الفصل الرابع

7.4K 284 7
                                    


حلّ الصمت لدقائق بدت طويلة لروضة و خطيبها، و الفتاة تفكر إن كان اللاعب سيتفهّم حالة أماني و يقبل بها أم لا، حتى فارس كان يفكر في نفس الشئ، فأماني غالية عليه كشقيقته، و يتمنى لها كل السعادة..
أما آدم فكان في عالم أخر، حديث روضة يتردد في أذنيه، و صورة أماني و هي تمر بكل هذه المعاناة تتراءى أمامه..
يا إلهي، كم عانت و ظُلِمت و تحملت!
لابد من أنها فتاة قوية، فواحدة غيرها كانت انهارت، أو ربما انتحرت بعد كل هذا!
"ياريت حضرتك متكونش متضايق من أماني دلوقتي".
قطعت روضة الصمت بتوتر عندما لم تجد من آدم أي استجابة على حديثها.
ليُهيمن العقل حينها على قلب آدم، فيقول بهدوء: "لا مش متضايق، و أتمنى فعلاً أنها تتخلص من حياتها دي..
بس كمان مقدرش أسامحها، دي فضحتني".
و تعالت نبرته في الجملة الأخيرة بانفعال.
كلماته الأخيرة جعلت روضة تشعر أن أماني خسرت الرجل..
نعم خسرته، فمن وجهة نظرها أنه كان فرصة لا تعوّض، و كان سيمنح لصديقتها السعادة التي تستحقها.
إحساسها بهذا جعلها تقول بلا تفكير: "حتى لو جت و اعتذرت لك؟"
حدّقا فيها الرجلين ببلاهة!
فارس ينظر إلى جنون خطيبته و تهوّرها، فهي تعلم أكثر منه أن أماني من سابع المستحيلات أن تعتذر لآدم، على العكس تماماً هي سعيدة للتخلص منه و تتمنى عدم عودته إلى حياتها..
و من جهة أخرى لاقت هذه الفكرة استحسان آدم، و قلبه يقفز تأييداً لها، و أنها أكثر من جيدة للملمّة أشلاء كرامته التي بُعثرت بقسوة.
"و تفتكري هي هتقبل بكده؟"
سألها آدم بحذر، و قد عاد عقله للتفكير بجدية، فرأى أن هذا حلم لن يتحقق، فلقد كانت رغبة الفتاة واضحة لابتعاده عن حياتها!
إلا أن روضة أجابته بثقة استغرب فارس من امتلاكها إياها: "أيوه".
ليبتسم آدم بقوة و قد عادت عيناه للمعان من جديد: "لو اعتذرت فعلاً فأنا هسامحها و انسى كل اللي حصل".
لتقول روضة بابتسامة رقيقة: "اتفقنا".
استدعى بعدها آدم النادل طالباً منه الحساب، فتوسعت عينا فارس و روضة بذهول و هما يراه يُخرج ورقة من فئة المائة جنيه، و يقول:
"خلي الباقي علشانك".
تحلطمت روضة بداخلها، قائلة: "أيه التبذير ده..
بقى تلات كوبايات عصير بمية جنيه، ليه يعني!"
و بينما يخرجون من الكافيه، قال فارس موجهاً حديثه إلى آدم: "اديني رقم تليفونك علشان ابقى ابلغك هتقابل أماني امتى و فين".
أخرج آدم هاتفه الذي يعمل باللمس من جيب سرواله و أعطاه إلى فارس بعفوية ليسجل الأخير رقمه..
التقط فارس الهاتف بتردد، فهو لا يعرف كيفية التعامل مع هذه الأجهزة الحديثة، فجهازه قديم و يحمله من عدة سنوات..
حمد الله بداخله عندما رأى الأرقام تظهر أمامه على شاشة الهاتف، إذاً هو غير مضطر إلا لكتابة رقمه..
تحركت أصابعه على الأرقام، ليُعيد الهاتف إلى آدم فور أن انتهى.
"صحيح احنا الكلام اخدنا و أنا متعرفتش عليك!"
وجّه آدم كلماته إلى فارس.
ليرد الأخير: "فارس، خطيب روضة، و من نفس الحارة اللي اتربت فيها هيا و أماني".
و كأنه يشير لآدم أن أماني ليست وحيدة كما أدّعت روضة و هي تصف حالة الفتاة، و أن ورائها رجل مستعد للقتال من أجل سعادتها.
"اتشرفت بمعرفتك يا فارس"، قالها آدم ببتسامة.
ثم عرض عليهما بود: "طيب يلا اركبوا علشان أوصلكم".
ليرفض فارس من دون تفكير: "لا شكراً احنا هنعرف نروّح لوحدنا".
ثم يلتفت إلى خطيبته قائلاً: "يلا يا روضة".
لتودع روضة آدم بخجل، ثم تغادر مع خطيبها.
**********
"شكلك محبتهوش؟"، سألت روضة فارس بحذر.
"و هو أنا لازم أحبه؟"، رد عليها بنفس الحذر.
لتقول روضة بتوضيح: "عادي يعني، بس أصل كان واضح أوي إنك مش طايقه".
بالفعل هو لم يستغث آدم، ربما بسبب فظاظته المتعمدة في حديثه مع روضة فور أن رآها..
و ربما غيرة منه بسبب الترف الذي يحيا فيه، على عكسه هو الذي يعمل ليلاً و نهاراً و في النهاية لا يحصل سوى على بضعة نقود لا تكفي متطلباته!
فغيّر الموضوع قائلاً: "أنا خايف تكوني غلطتي بمقابلتك ليه أصلاً".
هل حقاً أخطأت؟
لا، لقد رأت نظراته المُعجبة لأماني، كما لاحظت تأثر الأخيرة به على الرغم من إنكارها لذلك!
"لا مغلطتش، دي فرصة متتعوضش لأماني".
صحيح هي فرصة لا تعوّض، و لكن ماذا لو...؟!
"افرضي كان آدم ده مثلاً عايز يتسلى يومين، أنتِ كده مهدتيله الطريق على الأخر، خصوصاً لما وضحتيله إن أماني مالهاش حد".
انتفض قلبها داخل صدرها بفزع، هل يمكن أن يكون كذلك؟
رُباه، لو هذا صحيح ستكون أخطأت خطأ عمرها!
التفتت إلى فارس قائلة له بعصبية: "و لما أنت شاكك في كده خلتني أقابله و اتكلم معاه ليه".
ضغط على أسنانه بقوة مقدراً عصبيتها نتيجة حبها الشديد لأماني، ثم زفر أنفاسه بعنف و وضّح:
"أولاً لأني عمري ماشوفته معاها و لا شوفت نظراته المعجبة ليها زي مانتِ وصفتيها، فلو كنت اعترضت كنتِ هتقوليلي؛ أنت بتعترض على أساس أيه؟
و ثانياً لأنه لو كان ضاع من أماني و فضلت طول حياتها وحيدة كنتِ هتندمي و تقولي ياريتني لو كنت روحت و عملت..
فأنا حبيت أوفر عليكِ كل ده، و قولت نمشي في الطريق للأخر".
اقتنعت روضة بكلماته، و مع ذلك قالت بتردد: "و افرض كان بيلعب بيها زي ماقولت؟"
ليبتسم لها فارس مطمئناً، و يقول: "أولاً أماني مش ضعيفة، و قادرة أنها توجّه علاقتهما للطريق الصح، و لو حست مجرد إحساس إن غرضه اللعب هتنسحب فوراً..
ثانياً بقى لو جرحها بأي طريقة هيكون مضطر يواجهني، أومال أيه البنت برضه وراها رجالة".
و عدّل ياقة قميصه بغرور و هو يقول أخر كلماته.
لتتعالى ضحكات روضة قائلة: "و سيد الرجالة كمان".
ضحكتها العالية.. الرنانة لفتت الأنظار إليها، مما جعل الغيرة تسيطر على فارس، فنظر إليها بشزر، و قال بحنق:
"طب اكتمي ضحتك بقى لاحسن اكتمهالك أنا".
فزمّت روضة شفتيها، قائلة بتذمر: "أيه اكتمي دي، و بعدين مانت عارف إنها كده و أنا مش عارفة أغيّرها".
نعم هي هكذ، عالية.. غريبة، ذات رنة مميزة، تخطف الأنظار و تسحر القلب، و هو يحبها هكذا، و لا يريدها أن تغيرها!
"محدش قالك غيريها، بس بطلي ضحك في الشارع و اللي رايح و اللي جاي بيتفرج عليكِ".
ابتسمت بمكر، فهي تعلم عشقه لأصغر تفاصيلها، لهذا استخدمت كلمة (أغيّرها).
قالت بطاعة: "حاضر مش هضحك تاني خالص، المهم أنت متزعلش".
لينظر إليها و شبه ابتسامة تزين ملامحه، ثم يلتفت إلى الحافلة التي على مسافة منهما، فيرفع يده مشيراً لها بالتوقف.
دفع روضة للداخل، و أسرع للصعود خلفها قبل أن تتحرك الحافلة..
أمسك فارس خطيبته عندما ترنحت في وقفتها بسبب سرعة الحافلة، و وقفا في منتصفها حيثُ أنه لم يكن هناك مقعد خالي..
تنفس بحنق من هذا الوضع، و حاول حماية خطيبته بقدر الإمكان، حتى لا يتطاول عليها أي من الواقفين بجانبها، الذين يكادوا يلتصقوا بها!
دقائق مرا و هما على هذا الوضع، حتى ترجّل أحد الركاب، فدفع فارس روضة سريعاً للجلوس مكانه، قبل أن يسبقها أحد!
تأملته و هو واقف بجانبها، بملامح مغلقة يغلب عليها الحنق، مدركة أنه بسبب وجودهما في الحافلة، فهو يكرهها جداً!
عادت لتفكر في وضعهما، فهو منذ أن فاتحها في موضوع عقد قرانهما و هي انشغلت في موضوع صديقتها و مساعدتها، و لم تتحدث معه فيما يخصهما مرة أخرى، حتى أنها لا تعرف إن كان فاتح والدها في الموضوع أم لا!
لقد قصّرت كثيراً في حق علاقتهما، خاصة و هي تعلم مدى معاناته ليكونا سوياً في أقرب وقت!
و من جانب فارس كانت أمواج الغضب تعصف في قلبه، غضب نابع من مظاهر الترف الشديدة التي رآها على آدم، و المُتمثلة في ملابسه المهندمة التي تشير إلى أغلى الماركات، و سيارته الفارهة و التي يصل ثمنها إلى الآلاف، في حين هو يُجاهد للحصول على شقة صغيرة تضمه هو و خطيبته!
أها كم أن الفقر صعب و يذل صاحبه!
**********
سارا بصمت في الحارة، فارس يرثي حاله و وضعه الذي لا يؤهله لتحقيق أحلامه، و روضة تفكر إن كان سيُفاتحها في موضوع زواجهما مرة أخرى!
فقدت روضة صبرها و صمتهما يطول، لتقول بتردد: "فارس، أنت اتكلمت مع بابا في موضوع كتب كتابنا".
ابتسم فارس بسخرية، حبيبته الحمقاء بعد أن رفضت الوقوف بجانبه للحديث مع والده في موضوعهما، تريد معرفة سبب عدم مفاتحته للأخير!
و يا ليتها اختارت صيغة سؤال صحيحة، بل سألت دون أن تفكر!
فكيف سيُفاتح والدها في موضوع كهذا دون أن تعرف هي؟
"لاء".
إجابة مختصرة لن ترضيها، فسألته بارتباك: "و لاء ليه؟
مش أنت قولتلي إنك هتكلمه!"
"و أنتِ قعدتي تتلككي بحجج ملهاش لازمة (تتخذي أعذاراً واهية) فطنشت (صرفت نظر عن الموضوع)".
قال لها بلا مبالاة مصطنعة، مخفياً الألم الذي يملأ قلبه.
لتصيح باستنكار: "أنا طنشت!"
للمرة التي لا يعلم عددها لفتت إليها الأنظار، فصرخ من بين أسنانه: "دي أخر مرة هقولك وطي صوتكِ، المرة الجاية هيبقالي تصرف تاني".
تجاهلت تحذيره، و قالت بإصرار: "طيب، بس هتكلم بابا أمتى؟"
ليقول فارس بسخرية لاذعة: "غريبة، اللي يسمعك دلوقتي ميقولش هي دي اللي من يومين كانت بتحاول تتهرّب من الموضوع بأي طريقة".
فبررت روضة بانفعال، و مع ذلك خرج صوتها منخفضاً كي لا تغضبه أكثر:
"أنا متهرّبتش، أنا قولتلك كلّم بابا علشان أنت متفق معاه من الأول".
لتزداد سخريته منها بقوله: "و هو دلوقتي الموضوع مبقاش مع بابا و بقي معاكِ أنتِ يعني!"
تأففت بحنق، فهو يدور و يدور دون أن يُعلمها بما سيفعله!
"طب يا فارس براحتك، اعمل اللي أنت عايزه".
كانا قد وصلا إلى منزلها، فتركته دون كلمة أخرى و صعدت لشقتها..
سار فارس وحيداً لعدة دقائق لا تتجاوز الخمسة، قبل أن يصل إلى منزله، و الذي لم يكن يختلف عن منزل خطيبته كثيراً، فهو أيضاً مكتز بوالديه و أخواته، بالإضافة إلى زوجة شقيقه الأكبر و طفلته، كما أنه يحتل على أثاث قديم لا يتجاوز ثمنه المئات.
"اتأخرت كده ليه يا فارس؟"
سألته والدته فور أن ظهر أمامها.
فأجابها الأخير بضيق: "كان عندي مشوار مهم".
استشعرت والدته ضيقه، و لكنها لم تحبذ الحديث معه الآن، ففارس من النوع الكتوم الذي لا يتحدث إلا عندما يريد، كما أنها تنتظر حتى يحدث ما كانت تخطط له منذ أشهر دون علمه!
نهضت من مكانها بثقل، و هي تقول له: "طب يا حبيبي، روح أنت غيّر هدومك بعدين ما احضرلك لقمة تاكلها".
فسارع فارس بالقول رافضاً: "لا يا حبيبتي ارتاحي أنا مش جعان، أنا هدخل أنام".
ثم اتجه إلى غرفته، لتشيّعه والدته بدعواتها: "ربنا يفرجها عليك يا ضنايا (أبني).
**********
أغلق الباب عليه، ثم اتجه إلى الدولاب ليفتحه و يسحب من أسفل ملابسه عدة أوراق نقدية..
أخرج من جيب سرواله ما معه من أموال، ليجلس على السرير و يبدأ في إحصائها..
خمسة آلاف جنيه..
تأفف بضيق، صحيح أنه جمع في الفترة الأخيرة الكثير، إلا أنه أيضاً لايزال أمامه الكثير!
تُرى إن ذهب لوالد روضة بهذا المبلغ و طلب أن يكتب كتابه عليها سيوافق؟
خاصة و أنهما قد اشتريا بعض الأجهزة الكهربائية..
طرقات على باب غرفته قطعت أفكاره و حساباته، و دخول والدته جعله يعتدل في جلسته، و يجمع النقود بتأفف.
"خير يا حبيبي مالك، متضايق ليه؟"
سألته بعد أن جلست بجواره، و كفها يمسح على وجنته بحنو.
لترتسم ابتسامة خفيفة على شفتيه بينما يسحب كفها ليقبله، ثم يقول: "بخير يا حبيبتي متقلقيش".
ربتت على كفه بدعم، ثم أبعدت كفها عنه، لتُخرج مظروف أبيض متوسط الحجم، لا يعلم أين كانت تخفيه، و تعطيه له دون أن تفسّر له عما يحويه..
"أيه ده يا حجة، أوعي يكون حجاب".
تعالت ضحكات والدته إثر مزحته، و ضربته على كتفه بخفة ممازحة، و قالت: "حجاب أيه بس يا واد، هو أنا بتاعت الحاجات دي".
"أومال أيه ده يعني؟"
قالها و هو يفتح المظروف ليرى ما في داخله، لتتوسع عيناه بصدمة و هو يرى الأموال التي بداخله!
"أيه دول يا ماما".
لترتسم ابتسامة واسعة على وجه والدته، و هي تقول: "زي مانت شايف يا حبيب أمك".
نظر إلى الأموال التي في يده بارتياب، إنها كثيرة.. كثيرة جداً..
من أين حصلت عليها؟!
"جبتيهم منين دول يا ماما؟"
لتتحدث والدته بفخر لما فعلته، و سعادة لأنها ستسعد أبنها: "هو أنا مقولتلكش!
أنا كنت عاملة جمعية، و الحمد لله قبضتها النهاردة".
ليعبس بملامحه بضيق على حاله الذي جعل والديه يحملا همّه..
"ليه كده بس يا ماما، هتجيبي فلوسها منين بس؟"
لتربت على وجنته بحنو، و تقول مبتسمة: "متقلقش ربنا هيسهلها إن شاء الله، و اللي خلاني ادفع الشهور اللي فاتت يخليني ادفع الشهور الجاية..
المهم حط المبلغ ده على الفلوس اللي معاك و شوف ناقصك أيه و اشتريه، و اتحرك شوية في موضوع الشقة ده بقى، عايزين نفرح بيك".
نقل نظراته بين والدته و الأموال التي في يده، لترتسم ابتسامته أخيراً على شفتيه، و يقترب من والدته مقبلاً جبينها بامتنان، ثم يقول:
"ربنا يخليكِ ليا يا ست الكل، و متقلقيش أنا إن شاء الله هخصص جزء من مرتبي كل شهر علشان أساعدك في سداد الجمعية".
"مالكش دعوة بالفلوس، أهم حاجة عندنا سعادتك".
ليميل فارس مقبلاً يدها، داعياً بأن يحفظها الله له هي و والده..
ليفكر بعدها أنه بإمكانه الآن الذهاب إلى والد روضة دون خوف، بل إن حالفه الحظ يستطيع تحديد موعد للعرس بدلاً من عقد القران فقط!
**********
راقباه والديه و هو شارد، حتى أن صحن طعامه لم يمسه!
فراودهما القلق على حال أبنهما الذي تغيّر كثيراً في الفترة الأخيرة، ليقرر والده أنه حان وقت التدخّل و معرفة المشكلة التي تواجه أبنه!
"مالك يا آدم؟
أنت بقالك كم يوم مش على بعضك، أيه اللي شاغل بالك؟"
لم يستغرق آدم وقتاً كثيراً في التفكير، فهو لم يعتاد أن يفعل شيئاً إلا بعد استشارة والديه، لكنه هذه المرة راوغهم قليلاً، حتى يعرف رأيهم أولاً!
"فيه واحد صاحبي قرر يتجوز".
تمنت والدة آدم أن تكون هذه البداية، و يتحرك أبنها مثل صديقه و يتزوج.
"عقبالك لما تقرر أنت كمان".
فابتسم آدم بمرح، و قال مخفياً قلقه من رد فعلهما: "أها لو عرفتي هو هيتجوز مين، مكنتيش قولتي الكلمة دي".
لتظهر الحيرة على وجه والدته، قبل أن تطلق شهقة عالية و ما يأتي في عقلها غير مقبول!
"لا يكون ناوي يتجوز واحدة من إياهم، اللي متعرفش لبسها بيبدأ فين و ينتهي منين".
تعالت ضحكات آدم و والده إثر كلماتها، و جاسم يُعلق بمشاكسة: "ليه هما بيلبسوه ازاي؟"
فتقول والدة آدم و هي تضع في صحنه المزيد من الطعام: "أنا عارفة، هو لبسهم بيبقى غريب كده و مش معروف أوله من أخره".
لينفي آدم بضحكة: "لا يا ماما مش كده".
فيظهر الفضول على وجه والدته، و هي تسأله: "أومال أيه؟"
حاول آدم اختيار كلمات مناسبة لا تكون ضد أماني، و لكن عقله كان متوقفاً لا قدرة له على التفكير، و قلبه ينبض بعنف، فقال دون تفكير:
"لما راح سأل عنها الكل قاله لا و انفد بجلدك (اهرب) و بلاش منها".
لينعقدا حاجبي والدته بارتياب، و تسأله: "لا يكون مشيها بطّال؟"
بينما جاسم كان يراقب ملامح آدم جيداً، و قلبه يخبره أن الموضوع لا يقتصر على صديق ولده فقط، خاصة و آدم يتهرّب بعينيه من النظر إليه هو و زوجته، و يفرقع أصابعه بتوتر!
"لا يا ماما، بس هما قالوله إنها وش نحس، و أذت ناس كتير قبل كده".
شهقة أخرى صدرت من والدته، تزامنت مع ضربها لصدرها بصدمة، قبل أن تقول: "و هو عليه بأيه ده يابني؟
مايشوفله واحدة تانية تكون كويسة".
عبوس وجه آدم و انزعاجه أكدا لوالده أن ما يشعر به صحيح..
و ما زاد من تأكيده هو دفاعه عن الفتاة باستماته.
"أيه اللي بتقوليه ده بس يا ماما؟
هو فيه حاجة زي كده أصلاً، دي كلها تخاريف".
لتنفي والدته حديثه باقتناع: "تخاريف أيه بس يابني، أنت أيش عرفك بالحاجات دي!
اسمع مني و خلي صاحبك ينسى الموضوع ده، و يشوفله بنت تانية تكون كويسة".
ازداد عبوس آدم و تجهّم وجهه، فالتفت إلى والده.. أخر أمله، داعياً بداخله أن يكون له رأي مخالف.
"و أنت أيه رأيك يا بابا".
تنهد والده بتفكير، و نظراته تتوغل إلى أعماق أبنه، فتكشف الأمل الساكن في عينيه!
ليقول مبدلاً عبوس أبنه إلى ابتسامة سعيدة: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا..
أنا من رأيي لو البنت أخلاقها كويسة يبقى خلاص، أي حاجة بعد كده قضاء و قدر".
ليعقّب آدم برضى على كلمات والده: "و أنا قولتله كده برضه يا بابا".
ليصل تأكيد جاسم إلى نسبة مائة في المائة، فخلف الموضوع إن، و لكن متى سيصارحهما أبنهما بالحقيقة؟
لوت والدة آدم شفتيها بعدم رضى، و قالت: "علشان غبي، دلوقتي لو صاحبك حصله حاجة هتشيل أنت ذنبه".
ليعود آدم إلى عبوسه، بينما والده يقول بنبرة ذات مغزى:
"مالناش دعوة احنا بقى يا أم آدم، الرجل طلب نصيحة أبنك و هو متأخرش، يتجوز البت بقى و لا ميتجوزهاش فدي حياته و هو حر فيها".
لتلتقط والدة آدم الصحون، و تنهض و هي تقول: "على رأيك و احنا مالنا، كل واحد ينام على الجنب اللي يريّحه (يفعل ما يريد).
فيتنهد آدم بضيق، و ما يحلم به تزداد صعوبة تحقيقه من الجانبين، جانب والديه و جانب أماني!
**********
"أنا مش عارفة بس أنتِ جراني وراكِ على فين؟"
هتفت أماني بارتياب و تصرفات صديقتها الغريبة تثير حيرتها..
فلقد فاجئتها في الصباح عندما جائتها طالبة منها أن يذهبا سوياً لشراء بعض الأغراض التي تخص زواجها لأن فارس ليس متفرغاً، مع أنه يوم جمعة!
و الغريب أنها طوال الطريق تتبادل عدة مكالمات قصيرة بكلمات مبهمة مع فارس!
و الآن تأخذها إلى أحد المطاعم الفخمة التي لا يحلما بدخولها، بعذر أن فارس ينتظرها هناك مع صديقه!
"و بعدين هو فارس أيه اللي هيجيبه هنا، دي قاعدة واحدة هنا بمرتب شهرعنده!"
فتقول روضة بكذب دون أن تنظر إليها: "ياستي أنا زيي زيك معرفش حاجة، هو كلمني دلوقتي و قالي أجي على هنا علشان مستنيني مع صاحبه، و بعدين هو من ساعة ما ميعاد كتب كتابنا اتحدد و هو قالب الدنيا علشان يلاقي شقة".
"و أنا مالي تجيبيني معاكِ ليه؟"
قالت أماني بتذمر.
لترد روضة و هي تسحبها إلى داخل المطعم: "مانا هتكسف اقعد لوحدي".
لتعبس أماني بملامحها غير مقتنعة بإجابة صديقتها، و لكنها لم تجد فرصة للمناقشة حيثُ سحبتها روضة إلى الداخل.
و كأول مرة دخلت أماني إلى مكان كهذا، تعلقت أنظارها به، تتأمل فخامته و ديكوره الكلاسيكي الذي يبعث الراحة إلى النفس..
فاستغلت روضة هذه الفرصة لتسحب أماني -دون أن تنتبه لها الأخيرة- إلى الطاولة التي يجلس عليها فارس و آدم.
"هستناكِ أنا و فارس برا".
انتبهت أماني إلى جملة صديقتها فالتفتت إليها بحيرة، لتجدها خرجت من المطعم!
"مساء الخير".
وصل صوته إلى أذنيها لتتجمد في مكانها، قبل أن تلتفت إلى الجالس على الطاولة بصدمة!
"و الله لأوريكِ يا روضة".

و كان القدر (كاملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن