الفصل الثاني

1K 40 1
                                    

الفصل الثاني:

غارق بعالمه الخاص هائمًا بإحدى لوحاته، ينثر أفكاره المبعثرة عليها كما يهوى دون قيود، الرسم هو ما يشعره بأنه على قيد الحياة، هواء نقي يستنشقه لينعش صدره ويمنحه فرصة للاستئناف، بينما كانت أميرة تجلس على فراشها بغرفتهما، مر أكثر من اسبوع  وخصامهما مازال مستمرًا، تعلم أنه يكتوي من شوقه إليها لكن كبريائه يردعه، ينتظر اعتذارها، وهي ستجعله يربح الجولة بإرادتها.
ارتدت غلالة قصيرة، تصل لما فوق ركبتيها لتظهر منحنياتها المثيرة، وزينت شفتيها الممتلئتين بأحمر شفاة هادئ اللون وعينيها الواسعتين بالكحل الأسود، نظرت للمرآة نظرة راضية، ثم دلفت لمرسمه لتقول بدلال:
"ريااان"
فاق من شروده حينما استمع لندائها الناعم، تصلبت يده لكنه لم يلتفت إليها، فسألته برقة:
"ألن تجيب عليّ؟؟"
ترك الفرشاة وأجاب على سؤالها بسؤال آخر دون النظر لها:
"ماذا تريدين؟؟"
اقتربت منه بخطوات مدروسة حتى مالت بجذعها لتحتضنه من الخلف بقوة هامسة جوار أذنه بعاطفة:
"اشتقت لك"
عناقها دافئ ونبرتها مُهلكة، نبض قلبه بعنف، أخذ صدره يعلو ويهبط بشكل ملحوظ، ازدرد ريقه بصعوبة، لن ينجرف خلف مشاعره ويغفر لها فعلتها، يكفي ما وصلا إليه، التفت إليها برأسه متسائلاً بحدة لا تتناسب مع نيران أشواقه:
"أسينتهي الخلاف هكذا؟؟"
تساءلت بدلال يهدد ثباته:
"أهناك أفضل من العناق برأيك لينهيه؟؟!"
نهض من على مقعده ليقف قبالتها تاركًا بينهما مسافة مناسبة، وقال بجدية:
"نتحدث بتعقل عن حياتنا حتى نحاول بنائها من جديد"
زفرة قوية تحررت من بين شفتيها وهي تعقد ساعديها أمام صدرها متسائلة:
"ما مشكلتك الأساسية؟؟..الأطفال؟؟"
يطالب بحياة هادئة، مشاعر تسحق وحدته، اهتمام ودعم يدفعانه للأمام، طفلة تروي ظمأه، ما يريده لا يتطلب معجزة، فقط يحتاج لقلب ينبض بالحب.
تنهد بألم قائلاً:
"حياتنا كلها"
استرسل بضيق يحرق أحشاءه:
"أنت تذهبين إلى عملك باكرًا قبل استيقاظي وعندما أعود أجدكِ غارقة بالنوم، لا تحاولين انتظاري لمرة واحدة حتى، وعطلتنا تقضيها بإنهاء تصاميمك المتأخرة، أنا نادرًا ما أشعر بوجودكِ بالبيت، وبحياتي أيضًا"
همس بجملته الأخيرة بحزن طاحن، بينما لمحت هي إحدى اللوحات المستندة على الحائط التي رسم عليها وجهها، تحركت نحوها لتحملها وتنظر إليها بإعجاب لتقول:
"رائعة حبيبي، لكن لماذا لم تعطها ليّ؟؟"
زفرة مختنقة تحررت من أعماقه قبل أن يقول بضيق:
"لأنها كانت هدية عيد زواجنا"
عضت على شفتها السفلى، ناظرة إليه بخجل زائف، وأعادت اللوحة لمكانها، دنت منه لتقطع المسافة بينهما، حتى أنصتت لنبضات قلبه المتسارعة بسطت أناملها الطويلة على صدره بموضع قلبه، قائلة بنعومة:
"آسفة على كل ما عشته بسببي، أعدك أنني سأكون جوارك لمعظم الوقت بعد حصولي على الترقية، لكن الأن أي تقصير مني سيجعلها تتسرب من بين يدي، وأنت تعلم أهميتها بالنسبة ليّ، ولن يرضيك أن أخسرها"
تسللت أناملها إلى لحيته لتتخللها بمهارة متسائلة في رقة:
"أليس كذلك حبيبي؟"
طاف بعينيه على وجهها الحسن، انتفض قلبه شوقًا، حبيبته قريبة منه تكاد تكون ملاصقة له، وتحتضنه بعينيها الخلابتين، فكيف يبقى صامدًا؟؟!!، حرك ذراعه مطوقًا خصرها بشوق، متسائلاً بصوت أجش وهو يذوب بعينيها:
"ستنفذين وعدكِ حقًا أم ستخذليني ثانية؟!"
استطالت على أصابع قدميها حتى تطوق عنقه بذراعيها، مخترقة خضرة عينيه بنظراتها الجريئة، وهي تتساءل بضيق زائف:
"هل حُرمت من ثقتك؟؟!!"
يعلم أنها تتوق لتلك الترقية وتسعى إليها منذ فترة، وهو لا يقوى على أن يتسبب بحزنها وأيضًا لم يعد يتحمل قربها هذا، فانهارت آخر ذرة من مقاومته عندما رفعها بذراعه عن الأرض صائحًا بحرقة قبل أن ينهل من شهد شفتيها ويروي روحه برحيقها:
"ثقتي وحبي وعمري كله لكِ يا أميرة القلب"
..
في صباح اليوم التالي
وقفت ترتدي سترتها السوداء أمام المرآة، ارتفع صوتها وهي تنادي ريان بإصرار، التفتت ناظرة إليه بتأفف، سارت نحو السرير بخطوات منفعلة لترفع الغطاء عنه، قائلة بصوت مرتفع نسبيًا وهي تربت على كتفه ببعض الحدة:
"ريان انهض، يجب أن نتحدث، هيا"
ما أن فتح عينيه حتى حجبهما بذراعه عن أشعة الشمس متسائلاً بنعاس:
"كم الساعة؟؟"
"السابعة والنصف"
ازدادت نبرته حدة وهو يتساءل:
"أي أحاديث تلك التي تُقال بالسابعة صباحًا؟!، منذ متى وأنا استيقظ بهذا الوقت؟!"
"كان عليّ إخبارك بالأمس لكن لم أجد وقتًا"
أبعد ذراعه عن عينيه ليحاصر خصرها المنحوت، وهبط بشفتيه على عنقها يلثمها، هامسًا بوقاحة:
"أعلم أعلم"
إحتل الضيق ملامحها وهي تدفعه بخشونة:
"ريااااااان، ابتعد أنا غير مستعدة لأي تأخير"
انقبضت ملامحه وهو يشيح بوجهه زافرًا بضيق:
"حسنًا، قولي ما لديكِ حتى أكمل نومي"
بسطت كفها على وجنته لتدير وجهه إليها، قائلة بنبرة أنثوية مُهلكة حتى يرسم على شفتيه ابتسامة زائفة ليرضيها:
"أنا تحدثت إلى مدير الشركة ووافق على عودتك"
تلاشت الابتسامة وحل العبوس بدلاً منها، كيف تفعل شيء كهذا دون علمه؟!، نعم هو كان مهندس بنفس الشركة التي تعمل بها منذ أكثر من عامين لكنه لم يتحمل القيود التي فرضت عليه من المدراء وتركها وفضل إستثمار وقته ومجهوده كله بمكتبه، لكن هذا بالطبع لم يُرضها، وحاولت إقناعه بالعودة للشركة أو إنهاء الشراكة بينه ومعتز حتى يكون المالك الوحيد للمكتب، والآن تحاول إجباره على ما تريد وكأنها لا تكترث لرأيه، استشرى ضيقه وهو يهتف بغضب:
"تعجبت بالأمس من رقتكِ لكن الأن أدركت إنكِ لا تقدمي شيء دون مقابل"
قطبت في ضيق، هو سيبقى متشبثًا بأفكاره، لا فائدة من النقاش معه، همت بالنهوض وهي تقول بحدة:
"كالمعتاد تفسيرك يكون حسب رؤيتك فقط، كنت مخطئة في اعتذاري"
جذبها من ذراعها لتجلس رغمًا عنها، وقال بخشونة:
"أنا لن أترك مكتبي..إنسي هذا الأمر تمامًا حتى لا ترهقين نفسكِ أكثر من ذلك"
جذبت ذراعها لتسأله بسخط:
"وكل هذا من أجل صديقك أليس كذلك؟!"
"من أجل نفسي أولاً، لأن من حقي أن أشعر بالراحة في عملي، ولن أتنازل عن هذا مقابل المزيد من المال ولإرضاء غروركِ وحبكِ للمظاهر الزائفة"
قالها بثبات لتنهض من على الفراش وهي ترمقه بغضب:
"معظم الناس يفكرون مثلي، أنت المخطئ يا ريان ولست أنا"
غادرت الغرفة وتناول هو علبة سجائره ليشعل منها واحدة، ويبدأ ينفث دخانها بضيق، هي تصر على أنها محقة ولا تخطئ وهو أيضًا يتمسك بأرائه، نادرًا ما يتفقان على شيء، لم يدر أن الحياة ستكون بينهما بتلك الصعوبة، تذكر عندما رأها للمرة الأولى بالشركة وسلبت قلبه بجمالها ونعومتها، ولم يفكر بهذا الوقت سوى أن هذه المرأة يجب أن تصبح ملكه دون حساب لأي شيء غير أن قلبه لم ينبض لسواها، وبعد مرور شهرين حقق حلمه، لكن حتى الآن مازالت تصدمه بتناقضهما وتثبت إليه كم كان مخطئًا في قراره!.
***********
منكمشة على فراش أمها، شاردة، ضائعة، مر شهرين على رحيلها، لكنها تشعر بها حولها، يخيل إليها أنها تستمع لكلماتها وضحكاتها، تتشمم رائحتها بشالها الذي يحتضن جسدها الأن، هي معها لم تهجرها، أجفلت حينما دلفت شفا جاذبة خلفها الصغيرة براءة ذات الخمس سنوات التي ركضت نحو جنة صارخة بشقاوة مُحببة:
"عمتي الحلوة"
ورفعتها الأخرى من أسفل إبطيها على الفراش بعد أن كفكفت عبراتها بظهر كفها، قائلة بنبرة متحشرجة:
"مرحبًا يا قطعة السكر"
سارت شفا نحو النافذة لتفتحها وينتشر الضوء بالغرفة حتى تطبق جنة جفنيها للحظات، وتتساءل الأخرى في تعجب:
"كيف تجلسين بهذه العتمة؟؟!!"
أجلست براءة على ساقها وأسندت رأسها إلى صدرها محتضنة خصرها بذراعها، ناولتها هاتفها لتعبث به كعادتها متخللة خصلاتها البنية الناعمة بأناملها الرفيعة، وتنهيدة مُعذبة شقت صدرها قبل أن تجيب على سؤالها بسؤال آخر:
"وما فائدة الأنوار إذا كان الدجى يغمر نفسي؟!"
التفتت إليها بحزن يخيم على ملامحها، فجيعة موتها أحرقت قلوبهم، خاصة جنة، فهي إتخذت غرفتها ملجأ، لا تجالسهم إلا على طاولة الغداء، ندر حديثها، تعاظم ذبولها وكأن جرحها يتعمق ولا سبيل لإلتائمه، جلست شفا على حافة الفراش قائلة بتفهم:
"أشعر بألمكِ لكن حالكِ لا يرضيني، أين قوتكِ؟!"
"تلاشت برحيلها"
همست بها بضياع وهي تنظر بنقطة وهمية وأصابعها لا تكف عن العبث بشعر الصغيرة، بينما احتضنت شفا كفها الأخرى هاتفة بتعقل:
"سنُعيدها سويًا، الحياة لا تتوقف يا جنة، اقتربت اختباراتكِ ولم تذهبي للجامعة منذ اسبوع..أستسجنين نفسكِ هنا؟؟!!"
شردت بحديثها، جاهدت لانتزاع الألم من قلبها، لكنه تغلغل بين طياته وسكن بالأعماق فحال إقتلاعه، ورغم ذلك الحياة تسير، مع الفراق والحزن، لا ولن تنتظرنا بل ستدهسنا بأقدامها، وهي لم تعتد الهزيمة، هتفت في حزم ولمعة تضيء مقلتيها:
"سأعد حقيبتي حتى أرحل بصباح الغد، لن أتخلى عن حلمي وحلمها"
ابتسمت شفا براحة بينما سألتها جنة وهي تنظر لبطنها البارزة من أسفل العباءة المنزلية:
"سيأتي لبراءة أخًا أم أختًا؟؟"
سلب الآسى ابتسامتها وهي تجيب مطرقة الرأس بألم يمزق قلبها:
"سهيل رفض معرفة نوعه، حتى لا يكون ذكرًا ويتعلق به ونفقده ثانية"
انحدرت عبرة على وجنتها الوردية بجملتها الأخيرة بينما ابتلعت جنة غصة مؤلمة وقالت مطمئنة:
"سيأتي يا شفا وستحملينه على يديكِ وسيكون محظوظًا بأم حنونة مثلكِ"
استطردت في مرح:
"وعمة رائعة مثلي"
ارتسمت الابتسامة على محياها رغمًا عنها وهي تمسح عبرتها، قطع حديثهما دخول سهيل لتنبعث الحاجة من عيني جنة، تتوسل عطفه وحنانه، تتوق لتربيتة هادئة أو عناق يبث السكون بنفسها، أما زوجته فاحتضنته بنظراتها الحانية، منذ رحيل أمه يكتفي بكلمات مواسية لشقيقته وكأنه يخشى إنهيار قناع صلابته الواهية عند التمادي، تعلم بالدمار الذي اجتاحه برحيلها، بالرغم من براعته في إضمار دواخله، اعتلت ابتسامة رزينة ثغرها لتظهر على شفتيه شبه ابتسامة مُنهكة سرعان ما أخفاها وهو يتساءل ناظرًا لجنة:
"كيف حالكِ اليوم؟؟"
"حمدًا لله أصبحت أفضل عن قبل"
"حسنًا بدلي ملابسك واتبعيني إلى غرفة الاستقبال، رشيد ينتظرنا"
تثلجت أوصالها عند استماعها لاسمه، تبادلت نظرات القلق مع شفا، استجمعت شجاعتها لتسأله بشك:
"لماذا؟؟"
هتف بحزم:
"قلت اتبعيني فقط"
تحرك نحو الباب وفتحه ثم قال مؤكدًا قبل رحيله:
"وبأسرع ما يمكن"
رمقت شفا وعينين متسعتين يغمرهما الخوف لتحثها الأخرى على النهوض رغم قلقها هي أيضًا، وتنفذ جنة طلبه تفاديًا لشجار جديد قد تضطرم نيرانه بالمنزل.

أحبك في صمتي(مكتملة)Where stories live. Discover now