الرفق‌ والمداراة‌ في‌ العمل‌

45 4 2
                                    

الرفق‌ والمداراة‌ في‌ العمل‌

 الثالث‌ : الرفق‌ والمداراة‌

 وهي‌ من‌ أهمّ الاُمور التي‌ ينبغي‌ أن‌ يراعيها السالك‌ إلی‌ الله‌، لانَّ أدني‌ غفلة‌ في‌ هذا الامر تكون‌ ـ إضافة‌ إلی‌ منعه‌ من‌ السير والترقّي‌ ـ سبباً كلّيّاً في‌ انقطاع‌ السفر. فالسالك‌ يجد في‌ نفسه‌ في‌ بداية‌ السفر حماساً وشوقاً زائداً علی‌ الحدّ المترقّب‌ من‌ أمثاله‌، بل‌ تلازمه‌ تلك‌ الحال‌ أثناء السفر وحين‌ ظهور التجلّيات‌ الصوريّة‌ الجماليّة‌ حيث‌ يحسّ في‌ نفسه‌ بالعشق‌ والشوق‌ الكثير، فيعزم‌ علی‌ أداء الاعمال‌ العباديّة‌ الكثيرة‌، فتراه‌ يقضي‌ معظم‌ أيّامه‌ في‌ الدعاء والندبة‌ مقتفياً كلّ عمل‌، ومتعلّماً من‌ كلّ شخص‌ كلمة‌، ومتناولاً من‌ كلّ غذاء روحي‌ لقمة‌. إلاّ أنَّ هذا الاُسلوب‌ من‌ العمل‌ ليس‌ مفيداً فحسب‌، بل‌ يؤدّي‌ إلی‌ الخسران‌، لانـّه‌ علی‌ أثر تحميل‌ النفس‌ أعمالاً ثقيلة‌ تأتي‌ النتائج‌ معاكسة‌، وبالتالي‌ تتراجع‌ النفس‌ إلی‌ الوراء، ويعود السالك‌ بعد ذلك‌ خالي‌ اليدين‌، ويفقد الرغبة‌ والميل‌ للقيام‌ بأدني‌ عمل‌ مستحبّ.

 وسرّ هذا الإفراط‌ والتفريط‌ هوأنَّ السالك‌ قد جعل‌ الذوق‌ والشوق‌ المؤقّتين‌ ميزاناً لاداء الاعمال‌ المستحبّة‌، وحمّل‌ النفس‌ عبئاً ثقيلاً، ولمّا انتهي‌ هذا الشوق‌ المؤقّت‌، وخمد لهيبه‌ المتأجّج‌، ضجرت‌ النفس‌ من‌ هذه‌ الاحمال‌ الثقيلة‌، وألقت‌ عصي‌ الترحال‌ في‌ البداية‌ أوأثناء الطريق‌، واشمأزّت‌ من‌ السفر وتبرأت‌ من‌ معدّاته‌ ومملاّته‌. إذن‌ علی‌ السالك‌ أن‌ لا يسقط‌ في‌ فخّ الشوق‌ المؤقّت‌، بل‌ علیه‌ أن‌ يقيس‌ بدقّة‌ مدي‌ استعداده‌ وحالته‌ الروحيّة‌ ووضعيّة‌ عمله‌ وأشغاله‌ ومقدار قابليّته‌ للتحمّل‌، وينتخب‌ العمل‌ الذي‌ يمكنه‌ أن‌ يداوم‌ علیه‌ علی‌ أن‌ يكون‌ أقلّ من‌ مقدار ومدي‌ استعداده‌، مكتفياً به‌ ومزاولاً له‌ حتّي‌ ينال‌ حظّه‌ الإيمانيّ من‌ هذا العمل‌.

 وبناء علی‌ هذا فالسالك‌ يشتغل‌ بالعبادة‌ طالما وجد في‌ نفسه‌ الميل‌ والرغبة‌، ويقلع‌ عنها مع‌ بقاء الشوق‌ لها حفاظاً علی‌ هذه‌ الرغبة‌ وهذا الميل‌، وبالتالي‌ يري‌ نفسه‌ دائم‌ الظمأ للعبادة‌. فمثل‌ السالك‌ الذي‌ يريد أن‌ يؤدّي‌ العبادات‌ كمثل‌ الذي‌ يريد تناول‌ الغذاء، علیه‌ أوّلاً أن‌ ينتخب‌ الغذاء الذي‌ يلائم‌ مزاجه‌، ثمّ يدعه‌ قبيل‌ الشبع‌ لتبقي‌ فيه‌ الرغبة‌ والميل‌ دائمين‌. وإلی‌ هذا الامر إشارة‌ في‌ حديث‌ الإمام‌ الصادق‌ علیه‌ السلام‌ مع‌ عبدالعزيز القراطيسيّ :

 يَا عَبْدَ العَزِيزِ ! إنَّ لِلإيمَانِ عَشْرَ دَرَجَاتٍ بِمَنْزِلَةِ السُّلَّمِ يُصْعَدُ مِنْهُ مِرْقَاةً بَعْدَ مِرْقَاةٍ ـ إلی‌ أن‌ قال‌ علیه‌ السلام‌ ـ وَإِذَا رَأَيْتَ مَنْ هُوَأَسْفَلُ مِنْكَ بِدَرَجَةٍ فَارْفَعْهُ إلَيْكَ بِرِفْقٍ، وَلاَ تَحْمِلَنَّ عَلَيْهِ مَا لاَ يُطِيقُ فَتَكْسِرَهُ.

 إجمالاً، يتبيّن‌ أنَّ العبادة‌ المؤثّرة‌ في‌ السير والسلوك‌ هي‌ تلك‌ العبادة‌ التي‌ تنشأ من‌ الرغبة‌ والميل‌، وإلی‌ هذا المعني‌ أشار علیه‌ السلام‌ :

 وَلاَ تُكْرِهُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَي‌ العِبَادَةِ.

رسالة‌ لُبّ اللباب‌ في‌ سير وسلوك‌ أُولي‌ الالباب‌  حيث تعيش القصص. اكتشف الآن