آخِر مرحلة‌ السلوك‌ الفناء في‌ الذات‌ الاحديّة‌

69 7 2
                                    

آخِر مرحلة‌ السلوك‌ الفناء في‌ الذات‌ الاحديّة‌

 وإجمالاً، فإنَّ السالك‌ بعد أن‌ يوفّق‌ لمشاهدة‌ نفسه‌ والصفات‌ والاسماء الإلهيّة‌ شيئاً فشيئاً يصل‌ إلی‌ مرحلة‌ الفناء الكلّيّ، ثمّ يصل‌ بعدها إلی‌ مقام‌ البقاء بالمعبود، وعندها تثبت‌ له‌ الحياة‌ الابديّة‌.
وبالتأمّل‌ والتدبّر في‌ الآيات‌ القرآنيّة‌ الكريمة‌ يُصبح‌ هذا الاصل‌ أمراً مسلّماً، وحاصله‌ أنَّ الله‌ تعالي‌ يقول‌ في‌ إحدي‌ آياته‌ الكريمة‌ :

 وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي‌ سَبِيلِ اللَهِ أَمْوَ 'تًا بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. [14]

 ويقول‌ في‌ مكان‌ آخر :

 كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ. [15]

 وأيضاً :

 مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَهِ بَاقٍ. [16]

 بضمّ هذه‌ الآيات‌ بعضها إلی‌ بعض‌، يتّضح‌ أنَّ أُولئك‌ الاحياء والمرزوقين‌ هم‌ عبارة‌ عن‌ وجه‌ الله‌ الذي‌ ـ بنصّ الآية‌ الكريمة‌ ـ لا يعرف‌ الفناء والزوال‌.

 ومن‌ جانب‌ آخر يُعلم‌ من‌ الآيات‌ القرآنيّة‌ الاُخري‌، أنَّ المراد من‌ وجه‌ الله‌ تعالي‌ والذي‌ لا يقبل‌ الزوال‌ هوتلك‌ الاسماء الإلهيّة‌.

 وبيان‌ ذلك‌ : أنـّه‌ قد فسّر في‌ آية‌ أُخري‌ وجه‌ الله‌ الذي‌ لا يزول‌ ولا يفني‌ بأسمائه‌ تعالي‌ التي‌ تترتّب‌ علیها صفات‌ العزّة‌ والجلال‌ :

 كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * ويَبْقَي‌' وَجْهُ رَبِّكَ ذُوالْجَلَـ'لِ وَالإكْرَامِ. [17]

 فقد اتّفق‌ المفسّرون‌ علی‌ أنَّ كلمة‌ «ذو» صفة‌ ل «وجه‌» أي‌ أنَّ وجه‌ ربّك‌ الذي‌ هو ذوالجلال‌ والإكرام‌ باقٍ، وكما نعلم‌ فإنَّ وجه‌ كلّ شي‌ء هوما تحصل‌ المواجهة‌ به‌، فوجه‌ أيّ شي‌ء مظهر له‌، والمظاهر هي‌ تلك‌ الاسماء الإلهيّة‌ التي‌ يواجه‌ الله‌ مخلوقاته‌ بها والنتيجة‌ أنَّ كلّ الموجودات‌ قابلة‌ للزوال‌ والفناء إلاّ الاسماء الجلاليّة‌ والجماليّة‌، وهكذا يُعلَم‌ أنَّ السالكين‌ إلی‌ الله‌ الذين‌ وصلوا إلی‌ فيض‌ سعادة‌ بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ هم‌ عبارة‌ عن‌ الاسماء الجلاليّة‌ لحضرة‌ الربّ جلّ وعزّ.

 ويُعلم‌ أيضاً بوضوح‌ مراد الائمّة‌ الاطهار علیهم‌ السلام‌ من‌ قولهم‌:نَحْنُ أَسْمَاءُ اللَهِ [18]، وليس‌ المقام‌ الذي‌ يصفون‌ أنفسهم‌ به‌ هومقام‌ الحكومة‌ الظاهريّة‌ الاجتماعيّة‌، وتولّي‌ الاُمور الشرعيّة‌ والاحكام‌ الإلهيّة‌ الظاهريّة‌. بل‌ المراد ذلك‌ الفناء في‌ الذات‌ الاحديّة‌ الذي‌ يتلازم‌ مع‌ وجه‌ الله‌ وصيرورته‌ مظهراً تامّاً للصفات‌ الجماليّة‌ والجلاليّة‌ الذي‌ لا يقارن‌ بأيّ منصب‌ ومقام‌.

 وفي‌ طريق‌ السير تكون‌ المُراقَبَة‌ من‌ أهمّ الاُمور وهي‌ في‌ حكم‌ ضرورة‌ من‌ ضروريّاته‌.

 فينبغي‌ للسالك‌ أن‌ لا يخلي‌ نفسه‌ دون‌ مراقبتها منذ أن‌ يضع‌ قدمه‌ الاُولي‌ في‌ الطريق‌ وحتّي‌ آخره‌، فهي‌ من‌ الضرورات‌ المؤكّدة‌. وليعلم‌ أنَّ المراقبة‌ درجات‌ ومراتب‌، فمنها ما يناسب‌ المراحل‌ الاوّليّة‌، ومنها ما يناسب‌ المراحل‌ التي‌ تليها. فكلّما سار نحوالكمال‌ وطوي‌ المراحل‌ والمنازل‌ أصبحت‌ مراقبته‌ أدقّ وأعمق‌ بحيث‌ لوحُمّلت‌ تلك‌ الدرجات‌ من‌ المراقبة‌ علی‌ السالك‌ المبتدي‌ لن‌ يستطيع‌ القيام‌ بها، بل‌ يترك‌ السلوك‌ فوراً ويهجره‌ أويحترق‌ ويهلك‌، ولكن‌ شيئاً فشيئاً علی‌ أثر المراقبة‌ في‌ الدرجات‌ الاوّليّة‌ والتقوي‌ في‌ السلوك‌ يمكنه‌ أن‌ يصل‌ إلی‌ المراتب‌ العالية‌ من‌ المراقبة‌ في‌ المراحل‌ التالية‌، وعندها فإنَّ الكثير من‌ المباحات‌ التي‌ كانت‌ له‌ في‌ المراحل‌ الاوّليّة‌ تصبح‌ حراماً وممنوعة‌ علیه‌.

رسالة‌ لُبّ اللباب‌ في‌ سير وسلوك‌ أُولي‌ الالباب‌  حيث تعيش القصص. اكتشف الآن