الفصل الثاني

80 9 1
                                    

استيقظت على صوت ضجة لا أدري مصدرها. كان الصوت أشبه بضرب على الجدران و الخشب. فزعت فطرت من فراشي و هرولت إلى السلم و قبل أن أهبطه رأيت عمي و معه رجال ملثمين. كل اثنين منهم يمسكان أبي و أخي حتى يشلا حركتهم.

و أمي عليها رجل واحد يكتفها و هي غارقة في دموعها. لم أحرك عضو و لم أصدرنفس. ظللت كالمشلولة مصدومة من المنظر. لم يكن لدي الشجاعة حتى أنزل و أحاول أن أفعل أي شيء.

سمعت عمي يصرخ في وجه أبي
" اتنازلي عن ميراث بابا و اكتبلي المحل و البيت و انا هسيبكم."
فصاح فيه والدي
" عايز تورثني بالحيا يا سلامة ! عايز تسرقني ! أنا عمري ما كنت بخيل في حقك. "
" ما أنا مش هستنى ان كل شوية تحن عليا. ده حقي أنا أكبر منك أنا المفروض دي كانت تبقى حياتي أنا. انت متستحقش أي حاجة. "
" و لما اكتبلك كل ده هنعيش منين ؟ "
" مش مهم هبقى اردلك اللي دفعتهولي "

فظل أبي يعانده و يصيح فيه و أصر ألا يرضخ له. بالتأكيد كان يعرف أن عمي لا ينوى على خير حتى اذا تنازل له عن كل كنوز الأرض. و لكن ذلك أزاد من حنق عمي فقال
" يبقى انت اخترت لنفسك و ابنك النهاية دي. "
و لكن قبل أن ينطق أبي بحرف صوّب أحد الرجال ناحية أخي رصاصة استقرت في رأسه.

حدث ذلك في اقل من ثانية لم يكد ينته صوت إطلاق الرصاصة حتى وجدت أخي مستقر على الارض و الدم خارجًا من مكان الرصاصة كالنهر. صرخت أمي على ذلك المنظر صائحةً " أنور " بكل ما لديها من قوة و ظلت تبكي بحرقة و لكن الرجل المسئول عن تكتيفها لم يترك لها فرصة حتى تتحرك أو تعبر عن غضبها.

شعرتُ أن أذني فقدت السمع للحظة. لم أستطع أخذ نفسي. و كانت الدموع تشق طريقها على خدي هابطة على رقبتي ثم الأرض. و لمعت في رأسي  جميع اللحظات التي تجمع بيني و بين أنور في ثانية.

صمت أبي لوهلة من الصدمة و شعرت أنه كبر مائة عام و أخذت الدموع تنهمر من عينيه دون أن يشعر. كانت هذه المرة الوحيدة التي أرى فيها أبي يبكي. لم أرَ العجز على والدي في أي وقت مثل ذلك. ما لبث أن سقط في الأرض على ركبتيه و أخذ ينظر لأنوّر و كأنه يقول
" أنا آسف يا بني. يا ريتني كنت كتبتله كل حاجة. يا ريت الرصاصة كانت جت فيا أنا. "

ما لبث أن عاد لرشده و كان كالفرس الهائج أسرع ناحية عمي و بدأ يضرب فيه حتى سمعت صوت رصاصة أخرى و لكن تلك من مسدس عمي. صوبها في بطنه لأنه كان يُضرب منه. و من قوة الرصاصة ابتعد أبي عنه بضع سنتيمترات. حينها صوّب عمي ناحيته رصاصة أخرى في صدره. ثم أشار للرجال بأن يرحلوا على الفور و صاح و هو راحلاً
" متحاولوش ترفعوا قضية عشان هي كده كده لابسة ناس تانية غيري."

وقع أبي في الأرض إثر الرصاصة الاخيرة بجانب أخي. جرت أمي عليه و أخذته بين أحضانها. فقد أبي الكثير من الدماء لم أر تلك كمية الدماء من قبل. غطت الأرض و أغلب ملابس أمي. ظلت أمي تحتضنه و تبكي و هو كان يلفظ أنفاسه الأخيرة. لم يقل شيء سوى الشهادتين ثم فقد السيطرة على كل جسده و بدأت جفونه تهبط شيئًا فشيئًا حتى اُسدلت على عينيه.

نزلت عالسلم و أنا لا أشعر بقدمي و أعصابي فاقدة للسيطرة لدرجة أنني سقطت و تعثرت مرات عديدة حتى وصلت للأرض. اقتربت من أبي و أخي و دموعي تغطي وجهي لا أسمع صوت صراخ و بكاء أمي. كأن العالم توقف للحظة. لا أسمع شيء سوى صوت ضربات قلبي العالية أشعر بكل نبضة في بطني و يدي و رقبتي. و بدون أن أشعر وجدت نفسي أقع على الأرض بين أبي و أخي و
أستلقي في أحضان أخي.

أنظر ناحية أمي و أبي و بداخلي أنا لا أقوى على تصديق أن هذا حدث بالفعل. شعرت أنني في كابوس. فأغمضت عيني في أحضان أخي متوقعة أن استيقظ أجده على سريري يحتضني بسبب فزعي من كابوسي هذا. و لكن عندما فتحت عيني لم أجد سوى هذه المأساة التي أحياها الآن.

لم نلبث طويلاً حتى سمعنا صوت عربات الشرطة خارج المنزل. لعل أحد الجيران طلبهم بعد سماع صوت طلقات الرصاص. كسروا الباب حتى يدخلوا. وجدوني أنا و أمي نحتضن أبي و أخي. قاموا بإبعادنا عنهما بصعوبة حتى يفحصوا الجثث و مسرح الجريمة.

ظللت جالسة في أحضان أمي غير قادرين على التفوه بكلمة. نشاهد ما يفعله رجال الشرطة. كانت أمي شديدة الدفء من كثرة بكائها و لكنني بالتدريج بدأت أشعر بالبرودة في يدها و كل جسدها المحيط بي.

و فجأة أحسست برأسها تهوى على رأسي فعندما رفعت رأسي و تحركت بعيدًا عنها لكي أنظر لها هبط كل جسدها المرتخي على الأرض بجانبي. أردت أن أصرخ و لكنني لم أستطع و ظللت أنظر لها و أنا مصدومة. حتى لاحظ ذلك المنظر أحد رجال الإسعاف الذين حضروا. فتفحصها ثم نظر لي بأسى و قال
" البقية في حياتك "

حياتي !! هل هناك حياة بعد ذلك ؟ لم تتحمل أمي فقدان أبي و أخي و ماتت. لمَ مت زلت حية ؟ اقبِض أنفاسي يا رب. لماذا تركتني لكي أعاني ؟ لا أعرف ماذا أفعل أو إلى من ألجأ ؟ ظللت جالسة لا اتحدث. أشاهد ما يحدث أمامي.

شعرت بيد منة على كتفي و هي تواسيني و تقول
" أنا أسفة لو كنت قلبت عليكي المواجع. أنا مكنش قصدي."
" و لا يهمك. أنا عمري ما نسيت. "

و كيف أنسى نقطة التحول الفارقة في حياتي ؟! قد أصبح العالم في نظري بعدها مكان مخيف موحش لا يوجد فيه مشاعر و إن وُجِدت فهي زائفة. لأول مرة في حياتي أشعر بالوحدة القاتلة. ظللت جالسة أرى جميع ذكرياتي مع اسرتي كأنني أشاهد فيلمًا.

كيف سأحيا بعد أسرتي ؟ و لكنني لم أكن أعلم ما ينتظرني لأن أسرتي كانت كالحائط السد الذي ظل طوال وجودهم يحميني مما أنا على وشك القدوم عليه.

لم يفيقني من ثُباتي إلا قدوم عمي و عمتي. سمعت صوتهما و هما يقولان بصوتٍ عالٍ
" هي دانا فين ؟ "

شعرت أن نبضات قلبي توقفت إثر سماعي لبحثهم عني. هل يجب أن أهرب ؟ أم من الأفضل أن أواجههم و أبلغ عن عمي ؟ أم أظل مكاني بلا حراك و صوت ألوذ بالفرار لأحلام اليقظة التي تحيا فيها أسرتي بذكرياتي في سلام ؟

الصعود للقاعWhere stories live. Discover now