الفصل الخامس

903 36 0
                                    

الفصل الخامس:

جالسة خلف مكتبها هائمة بين سطور إحدى الروايات، والمشاعر تصطخب بصدرها، تأثرًا بأحزان البطلة وآلامها، فهي مثلها احترقت بعشق صامت لسنوات، انتظرت وتألمت واكتوت بنيران الغيرة ولم يتبدد الحب بقلبها، وكأنها خلقت حتى تهواه، أجفلت على سؤال ريان:
"هل سنبدأ درسنا الآن؟"
وضعت الرواية على سطح المكتب واعتدلت بمقعدها لتمسح عبرة علقت بأهدابها وتوميء برأسها موافقة، بينما قرأ هو الإسم الذي يزين غلاف الرواية ثم أشار بسبابته قائلاً:
"رواية جيدة لكنها لم تقنعني بشكل كافي"
سألته بنبرة ظهر بها إعجابها:
"هل تقرأ الروايات؟!"
"أحيانًا"
قالها وهو يجلس على المقعد لتسأله بمزيج من الإهتمام والفضول:
"ولماذا لم تقنعك هذه الرواية؟؟"
عقد حاجبيه متعجبًا وهو يتساءل:
"أهناك حب يبقى ويزداد رغم الصمت؟!"
همس قلبها في صدق"نعم سيدي..أنا أحببتك في صمت..دون آمل..اكتفيت بسعادة تغمر نفسي لرؤياك..واحتضنت ذكريات جمعتني بك..وسكنت روحي لابتسامة تلوح على ثغرك..ورغم ذلك بقيت أعشقك بكل جوارحي"
بينما همست شفتاها وهي تذوب عشقًا بعينيه:
"نعم"
ذكر عذابه مع أميرة، هو أفصح عن عشقه وهوسه بها بكل الطرق وبالرغم من هذا لم يذب جليد قلبها، وامتصت صبره وحبه بالتدريج حتى نفدا ولم يبق سوى الأوجاع.
سألها في تعجب:
"هناك عشاق يفترقون لمجرد اختلاف..فكيف يستمر حب تلك الصامتة مع الألم؟!"
تعجبه نقش الحزن على ملامحها فقالت في انفعال:
"إذا كان حبهم صادق لما كانوا سمحوا للفراق بالتسلل بينهم"
استرسلت بصوت يموج الألم بمقاطعه:
"لكن تلك الفتاة أحبت دون تفكير أو إرادة..لم تآمل شيئًا من هذا الحب..لأنها لم تختره..هو اخترق قلبها دون إنذار..وهي استسلمت له بكل كيانها..تحملت قسوة الصمت وجحيم الغيرة دون أن يتناقص عشقها..فأيهما أصدق؟؟..من تشبث بالعشق رغم الصمت أم من أرخى الخيط الذي يوصله بمن يحب؟!"
قالت سؤالها الأخير بنبرة أكثر حدة ليعقد حاجبيه في حيرة، يجهل سبب انفعالها هذا، لا يعقل أن تدافع عن شخصية خيالية بهذا الإخلاص، سألها بدهشة:
"لمَ هذا الغضب؟!..هي مجرد رواية!"
"لأنها تجسدت بداخلي وعشت معها مشاعر الفرح والحزن..بكيت وابتسمت..وضعت مع البطلة"
قالتها ببساطة ليشعر بمدى سخافته، فهو لم يقصد السخرية من رواية أحبتها، هو فقط تعجب من حب البطلة واخلاصها، أجفل حينما قالت وهي تنهض:
"سأعد القهوة قبل أن نبدأ"
"انتظري"
قالها للتوقف وهي مولية إياه ظهرها، ونهض هو الأخر ليهتف بصوت رخيم:
"حب البطلة أثار إعجابي وتعجبي أيضًا..ولم أعترض سوى على الألم الذي عاشته..لآن هذا النوع من الحب يجلب المتاعب..لكنكِ محقة هو أصدق وأطهر حب لآن الانانية لم تكدره وتماسك رغم الظروف"
ارتعش قلبها بصدرها، احتلت الراحة ملامحها لكلماته، وقبل أن تكمل سيرها أوقفها ثانية قائلاً بابتسامته الخلابة:
"لم أركِ ترتدين الفساتين من قبل"
جزت على أسنانها بقوة هي لم تعتد على إرتداء الفساتين بسبب قصر قامتها وشدة نحافتها، كانت تجربة سيئة ولن تعيدها بعد ذلك، التفتت إليه لتقول بضيق:
"سيء أليس كذلك؟؟..هو لم يعجبن"
دنا منها ليقاطعها بنبرة مسيطرة:
"هو قمة في الرقة"
لبثت تنظر إليه بذهول ونبضات قلبها تكاد تصم أذنيها، ثم بللت حلقها لتقول بصعوبة ووجنتان يضجان بحمرة الخجل:
"شكرًا لك"
تبخرت من أمامه وبعد قليل استمع لصوت شيء يتحطم بالمطبخ تبعه صرخة فقاده قلقه إليها، ليجدها جالسة على إحدى ركبتيها مطرقة الرأس وهي تعض على شفتها السفلى في ألم وقطع الزجاج متناثرة أمامها وملطخة بدماء لم تكن إلا من يدها المجروحة، فقال بلهجة آمرة:
"اتركِ ما تفعليه فورًا وانهضي"
نفذت طلبه وذهب هو إلى الحمام ليفتح خزانته ويتناول منها قطع من القطن وزجاجة من المطهر، ذهب إلى المطبخ، ليقبض على معصمها ويبدأ بتطهير جرحها، فدبت الرجفة بأوصالها، وبدا تنفسها واضحًا بسبب علو وهبوط صدرها، تصاعدت الدماء إلى وجهها، أرادت أن تجذب كفها وترحل لكنها عجزت عن الحركة، وكأن الزمان توقف بتلك اللحظة لتبقى ضائعة هكذا، حتى تلاقت أعينهما وهو يقول مؤنبًا:
"كان يجب عليكِ أن تنتبهي حتى لا تجرحين نفسكِ هكذا"
تفاقمت نبضاتها إلى حد الجنون، قربه يكاد يُذيبها، لكن هذا ليس إلا جرمًا، كل الحب المختزن بقلبها خطأ تمادت به، نست من يكون، انجرفت خلف مشاعرها دون وعي، ألغت حسابات العقل وتركت قلبها يسقطها بهذا الفخ، أفاقت من غفوتها لتجذب كفها بعنف قائلة بحدة:
"لم يعد لدي رغبة بدرس اليوم..أريد الذهاب"
عقد حاجبيه بحيرة متسائلاً:
"انتهى عملكِ اليوم ويمكنكِ الرحيل بالطبع..لكن لماذا؟!"
"أشعر ببعض الإرهاق"
قالتها قبل أن تخرج من المطبخ، وتغادر المكتب كله متجاهلة تحية معتز الذي وصل عند خروجها، وما أن وصلت لمنزل سما حتى سجنت نفسها بغرفتها، ما كان يجب عليها أن تستسلم لمشاعرها نحوه وتقترب منه إلى هذا الحد، هي لم تعد تتحمل هذا الذنب الذي يكوي روحها، فاقت من شرودها عند دخول سما التي وقفت ترمقها بمزيج من الضيق والحيرة، متسائلة بحدة:
"هل يمكن أن تخبريني بما يحدث معك؟؟"
رنت إليها بعينين كسيرتين، هامسة بضعف ضاري:
"إني أموت سما"
جلست قبالتها على الفراش لتتساءل بلهفة:
"ما الأمر؟!"
اقتربت منها لترتمي على صدرها، وتنهمر دموعها كالسيل على وجنتيها وبدأت تسرد عليها قصة حبها لريان منذ أن قابلته بدورة الرسم حتى ما حدث اليوم، لتهمس سما بصدمة:
"أتحبيه!!"
قالت بصوت تقطعه الغصص الموجعة:
"نعم أحبه..ولم ولن يسكن قلبي رجلاً سواه..ابتسامته تنير دربي وحزنه يضني نفسي.. وأعلم أن مشاعري ذنبًا وقربي منه جرمً لا يغتفر"
استرسلت متسائلة بتوسل وهي تقبض على كتفيها:
"لكن اخبريني يا سما ماذا كنت سأفعل وأنا أراه حزينًا والألم يسلب جزء من روحه مع كل يوم يمر؟!..كيف كنت استطيع تقليل أوجاعه وأقف مكاني مكتوفة الأيدي؟!..كيف أجيبيني؟!"
أومأت برأسها وهي تردف بألم يحرق وجدانها:
"أنا مذنبة..أعلم ذلك..لكن أقسم لكِ أنني حاولت انتزاعه من داخلي طوال هذه السنوات..لكنني عجزت..وكأن حبه تفشى بقلبي وروحي"
طوقتها سما بذراعيها بقوة وهي تمسح على شعرها بحنان، وقالت بحزم:
"لن تذهبي إلى هذا العمل ثانية..كفاكِ ما حدث"
رفعت إليها وجهها المليء بالدموع لتهمس بصعوبة:
"سأذهب لأراه للمرة الأخيرة فقط..أريد أن أودعه..لن أستطيع الرحيل دون إخباره"
تنهيدة قوية تحررت من صدرها لتقول على مضض:
"حسنًا"
زادت من ضمها إليها وازداد بكاء جنة وارتجافها مع شدة العناق، فبعد أن ابتهجت النفس بقربه أجبرها القدر على الفراق الأبدي.
..
دلفت للمكتب باليوم التالي وهي تجر قدميها جرًا، وأخذ قلبها ينبض بقوة وكأنه يتوسلها حتى ترتد عن ما تنويه، وتعاظمت نبضاته حينما أبصرته مقبلاً عليها بطلته الأخاذة، متسائلاً بصوته الرجولي المميز:
"كيف حالكِ؟؟..أأصبحتِ أفضل؟؟"
أومأت برأسها وهي تطوف بعينيها على ملامحه للمرة الأخيرة، وكأنها لم تنقش بعقلها وروحها، بينما قال هو:
"هذا يعني أن لا هروب من درس اليوم"
نيران تنهش قلبها، لا يمكنها تحملها أو إخمادها، فهي فقدت رفاهية الإختيار، رضخت لكل ما يفرض عليها، كما قبلت الآن إنهاء قصة لم تكتب سوى على صفحات قلبها، التقطت أنفاسها لتستجمع قواها وتقول بحزم:
"لن يكون هناك دروس ثانية..أنا سأترك المكتب"
عقد حاجبيه متعجبًا، متسائلاً بضيق:
"لماذا؟!..هل ازعجتك أنا أو معتز؟!"
قالت بسرعة وكأنها تنفي التهمة عنهما:
"إطلاقًا"
صمت للحظات قبل أن يسألها بغضب مكتوم:
"هل تخافين أن أخبر سهيل؟..ألا تثقين بوعدي لكِ؟"
همست لنفسها بصدق"إذا كنت استطيع منحك عمري كله لفعلت فكيف لا أمنحك ثقتي؟!"
بينما قالت إليه بحدة:
"الأمر ليس كذلك..أفضل الاحتفاظ بأسبابي لنفسي"
لا يصدق أنه لن يراها كل صباح على مكتبها، إعتاد على وجودها والحديث معها، أصبحت من أقرب الأشخاص إليه وفكرة رحيلها مزعجة وغير مقبولة فارتفع صوته في ضيق:
"لن ترحلي قبل أن تخبريني عن أسبابكِ كلها جنة"
توسلته وهي تنظر بعينيه مباشرة:
"ريان أرجوك لا تضغط عليّ"
وبتلك اللحظة دلف سهيل للمكتب لتحتل الصدمة ملامح ريان، كيف جاء؟!، وماذا سيفعل مع جنة الآن؟!، والتفتت الأخرى حينما أثارت نظراته ريبتها، وما أن رأته حتى انتفض جسدها واتسعت عينيها على محجريهما، وعادت للخلف وهي تحرك رأسها في صدمة، والهلع يفعم مقلتيها، وقلبها يخفق خوفًا، حتى اصطدمت بالحائط وهمست بشفتين مختلجتين وصدرها يعلو ويهبط في جنون:
"س..س..سهيل"
وارتخت قدماها حتى أوشكت على الإنهيار، وهي تنظر بعينيه المخيفتين، هو لن يرحمها، سيسجنها من جديد ويذيقها ألوان العذاب، ذكرت صفعاته التي أهدرت كرامتها وأضاعت أمانها، لا، لا تريد العودة إليه، ستكون نهايتها تلك المرة، حتمًا سيقتلها.
بينما اقترب سهيل من ريان بخطوات متعجلة والشر ينبع من عينيه، هذا الحقير أخفى عنه مكانها حتى يتلاعب بها ويستغل هربها ليرضي نفسه، لم يتوقع أنه بتلك الدناءة لكنه سيجعله يندم على ما فعله أشد الندم، قال بنبرة ثابتة ومخيفة بآن واحد بعد أن تضاءلت المسافة بينهما:
"عندما أتيت وسألتك عنها قلت أنك لا تعرف شيء عنها ولم ترها"
رفع حاجبيه وهو يردف متسائلاً:
"فماذا تفعل بمكتبك الآن؟"
لم يفكر ريان بشيء بتلك اللحظة سواها، فالتفت برأسه ليجدها مذعورة، مرتجفة تتوسل حمايته بنظراتها، ليرتعب بسبب حالتها المزرية ويستسرى القلق بداخله، ثم يعاود النظر لسهيل قائلاً:
"أنا مستعد لأي حديث تريده لكن بالبداية عدني أنك لن تؤذيها..هي أختك..فرفقًا بها..يكفي ما فعلته"
ارتسمت ابتسامة مستنكرة على شفتيه، أيجرؤ حقًا أن يقف أمامه بعد كذبه عليه ليدافع عنها؟!، تصاعدت الدماء إلى رأسه وفقد المتبقي من صبره، جذبه من ياقة قميصه وهو متسع العينين ويجز على أسنانه بعنف قائلاً بشراسة:
"يا لك من وقح!..تقف أمامي وتدافع عنها وأنت من تلاعبت بعقلها..ودنست شرفي يا حقير"
أتبع جملته الأخيرة بلكمة عنيفة لفك ريان، ليرجع للخلف واضعًا كفه فوق فكه وهو يحدجه بمزيج من الشر والصدمة، ما هذا الهراء الذي يقوله؟!، شرف ماذا الذي دنسه؟!، يا للكارثة!، هو يظنه على علاقة بجنة!، من أين أتى بهذا الحديث؟!، وكيف سيعدل فكرته وهو لم يترك مجال للنقاش؟!، وانهمرت عبرات جنة على وجنتيها كالسيل وقلبها يكاد يتوقف من هول خوفها على ريان من جهة وصدمتها من ظنون سهيل من جهة أخرى، هي تعرف أخيها جيدًا لن يغير ما في عقله، ترى ماذا سيفعل بريان الآن؟!، تشعر أنها فقدت القدرة على التفكير والإدراك، لا تستطيع توقع شيء الخوف يتملك من كل خلية بجسدها، لا يترك مجال لأي شعور أخر سواه، بينما خرج معتز من مكتبه يتساءل عما يحدث، فهجم ريان على سهيل بغتة ليلقي بمعظم جسده فوق سطح المكتب وهو يقبض على تلابيبه قائلاً بغضب شديد:
"أنت غبي..لا تفهم ما تتفوه به..أنا حميتها ولم أمسها بسوء"
يحاول خداعه، لا يدرك أن قوله نتج عن تصريح طليقته وليس مجرد ظنون، تسارعت انفاسه في عنف، حاول أن يقبض على عنقه، وهو يقول بجنون:
"كاااااااذب..أميرة فضحتكم واخبرتني بأفعالك القذرة"
تحررت آهة قوية من أعماقها، هي لم تكتف بإخباره عن مكانها، لا، تحدثت عن شرفها أيضًا، شيطانة، مات ضميرها وأبدعت في إيذاء الغير.
بينما هيمن الذهول على ملامح ريان، عزمت على تحطيمه منذ طلاقها وقتلت ابنه، لكن ما ذنب تلك المسكينة لتدخلها في انتقامها الدنيء؟!، وبين كل تلك المشاعر قبض سهيل بأنامله الغليظة على عنق ريان وبلحظة كان كلاً منهما بمكان الآخر، بدأ الهواء ينسحب من رئتي ريان وجحظت عيناه، بينما ركضت جنة نحوهما ودقات قلبها تتسارع في هلع ودموعها وصرخاتها لا يتوقفا، وهي تقبض على ذراع أخيها، تحاول جذبه بكل قوتها، ناظرة لريان وهو يعجز عن التقاط أنفاسه لينشطر قلبها إلى نصفين وتصرخ بهلع وكأنه يحاول إزهاق روحها هي:
"أرجوك اتركه أخي..هو ليس له أي ذنب فيما حدث"
بينما نجح معتز في جذبه بعنف ليخلصه من يده، واعتدل ريان يفرك عنقه ويسعل بقوة ناظرًا إليه بعينين يملأهما الغضب، وحاول أن يهجم عليه ليوسعه ضربًا قائلاً:
"سأنهيك أيها الوغد"
لكن وقف معتز كحائلاً بينهما، وألقى على صديقه نظره محذرة ثم قال بصرامة موجهًا حديثه لسهيل:
"اهدأ حتى نتحدث مثل بقية الخلق ونشرح لك كل شيء"
أي شرح هذا الذي سيسمعه بعد ما قالته أميرة؟!، أهناك تهاون في كارثة كتلك؟!، هو لن يهدأ إلا بعد أن يسقطه صريعًا فقال بشراسة ووجهه يتصبب عرقًا:
"لا أريد أن تشرح ليّ شيء"
جز معتز على أسنانه بغضب قائلاً بتهديد:
"إذا كنت تريد المشاكل فنحن أهلاً لها لكنك ستكون الخاسر"
استشرى غضب سهيل وجذبه من ياقة قميصه قائلاً من بين أسنانه:
"لست أنا من يخضع للتهديد..ولن يرضيني إلا قتله"
دفع معتز بعنف ولكم ريان ليسقط أرضًا، وانتفاض جسد جنة ازداد والصراخ أضحى بالنسبة لها رفاهية افتقدتها، ونهض ريان ليدفع سهيل إلى الحائط ويوجه له عدة لكمات متتالية، وقبل أن يلكمه الأخر كان معتز يمسك بقبضته وعاد يقف بينهما ودنت جنة منهم وقدماها بالكاد تحملناها والدموع تملأ وجهها، محدثة سهيل:
"مشكلتك معي أنا وليس هو..فدعنا نرحل واتركه وشأنه"
حدجها أخيها بشر، من أين لها بتلك الشجاعة لتقف أمامه وتحادثه؟!، من ترتكب جريمتها يجب أن تقتل نفسها خوفًا مما ستراه، لكنه سيجعلها تتمنى هذا الموت في كل ليلة، بينما سألها ريان بغضب ووجه محمر:
"هل تهذين أم ماذا؟!"
لا يهم الجحيم الذي تراه، كل ما يهمها أن لا يتأذى، يكفي الرعب الذي دب بروحها حينما قبض على عنقه، مسحت عبراتها بظهر كفها وهي تنظر إليه هامسة بأسى:
"أنت ساعدتني منذ مجيئي لهنا..ويكفي ما فعلته من أجلي حتى الآن..أنا سأذهب مع سهيل"
كيف يتخلى عنها ويخلف وعده لها؟!، كيف يراها تذهب لعذابها ويقف يشاهدها بصمت دون أن يمد لها يديه؟!، تباينت مشاعره ما بين غضب وشفقة وحزن وجنون، ثم قال محادثًا سهيل:
"ايًا كان ما قالته أميرة فهي كاذبة..أختك شريفة ولم تغادر بيتك إلا بسبب قسوتك"
تجاهل سهيل حديثه، وسيطر على غضبه حتى لا يهجم عليه من جديد، هو لا يضمن ما سيحدث هنا، لكنه بالتأكيد لن يتركه.
نظر إلى جنة ليأمرها بازدراء امتزج بالشر:
"تحركي أمامي"
رنت إلى ريان بعينين مغرورقتين بدموع الحسرة والألم، تودعه بنظراتها الكسيرة، قبل أن تسير ببطء مطرقة الرأس والخوف ينهش خلاياها، ووقف ريان يراقبها بحزن وضياع، فهو عاجز ومقيد، لا يمكنه منع أخيها من أخذها، وبقت الأفكار تصطخب برأسه، ماذا سيفعل معها؟!، هل سيجبرها حقًا على الزواج من ابن عمها؟!، أم سيعود يضربها ويسجنها كما فعل من قبل بسبب رفضها؟!.
**********
"ادخلي"
قالها سهيل بلهجة آمرة محدثًا تلك التي تقف أمام المنزل محتضنة جسدها بذراعيها، وترمقه في هلع، وقلبها يرتجف بين أضلعها، وكأنها ستدخل لقبرها وليس بيتها الذي قضت بين جدرانه أجمل مراحل عمرها، لكنه حقًا لم يعد بيتها بعد رحيل أمها الحبيبة وبعد أن سفحت دموعها بداخله ورجرجت صرخاتها أركانه، اختلج جسدها حينما صرخ بعنف:
"قلت ادخلي"
لم تستطع تحريك قدميها، ونفذ صبره وقرر جرها خلفه للداخل حتى دخلا غرفتها ودفعها بعنف لتتهاوى على الأرضية ثم أوصد الباب بالمفتاح ليصدر صوت بقدر ما هو خافت زاد من فزعها، وتثلجت أوصالها من نظراته المروعة، بات قلبها يخفق ويصدح في جنون، تسارعت أنفاسها بقوة، خيمت سحابة من الدمع على عينيها، ضمت ركبتيها إلى صدرها واحتضنتهم بذراعيها، وأخذ جسدها يرتج، بينما انحنى سهيل ليجذبها من وشاحها ويجذب معه خصلاتها لتصرخ متألمة، ويهمس جوار أذنها بقسوة:
"هل هربتِ من أجله؟!"
انحدرت العبرات غزيرة على وجنتيها وهي تنظر إليه بعينين متوسلتين يغمرهما الضعف والخوف:
"ارحمني سهيل..أنا لم أفعل شيئًا مما وصل إليك..هذا ليس ما تربيت عليه"
رفع إحدى حاجبيه وهو يعاود جذبها بعنف أقوى قائلاً باستنكار:
"وتربيتي على الهرب من بيت أهلكِ..أليس كذلك؟!"
أجابت من بين دموعها وشهقاتها:
"هربت بسبب محاولاتك لإجباري على رجل لا أريده وحرماني من دخول الإختبارات"
اقترب من وجهها بوجهه وهو يشدد قبضته على شعرها قائلاً في إحتقار:
"هذا الرجل أتى ليّ وقال أنه هو من لا يريدكِ لأنكِ فاسدة..ولا تناسبيه..وقف أمامي أنا وقالها ليّ"
استطرد متسائلاً بخشونة:
"أرأيتِ ما وصلت إليه بسببكِ؟!"
ازدادت دموعها ليصرخ بجنون:
"أجبيني"
وزاد جنونه بسبب أنينها ودموعها وهوى على وجنتها بصفعة عنيفة أدمت شفتيها، ولم يغثها إلا طرقات عنيدة على الباب، حتى فتح بوجه مكفهر ليجد الخادمة أمامه فيصرخ متسائلاً:
"ماذا تريدين؟!"
ارتعش جسدها قبل أن تجيبه بخوف:
"السيدة شفا تريد حضرتك..لقد ازداد تعبها"
صمت للحظات قبل أن يومئ برأسه قائلاً:
"حسنًا"
وقبل أن يغادر الغرفة التفت لجنة ليقول متوعدًا:
"سأعود لكِ"
وما أن دلف لغرفة شفا حتى وجدها تبكي بصوت مسموع وتعض على يدها، جلس جوارها يسألها بقلق:
"ماذا حدث شفا؟؟!!"
رفعت إليه عينين حمراوتين مغرورقتين بالدموع لتسأله بألم:
"ماذا تفعل أنت بجنة؟..صرخاتها وصلت ليّ"
زفر بضيق مجيبًا بغضب:
"أعيد تربيتها من جديد"
قلبها يحترق ألمًا لعذاب تلك اليتيمة الضعيفة، كانت تتمنى لو تركض إليها الآن لتطوقها بذراعيها وتحميها من بطشه، لكن منذ ولادتها وهي لا تقوى على الحركة كالسابق، رفعت كفها الناعم لتكفكف عبراتها وتلامس يد زوجها قائلة بتعقل:
"خاف الله يا سهيل..هو رزقك بيحيى وأنت لم يرق قلبك على أختك أيضًا"
قطب وارتفع صوته في انفعال وهو يتساءل ساخرًا:
"أتريدني أن اصفق لها على العار الذي جلبته ليّ؟!"
قالت في احتجاج وهي تشير بسبابتها إليه:
"أنت من تسببت في هروبها ورغم ذلك لم تتعظ..ارحمها حتى يرحمك الله"
مسح وجهه بنفاذ صبر، يحاول السيطرة على غضبه حتى لا يستشرى تعبها، كور قبضته بقوة قائلاً بغضب مكتوم:
"سنعود لنفس الحديث..استمعي ليّ جيدًا شفا..هذه اختي وأفعل بها ما أشاء..وأنتِ اهتمي بصغارك..خاصة براءة حتى لا تصبح مثل عمتها وتنال أسوأ مما تتخيلين"
حينما ذكر اسم ابنتها تفاقم ألمها وعادت تهمس في رجاء مُعذب:
"أرجوك سه.."
لكنه نهض ليقاطعها بصرامة:
"انتهى الحديث..لا تتدخلي فيما لا يُعنيك..وإياكِ واستغلال تعبك حتى تنالي ما تريدين..لآن تلك الطريقة لا تجدي معي أبدًا"
غادر الغرفة، وانتفضت جنة بغرفتها عندما سمعت وقع خطواته، حتى أنصتت لمن يصفق باب المنزل بعنف فتنفست الصعداء ثم انكمشت بجسدها على الارضية بوضع الجنين، تئن، تبكي وترتجف بجنون، فقدت كل آمالها، دراستها، حريتها، وريان، ااااه من النيران التي تسرى بقلبها بسبب ما حدث إليه اليوم، يا ليت كل لحظة ألم شعر بها مزقتها هي ولم يمسه سوء، لا تدري كيف لن تراه ثانية وهي تحترق شوقًا من الآن، أطبقت جفنيها بقوة لترى ابتسامته الساحرة ويخترق اذنيها صوته الرخيم، لتستكين و تجف دموعها وتغط في النوم هربًا من واقعها المؤلم.
**************
يقف أمام النافذة ينفث دخان تبغه، شاردًا بتلك الذكرى المؤلمة، نظراتها المنكسرة لا تبرح عقله، تطارده حينما يصبح ويمسى، وكأنها تذكره بوعده حتى يقرعه ضميره، يتمنى لو هناك أي وسيلة تمكنه من الاطمئنان عليها، أو رؤيتها، هو حقًا يريد ذلك، يفتقد وجودها بالمكتب، حديثها ومشاكستها ودعمها إليه، أجفل عندما سأله معتز بضيق:
"لمتى ستبقى على هذا الحال؟؟"
أطفأ سيجارته ثم التفت إليه ليجيبه باقتضاب:
"حتى أتأكد من سلامتها"
عاد معتز يتساءل بمزيج من الحيرة والحنق:
"لا افهم لماذا تحمل نفسك الذنب؟!"
عقد ريان حاجبيه وهو يهتف بحدة:
"لآن أنا من تسببت بكل هذا..كان يجب عليّ أن أصر عليها أكثر من ذلك حتى تقبل أن أتحدث لاخيها..لكنني لم أفعل..خاصة بالآونة الآخيرة..لم أذكر هذا الأمر من الأساس"
"ولمَ فعلت؟!"
شرد بسؤال معتز، هو كان يحتاج لوجودها بتلك الفترة لتفهمها له وللراحة التي لا يجدها إلا بحديثها، تجاهل مصيبتها من أجل أن تبقى لتهون همومه، هو أناني لم يفكر سوى بنفسه للمرة الأولى، وكانت هي الضحية، تخلل خصلاته بأنامله مجيبًا بحيرة:
"لا أدري يا معتز، لا أدري"
هتف بتعقل:
"انسى أمرها ريان..هي مع أخيها الآن ومهما كانت قسوته لن يحميها أحد مثله"
كيف ينسى أمرها بتلك البساطة وهي منحته ثقتها وعلاوة على ذلك دعمها وإهتمامها؟!، هل هو جماد ليتجاهل كل هذا ويكمل حياته وكأنها لم تدخلها يومًا ولم تترك أثرًا بنفسه؟!، لا لن يستطيع، قال بحزم:
"أنا سأذهب لأخيها اليوم..سأشرح له الحقيقة كاملة وأطمئن على أحوالها"
قطب معتز في غضب، قائلاً بصرامة:
"أجننت ريان؟!..أتريد الذهاب إليه بنفسك بعد ما حدث هنا؟!"
تساءل بحيرة:
"نحن رجال ولم ننس ما حدث حتى الآن فماذا عن تلك المسكينة؟!"
زفر معتز بقوة، ثم قال على مضض:
"انتظر ليومين وسنذهب سويًا"
"سأقابله بمفردي يا معتز واليوم لن انتظر لحظة آخرى..انتظاري يعني زيادة الخطر عليها"
قالها بحزم وهو يضع كفيه بجيبي بنطاله، ليجن معتز وهو ينهره بقوة:
"عنادك هذا سيجلب لك المصائب..تعقل قليلاً"
لم ينصت لحديث عقله مثل الآن، سيذهب إليها هي تستحق، الوحيدة التي تستحق أي شيء سيحدث إليه، دلف لمكتبه دون مقدمات ليأخذ مفاتيحه وهاتفه ثم قال قبل رحيله وهو يربت على كتف معتز:
"جميع المصائب تهون أمام انقاذها معتز..سأراك غدًا"
تبخر من أمامه ليقف يضرب كفه بكفه الآخر وهو يلعن عناده وجنونه.
..
وكانت الذكريات تتصارع بعقل ريان وهو في طريقه إلى بلدة جنة، يذكر كلماتها المفعمة بالبهجة والأمل، وجملتها التي كانت تلقيها على مسامعه"لا تسمح لأحد بأن يطفئ شعلة الآمل بداخلك"
هي من نالت من اسمها كل النصيب، جنة أشرقت نفسه بعد العتمة، ولن يسمح للدجى أن يتسلل لحياتها، وما أن وصل لمنزلها حتى أدخلته الخادمة لغرفة الصالون، وما هي إلا عدة دقائق وأتى سهيل بوجهه الصارم ونظراته المتعجبة قائلاً:
"لم أظن أن جرأتك ستدفعك للمجيء هنا بقدميك!"
نهض ريان من على مقعده ليحدجه بثبات قائلاً:
"جئت حتى تسمع ما رفضت سماعه بالمرة السابقة"
رفع سهيل إحدى حاجبيه متسائلاً باستنكار:
"ومن أخبرك أنني سأستمتع إليك؟!"
"لأنني أثق بهدوئك الآن، وهذا ما سيجعلك تستمع لكل ما سأقوله"
قالها ريان بثقة ليرنو الصمت للحظات يفكر بها سهيل بحديثه، هو لن يخسر شيء بالإستماع لحديثه وإذا قال ما لا يرضيه لن يرجعه إلى المدينة على قدميه، نظر إليه وهو يضيق عينيه، قال بلهجة آمرة وهو يعقد حاجبيه:
"اجلس"
استجاب ريان لطلبه وتبعه هو الأخر، وأسند الأول مرفقيه إلى ركبتيه وقال بجدية
"دون الدخول في أي مقدمات..كل ما تظنه ليس إلا مؤامرة من أميرة ابنة خالتك"
"ولماذا تفعل؟!"
قالها بشك ليجيب ريان برزانة:
"لأنها حاولت استغلال جنة لتبلغها بما يدور بمكتبي وهددتها بأنها ستخبرك عن مكانها وحينما رفضت قررت الانتقام..ورفض أختك هذا لا يعني إلا أنك أحسنت تربيتها وإنها خرجت من بيت صالح..لآن أي فتاة بظروفها كانت ستستسلم ولن يلومها أحد"
أومأ برأسه برزانة، وهو يفرك كفيه ببعضهما ببطء، ثم وضع إحداهما على ركبته وهو يتساءل بثبات:
"سنفترض صدقك بهذا الأمر..لماذا قلت أنك لا تعرف شيئًا عنها حينما جئت إليك؟"
أجاب ريان ببساطة:
"لأنها لم تأت ليّ وقتها حقًا..جاءت لمكتبي بعدها من أجل الوظيفة وكان هذا عن طريق الصدفة..وكنت سأخبرك..لكنني أشفقت على تلك المسكينة المحطمة بسبب أفعالك..وفضلت أن أعطيها الأمان حتى تكون أمام عيناي وأحادثك بالوقت المناسب أفضل من أن أصر على إخبارك وتضيع تمامًا"
حتى وإن كان صادقًا يكفي أنه أخفى عنه عملها بمكتبه، نهض بغتة ليهتف بغضب:
"من المفترض أن أصدق أنك مظلوم وأشكرك على حمايتك لشقيقتي..لكن ما لا تعلمه أن فعلتك تسببت بانتشار الخبر في البلدة وجعلتني عاجزًا عن رفع رأسي بين أهلها..أنت تسببت بعار لن يمحى"
نهض ريان ليقف قبالته وهو يحاول السيطرة على أعصابه حتى لا ينفجر به، ليقول موافقًا:
"أنا أخطأت وجنة أيضًا لكن أخطائنا ترتبت على أخطاءك أنت..وعلى كل حال..أخبرني كيف أصلح ما حدث وسأفعل حتى تكون جنة بخير وتعود لجامعتها"
انتظر هذا القرار منذ مجيئه، رشيد تخلى عنها وهو يريد أن ترد إليه كرامته وسمعته الطيبة ولا سبيل لهذا سوى الزواج، رغم أنه لم يرد سوى ابن عمه، لكن أرغمته الظروف الآن، نظر إليه ليقول بنبرة ثابتة وهو يراقب انفعالات وجهه:
"لا شيء سيصلحه سوى..الزواج"
خيمت الصدمة على ملامحه عندما رمى تلك القنبلة بوجهه، كيف سيتزوجها وهي ليست إلا مجرد صديقة؟!، لكن هل نسى العذاب الذي ذاقه من العشق؟!، وأن جرحه لم يندمل إلا بتلك الصداقة؟!، هو أتبع حديث قلبه لسنوات فلمَ لا يستمع لحديث عقله تلك المرة؟!، ألا يمكن أن تكون جنة من تناسبه بتفهمها له؟!، نعم فمعها اجتاحته راحة لم يشعر بمثيلها يومًا، وأمان ودفء بنكهتها هي، وعلاوة على ذلك أنها تحتاجه مثلما يحتاجها، وهو لن يتخلى عنها، فقال برزانة:
"أريد التحدث لجنة وسماع موافقتها أولاً"
تساءل سهيل في غلظة:
"وهل يحق لها الرفض بعد ما فعلته؟!"
يتحدث عنها وكأنها جارية يساوم على بيعها وليست شقيقته التي ليس لديها سندًا سواه!، كبت غضبه بمعجزة، هاتفًا بمزيج من الحدة والإصرار:
"لن أتزوج امرأة دون موافقتها..نحن لسنا بغابة"
جز سهيل على أسنانه بعنف، يود لو يوسعه ضربًا لوقاحته، لكنه مقيد بعار أخته، فيجب أن يبتلع لسانه ويتحمله حتى يتخلص منها، حك ذقنه وهو يقول مستنكرًا:
"غابة!..حسنًا..سأخبرها الآن"
قال جملته الأخيرة قبل أن يرحل مسرعًا يكاد يحفر الأرض بقدميه من شدة الغيظ ففي أشد تخيلاته حلكة لم يتخيل قط أن يكون هذا المتبجح القابع في الغرفة صهره، وما هي إلا عدة دقائق حتى دلفت جنة للغرفة وتبعها سهيل ليقول ريان بحدة:
"أريدها وحدها إذا سمحت"
زفر نيران وليس هواءًا من فمه، وقال متوعدًا وهو يرفع سبابته:
"أمامك خمس دقائق لتقل كل ما تريد..وإياك وغلق الباب"
وما أن خرج حتى رنت جنة إلى ريان، تروي ظمأها من ملامحه التي اشتاقت لرؤياها، غاصت للحظات بعينيه، مصدر ضياعها وهيامها، كذبت أذنيها حينما اخبرها سهيل بحضوره، وكادت تتعثر في سيرها وكأن قلبه يجذبها إليه جذبًا، فاقت شرودها لتسأله بحيرة:
"لماذا أتيت؟؟..ما كان يجب عليك أن تتصرف بتهور هكذا"
نظر لوجهها الشاحب وتوقفت نظراته عند جرح بسيط بشفتها السفلى لتنتبه لنظرته وترفع كفها حتى تخفيه والخجل يغمرها، وسألها من بين أسنانه بغضب:
"ماذا فعل بكِ؟"
نظرت بعينيه مباشرة، هاتفة بإصرار:
"لا يهم ما حدث ليّ..أنت يجب أن ترحل الآن..لا تظن سهيل شخص يقبل النقاش"
"اجلسي يا جنة"
قالها بلهجة آمرة ليتفاقم تعجبها من كل ما يحدث اليوم، لماذا أتى؟!، وماذا قال لأخيها حتى يتركهم ويتحدث بتلك الثقة؟!، تشعر أن رأسها على وشك الإنفجار، فوضعت كفها فوقه لتقول بحيرة:
"أنا لا أفهم شيء"
"أنا جئت لأجلكِ"
توردت وجنتيها وأطرقت برأسها خجلاً بعد أن أنزلت كفها، يا لها من جملة رائعة تدغدغ المشاعر!، سيطرت على خجلها لتقول بحزم زائف:
"يجب أن ترحل ما فعلته خطأ..خطأ كبير..لا تهتم بما يحدث ليّ..أنا سأحل مشاكلي مع سهيل..لكن ارحل أنت الآن..هيا"
قالت كلمتها الأخيرة وهي ترفع رأسها لتتلاقى أعينهما، وتبصره يتأملها والابتسامة تشرق وجهه متسائلاً بنبرة رخيمة:
"أتتزوجيني جنة؟"
سيطرت الصدمة على كل إنش بوجهها، هل ما سمعته صحيح؟!، أهو يعرض عليها الزواج حقًا أم أنها تتوهم؟!، مستحيل، بالطبع هي تتوهم، سألته بدهشة:
"ماذا؟..ماذا قلت؟"
أعاد سؤاله بنبرة أقوى وأشد حزمًا، لتفق من صدمتها وتعقد حاجبيها في تعجب متسائلة:
"كيف؟!..ولماذا؟!"
لتكون إجابته على سؤالها سؤال آخر:
"هل يوجد بالزواج كيف ولماذا؟!"
أيمكن أن يكون سهيل أجبره على ذلك؟!، هل بخس قيمتها إلى هذا الحد؟!، تسلل إليها شعور قاسي من الهوان والذل، أهو يريد تزويجها من رجل غارقًا بعشق امرأة سواها ليعاقبها على فعلتها؟!، ولماذا تتعجب هو لا يشغله سوى الأقاويل التي تتناقل بين أفواه أهل البلدة، أحست بغصة مؤلمة استحكمت قلبها، نظرت إليه بعينين يغمرهما الألم، وقالت في كبرياء:
"نعم يوجد في حالتنا"
تساءل بهدوء:
"وما هي؟؟"
التقطت أنفاسها حتى لا تخونها دموعها ويخذلها صوتها، ثم قالت بحزن شديد:
"أنك مازلت تحب أميرة يا ريان"
زفر بضيق لاستماعه لاسمها ولظن جنة، وهتف بنفس الهدوء:
"أميرة ماتت بداخلي يا جنة..أتعلمين لماذا؟!"
نظرت إليه بإهتمام وفضول، ليجيب باختناق على سؤالها الغير منطوق:
"لأنها كانت حامل بابني وتخلصت منه قبل أن تخبرني حتى..قتلته"
قال كلمته الأخيرة بصوت تموج بمقاطعه دروب الألم، بينما وضعت هي كفها على شفتيها تكتم شهقتها، وتابع في وجع يتلظى بأحشائه:
"قتلته وحرمتني منه جنة..سلبت سعادتي بطفل انتظرته طوال حياتي..حطمتني وقتلته جنة..قتلت صغيري"
تحيرت العبرات بمقلتيها وهي تنظر لملامحه الحزينة، وتسأل نفسها في دهشة، كيف اختزن هذا الألم بنفسه؟!، هي أحست بوخزة تخترق قلبها لمجرد نطقه لتلك الكلمات المؤلمة، همست بنبرة مفعمة بالحب وقلبها ينتفض بين أضلعها:
"اهدأ ريان أرجوك"
  تحررت من داخله تنهيدة قوية كادت تشق صدره، كور قبضته بعنف فوق إحدى ركبتيه وهو يقول بنبرة مختنقة:
"أنا بخير..بخير"
كفكفت عبرة علقت بجفنها، وأردف هو بجدية:
"ما يهمني الآن أن لا يكون بداخلكِ ذرة من الشك حول أمرها"
"أخشى أن تفعل من أجل تخليصي من عذاب سهيل"
قالتها بحدة توارى الألم خلفها، لتلوح ابتسامة هادئة على ثغره مخترقًا عينيها بنظراته:
"لا أنكر أنه أحد أسبابي..لكنه ليس أساسيًا..لآن هذا لا يكفي للزواج"
أسدلت أهدابها للحظات والقلب لا يكف عن النبض حتى رفعت رأسها إليه لتتلاقى الأعين وتقول الشفاة بمزيج من الحسرة  والوجع:
"لكنك لا تحبني"
تنحنح ريان بحرج قبل أن يقول بتعقل:
"ما بيننا أعظم من الحب..ما بيننا صداقة وأمان وثقة..هناك أشخاص يجدون الحب ويفتقدون كل ذلك..لأن الصداقة لم تكن بينهم وهي أساس جميع العلاقات"
أيظنها لا تحبه حقًا؟!، هل لم ير نظراتها العاشقة التي تحتضنه عند ابتسامة تزين ثغره أو حزن يظلل ملامحه؟!، ونبرتها الدافئة التي لا تخص بها سواه لم تخبره بحبها؟!، إذًا ماذا عن اضطرابها في حضوره واختلاج قلبها بين أضلعها؟!، ماذا عن ألمها وعذابها وحيرتها؟!، كيف لم يلحظ كل هذا ويحكم على ما بينهما بأنه مجرد صداقة؟!، تفاقمت أوجاع روحها وهمست لنفسها بألم:
"سل دموع سفحت في بعادك وهي تخبرك عن عذابي بعشقك..سل عقلي عن الحيز الذي شغلته به..وسل قلبي الذي لم يهو سواك..ليصرخ قائلاً"أحبك..أحبك".
أفاقت من شرودها حينما قال:
"كلاً منا يحتاج الآخر جنة..وافقي ولن تندمي أعدك بذلك..سأفعل كل ما بوسعي لأرسم البسمة على ثغرك"
حبيبها الذي اكتوت بنيران عشقه لسنوات، وكانت رؤيته أعظم أمانيها، يجلس معها الأن وما يفصل بينهما مجرد شعيرات، ويطلبها للزواج بكل إصرار ويعدها بالسعادة، لكنه سيبقى محجوبًا عنها بستائر الألم والجفاء، فماذا تفعل؟!، أتتزوجه وتقبل بهذا الوضع وترضي قلبها الذي لم يعشق سواه وترد كرامتها أمام أخيها بعد ما قيل عنها وتخلص نفسها من عذابها معه؟!، أم ترفض وتظل نادمة بقية حياتها؟!، ولماذا لا تقبل وتحاول أن تزيل ما يحجبه عنها وتزرع العشق بوجدانه؟!، بالرغم من أن هذا ليس شيء مضمون لكنه سيصبح أمل جديد تحيا من أجل تحقيقه، لذا قالت بحزم:
"أنا موافقة ريان"
اعتلت الابتسامة ثغر ريان بعد أن تحررت من صدره تنهيدة مفعمة براحة فارقت نفسه بفراقها، أما هي فرسمت على شفتيها ابتسامة مرتعشة، وما بين جأشها وسكينته، دنيا جديدة لكليهما.
..
وبعد مرور اسبوعين

أحبك في صمتي(مكتملة)Tahanan ng mga kuwento. Tumuklas ngayon