثيفة وحواجب مستقيمة كسيف لعين مع نظرات حادة يوجهها نحوها بغضب، أنف بحجم متوسط يلائم حجم وجهه وفك بارز، عظام الخد بارزة أيضا مع شارب خفيف جدا دون لحية. لون بشرته كان أكثر شيء جاذب للانتباه. كانت برونزية كسمار البرازيليين، كانت بذاك السمار الساحر، ويا للسخرية... نفس أسلوب لباس الرجل السابق البدائية.

لكن بالنظر للصورة العامة عليه، جسده يبدوا كجسد رجل بالغ يهتم بجسمه وملتزم بالتدريب رغم أن ملامحه وشكل وجهه يظهر انه مجرد مراهق مثلها، هو نفسه ذاك المراهق الذي هددها بترك رجاله يغتصبونها.
-"لو كنت مكان الزعيم لتركتك تموتين جوعا".
نعم، إنه هو... نفس الصوت ونفس ثقل لكنته في الانجليزية. دفع جسده بكتفه الملقى على الجدار الصخري ليستقيم في وقفته ثم تقدم منها بخطوات بطيئة وعينه لا تزال تخترق عيناها، فتح الزنزانة ثم تقدم منها أكثر ليضع الصينية على الأرض تاركا باب الزنزانة مفتوحا.

هو لا يعلم أنها قد نجحت بالفعل في تحرير يديها من الحبل الذي ربطوه بها في فترة التحديق المتبادلة تلك، لذا حين أنزل رأسه ينظر للأرض وقبل أن يجلس القرفصاء كانت قد مدت قدمها لما بين رجليه تضربه بقوة في منطقته الحساسة فسقط على ركبتيه وهو يمسك مكان الألم بيديه ويغمض عينيه بقوة يتألم بأنين خافت لم تكن لتسمعه لولا صدى الصوت في المكان، كان يتمتم بكلمات خرجت من فمه بصعوبة وغير مفهومة بسبب ألمه لكنها متأكدة انه كان يشتمها.
لكن أكانت تلك خطوة جيدة؟ ... خطوة محاولة هروبها؟ ... حتما لا، لأنها وقبل حتى أن تفكر في إطلاق رجليها للرياح والهروب بجلدها كان هو قد مدّ يده يشدها من شعرها الطويل بقوة ويعيدها للخلف حتى جلست على كرسيها بقوة لدرجة انها سقطت به للخلف.
- "ستندمين أيتها القزمة السافلة"، قال.
- "ابن العاهرة"، هذا من نطقت به بصوت مرتفع جعل الكلمات تخترق أذن أكسيل الذي ظهرت على وجهه علامات غير الغضب من أول أن رءاها... الدهشة.
فتح فمه وعينيه وانحلت العقدة على حاجبية لثانية فقط قبل أن تعود علامات الغضب تزين وجهه الوسيم، تألمت هي إثر السقوط العنيف ودعكت مكان اصطدام رأسها بالأرضية الصخرية قبل أن تنهض وتحاول الهروب من جديد بينما ظهرها أصبح متصلبا إثر الجلوس الطويل على الكرسي الخشبي غير المريح ذاك، استدارت لتلقي عليه نظرة ما إن تذكرته، من الجيد أنه تحطم لأشلاء إثر سقوطها به على الأرض.
أحست بيد على رقبتها من الخلف بنفس الطريقة التي تم جرها بها إلى العربة اللعينة أمام سيارتها، وبنفس القوة أيضا فعرفت أنه هو اللعين الذي جرها إلى هنا.
دفعها بيده تلك حتى التصقت بالجدار على وجهها وشعرت بألم حاد في انفها جعلها تشك أنه قد كسره لها، أطلقت تأوها متألما عاليا عكس ما صدر من أكسيل حين تألم.
-"ما الذي قلتِه عن أمي يا أكبر الساقطات عهرا أنتِ؟".
فتحت فمها لتجيبه لكنه ظل مفتوحا دون أن تنطق، وذلك فقط لأنها سمعت صوتا خشنا ببحة رجولية كاد يسيل لعابها لأجله.
-"يكفي ذلك أكسيل". نعم أكسيل... كن فتى مطيعا واستمع للرجال أصحاب الصوت المثير حين يتحدثون. أدارت رأسها لصاحب الصوت بملامح منكمشة وأنين خفيف وهي تتلمس أنفها بأناملها بحذر شديد تشعر بدوخة خفيفة في رأسها بينما تنتظر من أنفها أن ينزف دما في أي لحظة.
كان نفس الرجل الذي ستر مفاتنها منذ ساعات قليلة، لكن... هناك شيء مختلف فيه، هي لا تعلم، ربما ملامحه الغاضبة التي لم تكن كذلك قبلا، أو ربما بسبب الوشوم في وجهه التي لم تلاحظها حتى الآن، أو ندوب الوجه التي تخيلتها سابقا، هي لا تعلم...  لا يوجد وشوم لعينة في رقبته كما تخيلت سابقا... لا يوجد غير وشم دائرة صغيرة على الجانب الأيسر من رقبته.
الهلوسة هي أحد مراحل الجنون... رائع، رائع فقط، هل يمكن ليومها أن يكون أسوء من هذا؟. هي لم تجلس معهم سوى ساعات قليلة لعينة وتلك كانت كافية لتحولها لمجنونة مثلهم كما يبدو.
وهكذا فقط بقيت تحدق بوجهه لفترة طويلة وبتركيز لدرجة أنها لم تشعر بخروج اللعين اكسيل وهو يمشي بعرج من الألم ولا بالحاجب الذي رفعه لها الرجل الذي تحدق فيه دون خجل.
-"يجب أن نتحدث بعد تناولك شيئا ما"، نبرة صوته العميقة كانت الشيء الوحيد الذي جعلها تتوقف عن نوبة التحديق في وجهه وترمش بعيدا عنه عدة مرات.
-"على الأرض؟ ... أتودني أن أتناول على الأرض؟"، هذا ما قالته بصوت مكتوم بسبب ألم أنفها الذي لا تزال تلمسه بأصابعها ويبدو أنها توقفت عن التنفس منه بسبب الألم.
فكر هو... بما أنها ساومت على حريتها بمجوهرات كثيرة كما قيل له ولم يهتز لها جفن لذلك حتى، فهي حتما تنحدر من عائلة نبيلة، وطبعا لن تقبل بتناول وجبة على الأرض أو الجلوس عليها حتى، ووقوفها حتى الآن يؤكد ذلك.
-"قل لرجالك أن يحضروا طاولة وكرسيا للآنسة اكسيل"، خاطبها بالغة الإنجليزية كما خاطبته بالضبط، وكان هو الآخر يتحدث بلكنة ثقيلة أيضا.
نظرت الآنسة كما لقبها لأكسيل وهو ينظر لها بدوره بحدّة شديدة، أبعد نظره عنها بعد لحظة ونظر لليسار يقول بلغته الأم:
-"لقد سمعتم أمغار، أحضروا ما أمر به"،
أمغار... هي تعلم انه ليس اسما بل لقبا... أمغار لقب معناه الزعيم في اللغة الأمازيغية، واكسيل نادى الرجل الذي يقابلها الآن بأمغار... هذا فقط يعني أنه زعيم عصابة المجانين هذه.
جلب أحد الرجال ما طلبه زعيمهم في لحظات، كانت طاولة منخفضة بكرسي يناسبها، وأضافوا كرسيا مرتفعا له أيضا فجلس كلاهما ووضع أكسيل صينية الطعام أمامها... أقصد رماها أمامها وخرج من الزنزانة يقابلهما.

نظرت للصينية... صحن كسكس، حسنا الأمر حقا يزداد غرابة كل دقيقة.
-"عفوا لكن، هل أنتم بربر؟ ... أمازيغ أقصد"، بدأت سؤالها بفضول وختمته بتوتر حين نظر لها الرجل بشرّ مع تحرك اكسيل من مكانه بغير راحة، خطوة سيئة منها، هي تعلم انهم يفضّلون أن يتم تلقيبهم بالاسم الذي يطلقونه على أنفسهم. ولهذا غيّرته بسرعة لأن إثارة غضب المجانين هو آخر شيء تود فعله.
همهم الرجل المقابل لها ببحة خشنة جعلت الشعر على ظهرها يقف، خرجت من ذلك الشعور الغريب سريعا وقررت الأكل بعدها حين فتحت شهيتها، ولأنه أتى هنا للتفاوض فليس هناك أي شيء آخر يجعله يقابلها الآن، فضلا عن أنه لا ينوي قتلها... ليس حتى الآن على الأقل.

بحثت بيدها عن ملعقة وطبعا... كانت خشبية، فعليا... يجب عليها أن تتوقف عن التفاجئ من الآن، وما إن وضعت أول لقمة في فمها حتى أحست بحرقة في فمها وأنفها وعينيها بينما نزلت دمعة طائشة من إحداهما... من يضع فلفلا حارا في طبق الكسكس اللعين؟، لكنها كانت جائعة... فواصلت الأكل رغم طعم الفلفل الحار الذي تمقته.
وأثناء تناولها لوجبتها راقبها هو دون أن تنتبه عليه، فقط نظر لشكلها دون أن ينطق بأي شيء تركا إياها تنهي طعامها.
أول شيء لمحه حين رآها كان شعرها... طويل للغاية، طويل لدرجة أنه كاد يلامس الأرض الآن وهي جالسة على الكرسي المنخفض.
كان شعرها كثيفا أسودا حريريا لامعا جدا ذكره بمنظر الشلال تحت قصره... ليس للونه بل لنفس اللمعان تحت الضوء ونفس الانسياب، تصبغ مؤخرة فروة رأسها وغرتها الطويلة من الأمام باللون البنفسجي الغامق، وعلى قدر ما بدا اللون غريبا له... على قدر ما أعجبه التغيير. بشرة بيضاء تنافس بياض ثيابها وجسد صغير بقامة قصيرة، يراهن أنها لن تصل حتى لمنتصف صدره لو وقفت أمامه.
كانت تتناول غذاءها الآن بهدوء وهي تنظر لكل شيء عداه كأنها تحاول حفظ المكان، هو يعترف انه غاس في سوداويتيها اللامعتان ونزع عينيه بصعوبة شديدة عنهم حين حدق بهم أول مرة، بدو كدوامتين تجذبانه نحوهما أعمق وأعمق دون رحمة، كالتنويم المغناطيسي، كمن يسقط داخل بئر عميق يتمنى ألا يصل لقاعه أبدا... يتمنى فقط لو يبقى يهوي داخله دون توقف.

تملك بشرة صافية من غير بعض الشامات التي تنتشر لتزيّن وجهها، كتلك التي تتوسط خدها الأيسر المنتفخ، وتلك التي تحت جانب حاجبها الأيمن... وغيرها الكثير متوزعون على رقبتها وأكتافها وأرجلها العارية.
حواجب ورموش سوداء كثيفة يمكنه رؤيتها حتى من مكانه بعيدا عنها، أنف صغير مستقيم وشفاه صغيرة مملوءة مع توريدة خفيفة فيهما. بدت... ساحرة بجمال طفولي ظريف، إلا أن الكحل الذي تضعه دمر مظهرها لكونه ساح وترك خطوطا سوداء على طول خدودها بسبب بكائها.
-"ليس هناك الكثير لنتحدث بشأنه في الحقيقة".
قالت ذلك وهي تحمل كوب ماء من الفخار لتشرب منه بعد أن أنهت ما في طبقها، وقفت تبتعد من الطاولة لتجلس على كرسيٍّ عالٍ كان موضوعا في أحد أركان الزنزانة والآن صار مقابلا لخاصة الزعيم. رمش هو رمشة واحدة خرج بها من شروده فيها لكنه لم يجبها.
-"المجوهرات والمال وبطاقة الائتمان في سيارة البورش السوداء التي كنت أسوقها قبل أن تحتجزوني هنا كما اخبرتك سابقا، خذوا كل شيء وأخرجوني من هنا".
لم يفهم ما قالت، ليس لأنها تتحدث بإنجليزية مختلفة عن التي يعرفها وإنما بشأن ما قالته... هي لم تخبره بشيء كهذا مطلقا... بل هما لم يتحدثا سوى الآن، ورغم استغرابه إلا ان ذلك لم يظهر على ملامحه... ملامح لا يكسوها سوى القليل من الغضب أو الانزعاج. فضل ألا يخبرها بذلك وبدلا عنه قال
-"لست هنا من أجل مجوهراتك ولا أهتم بمالك... أنا هنا من أجل الأجوبة".
راقبته يمد رجله ويدخل يده في جيب سرواله يخرج سيجارة تشبه إلى حد كبير خاصة أبيها، هي ليست متأكدة من اسمها فهي تلقبها بسيجارة أبي طوال الوقت لأنها تظن أنها لا تليق إلا عليه، لكن اسمها سيجارة كوبا كما تعتقد. هي مجرد سيجارة كبيرة بنية يدخنها أصحاب المال بالنسبة لها لكن ليس ذلك ما أوقف عقلها، بل تلك الشعلة التي قدمها أحد رجاله له عندما دخل ليشعل السيجارة. كانت غصن شجر سميك تلتف عليه قطعة قماش مشربة بزيت ثقل قلبها وتقلّبت معدتها من رائحته، شعلة لعينة كخاصة الهنود الحُمر، جديا... هي لن تندهش لو خرج أحدهم بريشة حمراء فوق رأسه الآن.
-"إذا لنبدأ، ما اسمك".
هزت رأسها بعنف تحاول طرد الاستغراب والأسئلة في رأسها، عليها ان تفكر في هذا على أنه مقابلة عمل عليها ان تقلب الطاولة فيها لصالحها كي تنجح، سيكون ذلك سهلا... لقد تدرّبت مع أمها على ذلك طويلا.
-"تيزيري... تيزيري آيت بعمران".
-"اسم العائلة هو اسم أحد القبائل الأمازيغية، واسم أول أمازيغي أيضا... اسم تيزيري يعني نور البدر". وكان وجهها كنور البدر حقا، هذا ما فكر به رافضا أن يخرجه للعلن يرسم أكثر الملامح هدوء على وجهه.
-"هو كذلك بالفعل". تذكرت تيزيري والدها وهو يخبرها بسعادة تلألأت في عينيه أنه لطالما أراد ان يحصل على ابنة بهذا الاسم، فانقبض قلبها وكذلك فكها تمنع نفسها من البكاء.
نفث الزعيم دخان سيجارته جانبا ثم قال:
-"وكم عمرك آنسة آيت بعمران".
أهذه هي الأسئلة التي يريد أجوبة عنها؟، ما الذي يريده منها بحق الآلهة؟؟، أجابت عن سؤاله بسؤال آخر تدعي الهدوء
-"ماذا ستستفيد من معرفة كل ذلك؟، لم تختطفني إن لم يكن بسبب المال؟".
دخن سيجارته وترك دخانها يخرج مع كلماته التي خرجت بهدوء كأنه لا يبالي بأي شيء
-"أنت من دخل الأراضي المحمية خاصتي وأنا أريد أن أعرف من وكيف دخلتها".
قالت باستنكار بدا على ملامح وجهها بينما ارتفعت نبرة صوتها قليلا:
-"دخلت عبر عربة تجرها أحصنة، اسأل صديقك صاحب الحواجب الحادة والأصابع القاسية الغليظة".
قالت آخر كلماتها وهي تميل برأسها نحو اتجاه أكسيل الذي أطلق ضحكة عدم تصديق ثم أشاح بوجهه جانبا للحظة قبل أن يعيد أنظاره لها وهو يستند على الحائط بكتفه كالمرة سابقة مقابل لها خارج الغرفة، بدت ملامحه تحمل خليطا من آثار الضحك، الدهشة والغضب.
تتبع الزعيم اتجاه حركتها ففهم أنها تتحدث عن أكسيل لكنه لم يهتم في الحقيقة، وضع سيجارته المشتعلة على حافة الطاولة بحيث الجهة المشتعلة كانت خارج الطاولة تسقط رمادها على الأرض، ثم وبملامح هادئة وضع رجلا على رجل وقال:
-"أقصد قبلها، كيف وصلتي للأراضي القاحلة؟".
هو يعرف... يعرف كيف وصل كل فرد من العالم الموازي لعالمهم هذا فهو كان قد قرأ جميع الملفات السرية التي توزعت على ملوك العالم بشأنهم، فقط يريد التأكد... وأيضا ليحظى بتجربة عملية بنفسه.
بدت معالم الفهم على وجهها ثم قالت بلهجة انجليزية ممتازة وهي ترمي كلماتها بسرعة جنونية في وجهه:
-"اوه ذلك، كنت أقود سيارتي أحاول الوصول للمط...".
توقفت عن الكلام فجأة وعقدت حاجبيها حتى بدوا كخط واحد تدرك الحماقة التي كانت ستتفوه بها للتو.
-"لمَ تريد معرفة التفاصيل؟، لم تسأل عن عمري واسمي ومعلوماتي الشخصية... ما الذي ستستفيده من كل ذلك... وصلت لممتلكاتك بالصدفة وانتهى الأمر، وصدقني لا يوجد أحب على قلبي من الخروج منها حالا وعدم تضييع ثانية أخرى فيها".
-"مجرد فضول، وأيضا... الخروج من ممتلكاتي والدخول إليها ليس سهلا كما تعتقدين".
كان هذا كل ما نطق به وهو يمد يده إلى سيجارته يعيدها لفمه بهدوء عكس ما ظهر على تيزيري التي رفعت حواجبها وتوسعت عيناها ثم قالت بصراخ
-"مجرد فض؟ ... "،
توقفت كأنها أرهقت فقط من هاتين الكلمتين التي نطق بهما ترفع يدها تمسح على جبينها بتعب ثم تابعت بهدوء:
-"مجرد فضول... طبعا. حسنا لك ذلك، شرط أن تعطني دليلا على صدق وعدك بإخراجي من هنا بعد انتهاء هذه الجلسة اللطيفة".
كادت تفلت ضحكة من فم الزعيم لثقتها الفائقة وتشرطها عليه، لكنه أخفاها بنفث الدخان جانبا بعيدا عن وجهها وقرر مسايرتها ولعب لعبتها للنهاية.
-"افتح الباب أكسيل".
فتح أكسيل القضبان الحديدية على أوسعها ولا يزال ينظر لتيزيري بشر ثم رجع لحائطه يتكئ عليه كالعادة.
كان الزعيم يحدق بسيجارته في فمه يراقبها تشتعل أكثر كلما يستنشق التبغ منها حين قال:
-"لا يوجد سوى التفافة واحدة على اليسار في آخر الرواق وستصبحين حرة، سأجعل أكسيل يرافقك لمركبتك إن أردت ذلك".
ليس هذا هو الدليل الذي أرادت الحصول عليه لكن يبدوا أن الزعيم ليس بجنون وغباء البقية، لا تزال تراه مجنونا دون شك لكن... ليس كالبقية.
-"تسعة عشر... عمري تسعة عشر سنة".
همهم الزعيم بينما السيجارة في فمه ثم نزعها وقال:
-"تعملين إذا".
ارتفعت الشفة العلوية لتيزيري باستنكار وهي تسحب تفكيرها في كونه أقل جنونا من أصحابه وقالت:
-"قلت تسعة عشر وليس تسعة وعشرون. لقد تخرجت من الثانوية منذ أشهر قليلة. لا تزال أمامي خمس سنين على الأقل لأكون مستعدة للحياة العملية".
رفع الزعيم حاجبا لما قالته ثم أشار بيده التي تحمل سيجارته لأكسيل خارجا وقال:
-"أكسيل في السادسة عشر وهو يعمل منذ سنة ونصف تقريبا. وكان ذلك كافيا بالنسبة له ليصنع لنفسه مكانا مع الضباط الكبار خاصتي".
حسنا هي الآن مستعدة لتمضي على ورقة جنون من حولها مغمضة العينين، لكن هل قال للتو أن ابن العاهرة ذاك يظن نفسه ضابطا؟. وهكذا رفعت تيزيري إصبع الاتهام نحو أكسيل دون أن تنظر صوبه بحواجب مرفوعة تسأل الزعيم باستنكار:
-"صاحب الجسد الكبير والعقل الصغير ذو القبضة الحديدية ذاك ضابطك الخاص؟، وتركته يهددني بالاغتصاب هو ورجاله دون أن تقول كلمة؟؟".
صوب الزعيم عينيه بسرعة نحو أكسيل. ماذا قالت؟، هل هدد اكسيل امرأة نبيلة باغتصاب حقا؟.
شعرت تيزيري بالتوتر يرتفع في الجو حين لاحظت النظرات الحادة التي يلقيها الزعيم على ضابطه المزعوم فعرفت أنها لمست وترا حساسا. هم حفنة من المجانين صحيح، لكن على الأقل يلتزمون بمبادئ عرقهم الأمازيغي... احترام المرأة في ثقافتهم شيء غير قابل للنقاش.
  تأكدت من ذلك حين رأت مقلتي أكسيل تتحرك في كل اتجاه وهو يبتلع ريقه ثم حمحم وقال يدافع عن نفسه بصوت مهزوز بدا وكأنه يحاول بجهد تثبيته دون جدوى:
-"أنا لم أهددك باغتصابي لك، صحيح أني هددتك بترك رجالي يتناوبون عليك قصد إخافتك فقط لكني لم ولن أفكر في لمس قزمة مثلك خطئا حتى".
تلقى الإجابة فورا من تيزيري التي رفعت حاجبها قائلة:
-"آها!، ولذلك قلت عن جسدي أنه مثير؟". التغزل بامرأة محترمة شيء محرّم آخر... هي تعرف.
ذلك فقط جعل التوتر يزداد أكثر بين الضابط وزعيمه، وعرفت ذلك فقط حين رأت أكسيل يمرر عينيه على ملامح زعيمه المشدودة بشكل خاطف ثم أعادها إلى وجهها. وهناك تابعت تيزيري تغيض خصمها الذي قررت بالفعل أنها لن تخسر المعركة أمامه متناسية هدفها في إبقاء المحادثة سلمية لتضمن خروجها.
-"تنافر متبادل سيد اكسيل لا تقلق، فكما قالت الشاعرة القديرة المحبوبة الممثلة نيروبي في أحد سلسلاتها التي لا أتذكر اسمها، أنا لن ألمسك حتى لو كان ذلك باستخدام لوح خشبي طوله ثلاثة أمتار".
قالت كلماتها الأخيرة بابتسامة شماتة وهي تحمل لوحا خشبيا وهميا بيدها توجهه لأكسيل كأنها تلكزه به من بعيد. اكسيل الذي لم يعرف عن أي شاعرة تتحدث ولم يفهم ما تقصده بكلمة سلسلات لكنه حتما فهم بيت القصيد واستشعر السخرية في كلماتها، اعتدل في وقفته باستخدام الكتف التي كان يتكئ بها على الحائط منذ وقت طويل وفتح عقدة يديه التي كانت على صدره وتقدم خطوة منها وبدا كأنه فقد آخر حبات صبره.
توقف فقط حين سمع زعيمه يطرق بأصابعه على الطاولة يذكره بوجوده، باشر بالذهاب من المكان بخطوات بطيئة وهو يخصّ زعيمه بكلماته الأخيرة بالأمازيغية:
-"أخبرني أمغار حين تنتهي منها لأعلق رأسها عند البوابة فأنا أتوق لذلك".
كلماته جعلت تيزيري تعلن انتصارها بابتسامة واسعة تنظر للزعيم، ذاك الذي لم يهتم للعنتهم وهو يدخن آخر ما تبقى من سيجارته يشعر أن الأمر قد طال فوق ما يستحق.
-"أتعلمين أين أنت آنسة آيت عمران؟".
-"في كهف لعين ما في مكان مهجور في أوتاوا؟".
يبدو أنها المملكة التي تعيش فيها، هذا ما فكر فيه الزعيم وهو يدرك أن الأمر يجب أن يتم بمراعاة وهدوء لتتلقى الصدمة دون أعراض جانبية كثيرة. لكن سيجارته انتهت بالفعل وهو لا يجيد الصبر بدونها.
-"أنت داخل مملكة نوميديا يا آنسة، في قبيلة سيرتا بالضبط".
لكن هل تعرف هي نوميديا؟، هل تعرف سيرتا؟، بالطبع تعرف مملكة الأمازيغ وعاصمتها سيرتا التي تأسست منذ آلاف القرون قبل ميلاد المسيح حتى، فهي تحب النبش في تاريخ كل الحضارات القديمة مثل حضارة نوميديا التي هي المغرب العربي حاليا. لكن حضارة كهذه اندثرت كمثيلاتها فلمَ يذكر الأمر الآن؟.
لمَ تسأل حتى؟، رجال بأسلوب لباس قديم يأكلون بمعالق من خشب وأكواب وصحونٍ من فخار ويلقبون رئيس عصابتهم بالزعيم، بالطبع سيظن نفسه في عصر ما قبل الميلاد وينصّب نفسه الملك ماسينيسا عليهم.
-"اوه". هذا ما صدر منها كردة فعل وهي تهز رأسها بالإيجاب ببطء وترفع حواجبها تمثل أنها صدقت الأمر فتابع هو:
-"نحن نعيش في نفس السنة التي تعيشون فيها في عالمكم، نحن في العام العشرين بعد الألفين من الميلاد وليس قبله كما يظن أغلبكم"
جارت تيزيري حديث المجنون تحاول التفكير في طريقة للخروج فقالت:
-"اوه، كم أود رؤية سيرتا فقد قرأت عنها الكثير. لم لا تأخذني في جولة لمدينتك يا جلالة الملك بينما أجيبك على أسئلتك بدلا من الجلوس في المكان الكئيب هذا؟".
ما يزال يرخي جسده وملامحه بهدوء، أو كما يظن هو فتيزيري لا ترى أي هدوء في وجهه... هو يحمل تعابير الغضب والانزعاج منذ أن رأته هذه المرة، لم يكن كذلك حين قدم سترته الجلدية لها.
-"تريدين دليلا، لا بأس. حتى أنا لم أكن لأصدق أنك من عالم آخر لو لم أرى مركبتك وملابسك وحجمك الصغير".
عقدت تيزيري حاجبيها بانزعاج حقيقي لما قاله عنها:
-"أنا لست صغيرة الحجم بل انت الضخم، أنظر لطولك الذي ينافس طول القضبان الحديدية تلك. حجمي طبيعي بالنسبة لأنثى".
وقف من مكانه بهدوء يظهر ضخامة جسده لا يبدو عليه الانزعاج من كلماتها بتاتا وهو يقول بذات نبرة الصوت الهادئة العميقة التي اعتمدها منذ البداية:
-"انتظري حتى تري الإناث في الخارج".
هكذا فقط خرج بخطوات واسعة يضع يديه داخل جيوبه تاركا باب الزنزانة مفتوحا، أذلك تسريح منه للخروج؟ ... ستكون أغبى الأغبياء لو لم تخرج الآن.
قفزت من كرسيها الذي كانت تتدلى أرجلها منه قبل قليل وركضت تتبع المجنون لباب الخروج.
الضوء المتراقص لم يكن لمدفأة... بل لشعلات عديدة معلّقة أعلى الجدران الحجرية بتفاوت متساوي لتعطي إضاءة للمكان. كانت تركض تحاول مجاراة سرعة مشي المختل وهي تنظر في كل الاتجاهات لا تود أن تفوّت شيئا، تعثرت على الأرضية الحجرية غير المستوية كونها لم تنظر لها أصلا ولم تنتبه لها، وكانت ذراعها بين الأصابع الكبيرة الخاصة بالزعيم قبل وصول جسدها للأرض بسنتيمترات قليلة.
-"انتبهي أين تضعين أقدامك يا صغيرة".
كان ذلك وشيكا، هي حتى لم تتعافى من ألم أنفها الذي سببه لها ابن العاهرة ذاك حتى الآن.
لم تعلق تيزيري على كلمة صغيرة التي قالها الزعيم كونه يبدو يكبرها بعشر سنوات على الأقل، تابعت مساره فقط حين أحست به يبطء من سرعة مشيه قليلا لتلحق به.
وكان الأمر كما قال. كان الرواق يحمل الكثير من الزنازين المماثلة لخاصتها على الجهة اليمنى من الرواق فقط وكانت معظمها فارغة، توزّع بعض الرجال بنفس أسلوب اللباس على طول الرواق كأنهم حراس وقد اصطفوا كالشعلات تماما. وصل الاثنان لآخر الرواق واستدارا لليسار فرأت تيزيري عددا من المكاتب الصغيرة على هذه الجهة من المكان وعرفت أنهم مكاتب الضباط المزعومين حين رأت أكسيل صاحب القبضة الحديدية يجلس وراء إحداها. واو، لقد صنع المجانين عالما لنفسهم وصدقوا الأمر حقا.
التفتت للزعيم المجنون وسألته:
-"لم معظم الزنازين فارغة؟، هل نسبة الإجرام منعدمة عندكم لذاك الحد؟".
أجابها الزعيم دون أن يلتفت لها:
-"نحن نملك نسبة إجرام كبيرة هنا لكننا لا نحتجز المجرمين يا آنسة، بل نفضّل قتلهم وتعليق رؤوسهم عند بوابة المدينة ليرى كل من ينوي الاجرام نهايته أمامه".
تذكرت تيزيري كلام اكسيل حول تعليق رأسها عند البوابة فأمسكت رقبتها بيدها وهي تبتلع ريقها بصعوبة، لقد ظنّته مجرد تعبير مجازي... هم حفنة مجانين ولن يتوانوا عن فعلها حقا. راقب الزعيم ردة فعلها بابتسامة استمتاع داخلية لم تظهر على ملامحه، تصرفاتها تترك انطباعا ظريفا في عقله وتعبث فيه.
-"وأنا لم أفتعل أي جريمة حتى الآن صحيح زعيم؟".
جاهد الزعيم كي لا يبتسم وهو يسمعها تناديه بالزعيم لأول مرة فقط لخوفها منه رغم أنها لا تصدق شيئا، ثم قال بهدوء يمثل الجدية:
-"حتى الآن ... لم تفعلي".
زفرت تيزيري الهواء من فمها بقوة وهي تغمض عينيها براحة، يجب أن تجاري جنونهم حتى تخرج من هنا.
ما إن خرجت من بوابة المكان الذي لم يكن يملك بوابة حقا حتى تأكدت أنها كانت داخل كهف، كان المدخل عبارة عن فوهة كهف لا بوابة لها. ابتعدت عن المكان تركض نحو الزعيم المزعوم حين أحسّت أنه ابتعد عنها كثيرا لا يبالي حقا إن كانت تتبعه أم لا، كان المكان خالٍ إلا من المجانين الذين يخالون أنفسهم الحراس بسيوف حرب طويلة، ورائع... هناك مجنونات حارسات بنفس اللباس ويضعن رسمات الحروب من العصر الحجري على وجوههن بدل الرموش الاصطناعية والضلال الجميلة في جفونهن.
عرفت تيزيري الغرض من وجود الخيوط الجلدية السوداء فوق سراويلهم، لم تكن مجرد خيوط بل حامل خناجر صغيرة، كانت النساء تملأن خاصتهن بها.
مشت تيزيري تتبع الزعيم لربع ساعة عرفت فيها أنها في منطقة جبلية نظرا للطريق غير المستوية والهواء البارد والمناظر الخلابة، الأشجار والاخضرار في كل مكان.
تعثرت أكثر من مرة في الأحجار والأغصان كعادتها حين تكون في مكان جديد تركز على كل شيء غير الأرض، تم إنقاذها مرات عديدة في البداية من قبل الزعيم الغاضب حين كانوا ينزلون منحدرا ما، ثم صارت تعانق الأرض في كل مرة تتعثر فيها حينما بدا لها أنه ملَّ من رقابتها كطفل صغير متشوق للخروج في نزهة.
وصلت تيزيري مع الزعيم لمنطقة ما منخفضة عن مكان الزنزانة التي كانت فيها، ونعم... بعد نزولهم المنحدر ركبت عربة بخيل مع السيد الغاضب بجانبها وانطلقوا أين لا تعلم أصلا.

***

وصلوا في النهاية لساحة مملوءة بالناس، كانت لا تسمع صوتها حتى من كثر الضجيج فيها. أول ما لفت انتباهها كان حجم الناس وملابسهم، كانوا بنفس حجم الجثة المتحركة أمامها متفاوتون بدرجة بسيطة فقط ويرتدون ملابس بدائية مماثلة لما يرتديه، أما النساء... فقد كن كما وصفهم بالضبط، كلهن بطول الرجال الذين اعتادت رؤيتهم في حياتها قبل هذا، يرتدين أثواب مماثلة لما كانت ترتديه جدتها أم أبيها... ثوب طويل بسيط بأكمام وعلى ياقته وطرف أكمامه زخرفة بألوان كثيرة، طبعا هناك من ترتدين غير هذا أثواب تبدو من العصر الفيكتوري.
كانت من خرج أولا من العربة بعدما توقّفت، مشت بسرعة وبفاه مفتوح في كل الاتجاهات وسط الحشد الذي يماثلها دهشة برؤية امرأة بذاك الحجم الصغير إضافة إلى ثيابها الغريبة، تمشي تبتعد عن الزعيم حوالي عشرة أمتار ثم تعود لتبحث عنه بأعينها وتقترب منه حين تراه كي لا تتوه، تنظر للأرضية الصخرية هناك بإعجاب ترى أحجارها المستطيلة المصفوفة بشكل متساوي لكن ارتفاعاتها متفاوتة وبين بعضها تمردت بعض الأعشاب تخرج للعلن، جعلها الأمر تشعر أنها تمشي فوق صينية بقلاوة تركية.
أطفال يلعبون، بائعون ينادون ليجذبوا انتباه الزبائن باللغة الأمازيغية، حراس قليلون منتشرون حول المكان... هي حرفيا في سوق العصر الحجري الآن.
راقبها الزعيم وهي تركض وتقفز في كل مكان تجذب انتباه الجميع حولها دون قصد، حتى أنهم لم يلحظوا وجود زعيمهم وسطهم كالعادة، فكّر في أنه لربما فكرة إخراجها من السجون وجعلها ترى كل شيء دفعة واحدة كانت سيئة... هي فقط لا تكفّ عن الحركة، وذلك أزعجه قليلا... قليلا فقط.
هدأت حركة تيزيري فجأة وظهرت ابتسامة فهم على شفاهها الوردية ثم التفتت له تسلبه انتباهه وتعزله عن العالم إلا منها وهي تقترب ببطء ودلال طفولي تضع يديها خلف ظهرها.
-"إذا... أين الكاميرات".
نظرت داخل عينيه بابتسامة دون خوف منه أو شك كما كانت تفعل قبلا.
-"ماذا؟".
-"لا تتحادق يا رجل، من الواضح أنك أحد الممثلين الرئيسيين لبرنامج كاميرا خفية ما".
ورغم أنها تستغرب ذلك كون العالم كله يطبق إجراءات الحجر الصحي بسبب الكورونا إلا أن ذلك كان التفسير الوحيد.
-"أنا لا أعرف عما تتحدثين".
وكانت تلك أول مرة يلاحظ فيها طول شعرها الحقيقي بسبب هدوء حركتها أخيرا، كان يصل لمنتصف فخذها. ولأول مرة أيضا يشعر بالجهل لشيء ما فعادة هو يعرف كل شيء، والآن هو حقا لا يعرف عما تتحدث عنه تلك الصغيرة.
دارت تيزيري حول نفسها تنظر ببطء وإعجاب للجميع
- "مع ذلك... أقر لكم أن الأمر مبهر، أن توفروا مساحة كبيرة جدا كهذه مع عدد كبير من الممثلين المساعدين، لا بد أن كل هذا كلفكم الكثير".
أنهت تيزيري دورتها على نفسها تزامنا مع انتهاء كلماتها وهي تعيد بصرها للزعيم الذي قرر ألا يجيبها على الجنون الذي تتفوه به.
-"هل تريدين الوصول لمركبتك أم لا".
لم يطرح سؤاله لتجيبه ولم ينتظر إجابتها بل فقط استدار يعطيها بظهره يشق الطريق لمركبتها لينهي الأمر، شعر بعد لحظة بخطواتها الصغيرة السريعة وراءه فعرف انها تتبعه.
وصلوا للبوابة التي تعتقد تيزيري أنها نفسها التي دخلت منها بسبب وجود الكثير من العربات المعلَّقة على لجام خيول أمامها، من الغريب أن يهتم برنامج تليفزيوني بالتفاصيل الصغيرة.
مشت نفس المدة التي مشتها قبلا مرغمة وهي معصوبة العينين، الآن تمشيها طواعية وتنظر لكل شيء في كل مكان بينما عقلها يسجل كل تفصيل عن كل شيء.
كل ما فعلوه هو النزول من على الجبل في نصف ساعة الأولى بينما هي مندهشة كيف للتضاريس أن تختلف في ساعة من المشي وركوب عربة خشبية. كانت في منطقة جبلية عالية مخضرة قبل قليل والآن في طريقها لأرض قاحلة لا ترى غير السهول، مشوا نصف ساعة أخرى في الأرض التي لا يميزها شيء وتخلو من كل شيء، حتى أن تزيري استطاعت رؤية سيارتها مركونة في مكان بعيد جدا عنها.
لا يمكن أن يكون كل هذا من أجل كاميرا خفية تافهة، ولا يعقل أن ما قاله غريب الأطوار أمامها صحيح أيضا... ربما تم وضعها في تجربة اجتماعية ما، لكن الحكومة تمنع أيًّ من ذلك كونهم في فترة حجر صحي.
ما إن وصلت لسيارتها حتى شكرت المجنون أمامها بشكل يليق بابنة عائلة آيت بعمران رغم أنه لا يستحق كونه أخذها عنوة لكنها فعلت على أيَّة حال، راقبها هو تفتح باب مركبتها بأصابعها في ثانية واحدة عكس الساعات التي استغرقها رجاله كي يفتحوها دون إلحاق الضرر بها... ورغم ذلك فشلوا.
اعطته ابتسامة صادقة واسعة ظهرت بسببها غمازة وحيدة على خدها الأيمن، لا يعلم سبب إشراقة وجهها حقا في تلك اللحظة... ابتسامتها الصادقة أم غمازتها الوحيدة المستفزة على خدها المنتفخ... أم البريق في عينيها بسبب انعكاس ضوء شمس وسط النهار عليهما، في كل الأحوال... بدا له وجهها المبتسم أحلى بكثير من تعابيرها الخائفة.
راقبها تركب مركبتها ثم تمسك بقارورة صغيرة تحتوي على سائل شفاف وتضع القليل منه على يديها قبل أن تفركهم بقوة وتلوح بهم في الهواء بعشوائية دون سبب.
انطلقت بسيارتها بسرعة أدهشته نحو السور الكبير المقابل له، دقائق... دقائق فقط وتوقفت مباشرة أمام السور بسبب الحراس الذين وجهوا سهامهم نحوها من أعلى الأخير لكنها لم تخرج من مركبتها، المتعة انتهت هنا بالنسبة له.
تقدم منها بخطوات واسعة هادئة حتى وصل لها، عينيها كانت متوسعة مع تقضيبة خفيفة على حاجبيها وثغرها مفتوح قليلا وهي تنظر للحراس دون غيرهم، شعر بتصنُّم جسدها وقبضة يديها كانت قوية على الشيء الجلدي المستدير أمامها. دقّ مرتين على مركبتها فرمشت رمشة نزلت معها دمعة حين انتبهت له، أنزلت زجاج المركبة ثم سمعها تقول بخفوت بنبرة مهزوزة:
-"أين الكاميرا؟".
انحنى واتكأ بمرفقيه على نافذة الباب ليقابلها قائلا:
-"خروجك من السور ذاك يعني خروجك من حدود سلطتي، أنا لا أجبرك على البقاء ولا يهمني أين تذهبين لكن من واجبي أن أقول لك هذا".
قابله صمتها فأكمل بنبرة صوته الخشنة الهادئة:
-"لست مسؤولا عما سيحدث لكِ خارجا فسلطتي تنتهي هناك لتبدأ سلطة زعيم آخر لقبيلة أخرى. هناك مكان ما أظن أنه سيعيدك لعالمك".
وهنا حاز الزعيم على الانتباه الكامل من الصغيرة المرعوبة.
-"لكني لست متأكدا منه، نحن نسميها الدوامة... نحن نعلم أنها بوابة لعالم آخر أو ربما لعوالم أخرى ولا أعرف أي عالم يمكن أن تأخذك إن دخلتيها فلا أحد عاد ممن عبروها".
سمع صوت فتح الباب فوقف يبتعد عنه لتخرج تيزيري تنظر لكل شيء عداه، طال صمتها فقال آخر كلمات تبقت في جعبته لتنتبه له:
-"القرار قرارك ولا أحد يتحمل مسؤولية ما سيحصل لكِ غيرك، يمكن أن تقودك الدوامة إلى عالم أفضل من هذا كما يمكن أن تأخذك الى الأسوأ... أو يمكن أن يكون عالمي وعالمك فقط هما العالمان الوحيدان الموجودان وبذلك تعيدك لعالمك".
راقبها تتراجع خطوة للوراء كأنها ترفض ما قاله... ترفض أن تعود لعالمها!، ما الشيء الفظيع الذي فعلته صغيرة كهذه لترضى بالعيش في عالم كامل تجهل ما فيه بدل الرجوع لعالمها؟.
قرر عند هذا الحد أن يتعامل معها بعملية بحتة من الآن فتقدم منها ليرمي كلماته في وجهها:
-"أنت لوحدك في هذا إذا... تملكين من المجوهرات ما يكفي لبيعها وشراء منزل فخم وفتح مشروع يدرُّ المال عليكِ لتعيشي براحة".
وهكذا استيقظت كل حواس تيزيري تنذرها بالخطر:
-"لكنني لست مستعدة بعد، لست راشدة كفاية لذلك حتى".
راقبته يقترب منها بخطوات ثابتة حتى لم يتبقى سوى سنتيمترات قليلة بينهما، وحتى تلك المسافة الصغيرة قلصها أكثر حين انحنى لوجهها تشعر به ينتهك حرمة مساحتها الخاصة ليقول:
-"هل تعرفين كيف يتم إنجاب الأطفال آنسة آيت بعمران؟".
استطاعت رؤية جمال عينيه من تلك المسافة، لم تكن خضراء بالكامل بل فيها تدرجات من اللون البني، لكن الأخضر الغامق غالب عليها. مهلا ماذا قال؟؟؟، هل سألها عن كيفية إنجاب الأطفال للتو؟.
نظرت لتعابيره فلم ترى غير الجدية وبعض الغضب الذي لم تفهم سببه للآن.
رمشت أكثر من مرة تحاول استيعاب ما قاله ثم قالت بتلبك:
-"ماذا؟ ...أقصد أجل، نعم أعرف".
استقام يبتعد عن وجهها يقول:
-"أنتِ راشدة كفاية إذا".
هنا استعادت تيزيري عقلها تشعر بكل أعلام الخطر تحوم حولها:
-"أنا لا أعرف شيئا هنا. لا أجيد لغتكم ولا أعرف ثقافتكم ولا أعرف أحدا موثوقا ليساعدني في بيع ممتلكاتي، سيتم الاحتيال عليّ وسرقتي في أول ساعة لي في ميدانكم هذا، وسأصبح مشردة في خلال نصف يوم".
راقبته ينظر لها بتفكير فابتلعت ريقها تنتظر قراره تحاول تهدئة نبضات قلبها السريعة من الخوف، مصير مستقبلها بين يديه، نطق أخيرا ليريحها قائلا:
-"حسنا، لكنني سأرسلك لمكان تتعلمين فيه كل شيء عن كيفية النجاح والنجاة في القبيلة. مدة بقائك هناك ستقررينها أنت على قدر جهدك في التعلم والمثابرة وسأتكلف بحماية ممتلكاتك شخصيا حتى ذاك الحين. إما هذا أو اخرجي من القبيلة حالا بدل تضييع وقتي ووقتك".
السبب الوحيد الذي جعل الزعيم يفكر في ذلك هو حقيقة أنها على حق، من أتوا قبلها للممالك الأخرى أتوا كبارا عاملين ويمتلكون خبرة جعلت كل من يعمل في نفس مجالهم يطمع فيهم ليطلعهم على طرقة حديثة لتسهيل وتسريع عملهم، وهكذا فقط تمكنوا من الحصول على وضائف في وقت قياسي. أما الصغار منهم فكثيرا ما يتبنّونهم أصحاب المال ليبيّضوا سمعتهم وصورتهم أمام الناس لكن هي... هي لم تكن صغيرة كفاية ليتم تبنيها ولا كبيرة كفاية لتمتلك أي خبرة في أي مجال كان، لن يهتم لها أحد، ونعم هو متأكد أنه سيتم سرقتها قبل منتصف النهار حتى إن بقيت جاهلة بكل شيء هكذا، لذا وبصفته زعيما لقبيلته التي قررت أن تصبح فردا منها قرر أن يقوم بواجبه تجاه أحد رعاياه وساعدها.
حسنا لن يكون ذلك صعبا، هي تعرف الكثير عن الحضارة بالفعل وأيضا عن كيفية إدارة الأعمال. لم يتبقى سوى لغتهم المتغيرة التي يمكن تعلمها في أشهر قليلة إضافة إلى معرفة أسلوب الحياة هنا.
-"موافقة".
تقدم منها يمحي مساحتها الشخصية من الوجود ويمد يده لياقة السترة الجلدية التي تستر بها قميصها الممزق يرتبها لها بكل أريحية وببطء، وهذا فقط كان قبل أن يشدّها منها أقرب إليه بعنف يقول بحدة:
-"إذا اسمعي جيدا من سأقوله... ".
دقّ قلب تيزيري بعنف وتثاقلت أنفاسها من الخوف، ورؤية وشوم وجهه من ذلك القرب زاد الأمر سوءا حتى بدا كنوبة ربو حادة.
-"أنتِ ابنة أحد الانجليزيين من الطبقة النبيلة وتم تزويجك عنوة رغم سنك الصغير فلجأتِ إلى هنا قبل زفافك، عمركِ أربع عشرة سنة وليس تسعة عشر، من إنجلترا وليس من عالم آخر، اسم تيزيري آيت بعمران هو اسم مستعار جديد لحياة جديدة وليس اسمكِ الحقيقي، إن قلتِ غير ذلك سأغضب، وصدقيني... أنتِ لا تريدين تجربة غضبي".
هزّت تيزيري رأسها بعنف عدة مرات ودموعها تهدد بالسقوط، حينها فقط أفلتها الزعيم أخيرا يعود لهدوئه كأن شيئا لم يحصل، في العادة من ينتقلون من عالمها لعالمه يتقبّلون الأمر بشكل بطيء... يستغرقون وقتا طويلا وأدلّة أكثر ليقتنعوا أنهم في عالم آخر حقا، لكن الصغيرة أمامه تقبلت الأمر بشكل أسرع... أسرع مما تخيله حتى، أرجع الأمر لكونها مراهقة ربما ولم ينضج عقلها بعد، ولم يرد التفكير في الأمر كثيرا.

***

وها هي مجددا في عربة خشبية تجرها خيول مع أكثر شخص يكرهها في هذا العالم، ومن قد يكون غير اكسيل.
كانت ملامح الاثنان تدلّ على الانزعاج... كل بطريقته، هي تعقد حاجبيها ويديها لصدرها بينما تنظر للخارج من نافذة العربة بعدما أبعدت ستارها الأرجواني جانبا، ترفض أن يكون المزعج صاحب القبضة الحديدية داخل مجال نظرها، بينما هو يعقد يديه لصدره كذلك لكن بحاجبين منفردين ونظرة هادئة... لا شيء يدلّ على انزعاجه سوى فكّه المتصلب وفمه المزموم إضافة إلى اهتزاز رجله اليسرى على أرضية العربة، كانا يبدوان كطفلين تشاجرا وتمت معاقبتهما ببقائهما جنب بعض بقية اليوم.

كانت العربة تمشي ببطء شديد استفز تيزيري المتعودة على سرعة السيارات، أيضا اهتزاز العربة المستمر بسبب أحجار الأرضية غير المستوية جعلها تنزعج أكثر. هي لا تعرف إلى أين يأخذونها ولا كم من الوقت سيستغرقون للوصول، أتسأله؟ ... أتسأل ابن العاهرة أمامها؟، ذاك الوقح عديم التربية الذي هدد باغتصابها هو ورجاله؟.
لم يكن تعنيفه لها ولا صفعه ولا حتى شتمه لها أكثر شيء جعلها تكرهه وتحقد عليه... بل تهديده باغتصابها، ألا يعلم أن التهديد بذلك وحده يؤلم أي امرأة مهما كان عمرها؟، أن يستخدم قوّته في إظهار ضعف من هم أقل منه قوّة، كتمزيق ازرار قميصها وكشف مفاتنها للرجال وجعلها تشعر بالدونية والاحراج، ألم كذاك يجعلها تتمنى بسببه لو أنها تستطيع قتل...
وهنا تذكرت تيزيري سبب وصولها لهذه النقطة أصلا فتضاربت الذكريات القريبة في رأسها....
-"لقد قيل لي أن المنزل فارغ ولا يسكن فيه أحد"...

-"من السيء لكِ أنكِ رأيتِ وجهي فهذا يجعلكِ غارقة في الامر دون رجعة"...

-"اوه، تريدين لعب لعبة الاختباء يا صغيرة؟، لكِ ذلك"...

ذكريات كهذه جعلتها تبتلع ريقها بصعوبة وترمش ألف مرة في الدقيقة في محاولة طردها من عقلها بفشل ساحق، تغيرت ملامحها من الغضب للخوف في تلك اللحظة وهي تتلمس رقبتها بيدها تحاول تهدئة نبض قلبها هناك. منذ لحظات كانت تشعر بألم قلّة حيلتها الجسدية تتمنى لو سمح لها أبويها بتعلم فنّ قتالي واحد على الأقل لتتمكن من الدفاع عن نفسها بنفسها بدل توفير حارسين شخصيين لها، والآن تشعر بألم الذنب الذي صاحبها ليلة البارحة دون توقف، ودون إرادة منها تذكرت كل محاولاتها للنجاة... تلك المحاولات البائسة التي دفعتها غريزة البقاء لفعلها، وفي الأخير لم تنجح سوى ردة فعل واحدة عشوائية في تخليصها من التهديد، لكن الثمن كان إزهاق روح بيديها، وكان ذلك الثمن غاليا جدا بالنسبة لفتاة مثلها... غاليا لدرجة انها لم تستطع تحمل تكاليفه لا ماديا ولا معنويا فلجأت لأول حل خطر ببالها... الهرب.
في النهاية قررت سؤال صاحب القبضة الحديدة أملا في تغيير دفة أفكارها قليلا:
-"أين تأخذني؟"، قالت ذلك بعد أن انحلت عقدة حواجبها وضمت يديها لحجرها تلتفت له وتسأله بهدوء.
-"إلى حيث طلب أمغار"، لم يتحرك شيء فيه ولا حتى إنشًا واحدا من جسده مما جعلها تظنّ أنها تحدث صخرة، جوابه يعني أنه لا يريد إخبارها ولو كانت في أحسن أحوالها لتشاجرت معه بسبب ذلك، لكن التفكير في الليلة الماضية أتعبها نفسيا لذا سألته بلطف ويأس وبنفس الهدوء:
-"أيمكنك إخباري كم سيستغرق الوصول إلى المكان على الأقل؟"، وهنا تقسم أنها لاحظت ارتخاء ملامح وجهه وشفته المذمومة للحظة فقط قبل أن يرجع لتصلبه كأنه لم يصدق أنه يمكنها التحدث بهدوء خصوصا معه، لكنه أجابها في النهاية قائلا:
-"حوالي ربع ساعة ونصل".

***

أول ما رأته تيزيري حين توقفت العربة بعد فترة كانت بوابة حديدية كبيرة سوداء مع نهايات مدببة حادة أعلاها، تم تعليق لافتة مكتوب فيها شيء ما بلغة لم تفهمها فخمّنت أنها حروف اللغة الأمازيغية، هي تجيد التحدّث بها بما أن أباها كان حريصا جدا على ذلك، لكنه أجّل أمر الكتابة والقراءة حين أدرك أن تعلّمها للغة العربية في وقت مبكّر كان أهم، تم تأجيل الأمر حتى تتعلم كتابة وقراءة العربية بشكل صحيح، ثم تأجيله من جديد لتتعلم الفرنسية، ثم الاسبانية بعدها... والآن باتت تدرك أنها لن تحظى بشرف تدريس أبيها لها من جديد بعد ما حدث.
خرجت من شرودها على صوت فتح باب العربة ولدهشتها كان اكسيل صاحب القبضة الحديدية من فتحه لها وهو ينظر للفراغ بهدوء، نزلت تيزيري ولم تشفى من علامات الصدمة بعد تحدق به كمن نبت له جناحين للتو... بل تمنّت لو نبت له جناحين حقا، على الأقل ستكون الصدمة أخفّ من خاصتها الآن وهي تراه يتحول من وحش غير مروض لرجل محترم ناضج.
لم تدم دهشتها طويلا فما إن دخلوا المكان واشتمّت رائحة الورود والأزهار المنعشة حتى قلّبت عينيها بملل حين أدركت سبب نبالته المفاجأة، كان المدخل عبارة عن حديقة كبيرة توزّعت فيها بعض الطاولات المستطيلة الخشبية مع بعض الكراسي والمضلات، هناك أين جلست بعض الفتيات اللاتي خمّنت تيزيري أنهن بنفس عمرها رغم أجسادهم الأكبر حجما ونضجا منها. توزعت بعض الشجيرات في المكان بعشوائية وكذلك الورود بكل الألوان الزاهية، تم وضع مزهرية من الفخار مليئة بالورود الحيّة في وسط كل طاولة هناك، كان المنظر مريحا للأعصاب بالنسبة لتيزيري.
علت شهقات الفجأة والتمتمة المكان، لاحظت تيزيري وقوف بعض الفتيات من مقاعدهن فقط ليتأكدوا مما يرونه، الهمسات كانت كلمة واحدة، بل اسما واحدا... الضابط اكسيل. جديا... هي لا تنكر وسامته ولا جسده المتناسق ولا حتى أن رتبته كضابط قد تغوي أي فتاة لتحاول التقرّب منه لكن بحق الآلهة انظروا لملامحه، يبدوا كشخص يريد قتلك قبل التعرّف عليك حتى، أليس هذا سببا مقنعا لتنفر الفتيات منه ويبحثن عن ضابط غيره لتجريب حظهن معه؟.
تقدم أكسيل يتجاهل كل ذلك نحو بوابة زجاجية للمبنى أمامها فتبعته وهي تنظر لانعكاسهما فيه بسبب ضوء النهار الساطع، كانت تكبره بثلاث سنوات إلا أن ما يظهر على انعكاسهما يدل على العكس، بالكاد يصل طولها لأعلى كتفه وتكاد تقسم انها لو مشت خلفه الآن لاختفى جسدها وراء خاصته بالكامل.
-"مرحبا بك في المركز سيد اكسيل"...
حقا؟ سيد؟، هذا ما فكّرت به تيزيري وهي تنقل بصرها بين المراهقة التي قالت ذلك بالأمازيغية واكسيل الذي توقف حين سمع صوتها، كانت الفتاة ببشرة حنطية وشعر أسود قصير يصل لما بعد فكّها بقليل مع تموجات خفيفة جميلة، أعين بنية داكنة زادت من جمالها وهي ترمش لاكسيل بحماس.
-"شكرا لك صوفينيا"، هذا كلّ ما نطق به اكسيل وهو يومئ للفتاة باحترام جعل الشفة العلوية لتيزيري ترتفع كردة فعل، لا يبدوا على هيأته أنه يجيد التمثيل لذلك الحد.
كانت صوفينيا ترتدي ككل الفتيات هنا تنورة تصل لركبتها بلون بني غامق مع قميص قطني أبيض، بدا المركز كما سمته صوفينيا كمدرسة من نوع ما.
لاحظت تيزيري أن قامة صوفينيا كانت بين قامتها هي نفسها وقامة اكسيل تؤكّد لها أنها أقصر انسان موجود على هذا العالم...  رائع حقا.
أحست بأنظار تصوَّب نحوها فرفعت بصرها لتجد صوفيا تنظر لوجهها بملامح لم تستطع تفسيرها، لم تكن تقيم مظهرها كما تفعل تيزيري بل شيء آخر لم تستطع فهمه... ربما للباسها الغريب أو لكونها غريبة عن المكان.
ابتعد اكسيل عن الفتاة يدخل البناية فتبعته تيزيري بعدما تمتمت بالوداع للفتاة بشكل لائق كما علمتها أمها دوما، وقبل أن تدخل لاحظت ما يشبه ساحة ألعاب روضة على الجانب الأيسر من البناية، كانت هناك مراجيح خشبية تتدلى هناك مع بعض الألعاب الخشبية المرمية على الأرض.
دخلت البناية وأول ما قابلها هو مكتب خشبيٌّ مرتفع في ممر ضيّق نسبيا وقد تم تعليق بعض الشمعدانات على جدرانه، وراء المكتب كانت هناك سيدة تومئ لاكسيل باحترام، لم تحتج تيزيري لمن يترجم ما كتب على القطعة الخشبية الموضوعة فوق المكتب لتعرف أنه مكتب استقبال. 
توسّع الممر بعدها ليصبح بهوا جميلا وسطه أرائك من الجلد البني الممتاز رغم رداءة تصميمه، أمام كل أريكة وضعت مائدات خشبية أيضا عليهم بعض ألعاب الطاولة مثل لوح شطرنج وناردي وكروت آسي دوسي كذلك وغيرها الكثير، وأيضا حمّالات شموع، الكثير من أرفف الكتب موضوعة على جدرانه. يتفرع من ذلك البهو الكثير من الممرات التي تم تعليق قطع خشبية مكتوب عليها بنفس اللغة الأمازيغية فوق كل مدخل لها، لكن تيزيري تعرف أنها لوحات توجيه.

بدأت عقل تيزيري يكون بعض التخمينات لماهية المكان لكنها رفضت التصديق تقنع نفسها أن الأمر مجرد صدفة، كل المباني والمؤسسات تحتوي على بهو بأريكة ولوحات إرشادية ولا يعقل ان يكون ما تخمّن فيه صحيحا.
ه

ناك الكثير من المؤسسات التي تعتمد أن تغرس أشجارا حول البناية لتخفيف الرياح، والكثير من المؤسسات التي تضع طاولات بمضلات في حديقتها مع الكثير من صناديق المهملات، الكثير من المؤسسات تضع لوحات إرشادية على كل باب وكل مدخل لتسهيل التجول على من يدخل البناية لأول مرة، ليس بالضرورة أن يكون المركز ميتما ليحتوي على كل هذا إضافة إلى بعض المراهقين بزي موحد.

***

كانت تلك الصغيرة تحاول حمل مكنسة البستنة بالشكل الصحيح والعمل بها، ومن الواضح جدا أنها أصغر من أن تستطيع ذلك. وضعتها أرضا حين أحسّت بألم في رأسها بسبب ربطة الشعر المشدودة كثيرا عليه، أرخت الرباط قليلا من على شعرها الفحمي الحريري والذي وصل لمنتصف ظهرها حتى وهي تمسكه على شكل ذيل حصان.
أعادت حمل المكنسة تحاول جمع الأوراق المتساقطة قبل أن تبدأ في نزع الأعشاب الضارة عن الحديقة، لحظات وسمعت وشوشة قادمة من باب البناية أمامها فألقت نظرة سريعة ناحيته فقط لتعرف من الموجود هناك دون أن ينتبهوا لها.
-"ألا تظنّين أنك قسوتِ عليها هذه المرة؟".
-"حقا؟، لقد أحدثت شقّا كبيرا في زجاج التلفاز الوحيد الموجود في هذا الميتم، مما يعني أنها منعتنا ومنعت زملاءها من مشاهدته لمدة أسبوعين على الأقل حتى يتم إصلاحه... وكل ذلك بسبب تركيزها المعدوم".
-"أعلم أنها تستحق العقاب لكن... هي تملك أسبابها، أعني... قلة تركيزها ليست شيئا تود هي الإبقاء عليه".
كانت المتحدثتان هما مشرفتان في دار الأيتام، إحداهما تبدوا في الثلاثينيات من عمرها وكانت أكثر المشرفين تفهما لحالة إفا الصغيرة، أما الأخرى فكانت في الخمسينيات من عمرها ولم تكن قسوتها تجاه الصغيرة أمرا شخصيا بل كانت كذلك مع الجميع.
-"أعلم... على الأقل تملك جانبا جيدا منها بسبب ذلك كما تعلمين، انظري لها وهي تنظّف بكل جهدها، متأكدة أنها لن تترك ورقة واحدة على الأرض كما عودتنا... من الجيد أنها ارتكبت حماقتها في وقت إجازة البستاني وإلا كنا سننظف كل هذا بأنفسنا".
سكت الاثنان بعدها وفكّرت إفا أن المشرفة الصغيرة ربما لا توافق الأخرى في الرأي لكنها فضّلت الصمت كونها أعلى رتبة منها، ويبدو أنه نفس تخمين المشرفة الكبيرة التي تابعت تدافع عن وجهة نظرها:
-"انظري للجانب المشرق، سنحصل على علاوة كوننا حافظنا على نظافة المحيط في غياب البستاني رغم أننا لم نحرك ساكنا حتى... سأحرص على أن يكون هذا عقاب كل من يخطأ حتى يوم عودة البستاني للعمل".
-"هل تسمعينني يا صغيرة؟".
خرجت تيزيري من شرودها على صوت رقيق يتحدث بلغة مخالفة عن لغتها الأم، وطبعا كانت اللغة الأمازيغية من جديد. رمشت عدة مرات تنظر للسيدة التي تحدثت وراء مكتبها فاحتارت وجالت بعينيها حول المكان، كانت تجلس على مقعد خشبيّ يقابله مقعد آخر يجلس عليه اكسيل بشموخ وينظر لها بهدوء وبينهما طاولة خشبية موضوع عليها كوبين من القهوة وقارورة ماء من الفخار. مالت برقبتها لليمين تعيد بصرها للسيدة الجالسة وراء مكتبها، كانت سيدة نحيلة ببشرة حنطية وشعر أسود تسرحه على شكل ذيل حصان منخفض بأناقة، لم تستطع تحديد طولها كونها كانت جالسة تنظر لها بقلق خفيف، لكنها متأكدة أنها أطول من كل نساء عالمها... فقط كالجميع هنا.
-"هل أنت بخير؟ ما اسمك صغيرتي؟".
لا تعلم متى وصلت لمكتب المدير الذي يحمل لافتة خشبية متأكدة أنه مكتوب عليه ذلك بنفس اللغة المتداولة، متى انجرفت بأفكارها لذكريات طفولتها البائسة؟، لكنها متأكدة أنها كانت غائبة عن الواقع منذ وقت طويل نظرا لكونها قطعت المسافة من البهو للمكتب وتمّ وضع القهوة أمامها ولم تنتبه لكل ذلك... مشكلة التركيز مجددا.
-"تيزيري آيت بعمران".
ليست تيزيري من نطقت بذلك بل كان اكسيل، أكمل حديثه بلباقة وهدوء وهو يوزع نظراته بين المديرة وتيزيري المقابلة له:
-"إنه اسمها من الآن، ويفضّل أمغار ألا يتمّ التعمق في حقيقتها أكثر، يجب أن يكتب ما أخبرتك به في تقريرها دون التعمق في التفاصيل".
رائع... لقد ناقشا كل أمورها أمامها ولم تسمع شيئا والسبب نفسه، لكنها متأكدة أن اكسيل لم يقل أقلّ ولا أكثر مما أمرها به ذاك الضخم الغاضب الذي ينادونه أمغار.
التزمت تيزيري الصمت وهي تستمع لاكسيل يطلب من المديرة أن يخصصوا لها جدولا مكثفا يناسب ما تعرفه وما يجب أن تعرفه لتخرج من هنا في أقل وقت ممكن وبأكبر رصيد معلومات ممكن يخوّلها العيش في القبيلة بطريقة آمنة مستقرّة دون الاعتماد على أحد. كانت ستفقد تركيزها مجددا لولا اليد التي مدّتها المديرة في وجهها تمسك ببعض الأوراق وهي تقول بابتسامة واسعة:
-"مرحبا بك في دار لالة ماتيا للأيتام".
ضرب قلب تيزيري في صدرها بعنف دون توقف وشعرت بشلل في أطرافها بينما قد سحب الهواء من رئتيها فجأة، رمشت عدة مرات بفم مفتوح وشفة مرتجفة تنظر لكل مكان تحاول تنظيم وتيرة تنفسها وتجاوز صدمتها، أمسكت بمسنديّ المقعد بكلتا يديها حين أحست بالأرض تدور تحت أقدامها. وحين أدركت الأمر شعرت بقرصة في حلقها وحرقة في عينيها ثم صرخت وهي تنظر لاكسيل بعيون غائرة:
-"ليس مجددا".

__«___{^_^}___»__

Ipagpatuloy ang Pagbabasa

Magugustuhan mo rin

142K 7.7K 18
"هيا هيا اسرعوا....انه قادم ....الرئيس قادم...بسرعة" صرخ احد الموظفون و الذي كان يراقب الطريق من النافذة حذرا من قدوم الرئيس فجأة ركض جميع الموظفين...
268K 15.8K 24
ميرابيل الفتاه الحزينة التي تتعرضُ للتعنيفَ من قِبل والدها المستبدِ السكيرُ طول أوقاتهِ وبعد سنوات من الإذلال و العُنف من قِبله ينتهي بها الأمر ف...
416K 23.4K 25
__________ جميعُنا نمتلك ذِكرى مؤلمة من الماضي موجودة في ثنايا ارواحنا ذكرى تجعل من المرء ينقبض قلبه ألمًا كل ما تمر على باله.. ولكن ماذا لو عاد الما...
82.3K 3.2K 33
اجابها ببرود " اعتذارك لا فائدة له...لن يغير اي شئ وفي هذا العالم... انت مضطرة للتعويض عن أخطائك " ___ زفرت بتعب ث...