الفصل الثالث

892 36 0
                                    

الفصل الثالث:

هل يمكن أن نحيا دون هواء؟!، بالطبع لا، فكيف أتحمل البقاء مقيدة، أسيرة، مسلوبة الإرادة؟!، أكنت أنتظر هلاكِ دون مقاومة؟!، أم ألقي نفسي بين ذراعي رجل ينقبض قلبي لرؤيته؟!، أم انتشل حريتي رغمًا عن طغيانه كما فعلت؟، أعلم أنني مخطئة لكن لست أنا من يستحق اللوم بل من قبض على عنقي بأنامله القاسية حتى كاد يزهق روحي.
تصارعت تلك الأفكار بخلدها وهي تجلس على أحد المقاعد بمحطة القطار، والبرد ينخر عظامها، وأعين الرجال تحاصرها كصقور تتأهب لاصطياد الفريسة، أطرقت هربًا وخوفًا، أمسكت حقيبتها التي تحوى كل أموالها ومصُوغاتها وما استطاعت جمعه من ملابس قبل هروبها من المنزل ورفعتها فوق ساقيها بصعوبة نظرًا لثقلها ثم ضمتها بقوة لتبثها هلعها.
"جنة"
اخترق ندائها الدافئ مسامعها، لتلتفت إليها برأسها، ترمقها بغبطة غريق وجد مُنقذه، ألقت الحقيبة على المقعد ونهضت والإعياء يخيم على ملامحها، وقفت صديقتها ترنو إليها بدهشة، أهذه الذابلة الشاحبة تكون جنة الشقية المُشرقة؟!، انقبضت ملامحها ألمًا، همست باسمها بحزن قبل أن تجذبها إليها في عناق قوي، قائلة بهدوء ليتسلل الأمان للأخرى:
"كل شيء سيكون أفضل، لا تقلقي"
ثم إبتعدت لتحمل الحقيبة متسائلة بضيق:
"لكن لماذا أغلقتِ هاتفِك؟!، كدت أموت قلقًا وأنا ابحث عنكِ"
اجابتها وهما يكملا سيرهما:
"كسرت شريحة الهاتف بعد خروجي من المنزل لذلك حادثتك من هاتف تلك السيدة"
"حسنًا، هيا لنرحل"
صمتت قليلاً، هي لجأت إليها لأنها صديقتها المقربة وبسبب ظروفها المناسبة لها، فهي تسكن بمنزل جدتها المريضة بعد وفاة أمها وزواج والدها، لكن أيضًا كان بداخلها بعض القلق فتساءلت قائلة:
"ماذا قلتِ لجدتكِ؟؟"
"قلت أنكِ تخرجتي بالعام الماضي من الجامعة وستظلي بالمدينة وتبحثي عن عمل ومنزل وعندما قلت ذلك قالت ليّ على الفور أن تبقين معنا لفترة حتى تستقر أوضاعك، لكنها تظن أخاكِ يعلم بكل شيء، انتبهي لذلك"
أومأت برأسها ثم أضافت سما مطمئنة:
"ولا تقلقي جدتي قليلة الكلام، ولا تغادر غرفتها إلا لمامًا"
"فهمت"
قالتها جنة بهدوء رغم القلق الذي يفعم روحها مما هي مقبلة عليه بالأيام القادمة.
*************
"هربت"
صاح بها سهيل في غضب جارف انتفض جسدها اثره، وتفاقمت صفرة وجهها، بينما أخذ هو يذرع الأرض جيئة وذهابًا والدماء تغلي بعروقه وصدره يعلو ويهبط في عنف، حبات العرق بدأت تنبت على جبينه، كيف هربت؟!، ومن أجل من؟!، وأين ذهبت؟!، بالتأكيد شفا لها يد بهذا، توقف ليواجهها بعينين تقدحين شررًا ساحقًا ذراعها بقبضته وهو يسألها بشراسة:
"أساعدتيها على الهرب؟!"
تأوهت المًا مطبقة جفنيها بقوة لتنحدر العبرات غزيرة على وجنتيها، أيظنها امرأة سيئة لتساند أخته على الهرب وتدفعها لطريق مظلم تغمره الأشواك؟!، أيظنها فاسدة لتجعله محل سخرية لرجال البلدة؟!، رنت إليه بعينين خضراوتين حمراوتين تصرخان وجعًا، تساءلت بألم يكوي قلبها:
"أهذه هي الثقة يا سهيل؟، أنا أخون الأمانة!"
لم ترتخ ملامحه بل استشرت صلابتها، وقال في مكر:
"لم تقصدي إيذاءها بالطبع، لكنك ظننتِ أنكِ تنقذيها هكذا، أو من المتوقع أن تكون توسلتكِ لتفعلي"
سألها وهو يخترق عينيها بنظراته القاسية وكأنه ينتشل كذبها منهما:
"أهذا ما حدث أليس كذلك شفا؟!"
"أجبيني؟"
صرخ بها في جنون حينما لم تجب ليختلج جسدها بقوة ويزداد انهمار دموعها، أطرقت وهي تهز رأسها رفضًا هامسة بنبرة متحشرجة:
"لم يحدث، أقسم لك لم يحدث، ارحمني"
قالت كلمتها الأخيرة بصوت يمزق نياط القلوب، ليحرر ذراعها من آسره ويمسح وجهه بخشونة، متنهدًا بقوة قبل أن يهدأ صوته وهو يتساءل بحيرة:
"إذًا كيف خرجت والباب موصد؟!"
رفعت رأسها لتجيبه في توجس:
"فتحته منذ رحيلك"
ثم استطردت مبررة:
"كانت ستموت إذا ظلت بالغرفة"
أحمر وجهه وهو يهتف بشراسة قابضًا على كتفيها بقوة راججًا جسدها بقسوة:
"موتها أهون من العار الذي جلبته ليّ، أنا أحملك الذنب كاملاً"
اخترق صراخه أذنيها، وكان وقع كلماته بنفسها قاسيًا ومؤلمًا، أهي من أضاعت مستقبلها وأذاقتها ألوان العذاب؟!، أهي من حاولت إرغامها على رجل أثرت عذابها على زواجها منه لتحمل ذنبها؟!، استجمعت شجاعتها لتصرخ بمزيج من القهر والألم:
"لا لست أنا من آسرتها وأهنتها وسلبتها أملها الأخير لتحملني ذنب لا يخص سواك، أنت من أوصلتها لهنا يا سهيل بفظاظتك وجبروتك، انتهزت الظروف وبرعت في تحطيمها وكأنها ليست شقيقتك الصغرى، أمانة والداك، أخبرتك أن تحتضنها وتنفض الغشاوة عن عينيك، لكنك استرسلت في قسوتك"
أحست بقدميها تتراخى فانهارت متهاوية على أحد المقاعد، وأردفت بهمس تقطعه غصات متألمة:
"حتى أضعتها، أضعت جنة يا سهيل، أضعتها"
وقف ثابتًا كالجبل لم يرمش له جفن، وكأن الشفقة ضلت طريقها لنفسه.
وبعد لحظات هتف بنبرة لا حياة فيها قبل مغادرة المنزل:
"سأبحث عنها حتى أعيدها يا شفا ولن يرحمها أحد مني وقتها"
هزت شفا رأسها في حسرة وهي تهمس "سنضيع بسببك جميعًا يا سهيل"
************
طرقة
اثنان
ثلاث
وفتحت سما الباب والابتسامة تعتلي ثغرها، لكن سرعان ما اندثرت بسبب الضيق الذي يتموج على وجه جنة، فهي منذ عدة أيام تغادر المنزل بالصباح بحثًا عن عمل وتعود وخيبة الأمل تغطيها.
قالت وهي تدلف للشقة:
"لا فائدة"
ارتمت على الأريكة تلتقط أنفاسها بعد أن القت حقيبتها جوارها، أغلقت سما الباب وجاورتها واضعة إحدى ساقيها أسفل جسدها، قائلة في رقة:
"لا تحزني، ستجدين عمل جيد قريبًا، كل شيء بالحياة يحتاج إلى الصبر"
أومأت جنة برأسها دون أن تلتفت إليها من شدة انهاكها، وساد الصمت لعدة دقائق حتى بددته بصوتها المتوجس:
"تعلمين أن اليوم كان نهاية الاختبارات"
نظرت إليها لتومئ برأسها، هاتفة بحرج:
"نعم أعتذر لأنني لم أسألكِ عنه من شدة تعبي، هل كان جيد؟"
"نعم، لكن هناك شيء أخر، دعينا نتحدث بغرفتي أفضل"
قالت جملتها الأخيرة وهي تنظر بقلق لغرفة جدتها، انتقل لجنة لتنهض معها، وما أن دلفا لغرفتها حتى واجهتها بنظرة مستفهمة لتجيب الأخرى على سؤال لم ينطق:
"أتى اخاكِ للجامعة اليوم وسألني عنكِ"
تسارعت نبضات قلبها خوفًا، ازدردت ريقها بصعوبة قبل أن تسألها بتوتر احتل نبرتها:
"وماذا قلتِ له؟"
أجابت مطمئنة:
"أخبرته أنني لم أحادثكِ منذ عدة أسابيع"
تسرب إليها قليل من السكون وهي تومئ برأسها قائلة:
"جيد"
ثم خلعت وشاحها، جلست على حافة الفراش لتخلع سترتها فسألتها سما في إهتمام:
"هل ستعيدين الكرة غدًا؟"
"لا، وجدت بالأمس إعلان على الإنترنت عن مساعدة متفرغة لمكتب ديكور، وسأذهب غدًا للمقابلة"
قالت جملتها الاخيرة وهي تريح معظم جسدها على الفراش ناظرة للأعلى بأمل، مقابلة الغد يمكنها تبدده أو تجدده.

أحبك في صمتي(مكتملة)Where stories live. Discover now