الفصل الثالث

7.8K 283 10
                                    

الفصل الثالث
لدقائق بدت طويلة بالنسبة إلى أماني، كانت روضة ترمقها ببلاهة، عينان متسعتان بدهشة، و فم مفتوح بعدم تصديق!
تململت أماني في جلستها و حالة روضة تنذرها أن القادم لن يكون جيداً، فقالت بمرح زائف:
"أيه يا بنتي مالك؟، ما تتعدلي كده فيه أيه".
رمشت روضة بعينيها، كأول رد فعل تحصل عليه أماني بعدما قصّت عليها ما فعلته مع ذلك اللاعب!
لتصيح بعدها و هي تشد شعرها بجنون:
"أنتِ مجنونة، أيه اللي أنتِ عملتيه ده، ده أنتِ فضحتي الرجل".
ارتجفت أماني في مكانها من نبرة صديقتها العالية و تأنيبها لها، لتُحاول التبرير بارتباك:
"أنا حذرته إنه يبعد عني قدامك، و النهاردة كمان قولتله يبعد، بس هو عِندي و مرضاش يمشي".
فتأخذ روضة أنفاسها بقوة، مُحاولة السيطرة على غضبها، قبل أن تقول من بين أسنانها:
"تقومي تصرخي و تقولي إنه بيعاكسك، و تلمي عليه الناس!"
فتعض أماني شفتيها، ثم تقول ببراءة طفولية: "مكنش فيه حل تاني علشان يبعد عن طريقي غير ده..
و بعدين يحمد ربنا، ده أنا كنت ناوية اتهمه بالتحرش".
فتنطلق ضحكات روضة لتملأ الغرفة الصغيرة، فتتوسع حدقتا أماني بدهشة!
"ده على أساس إنك كده بعدتي عن التحرش خالص؟!"
سألتها روضة بسخرية.
فأجابتها أماني مُبتسمة ببساطة: "طبعاً و إلا كنت أخدته على القسم".
لتعود روضة لشد شعرها بعصبية، و هي تقول: "أنتِ عايزة تجننيني يا بت أنتِ".
ثم تزفر أنفاسها بقوة، و تعد بداخلها من واحد إلى عشرة حتى تهدأ تماماً، لتقترب بعدها في جلستها من أماني، و تقول بهدوء تُجاهد للحصول عليه:
"ليه عملتي كده بس يا أماني، أنتِ متخيلة الحركة البسيطة بالنسبة لك دي ممكن تعمل فيه أيه؟
أنتِ ناسية إنه لاعب مشهور و الكل يعرفه، افرض حد صور الموقف اللي حطيتيه فيه ده و نشره على الفيس و لا اليوتيوب، هيبقى شكله عامل ازاي!"
ضميرها الذي سيطرت عليه بقوة جبارة منذ أن فعلت ما فعلت استيقظ مرة أخرى مع حديث روضة، ليعود لتأنيبها بقوة، و مع ذلك قالت برأس صلب:
"و الله هو اللي حط نفسه في الموقف ده من الأول، و بعدين أنا مغلطتش في حاجة هو فعلاً عاكسني".
لتتأفف روضة بداخلها، ثم تصمت بقلة حيلة، فبم سيفيد حديثها و قد حدث ما حدث؟!
**********
تجمعت العائلة الصغيرة على الأرض حول مائدة طعام منخفضة الارتفاع..
وضعت روضة أخر صحن في يدها على تلك المائدة، قبل أن تنضم لعائلتها، بينما بقت أماني على وقفتها، و قالت:
"طب يا جماعة هستأذن أنا بقى".
ليلتفتوا إليها أفراد العائلة بغضب، و كأنها سبتهم و لم تستأذن للمغادرة!
"اقعدي يا أماني"، قالها والد روضة بهدوء.
لتتورّد وجنتا أماني بخجل، و تقول معتذرة: "مفيش داعي و الله يا عمي أنا مش جعانة، شكراً".
استمرت النظرات الغاضبة تحيط بها، فتململت في وقفتها بارتباك، خاصةً و هي تسمع صديقتها تقول:
"عيب كده يا أماني، اقعدي و إلا بابا هيزعل".
و للتخفيف من الموقف، هتف فارس -و الذي كان منضماً إليهم طبقاً لدعوة مُسبقة- بمرح:
"هو شكله كده العيب فيّا أنا، و هي مش عايزة تقعد و أنا موجود".
فسارعت أماني بتبرير: "لا طبعاً و الله".
لتتدخل والدة روضة، قائلة: "خلاص بقى يا بنتي اقعدي و متتعبيش قلبنا معاكِ".
و بخجل.. استجابت أماني لطلبهم، لتنضم إلى المائدة الصغيرة، مُشاركة إياهم الطعام..
ساد الضحك و المزاح الجلسة، فتأملتهم أماني بشرود..
تُرى ماذا كان سيحدث لو لم يتوفّا والديها؟!
أكانت ستحظى بعائلة مثل المُحيطة بها الآن؟
أب لا تشعر بالأمان إلا بوجوده، يُجاهد لرعاية أولاده و تلبية متطلباتهم على الرغم من ظروف المعيشة الصعبة، و لكنه يتحمل في سبيل ضحكة من أبنائه، مثل تلك المُرتسمة على فم الصغيرة ريم، مُستجيبة لوقوف والدها بجانبها في مشاجرة ضد شقيقها الأكبر..
و أم الحنان ينبعث من كل ذرة في جسدها، تستقبلك في أحضانها في كل وقت و أي وقت، تستمع إليك و تعطيك النصيحة..
تسهر بجانبكِ إن تعبت، و يتآكل قلبها خوفاً عليك..
و أشقاء مثل زياد و ريم، وجودهما فقط يُشعرك بالسعادة، و أنك ليس وحيداً..
ماذا لو امتلكت كل هذا؟
بالتأكيد حياتها كانت ستختلف، و ربما حتى كانت لتمتلك رجل يهبها قلبه بكل حب مثلما رُزقت روضة بفارس..
و لكن حظها، أو ربما قدرها، جعلها كاللعنة، لا يقترب منها أحد إلا بعد أن يوّقع على صك موته!
تغضّنت ملامحها و تلك الأفكار الكئيبة تسيطر على عقلها، فتنهدت بقوة محاولة تجاهلها، مؤجلة التفكير و سب حظها السئ إلى إشعار أخر!
"أيه يا أماني مبتكليش ليه؟، هو الأكل مش عاجبك و لا أيه؟"
سألتها والدة روضة مُعاتبة.
لتنتبه أماني أنها في ظل شرودها لم تنتبه للمحيطين بها، و لم تمد يدها إلى الصحن الموضوع أمامها، فأسرعت لأخذ ملعقة منه، ثم قالت بعد أن ابتلعت ما في فمها:
"بالعكس يا خالتي و الله ده طعمه حلو أوي، تسلم أيدك".
و بعدها شاركتهم الطعام و الحديث!
"أنت لسه مالقيتش شغل برضه يا فارس يابني؟"، سأل والد روضة خطيب أبنته بفضول.
ليترك فارس قطعة الخبز التي كانت في يده، و يهتف بتجهّم بينما ينظر للطعام الموضوع أمامه:
"لا و الله يا عمي لسه بدور، دعواتك".
لتنطلق الدعوات من فم كل العائلة، و ليس والد روضة فقط!
فأمنية الجميع أن تتزوج روضة من رجل يحميها و يحافظ عليها، و حينها أيضاً سيخف الحِمل عن كتف رب المنزل، فزوجها مَن سيكون مسئول عنها.
أما هو، ففقد شهيته للطعام، و أكثر المواضيع التي تؤرق مضجعه يتم مناقشتها الآن!
يخشى أن يطلب منه والد حبيبته يوماً الابتعاد عن أبنته، فهو غير قادر على فتح بيت لها..
أو ربما يحدث الأسوأ، و يرغب شاب أفضل منه حالاً في الزواج منها، و وقتها تكون لغيره!
و لكن كلمات أماني فتحت له أبواب الفرج!
"صحيح يا فارس، المصنع عندنا هيزودوا ساعات العمل و طالبين عمال، ماتجرب كده يمكن ياخدوك في الوردية الليلية".
و مع أن ذلك يعني أنه سيقضي ما يقارب من اثنى عشر ساعة في عمل متواصل، إلا أنه لم يهتم، فالمهم أن يستطيع جمع ما يحتاج من أموال تكفيه لفتح بيت..
فأجابها بحماس: "بجد، طيب أروح أقدم النهاردة و لا بكرة؟"
لتوضح له أماني: "الأفضل النهاردة، علشان مش هياخدوا عدد كبير".
فأومأ متحمساً، ثم قال: "تمام، هطلع من هنا على هناك على طول إن شاء الله".
ليعود الجميع للدعاء له بالقبول في هذا العمل.
**********
جلس فارس في غرفة الضيوف الصغيرة ذات الصالون القديم في منزل والد روضة، يفكر في عمله الإضافي في المصنع و يدعو الله أن يكون من نصيبه، فهذا سيساعده كثيراً على جمع أكبر قدر من الأموال في فترة قصيرة..
دقائق و دخلت روضة، حاملة في يدها صينية عليها كوبين من الشاي..
فوقف فارس مسرعاً، ليلتقط منها الصينية و يضعها على الطاولة التي أمامه، بينما يقول:
"تسلم أيدك".
ابتسمت له روضة بخجل، ثم جلست على المقعد المجاور لذلك الذي يجلس عليه، لتسأله بعدها:
"كنت سرحان في أيه قبل مادخل؟"
ليبتسم لها بعبث، قبل أن يقول كاذباً: "و هسرح في مين غيرك يا جميل!"
لتعود ابتسامتها الخجولة لترتسم على وجهها، فيتنهد بقوة مُحاولاً السيطرة على أعصابه، قبل أن يُردف بجدية:
"روضة ماتيجي نكتب كتابنا".
رفعت عينيها إليه بدهشة، فلقد اتفق مع والدها من قبل ألا يتم عقد قرانهما إلا قبل أيام من إقامة العرس..
و للآن مستقبلهما يبدو بلا ملامح، فهو حتى لم يذهب إلى ذلك المصنع و يرى إن كان سيتم قبوله أم لا!
"أيه اللي جاب الموضوع ده في دماغك دلوقتي؟"
ليُقاطعها موضحاً: "الموضوع ده في بالي من زمان، ثم احنا طولنا أوي في الخطوبة، فخلينا نتحرك أي خطوة، يمكن تبقى فال حلو و تُفرج".
صمتت قليلاً مفكرة في كلماته، تتمنى حقاً أن تكون زوجته في أسرع وقت، فحينها سيزول خوف يحتل قلبها من فراق يحوم في الآفاق!
"بس أنت متفقتش مع بابا على كده".
ماذا يخبرها؟
أنه بات يخشى النوم فيستيقظ و يراها ملكاً لغيره!
أنه يحتاج إلى ورقة تربط بينهما كحاجة الإنسان للماء!
كتم كل هذا بقلبه، و قال بحذر: "لو أنتِ موافقة، فأنا مستعد اتكلم معاه تاني".
عقدت حاجبيها بتفكير، بينما هو ينظر إليها بأمل، لتقول أخيراً: "طب خلينا نستنى بس لغاية لما نشوف موضوع المصنع الأول".
و كلماتها لم تزيده إلا قلقاً!
فنهض قائلاً بامتعاض: "طب همشي أنا بقى".
لتنهض هي الأخرى قائلة باعتراض: "بسرعة كده، احنا لسه مقعدناش سوى، ده أنت حتى مشربتش الشاي".
و رافقت كلماتها الأخيرة بالإشارة إلى الكوبين الموضوعين على الطاولة.
فقال فارس بهدوء مريب: "معلش، و بعدين عايز الحق أشوف المصنع قبل ماروّح..
مع السلامة".
رافقته حتى باب المنزل، ليغادر دون أن يلقي عليها كلمة أخرى، فتنظر في أثره بحيرة.
**********
في غرفة نوم والدي روضة
"مالك يا صفية، حاطة الهم على دماغك و قاعدة ليه؟"
التفتت إليه قائلة بهمّ: "يعني مش عارف مالي يا حج، عاجبك حال روضة ده".
و مع أنه كان يفهم ما تريد الوصول إليه، إلا أنه هتف بمراوغة: "و ماله حالها؟
ما هي زي الفل اهوه و الضحكة منورة وشها".
لتنظر إليه نظرة ذات معنى، قبل أن تقول بعدم رضى: "أنت فاهم قصدي كويس، لأمتى هتفضل كده، لا هي متجوزة و لا حرة، محسوبة على رجل على الفاضي".
ليواجهها بحنق: "البت بتحبه و مرتاحة معاه و ده المهم..
و لا أنتِ عايزة ترميها لأي رجل و خلاص و في داهية سعادتها!"
لتضرب والدة روضة على صدرها بفزع، و تنفي صائحة: "أيه اللي بتقوله ده يا حج؟
أنا برضه مش هتهمني سعادة بنتي!"
استلقى والد روضة على سريره بتعب، ثم قال: "يبقى خلاص، ادعيلها إن ربنا يرزق خطيبها و يجمعها بيه في بيت واحد".
لتدعو والدة روضة لأبنتها بالسعادة.
**********
شهقة مصدومة خرجت من والدته، بينما والده ينظر إليه عاقد الحاجبين!
"آدم حبيبي، أيه اللي حصلك؟"
قالتها والدته بينما تقترب منه، متأمله هيئته الغريبة، قميصه نصفه داخل سرواله بينما النصف الأخر خارجه، شعره مبعثر و يغطي جبينه، ملامحه مقتضبة.. غامضة، و عيناه تفتقد لمعتهما المميزة!
"أنت أيه اللي عمل فيك كده؟"
سألته مرة أخرى عندما لم تحصل على إجابة منه.
فأجابها آدم بنبرة منكسرة: "مفيش حاجة يا ماما، أنا كويس".
رمقه والده بعدم اقتناع، ليسأله بحدة: "كويس أيه، أنت مش شايف شكلك عامل ازاي!"
ليعقد آدم حاجبيه بضيق، يا إلهي ليس الآن، لن يحتمل أي استجواب أو توضيح..
يرغب فقط في الاختلاء بنفسه، و جمع أشلاء كرامته التي بعثرتها ذات العينان الحزينتان بقسوة!
"مفيش حاجة، أنا داخل أنام".
قال كلماته ثم هرب إلى غرفته ناشداً الوحدة.
فتحركت والدته لتتبعه، و تستفهم منه عما حدث معه، إلا أن زوجها منعها:
"سيبيه دلوقتي، شكل في حاجة كبيرة حصلت معاه".
التفتت إليه زوجته باستنكار، و قالت: "أنت قولتها بنفسك يا حج، فيه حاجة كبيرة حصلت معاه، و مينفعش نسيبه كده".
ليتنهد والد آدم بقوة، مُفكراً فيما من الممكن أن يكون حدث مع أبنه و جعله في هذا الحال..
لينتبه إلى حديث زوجته، فيُجيبها بشرود: "سيبيه بس يرتاح و يهدا، و بعدين هو أكيد هييجي يقولنا، مانتِ عارفة إنه عمره ماخبّى عننا حاجة".
لتزفر زوجته أنفاسها باستسلام، مُعترِفة أن زوجها على حق.
**********
في غرفة آدم
استند على بابها بشرود، و ملامحه تجمع مشاعر شتّى..
حزن.. غضب.. كره.. ندم
مشاعر كثيرة تحتل قلبه لا يستطيع تفسيرها، فتنتقل لتظهر جليّاً على ملامحه..
أطلق تنهيدة قوية و هو يتذكر ما حدث، و كيف في لحظة انقلب حلمه الجميل إلى كابوس!
هاجمت مخيلته بعينيها الحزينتين، و اللتان كانتا تنظران إليه وقتها بتحدي.. لم يفهمه!
ليتفاجأ بعدها بصوتها العالي الذي رجّ الشارع، و إطلاقها لأفظع الألفاظ مُترافقة مع غضبها لسيره ورائها و إلقاء كلمات الغزل عليها..
فضحته، هذا ما فعلته بكل برود، فصوتها العالي جذب الناس حولهما، و الذين بُهتوا من رؤيته، و بدأوا في ذمّ أخلاقه، و تنبيهه أن شهرته لا تتيح له اللعب ببنات الناس!
حالما وصلت أفكاره إلى تلك النقطة، تحركت يده بسرعة لالتقاط هاتفه، و من ثم البحث بين مواقع الإنترنت عن أي فيديو أو خبر يُشير إلى ما حدث..
تحرك دون أن يشعر، ليجلس على أقرب مقعد، و يده مازالت تعبث بهاتفه، ينتقل من صفحة إلى أخرى..
ليتنهد براحة حالما اطمئن أن الأمر مرّ بخير، و لم تُثار فضيحته أكثر من ذلك..
ألقى هاتفه بإهمال ثم اتجه إلى المرحاض.
**********
أزال بخار الماء من على المرآة، ليظهر وجهه الكئيب و عيناه التي اكتسبت لمعة حزينة.. مثلها!
و لكن لا، لن يكون مثلها، و لن يسمح لها بكسره، هو آدم جاسم، يعشقه الكثير و مازالوا، و ماحدث مع تلك الفتاة لن يعرف به أحد، سيحرص على ذلك..
كما سيحرص على إخراجها من قلبه و عقله، و كأنها لم تكن، سيفعل ذلك من أجل مستقبله.
**********
أغلقت باب الغرفة حامدة الله أن أبنة عمها الصغيرة أصّرت على قضاء الليلة مع والديها، فأصبحت الغرفة خالية إلا منها، و كم تحتاج لهذه الخلوَة!
أزالت حجابها و ألقته بإهمال، ثم جلست على السرير و دفنت وجهها بين ذراعيها مُفكرة في أحداث هذا اليوم..
"هو أنا غلطت!"
سألت نفسها بشك و ما فعلته يتراءى أمامها مرة أخرى..
فيعلو صوت بداخلها: "طبعاً غلطتي، ده أنتِ فضحتي الرجل".
ارتجفت شفتيها معلنة عن بكاءها، بينما هي تبرر لنفسها: "لا أنا مغلطتش، هو يستاهل، مكنش لازم يقرّب مني".
أغمضت عينيها بقوة و هي تتذكر ملامحه الوسيمة و عيناه المليئة بالشقاوة..
هل لازال هكذا، أم كسره ما فعلته به؟
لينهرها عقلها بشدة، مؤكداً أن أقل شئ من الممكن أن يفعله معها ذلك اللاعب بعد ما حدث هو أن يُخرجها من حياته تماماً، ليلتوي قلبها ألماً!
ملست عليه ببطء لتواسيه، مذكّرة إياه أنه لا يجب أن ينبض، عليه أن يظل ساكناً جامداً، فهذا أفضل له.
"أوعى تحب، اللي زيي الحب مش هيجيبلها غير الألم".
و نامت و عقلها يردد هذه الكلمات باقتناع تام، بينما قلبها يبكي و نظرات آدم و حديثه يُعاد أمامها، ليؤنبها على ما فعلته به..
نامت و عقلها الباطن يأخذها إلى عالم أخر، عالم هي فيه فتاة كأي فتاة، تحِب و تُحب دون خوف، فتستمتع بمشاعر آدم اتجاهها!
**********
صباح اليوم التالي
وقفت أماني في نفس المكان الذي كان ينتظرها فيه آدم اليومين الماضيين، لتتغضّن ملامحها بيأس و هي تراه خالياً، و لا وجود لآدم فيه، فتعنفّ نفسها:
"أيه مالك فيه أيه؟
مش هو ده اللي كنتِ عايزاه!
يلا اتحركي على شغلك بقى و كملي حياتك الباردة دي".
لتجبر قدميها على السير، بينما عيناها الخائنتان تلتفتان بين كل خطوة و أخرى.. بحثاً عنه!
**********
و كالعادة، تفضًّل أماني الذهاب إلى روضة عوضاً أن تأتي الأخيرة إليها و تستمع إلى كلمتين من زوجة عمها.
"مالك يا أماني سرحانة في أيه؟"
و مَن غيره يشغل تفكيرها و يؤنبها بسببه ضميرها منذ أمس!
"مفيش".
رفعت روضة حاجبيها بعدم اقتناع، فصديقتها منذ وصلت و هي شاردة لم تتحدث، و كأنها في عالم أخر..
و بحكم صداقتهما التي تقارب العشرين عاماً، فهمت روضة سبب شرود صديقتها!
"آدم جاسم مجاش النهاردة صح؟"
لتأومأ أماني بالإيجاب دون رد، فتقول روضة بتقرير:
"طب و أنتِ زعلانة ليه، مش ده اللي أنتِ كنتِ عايزاه!"
هزت أماني رأسها نافية بعنف، و كأنها تنفي عنها ارتكاب جريمة!
"مين قالك إني زعلانة، أنا مش زعلانة خالص".
"و الله، طب عيني في عينيك كده".
قالتها روضة بمرح، رغبةً منها في إخراج صديقتها من الحزن الذي يسيطر عليها.
إلا أن أماني لم تستجيب لهذا، بل سارعت بالتقاط حقيبتها و استأذنت مغادرة.
فاستوقفتها روضة بدهشة: "هتمشي دلوقتي؟، ده أنتِ لسه جاية".
فتجيبها أماني دون أن تنظر إليها: "حاسة إني تعبانة و عايزة أنام..
أشوفك بكرة".
و غادرت كال.. تائهة!
**********
بعد يومين
ترجلا فارس و روضة من الحافلة أمام نادي.......
فتحركت روضة متجهة إليه، ليمسكها فارس مانعاً إياها من التقدم، قائلاً بسخرية:
"حيلك حيلك رايحة فين بس".
"هدخل"، ردت عليه ببساطة.
لتتعالى ضحكاته مُثيرة ارتيابها، فتسأله بعبوس: "ممكن اعرف أنت بتضحك على أيه؟"
أخذ فارس نفساً قوياً بعد أن هدأت ضحكاته، ليقول بابتسامة جانبية: "على غبائك يا حبيبتي".
"نعععععم!"
صاحت روضة بغضب غير عابئة بكونها في الشارع!
فالتفتت الأنظار نحوهما بارتياب!
ليُسارع فارس بوضع كفه على فمها، بينما يقول من بين أسنانه و عيناه تطلق شرارات من الغضب:
"وطي صوتك هتفضحينا".
لتبعد روضة كفه عن فمها، و تخطو عدة خطوات للخلف عابسة، و تقول: "و أنت اسكت أحسن".
منعها فارس من الابتعاد ساحباً إياها من ذراعها، ليقفا على مسافة قريبة من النادي.
فسألته روضة بتذمر: "احنا واقفين هنا ليه؟"
فتنهد فارس بصبر، و أجابها بتوضيح و كأنه يفهّم طفلة صغيرة: "روضة يا حبيبتي، النادي ده مش أي حد يدخله.. ده أولاً..
ثانياً لو روحنا و سألنا عن آدم ده و احنا بالمنظر ده، فأقل حاجة الأمن هيعملها إنه هيرمينا بعيد".
لترمق روضة خطيبها بملابسه البسيطة المكوّنة من سروال جينز قديم باهت اللون، و قميص أسود تحول إلى لون الرصاص من كثرة غسيله!
ثم أطرقت برأسها لترى هيئتها التي لا تختلف عنه كثيراً، بالتنورة الطويلة التي تصل حتى كاحليها، و القميص الطويل الذي يعلوها مع حجابها..
لتعود بأنظارها إلى فارس سائلة إياه بحبرة: "و هي مناظرنا مالها!"
فهمس فارس و عيناه تأكلها: "إذا كان عليكِ فأنتِ زي القمر، و دي المشكلة بقى، لأنه لو فكر حد يقرب منك أنا مش هسكت".
لتتورد روضة خجلاً من غزله الصريح، و لكنها لم تستمتع بهذه اللحظة كثيراً، فسرعان ما عاد فارس إلى ثباته، قائلاً بجدية:
"احنا هنستناه هنا لحد لما يخرج و لا يدخل، و ساعتها نبقى نوقفه و تقوليله اللي أنتِ عايزاه".
و بالفعل وقفا منتظرين لساعة أو أكثر، و على الرغم من شعورهما بالتعب، إلا أن روضة أبت الرحيل إلا بعد رؤية آدم و إخباره بكل شئ.
**********
"بص.. بص، مش هو اللي في العربية اللي طالعة دي؟"
التفت فارس إلى ما تشير إليه خطيبته، و بالفعل وجد سيارة آدم جاسم تخرج من بوابة النادي، فأسرع ليقف أمامها، ليضطر آدم إلى الضغط على الفرامل.
**********
صعد سيارته بغضب، بعد أن تم توبيخه من مدربه بسبب شروده في التدريب و عدم انتباهه، و لم يكتفي المدرب بذلك، بل قام باستبعاده من المباراة القادمة، فكما قال:
"الماتش ده مهم جداً يا آدم و أنت عارف ده كويس، مش مسموح فيه بأي غلط..
فروّح و حل مشاكلك، و مش عايزك ترجع غير لما يكون ذهنك صافي و مركز، و ده لمصلحتك قبل مصلحة النادي، متنساش إننا داخلين على كأس عالم و أي تذبذب في المستوى ممكن يبعدك عن القايمة".
قاد السيارة بوجه أحمر من الغضب، كل ما يحدث بسببها، تلك التي لم تبارح تفكيره على الرغم من كل ما فعلته معه!
رُباه كم يكرهها!
"اطلعي من دماغي بقى اطلعي اطلعي".
قالها و هو يهز رأسه بعنف، رغبة في طرد الفتاة تماماً من عقله..
لتتوسع عيناه بذعر و هو يرى المجنون الذي يقف أمام سيارته، فيضغط على المكابح بقوة و قد وجد من ينفثّ فيه غضبه!
"أنت مجنون ازاي تقف في الطريق كده!"
صاح آدم بفارس و هو يتقدم منه مستعداً لشجار عنيف معه، إلا أنه توقف عندما رأى الفتاة التي انضمت للشاب واقفة بجانبه.
"أنتِ!"
"مساء الخير يا كابتن، ازاي حضرتك؟"
و قد وجد آدم فعلاً مَن ينفث فيه غضبه، فمَن غير صديقة تلك الفتاة سيتحمل عواقب ما فعلته الأخيرة!
"أنتِ عايزة أيه، و أيه اللي جابك هنا، مش كفاية اللي عملته صاحبتك؟
و لا أنتِ بقى جاية علشان تكملي اللي بدأته!"
عضت روضة شفتيها بحرج متحملة كلمات آدم، و كأنها مَن أخطأت في حقه!
إلا أن فارس لم يتحمل ذلك، فصاح به بحدة: "أنت بتكلمها كده ليه و بتعلي صوتك ليه، الحق عليها يعني اللي جت علشان تفهّمك!"
"تفهّمني!
و هتفهمني أيه إن شاء الله؟"، سأله آدم باستنكار.
لتتولى روضة الرد قائلة بهدوء: "بص يا كابتن، أنا عارفة إن أماني غلطت غلط كبير في حقك، و أنا بعتذرلك بالنيابة عنها".
تشتت تركيزه عند هذه الجملة، و قد عرف أخيراً أسم الفتاة التي خطفت لُبه بنظرة.
"بس صدقني هي عندها أسباب كتير لكده، كتيرة و بتوجع أوي، و ده اللي خلاها عملت اللي عملته مع حضرتك".
عاد إليه تركيزه، ليعقد حاجبيه بعدم فهم مُحاولاً تحليل كلماتها.
"قصدك أيه يعني؟"
"طيب ممكن نقعد في أي حتة و أنا هفهم حضرتك كل حاجة؟"
طلبت منه روضة برجاء.
ليتملّك آدم الفضول لمعرفة السبب وراء مافعلته أماني، فحديث الفتاة أثار ريبته!
نقل نظراته بينها و بين فارس، ليقول أخيراً: "طب اركبوا".
**********
أخذهما آدم إلى أحد الكافيهات، لينظرا فارس و روضة حولهما بفاه مفتوح ذهولاً و هما يشاهدان كل مظاهر الرقي تحيط بهما.
ليقاطع آدم تأملهما بقوله: "تحبوا تشربوا أيه؟"
لم يكن فارس قادراً على دعوة آدم لهذا، فقد كان مدركاً أن مشروب واحد من هذا المطعم الفاخر سيكلفه مبلغ و قدره، لذا قال:
"شكراً احنا مش عايزين حاجة، هما كلمتين روضة هتقولهم و هنمشي على طول".
إذاً هذه الفتاة تدعى روضة!
تجاهل آدم كلمات فارس، ليستدعي النادل طالباً منه ثلاث أكواب من العصير.
ثم التفت إلى روضة قائلاً: "اتفضلي قولي اللي أنتِ عايزاه".
بدأت روضة في قصّ كل ما عانته أماني في حياتها منذ الصغر، بدءً من وفاة والديها و انتقالها للعيش مع عمها، و حتى خطيبها السابق الذي بين يدي الله، بينما آدم يستمع لها مصدوماً!
ثم وضحت: "علشان كده هي كانت رافضة محاولاتك، و عملت اللي عملته معاك أخر مرة".

و كان القدر (كاملة)Where stories live. Discover now