١٠

87.2K 3.6K 116
                                    

الفصل العاشر .

فركت عيناها بتعب، لم يذق جفنيها النوم مطلقًا، منذ ان ودعته بليلة أمس وعادت لمنزلها وذهنها منشغلًا بذلك العرض، الزواج من عمار، أمرًا جميل في حد ذاته ولكنه مفزع بذات الوقت ، لوهلة شعرت بصوته بالخوف عليها ولكن تلك الحدة  التي تسيطر على نبرته مجددًا أخافتها، قضمت شفتيها من فرط توترها، حركت أصابعها نحو عنقها وبدأت بتدليكه، ولكنها فزعت عندما سمعت صوت أبيها يقف على اعتاب غرفتها بالعمل...
_ جهزتي ولا لأ يا خديجة.
انتفض قلبها يدق برعب، وناقوس الخطر يدق مجددًا بعقلها محاولًا استجماع شجاعتها المزيفة لتقول بنبرة مهزوزة : بابا، حضرتك ده مكان شغل..
قاطعها بنبرته الجافة : ماهو مالوش لزمة خالص، جهزتي نفسك ولا لأ..
هزت رأسها بنفي، فقال هو بغضب : بقولك ايه يابت انتي، انتي اخرك انهارده بليل والاقيكي واقفة قدام باب بيت جوزك الله يرحمه بشنطة هدومك...
حاولت ان تتحدث فاشار اليها بالصمت، وأكمل حديثه : متحاوليش تقوليلي تاني على مبررات لان انا قولتلك من الاول البت دي ملناش دعوة بيها، وانا قولتلك دي اخر فرصة، قدمي استقالتك ، وسيبي البت وتقفي على باب بيتك بشنطة هدومك.
هتفت بتلعثم : انا مش هاسيبها..
اقترب منها واحتدت ملامح وجهه فقال : واللي المفروض تتجوزيه مش عاوزها، هو عنده عيال بما فية الكفاية، مش هايتحمل بنت راجل تاني..
همست بضعف : هو كمان عنده عيال!.
هز رأسه وابتسم بتهكم قائلًا : حظك المهبب معايا كده، دا مش بس عنده عيال، دا كمان متجوز اتنين وعلى ذمته.
جلست مكانها بصدمة، من الواضح ان القدر هذه المرة يضع عمار بطريقها فلتستسلم له ، غادر والدها ملقيًا حديثه الاخير عليها :
_ المرة اللي فاتت كنت بتمنى يعاملك زفت، بس سبحان الله حظك حلو وطلع راجل محترم ميستهلكيش اما المرداي فانا واثق انه هايعملك حلو أوي..
كان حديثه الاخير متهكمًا، غادر والدها وحديثه لم يغادر عقلها، شعرت وكأنه هناك حبل يلف ببطء حول رقبتها ويقوم بشنقها بتروي مستمتعًا بذلك الخوف الذي ينهش صدرها وقلبها، وقفت وهي تحاول ان تتنفس كمن تصارع الموت حقًا، تقدمت من المرحاض بخطوات مرتبكة ثم القت بالماء البارد فوق صفحات وجهها، لاشك انها شعرت بطفيف من الراحة واستطاع صدرها التنفس قليلًا، نظرت في المرآة وهي تقول : خايفة من ايه يا خديجة، هايحصلك ايه مع عمار اكتر من اللي فات؟ دا أمن واحد ليك، ابوكي مش هايرتاح الا لما يموتك، انفدي بجلدك بقى..مع عمار..
وعند ذكر اسمه همست برعب خوفًا من عينيه المظلمة والحادة، ماذا يخبئه لها عمار، لو وافقت على عرضه ستكون تحت رحمته للابد، ابتسمت بتهكم لتفكيرها فهي الان بالفعل تحت رحمته، هل مازالت الرحمة تحتل قلبه ؟ هل سيعاملها هي والصغيرة بما يرضى الله ؟ ام سينتقم منها ؟ الكثير من الاسئلة راودتها واحتلت عقلها فاستطاعت ان تثير فوضى من المشاعر بداخلها...
جففت وجهها بمنديلًا ورقيًا ثم اعادت ترتيب خصلات شعرها وخرجت من المرحاض، قررت الذهاب للكافيه لتفكير مجددًا والوصول الى حل سليم، ولكن كانت لقدماها رائ أخر فقادتها ووجدت نفسها امام مكتبه من المؤكد ان القدر يصمم على رأيه..زفرت بخفوت ثم طرقت الباب ودلفت، رفع هو رأسه يطالعها بأعين ثاقبة متفحصًا وجهها وارتجافة جسدها، أشار لها بالجلوس، تقدمت من مكتبه وهي تفرك يديها بتوتر ثم جلست قائلة بضعف : عمار، بالنسبة لعرضك..
صمتت لبرهة تستجمع قوتها، فقالت في دفعة واحدة : عمار انا موافقة على عرضك..
لاح على ثغره ابتسامة ماكرة اخفاها سريعًا عندما حولت بصرها نحوه، ورسم ملامح الجدية ببراعة على وجهه، فقالت هي بتوتر : انا عندي شوية شروط ياريت تتقبلها..
خرج صوته أخيرًا قائلًا بجمود : انا عرضي كان من غير شروط يا خديجة..
تجمعت الدموع بعيناها سريعًا، وكأنها ستحمي نفسها بتلك الشروط الواهية ، تحدث هو عندما لاحظ تلك القطرات اللامعة تهدد جفنيها بالهبوط، فقال : بس دا ميمعنش ان اسمعها، ولو في مقدرتي اني انفذها معنديش مانع .
خفضت بصرها قائلة بنبرة شبه باكية : انا خايفة منك، انا حاسك عاوز تنتقم مني او من ايلين، عقلي مش راضي يبطل من امبارح يرسم سيناريو كل شوية افزع من اللي قبله ، بس ..
صمتت تأخذ نفسًا طويلًا : بس ارجع واقول ان عمار اللي حبيته ولسه بحبه عمره ما يأذيني ابدًا، وان قلبه لسه في حاجة حلوة وعمره ما يفكر يأذي طفلة ملهاش دعوة بحاجة..
طفلة مجرد طفلة تتحدث بكل ما في جوفها وتخبر اباها ومأمنها الوحيد بكل مخاوفها رغم ان تلك المخاوف تتمثل فيه هو فقط، نبرتها دموعها رجفة جسدها كل ذلك أثر بشكل كبير في قلبه وعقله ، حاول السيطرة على مشاعره وعدم الانصياع خلفها لينهض من مكانه يعانقها ويشعرها بالامان ذلك الشعور ليس وحدها فقط من تفتقد اليه بل هو أيضًا، بذلك العناق سيمحي وجع الماضي، لذلك لابد التحكم بمشاعره ويعطي لعقلة زمام الامور..
تحدث أخيرًا بعد فترة من الصمت :انا مش هاتكلم على نقطه انك بتحبيني، لان مالوش لزمه الكلام فيها دلوقتي،  ايه هي الشروط!!..
مسحت دموعها، ثم رفعت وجهها ترمقه برجاء : متجيش في يوم من الايام تخليني اسيب ايلين ، ايلين ملهاش حد خالص ولا حد من أهل امها بيسأل فيها وكلهم مسافرين وليهم حياتهم، ومفيش حد من أهل ابوها عايش كلهم من قرابة بعيدة، انا كل حياتها، متبعدهاش عني..
هز رأسه بموافقة ، فشعرت براحة فاكلمت حديثها : مش هانيجي نعيش عندك، هاعيش في شقتي اللي انا قاعدة فيها ولا حتى انت تيجي معانا...
رفع احد حاجبيه قائلًا : نعم!!.
فركت اصابعها بتوتر، ثم قالت : يعني اقصد لغاية ما فترة تعدي واطمنلك، وايلين كمان افهمها ان اتجوزت...
عقد ذراعيه امامه قائلًا بتهكم : ياترى في شروط تانية ؟
هزت رأسها واشارت باصابعها : شرط واحد بس، هو ان اكمل شغلي واصرف على نفسي زي الاول.
ارسل اليها ابتسامة سمجة قائلًا : اهو ده بالذات لأ.
حاولت اقناعه : اليوم اللي هاجي في بيتك، هاسيب الشغل صدقني، بس علشان لو ناقصني حاجة وانت بعيد مش هاينفع اقولك..
عمار باستهجان : ده على اساس ان انا وافقت على الشرط التاني، بتقرري كده بناءًا على ايه .
خديجة بهدوء : بناءًا على انت هاتكون فاهم كويس وحاسس بيا، وان لازم اظبط اموري...
قاطعها بحدة خفيفة : اول قاعدة يا خديجة، عمار مبقاش يحس، دي أول قاعدة..
اخرج تنهيدة قوية ثم قال : بس دا ميمعنش انه اوافق مؤقتًا وهاتبقى المهلة قصيرة جدًا، والوقت اللي هاقولك يالا على بيتنا، مش هاسمع اعتراض واحد، علشان مطلعيش أسوا ما عندي.
هزت رأسها بموافقة ، فقال هو بمكر : اتفاقنا، هانكتب الكتاب بكرة..
انتفضت قائلة : وليه مش دلوقتي؟!.
رفع احد حاجبيه بتسلية وهو يشير بيده : دلوقتي!!، انتي مستعجله اوي كدة .
خديجه بخجل: بابا هايجي بليل المفروض ياخدني.
نهض وهو يجمع متعلقاته ليقول : طيب يالا بينا دلوقتي..
جذبت يده قائلة بامتنان : حتى لو كان في نيتك اذيتي، فانا عمري ما انسالك انك على طول جنبي، وشعوري بالامان ده مبحسوش الا معاك، فشكرًا انك هاتنقذني من الجحيم اللي ابويا ناويلي عليه .
اقترب منها هامسًا وملامح وجهه تسود : مش يمكن جحيم ابوكي أرحم من جحيمي انا..
اشارت لقلبه قائلة بصدق : طول ما دا بينبض عمره مايعيشني في جحيم يا عمار..
صمت هو امام حديثها الذي هز كيانه وجعل قلبه ينبض بشدة، حتمًا لو استمر على تلك الوتيرة سيكسر قفصه الصدري، التفت بجسده بعدما قطع لغة العيون التي درات بينهم، فانتبه الى حديثها الذي يتخلله رجاء  : عمار لو سمحت بليل انا اللي هاواجهه بابا بجوازنا، انت مالكش دعوة.
استدار وهو يشير على عينيه قائلًا بنبرة غريبة وابتسامة ترتسم فوق شفتيه القاسية : من عنيا، انت تأمري..
التفت وفتح باب الغرفة وسار بطريقه للخارج، اما هي فوقفت على اعتاب الغرفة تقدم قدمها اليمنى أولًا وتسير في طريق رسمته هي بمحض ارداتها، طريق ليس به عودة.
.........

قلوب مقيدة بالعشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن