الفصل الأول

1.2K 29 20
                                    

حياتنا تمضي أسرع مما نظن جميعا ، فها هي الأيام تمر لتاتي بعدها الأشهر و السنوات و نحن لا نحس بها إلا عند احتفالنا بمولدنا فنطفؤ شموع حياتنا السابقة آملين أن نبدأ أخرى بلا أحزان و لا هموم .
<< طفلة كنت و لا زلت ، وحيدة كنت و لا زلت ، حزينة كنت و لكني الآن أحزن . لا زلت أذكر نفسي جيدا ، لم ألعب كالباقين من أصحاب عمري ، أصدقائي هم دماي و بعض الخياليين ، الزمن يمضي سريعا لا أصدق انني في الثلاثين >> . هكذا كانت تمتم السيدة عبد الله و هي تستنشق نسيم الصباح ، حتى رن المنبه المزعج الموضوع على سطح الطاولة فأيقضها من غفوتها و محى شريط الذاكرة الذي مر من على ناظريها . قامت من على السرير و هي تلعن ذلك الديك الالكتروني ، ارتدت خفها بتثاقل ، خف على شكل أرنب ابيض و له أنف وردي . << إنه الشيء الوحيد الباعث على التفاؤل في هذا البيت >> . لفظت هذه العبارة بمقت شديد . هي الآن تنظر  الى المرآة ، لقد صارت تتحدث الآن .
   - من أنت أيتها الشاحبة الكئيبة ؟
   - انا انت يا من تظن نفسها طفلة أنا انت يا ليلى .
أمسكت السيدة التي تكلم المرآة قارورة عطر اقتنتها من الطاولة و أشارت بها مهددة المرآة << كفاك كذبا أيتها اللعينة ، أنت لست أنا ، أنا لست انت ، إن لم تصمتي سأحطمك>> ثم صوبت الزجاجة نحو المرآة ، لولا يد آدمية امسكت بمعصمها و طرحتها على السرير.
   - ماذا حدث لماذا أردت تحطيم المرآة ؟
أجهشت المسكينة ليلى باكية محاولة تبرير فعلتها بطريقة منطقية .
  - انا انا فقط كنت ، كنت .....
  - ماذا كنت ! ليس لك اجابة أليس كذلك ، أنا مللت يا ليلى ، مللت من تصرفاتك الجنونية .
رفعت رأسها نحوه و الدموع تبلل خديها : << اذن أنت تحسيني مجنونة >> .
لم يلم محمد على ألفاظه الجارحة فهو متزوج من امرأة غاضبة طول الوقت ، باكية شاحبة و غير مهتمة بمظهرها فالانوثة كانا آخر ما تفكر فيه ليلى ، إلا ان محمد لم يسأل يوما عن سبب هذه الهستيريا بل لم يبالي قط ، فكل ما كان يفكر فيه أنه أضاع حياته مع فتاة مجنونة . انتهى الحوار القصير بصفع محمد للباب ، تاركا ليلى تبكي بحرقة . سر مكبوت وراء هذه الدموع الحارقة ، سر طوته صفحات الزمن لتعيد فتحه الذكريات . نهضت ليلى بتثاقل كبير محاولة ان تبدأ يومها من جديد ، أخدت شالا من الدرج و لفت به رأسها ثم غسلت وجهها بالماء البارد لعلها تخفي بعضا من آثار الدموع ، نزلت الدرجات السادسة و العشرين الى المطبخ ، لتعد القهوة الصباحية ، في حين نزل محمد منتعشا بحمام اطفأ نار غضبه . ليجد القهوة معدة على الطاولة بشكل أنيق . فرغم ما كانت تمر به ليلى إلا انها لم تنسى واجباتها كربة بيت ، فالأثاث مرتب على الدوام و للارضية بريق خاص يوحي على تنظيفها الدائم . لكنه لم يجد زوجته بجانبه تحتسي قهوتها ، لم يكترث للامر و جلس ببرود هو و قهوته .
كانت السيدة عبد الله في ذلك الوقت جالسة على سريرها ، تضغط ازرار هاتفها بيدين باردتين مرتجفتين و تكلم احدا .
  - ألو ، ألو ليلى ....
لم تجب ليلى رغم انها هي المتصلة
  - ألو ليلى ما بك !؟
بقي صدى صوت ذلك الشخص يتردد ليقطع حاجز الصوت في الغرفة و ما زالت ليلى صامتة جامدة الاطراف ،شاردة الذهن . فجأة فتح باب الغرفة فقفزت ليلى على أثره ليسقط هاتفها على الأرض مبعثر الأحشاء . لم يكن مقدرا لهذا اليوم أن يبدأ من جديد .
نظر محمد إلى أحشاء الهاتف و أطال النظر ثم اتجه صوب ليلى كثور هائج، أمسكها من كتفيها و أخد يرجها و هو يصرخ بمن كنت تتصلين بمن أيتها المجنونة ؟ لا حول و لا قوة لليلى سوى البكاء و هي تطلب منه التوقف. بعد ثوان هدأ ذلك الثور و التقط الهاتف المبعثر ثم أعاد إيصاله ، شغله و ضغط على قائمة الاتصالات صوب ناظريه على آخر مكالمة ثم رمى الهاتف الى حيث كانت ليلى منهارة خائرة القوى .
  - لماذا اتصلت بها ؟
   - و ما شأنك انت ؟ أجابته بمقت
  - معك حق ، ما شأني بتفاهاتك .
رن الهاتف بصوت مدو .
  - آه ، انها الصديقة الحميمة تتصل من جديد لعلها قلقت المسكينة ، هيا كلميها ، و انصرف .
  - ألو ، فاطمة .
  - الحمد لله أنك أجبت ما بك يا عزيزتي
  - لا شيء ، فقط موجة هستيريا مفرطة .
  - ليلى عليك أن تتوقفي أرجوك لا ترجعي إلى الماضي أرجوك .
  - الماضي أرحم من هذا المستقبل .
   - هل تعلمين يلزمك عطلة طويلة .
  - ربما معك حق ، ولكن أين أقضيها .
  - ما رأيك أن تزوريني في باريس .
  - باريس ! لا أظن يا صديقتي ، حسنا الى اللقاء .
فاطمة هي تلك الصديقة الملائكية ، تلك الاخت الغير الشقيقة . من ساندت ليلى طول حياتها ، من وقفت بجانبها حين أدار العالم وجهه. لكنها الآن في باريس يسمع صوتها عبر الهاتف و لكن ظلها لا يرى .

باريس ، باريس ظلت تردد ليلى هذه الكلمة ، أ باريس يا فاطمة و أنا من جدران هذا المنزل لم أخرج و أنا من قضبان هذا السجن لم أهرب . كيف لي أن أطلب من سجاني عطلة و هو ذاك الذي ينعتني بالمجنونة و هو الذي يتحسر على سنين حياته التي أمضاها معي . أنا لا أعاتبه على كل حال ، أنا السبب ، هم السبب ، هم السبب و علي اصلاح كل شيء ، هناك حل واحد لهذه القضية ربما حان الاوان لأتكلم .
حان وقت الغداء و على تلك الطاولة الخشبية المنتصبة وسط المطبخ جلس محمد و ليلى يأكلان و قد وضع طبقان من المعكرونة و شوكتان ، ابريق ماء و كأسان و الصمت يحتل المكان . هل حقا هذه صورة زوجين ، ثلاث سنوات مرت على زواجهما و لم يتغير أي شيء . ما زالا غريبين ، ما زالا زوجين بالوثيقة فقط ، ما زالا يكنان الضغينة لبعضهما . ثلات سنواتكثيرة ، كثيرة جدا يا ليلى لقد حان الفراب ، لقد حانت اللحظة التي انتظرتها . فجأة انتفظت ليلى و ضربت براحة يدها على الطاولة ، رفع محمد رأسه مندهشا . لم تكن ليلى جريئة يوما ، لم تكن ترفع صوتها حتى . كانت تلك الزوجة التي تومؤ برأسها فقط و لو أنها سيقت الى المشنقة ، ولكنها اليوم ستخرج كل النيران المكبوثة داخلها .
  - لقد صبرت لمدة ثلاث سنوات
رمقها محمد بنظرته المهيبة التي تظهر احمرار عينيه . ارتجفت ليلى ، أرادت التراجع لطالما أخافتها نظرته إلا انها اليوم لا تريد العودة للوراء .
   - أريد الطلاق
ارتسمت على وجه محمد ابتسامة ساخرة ، ثم كلم نفسه << حقا أنا أعيش مع المجانين >>
و لكنه على الارجح لفظ هذه العبارة بصوت اعلى من الهمس . 
   - صفني بما شئت ،نعم انا مجنونة لم تزوجتني اذن .
لا يا ليلى هذا ليس حوارك ، انه حوار امرأة اخرى ، لقد اخلطت سياق الكلام . لفظت ليلى سؤالها الاخير و ودت لو انها لم تلفظه . هناك تحول هدوء محمد الى غضب صارخ و ارتسمت على وجهه ملامح قاسية داكنة .
  - لم أرى يوما شخصا يسأل سؤالا يعلم اجابته جيدا . اذن لم تزوجتك يا عزيزتي ، لم تزوجتك !!!


-------حياة-------
❤❤❤❤❤

 غدر فما بعد...Dove le storie prendono vita. Scoprilo ora