الفصل السادس

958 32 0
                                    

الفصل السادس:

"أعلم أنك لم تُحبني..لكن لمَ الخيانة ريان؟!"

قالتها جنة بحرقة وهي تقف أمامه بشقتهما تناظره بعينين يغشاهم الدمع، لقد رآت إحدى العميلات وهي تكاد تسقط في أحضانه، كانت قريبة منه جدًا، إلى حد لم تصل إليه هي، ورغم غضبه إلا أن نظراتها إليه كانت وقحة، منفرة، أثارت اشمئزازها وأججت مخاوفها من فكرة أن يكون على علاقة بها، وبنفس الوقت كانت تردع حدسها وتقول أن الخيانة ليست من صفاته حتى شارفت على الانهيار، بينما قطب ريان متسائلاً بصلابة وهو متسع العينين في صدمة من سؤالها:
"أنا أخون؟!..كيف تجرأتي على قولها؟!"
استشرى ذعرها وتضخم الحزن بقلبها بسبب حقيقة زواجهم ويقينها ببرود مشاعره نحوها، فاستعرت نيران الشك بداخلها رغمًا عنها، وإنفجرت صارخة بألم ينهش قلبها:
"وماذا سأقول بعد أن بقت معك بالمكتب لتلك الفترة الطويلة وكانت قريبة منك لهذا الحد؟!..ونظراتها كانت..كانت.."
عجزت عن إرداف جملتها من هول قسوتها، كتمت شهقاتها بكفها ودموعها تهطل من عينيها كالسيل، ليزداد ألمه لدموعها التي لم تذرفها إلا بسببه، شقت صدره تنهيدة قوية وهو يدنو منها ليحتضن وجهها بكفيه، مُكفكفًا دموعها بطريقه، مخترقًا عينيها بنظراته الدافئة وأذنيها بنبرة أعظم دفئًا:
"لا تظلميني وافهمي ما حدث وقبلها امنحيني ثقتكِ جنة"
سكنت ملامحها وتسلل بعض الهدوء لنفسها وهي تومئ برأسها موافقة ليجذبها ريان خلفه حتى يجلسا متجاوران على الأريكة محاصرًا كفها الناعم بين يديه الكبيرتين، وبدأ يقول باختناق:
"تلك المرأة ليست مجرد عميلة بل كانت من أقرب زملائي في الجامعة وأيضًا طليقة أعز أصدقائي..كنت أكن لها الإحترام دومًا..لكنها أتت اليوم وصعقتني بأفعالها وصدمتني بحديثها"
هز ساقه اليمنى بإنفعال، أفلتت زفرة ساخنة من الأعماق، يحاول اصطفاء كلماته حتى لا يزيد من ألمها، فهو وعدها بالسعادة منذ زواجهم والآن أخلف وعده، بينما أخذ قلبها ينتفض بين أضلعها، واغرورقت عيناها بالعبرات حتى هتف بتوتر:
"قالت أنها تُحبني منذ البداية..وتزوجت بصديقي لأنه منحها الحب والاهتمام لكنها شعرت بالندم بعد ذلك وقررت الطلاق..وتشجعت بعد أن علمت بطلاقي لأميرة"
انحدرت دموعها غزيرة على وجنتيها، كما استعرت نيران الغيرة بنفسها، امرأة أخرى تغزلت بزوجها وصرحت بحبها له واقتربت منه أيضًا، وهي عاجزة عن ذلك حتى الآن وتطمر عشقها في أبعد عمق بوجدانها، وكان هو يرنو إليها بآسى، ثم طوق خصرها بذراعه ليزداد قربه حتى كاد يكون ملاصقًا لها، لامس وجنتها ليدير وجهها إليه، متسائلاً بصوت أجش وهو ينظر لعينيها:
"كل هذه الدموع بسببي؟"
ارتفع صدرها وهبط في عنف اثر قربه ولمسته، تخضبت وجنتيها خجلاً، تجمدت أطرافها، لكن رغم ذلك تشبثت بعنادها وبررت قائلة:
"أبكي من أجل كرامتي..الموقف بشع جدًا..يضيق صدري كلما تذكرته"
رقتها سلبته، أحس أنها طفلة بين يديه، تحتاج حنانه ومواساته فهبط بشفتيه على وجنتيها، يلتقط دموعها، لينتفض جسدها بأحضانه، تدب الرجفة بأعماقها، وحيائها يحثها على إقصائه لكن قلبها زجره وانتصر بالنهاية، ثم تسارعت نبضاته في جنون حينما أمطرت القبلات على وجنتاها وهو يهمس بحرقة:
"مهما كانت الأسباب لا أحب رؤية هذه العبرات"
أطبقت جفنيها بقوة مستسلمة لقبلاته ولمساته، لم يعد لديها ذرة من المقاومة، وقلبها يخفق معلنًا عن رغبته في مزيد من المشاعر، وتعاظم خفقانه حينما لامس شفتيها بشفتيه المحمومتين لتختلط الأنفاس، فصدح رنين هاتفه ليهبا من سكرتهم، وينهض ريان ليجيب على الهاتف، لبثت هي تلتقط أنفاسها باسطة كفها فوق صدرها، ما أن أنهى مكالمته حتى التفت إليها قائلاً بنبرة مختنقة:
"هذا معتز..يريد أن أعود إلى المكتب الآن"
استعادت نفسها، ونهضت لتسأله دون مواجهة عيناه:
"ماذا ستفعل مع تلك المرأة إذن؟"
لاحت على شفتيه ابتسامة حنون، ثم قبض على ذقنها ليقول بهدوء:
"سأفعل ما يرضيك ويرضيني جنة، هي نالت ما تستحقه مني اليوم ولن تطأ قدماها المكتب ثانية، لن أسمح لأي شخص أن يتسبب بحزن امرأتي"
هبط بشفتيه ليقبل عينها برقة وهمس بحب:
"لن تهدري دموعك بسببي مرة أخرى جنة، أعدك بذلك"
تسارعت نبضات قلبها حتى شعر بها وانتقل يقبل عينها الآخرى هامسًا:
"أسف"
ثم جذب كفيها ليغمرهما بقبلاته وهو يستأنف اعتذاره، ثم رفع عينيه إليها دون أن يفلت كفيها وقال:
"أسف جنة..يجب أن أعود للمكتب الآن"
ثم غادر المنزل بتلك المشاعر المتأججة بصدره، لم تعد لديه كالسابق، وقد ترك بعض من روحه معها، تاركًا إياها خلفه تكاد تصاب بالصمم من وقع دقات قلبها الهادر، هل كان حقًا يقبلها للتو!!.
*************
تقف أمام الخزانة تضع ملابسها وملابس صغيريها بحقيبة ضخمة مستقرة على الفراش، تبدد أمانها منذ ما فعله بشقيقته، تخشى على ابنتها من جبروته وترتعب من أن يرث ابنها قسوة قلبه، وبين كل هذا هناك قلب خائن لا تهدأ نبضاته إلا بين ذراعيه، لكنها أم وليست زوجة عاشقة وفقط، لا يمكنها التنازل عن مصلحة أطفالها مقابل حبها له، انتشلها من شرودها بسؤاله:
"ماذا تفعلين شفا؟!"
اضطربت نبضاتها عند استماعها لصوته، حاولت السيطرة على توترها وهي تلتفت إليه لتُجيبه:
"سآخذ صغاري وأذهب لمنزل والداي، نعم هو ليس بروعة منزلك، وسأبقى هناك وحدي أيضًا بعد وفاة أبي.. لكنه سيكون أكثر دفئًا؛ لن ترتعب براءة هناك من صراخك، وسيحترمها أخوها ويحبها بدلاً من أن يعاملها كجارية مثلك"
"ماذا؟؟!!"
قالها مستنكرًا والتعجب يعتلى ملامحه، لتقول مؤكدة بثبات زائف:
"سأرحل يا سهيل، ورجاءً لا تقف أمام رغبتي لأنني تحملت الكثير معك حتى نفذ صبري.. وأصبحت أخشى على أطفالي منك حقًا"
همست بجملتها الأخيرة بألم قوي، دنا منها والذهول يهيمن عليه، أهذه شفا التي كان يُناديها شفا الروح لرقة قلبها وتفهمها له!!
كيف تجرأت على قول هذا الحديث!!
سألها بمزيج من الدهشة والألم:
"كيف قلتيها!!، أهذا هو الوعد الذي قطعته على نفسكِ منذ زواجنا؟؟!!"
تعالت نبضات قلبها وهي تذكر وعودها وحبها له ببداية زواجهما، نعم أحبته ومازالت وستبقى حتى أخر رمق لها، لكنه لم يترك لها خيار أخر، فكورت قبضتها بقوة وهي تقول بألم يكوي روحها:
"لم أفكر أن أخلف وعدي من قبل.. لكنني سأفعل رغمًا عني.. لا أستطيع البقاء معك بعد ما فعلته بأختك"
تحيرت العبرات بمقلتيها وهي تردف:
"لا أريد رؤية براءة مكانها"
أحست بقلبها ينشطر إلى نصفين وهي تهمس والعبرات تتخذ طريقها إلى وجنتيها:
"طلقني سهيل"
خفق قلبه بعنف، لكن يتركها مهما حدث، ستبقى معه لنهاية العمر، هي خلقت من أجله ولن يفلتها من بين يديه، فقال بحزم:
"مستحيل شفا.. أعيدي الملابس للخزانة وامحي هذا السخف من رأسك"
وكان الرد تلك المرة ليس لها أو له، لكن للصغير الذي صدح صراخه بالغرفة، لتركض شفا نحوه، تحمله بين يديها، وتصطدم بحرارته المرتفعة لتصرخ قائلة بهلع وهي تنظر لسهيل:
"حرارته ارتفعت من جديد ماذا أفعل؟"
بدا القلق على وجه سهيل وأخذ الصغير منها ليتحسس جبهته، لتتسع عينيه في فزع، ويقول بلهجة آمرة:
"ارتدي ملابسكِ فورًا حتى نذهب للمشفى"
************
كانت تقف مجاورة لزوجها بأول معرض لأعماله، والبهجة تشرق وجهها وهي ترى انبهار الزوار بلوحاته، قلبها يتراقص بين أضلعها لتلك الابتسامة التي تعتلي ثغره الآن، لقد تقربا كثيرًا في الأيام التي سبقت المعرض، فعلت كل ما تستطيع حتى تنهيه بأسرع وقت ممكن فقط لأجل هذه الابتسامة، بينما هبط هو هامسًا بأذنها محتضنًا كفها بكفه بتملك:
"هل ازداد جمالكِ الليلة؟"
توردت وجنتيها وأطرقت خجلاً ليشدد على كفها في إصرار:
"هيا.. اجبيني"
رفعت عينيها إليه لتجيب بعشق يفعم قلبها:
"هذا فقط لأنني أرى السعادة تحتضن ملامحك"
هذا المعرض لم يتم إلا بمجهودها هي اولاً، أصرت وفكرت ونسقت حتى تم، بثت السعادة بنفسه، لم تترك يده بل تشبثت بها بكل قوتها، هونت عليه حزنه من معتز الذي أبى حتى الاجابة على اتصالاته، أشرقت الآمل بداخله، هي حقًا جنة، رنا إليها وهو يهمس بنبرة ممتنة :
"أنتِ السبب في سعادتي جنة"
هل ما سمعته حقيقي؟؟!!، أهي سبب سعادته؟؟!!، أنارت الابتسامة وجهها وهي تسأله بحماس طفولي :
"حقًا ريان حقًا؟؟..أأنا سبب سعادتك؟؟!!"
هبط إلى أذنها ليتساءل بحرارة :
"أنتِ لا تعلمين تأثير هذه الابتسامة عليّ..أليس كذلك؟؟!!"
"لا"
قالتها وهي ترفع كتفيها بجهل بعد أن عقدت حاجبيها للحظات، فاستقام بجسده ليجيب بنبرة مسيطرة :
"سأشرح لكِ باستفاضة عندما نصل لبيتنا"
وبتلك اللحظة وصل كلاً من نيار وحور وعهد ليهنئوا شقيقهم وذهب إليهم حتى يرحب بهم دون أن يفلت يدها، وما هي إلا ثوان وتعالت ضحكاتهم المرحة بالمعرض، وبعد فترة ليست بقليلة وصل ريان وجنة لمنزلهما، والتفتت إليه لتقول بابتسامة هادئة :
"مبارك على المعرض ريان..كانت ليلة رائعة..تصبح على خير"
جذبها ريان من كفها بقوة حتى كادت تصطدم بصدره، قائلاً بنبرة غريبة :
"لكنني لا أريد النوم..سنسهر سويًا"
تعجبت من طريقته، قالت بإعتراض وهي تهرب بعينيها :
"لكنك لديك عمل بالصباح و.."
قاطعها بحزم :
"شششش..الإعتراض مرفوض تمامًا"
جذبها خلفه ليدخلا إلى المرسم ثم أغلق الباب تحت نظراتها المتعجبة، وقف أمامها قائلاً :
"هنا عالمي جنة..أضيع فيه وأبثه همومي وأوجاعي..لم أدخله من قبل إلا وخرجت مرتاح البال وكأن الحزن لم يمر عليّ..كنت أظن أن هذا الشعور لن أجده إلا بين هذه الجدران..لكنكِ زلزلتِ ثوابتي..بعد أن أصبحت لا أجد راحتي إلا بحديثكِ..أشعر بغبطة تجتاحني كلما أبصرت ابتسامتكِ..كلماتكِ تطمئني..تحثني على التقدم..تهون أحزاني..حياتي تغيرت منذ دخلتيها..حتى أنني لم أعد أعرف نفسي..لكن ما أعرفه خير المعرفة أنكِ لحظة سكون اخترقت حياتي وسط الضجيج..ونور بدد عتمتها..أو باختصار أنتِ جنتي على الأرض"
راودت العبرات أجفانها وتراقصت ابتسامة مرتعشة على ثغرها، كلماته تسربت إلى أعماقها، أكل هذه المشاعر تخصها وحدها؟؟!!، ريان العربي حلمها بعيد المنال أمامها الآن ويخبرها بمدى تعلقه بها وقيمة وجودها بحياته، واقترب منها ايضًا، يزيل عنها حجابها برفق ويفك أسر شعرها ليتحرر على كتفيها ويستنشق الهواء، طوقها بذراعيه بقوة كاد يدخلها بصدره ويغلق ضلوعه عليها لتتلاحق أنفاسها لاهثة وتنصهر دموعها المتحجرة، وغرز أنفه بخصلاتها ليتشمم سحر رحيقها، أخذت المشاعر تصطخب في صدرها، وتفاقم صخبها حينما نثر قبلاته على عنقها طلوعًا لوجنتيها واستقرت شفتيه بالنهاية فوق شفتيها، لينهي صراع دام لأسابيع، نعم يريدها زوجة له بكل ما تعنيه الكلمة، هي الشعلة التي أنارت نفسه المظلمة ولم يعد يحتاج سواها بينما كانت هي هائمة كالفراشة بأحضانه، قلبها يحثها لترتشف من تلك العاطفة حتى الارتواء.
*********
أطبقت جفنيها بصعوبة بعد عودتها من المشفى، الإنهاك يتملك من جسدها بصورة مفزعة، فهي بقت ليوم كامل هناك بصغيرها يحيى ولم تعد إلا الآن، وحتى النوم تعجز عن الاستسلام إليه من هول خوفها على الصغير لكن قال سهيل مُطمئنًا وهو يربت على كتفها بحنان :
"نامي..أنتِ تحتاجين للراحة..وأنا أيضًا سأنام وإذا استيقظ سأهتم به"
خارت قواها والقت برأسها جوار يحيى على الفراش ولم تستيقظ إلا بصباح اليوم التالي وألم قوي يستحكم قلبها لتحمل يحيى على ذراعها بلهفة، وتتحسس جبهته بظهر كفها حتى اصطدمت ببرودة شديدة، فاستشرى ألم قلبها وتسارعت نبضاته، شحبت بشرتها وأخذت توجه ضربات خفيفة لوجنته وهي تهتف بصوت ضعيف ارتفع رويدًا رويدًا:
"يحيى يحيى..افتح عينيك يا ابني"
تجمعت العبرات بمقلتيها، وهي تتوسله بشدة:
"لقد ذهبت الحرارة حبيبي..أنت شفيت من المرض..فهيا افتح عينيك وكفاك دلالاً على أمك"
تحررت العبرات لتكوي وجنتيها كما كوى الألم قلبها وهي تهمس بضياع وصعوبة:
"تدلل بعد ذلك كما تشاء لكن افتح عينيك يا نور عيني..هيا..لا تحرق قلبي"
أمسكت يده الصغيرة لتقبلها بقوة وجسدها ينتفض على الفراش:
"هيا حبيبي"
وهبطت باذنها إلى صدره بموضع قلبه لتتسع عيناها على محجرايهما، وتنحدر الدموع بلا رادع، وتخيم الصدمة على ملامحها مع خفقات قلبها القوية، اعتدلت لتحرك رأسها رفضًا في جنون قائلة ط:
"لا هذا لم يحدث لا، افتح عينيك، ابك هيا لكن لا تصمت هكذا"
احتضنته بقوة وهي تتحرك بجسدها للأمام وللخلف وتهمس وشهقاتها تتعالى بصورة مروعة :
"ابك يا يحيى، لا تحرمني من صوتك يا ابني، ابكي أرجوك"
ثم عادت تتوسله بنبرة خافتة ضائعة :
"لا تتركني..لم اشبع منك حبيبي..لا تترك أمك يا يحيى..أرجوك يا ابني أرجوك"
ودلف سهيل الذي وصل للمنزل للتو ليصطدم بهذا المشهد المؤلم، انتفض قلبه داخل صدره في خوف، ثم اقترب وهو عاقد الحاجبين يتساءل في ريبة:
"ماذا هناك شفا؟؟"
لتهمس بصعوبة شديدة:
"يحيى لا يفتح عينيه ولا يبكي..لا أعرف ماذا حدث له"
احتلت الصدمة ملامحه وتفاقم انتفاض قلبه ثم قال بهدوء زائف وهو يمد كفيه:
"أعطني إياه"
شددت من احتضانها إليه بكل ما استطاعت من قوة وكأنه سيسلب منها روحها، رمقته بنظرة قاسية قائلة بغضب:
"لا..لن يأخذه أحد مني..ابتعد"
ازداد الخوف بداخله رغم أنه ينفض عن رأسه جميع الأفكار السيئة، وحاول أخذ الصغير عنوة ليتعالى صراخ شفا إلى حد الجنون حتى فقدت وعيها وأدرك سهيل أن الله استرد أمانته.
..
وسقط الخبر كالصاعقة على رأس جنة، وسافرت مع ريان على الفور إلى البلدة لحضور العزاء دون أن تفكر للحظة بما حدث مع أخيها، وما أن وصلت حتى دلفت لغرفة شفا لتجدها تجلس متربعة فوق فراشها وملابس الصغير تحاصرها ومنهم قطعة احتضنتها بقبضتها تتشممها بينما أحست جنة بألم طاحن يفتك قلبها، ابتلعت غصة مؤلمة، وهمست بصعوبة:
"شفا"
لتنظر إليها بعينين حمراوتين مغرورقتين بالدموع، ووجه ذابل، كامد، يحتل الألم كل إنش به، وشفتان همستان رغم رجفتهما:
"جنة"
جرت الأخرى قدميها نحوها، رفعت شفا قطعة أخرى من الملابس أمام عينيها قائلة بصوت تقطعه الشهقات والعبرات:
"انظري هذا قميص يحيى كان يرتديه عندما ذهب للمشفى"
وقطعة أخرى تبعتها:
"وهذا يوم ولادته"
نظرت لهذه القطعة لتقبلها، وتزداد دموعها ورجفة جسدها وانصهرت العبرات من مقلتي جنة وهي ترمقها بحزن لتهمس شفا بضياع:
"وضعوه بحضني وقالوا رُزقتِ بصبي جميل"
رنت لجنة مسترسلة بابتسامة أليمة من بين دموعها :
"هو كان جميل يا جنة..جميل جدًا..لكنه ضاع مني..ضاع للأبد"
فقدت جنة المتبقي من صبرها وجلست أمامها لتضمها وهي تبكي بقوة، وتقول الأخرى بنبرة غريبة وهي شاخصة ببصرها إلى الفراغ:
"يحيى يريدني"
تسارعت نبضات جنة في قسوة وهي تشدد من عناقها، حتى باتت لا تعلم هل تبث أوجاعها بحضنها أم تهون مصيبتها!!!، كل ما تعرفه بتلك اللحظة أن كل جارحة بها تكتوي وجعًا، بينما ابتعدت شفا لتقول بألم ينهش قلبها:
"انتشلوه من حضني ووضعوه وحده بالظلام"
استرسلت وهي تشير إلى إحدى أذنيها:
"بكائه يخترق أذناي..هو خائف"
نهضت من على الفراش رغم الدوار الذي اجتاحها، لكنها يخيل إليها أنها تسمع بكائه حقًا وأنه يحتاجها، روحها تحترق شوقًا والمًا، وعقلها توقف عن التفكير، لتسير نحو الباب وتنهض جنة لتقف أمامها، فتحاول الأخرى دفعها قائلة:
"ابتعدي..سأذهب لابني..ابتعدي"
صرخت بكلمتها الأخيرة بجنون، وهي تحاول دفعها بكل قوتها، ثم دلف سهيل للغرفة بوجه يظلله الحزن وعينان سلبت منهما الحياة، قال بهدوء لم يكن إلا من هول انهاكه :
"اتركينا جنة"
ألقت جنة نظرة أخيرة عليها ثم غادرت الغرفة وهي تضع كفها فوق شفتيها لتكتم شهقاتها، رنا سهيل لزوجته بحزن، هي تشاطره الألم، تتعذب مثله، لكن وجعها زاده دمارًا، وتفاقم الوجع حينما سألته من بين دموعها وهي تناظره بغضب :
"كيف تركته وحده بالظلام سهيل؟؟!!..ألم يؤلمك قلبك؟؟!!"
وصرخت بوجع يكاد يُهلكها:
"كيف أجبني؟؟!!..كيف؟؟!!"
أخذت تضرب صدره بقبضتيها بعنف وتركها تفعل ما تشاء وهو يحاول التماسك حتى خارت قواها وأسندت جبهتها إلى صدره لتبكي بحرقة هامسة:
"أريد ابني"
طوقها بذراعيه بشدة، وكأنه يريد أن يدخلها بين أضلعه، وأخذ يهدهدها وهو يهمس لنفسه بأسى"لم اتركه يا شفا أنا دفنت قلبي معه"
تعالت دموعها وشهقاتها ليحس بقلبه يكاد يتوقف من هول عذابه وعاد يهمس لنفسه"أنا ايضًا لم أشبع منه..لقد كنت أتوق لرؤيته يكبر أمام عيناي يومًا بعد يوم..هو لم يكن مجرد ابن بل حلم رافقني لسنوات..وها هو ضاع وأضاعني"
انحدرت عبرة خائنة على وجنته، نعم بكى حزنًا على فراق صغيره الذي لم يشبع منه، على حلم ضاع، على حبيبته التي ذبلت أمامه في غمضة عين، على جرح سيتعمق بروحه حتى يُفنيها.
..
بعد مرور أكثر من شهر

أحبك في صمتي(مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن