نبض الظلام

6 0 0
                                    

ثلاث ليالٍ مضت بثقلٍ على جسد صوفيا المُنهك، غير أن روحها، شعلةٌ لا تنطفئ، تُحارب ألم الجروح التي عانقت ركبتيها. وفي تلك الأثناء، الورا، التي تحملت وطأة الوقت في عزلتها، بدأت ترى في تلك الريشة التي أحكمت قبضتها عليها، مفتاح اللغز الذي قد يكشف طلاسم اختفاء الأبرياء.

في ذات الحجرة المليئة بالأسرار المبعثرة، انقضت الورا على الهاتف بعزم يقترن بالقلق، كشائقة القفار تتلهف لقطرة ماء تُعيد لها الحياة. وكأن قدراً محبوكاً بدقة خيّط لقاءهما، فإذا بصدى صوت صوفيا يخترق صمت الليل بأخبار تضيء بهجة الرجاء. الأصدقاء، آلفين الجسد، موحدين الروح، اتحدت بينهما الأقدار ليجتمعا في زيارة لمنزل الحكيمة مرجانة، حاملين معهما ثمرات البحث والإصرار.

الرحلة كانت قصيرة، ولكن حديث الطريق كانت فيه من الوقائع ما يُثقل الروح. الورا، التي تعاني اليوم في قلبها مزيجاً من إعجاب وقلق على سلامة صوفيا، لا تزال لمست الدفء تعلو كلماتها. وكانت الاعترافات تتناثر من بين شفاه صوفيا بثقلٍ، وكأنها تخفي في طيات الكتاب سراً دفيناً، وعدٌ للتغيير يهمس من بين السطور.

إلا أن قدميهما تجمدتا حين وجدا باب الحكيمة مُشرعاً، في دعوة رفيعة لدخول عالم الأسرار. القطة آفا، رئيسة استقبال الغيب،
هل كانت تُرحب بهما أم تحذرهما من دخول لا عودة منه؟
طبول في الخلفية، كمرددات الوجدان، تتراقص على إيقاعات الشك والغموض. وبرغم القلق الذي حاصر قلبيهما، قررتا كشف الستار عن ما يُخفيه الصدى.

لحظة الكشف، وكأن الزمن توقف، مرجانة في قلب الطقوس الأثيرية، وصوفيا والورا مشدودتان لهذا المشهد الذي يحمل في طياته سحراً قديماً. قوى غير مرئية تُوجِّه مسرح الأحداث كإخراج سينمائي محكم؛ الورا، مدفوعة بنفس القوى لإبعادها، بينما صوفيا، بنبرة الحذر، تحذر الورا من ابتعاد عنها..

فابتعاد الورا لم يكن خوفاً، بل الحكمة في لحظة الحيرة،
فهل من مخرج لهذا السحر أم أن الفرار هو الهداية؟
تجلس الورا على شفير الانتظار، متأهبة لمواجهة ما سيأفلج عنه المشهد، في قصة الغموض التي يتللى بها رواية مغزولة بخيوط الإثارة والتحدي.

بعد مضي حوالي أربع ساعات من انتظار استتمت مرجانة شعائرها الغامضة واتجهت نحو الورا بخطى من الرصانة والوقار، مُبدية ملاحظتها بتبرم يكسوه الارتياح: "لم يكن عليكِ التقاطع مع الطقوس، إنه خطب جلل. لكني عندي تقدير لأنكِ بخير يا بنيتي."

ألقت نظرة محملة بقدر من الاحترام تجاه صوفيا وتبسمت قائلة: "أهلاً بعودتكِ بيننا، صوفيا العزيزة. يبدو أن مدى رحلتنا يتسع بضيف جديد." ودونما انتظار، مضت قائلة بصوت رخيم: "اصطحبوني."

أمسكت صوفيا والورا بأنظارهما حيرة تراقصت بينهما؛ ثم وبخطوات محتارة، ساروا في أثر مرجانة إلى محرابها الدافئ. كان بيت الحكمة والألغاز يزينه ضوء الفجر الخافت، حيث أسندوا أجسادهم على الأرضية الخشبية العتيقة.

مع إطلالة فنجان الشاي، لم تتمالك الورا سؤالها المحموم: "أيتها الحكيمة العابرة لدهاليز الزمن، خبرينا، ما هو لغز تلك الطقوس القديمة؟"

فأجابت مرجانة بنبرة تنمّ عن الخشوع والتقديس: "إذا كان الفضول عندكِ أشد من خيوط الرأس، سأشرككِ في هذا السرّ. إنها العادات التي جُبلت عليها أرواحنا منذ أسلافنا الأولين، حيث كل عاصمة دورة الشمس، أُنِيرُ شموع الذكرى لأودع سلامًا لأنفسهم المترفّعة عن عالمنا."

ردت الورا بعينيها متقدتين بالشك والتشكيك: "يا سيدتي، ما قيمة الخرافات في عالم الحقائق؟ أنا هُنا لمعضلة أغمض من غموض عالمكِ، طفولة في عمر الزهور اختفت كما تختفي أوراق الخريف، وفي تحرياتي مع عوائل تناثرت فتات أحبتها، تبين لي خيط يجمع ألغازنا."

أشهرت الورا ريشة زرقاء لؤلؤية اللون واستطردت: "هذه الريشة الزرقاء تبعثر عقلي ولا يبقى للفهم مكان. عجزت عن حل شفرتها؛ حتى خبرة صوفيا الغزيرة في علم الطيور لم تجد لها مثيل."

في تلك اللحظة، انتزعت صوفيا كتاباً مهترئاً من قلب حقيبتها، قاطعة رتابة الحيرة. وبمجرد أن رمقته مرجانة، هبت من مكانها مصعوقة: "أيها السموات، ما هذا الكتاب العتيق؟ وكيف ومتى طوقتِ يديكِ به؟"

"أحاجي هذه الرواية لا تحتمل السطور،" همست صوفيا بشجن.

ثم التفتت إلى الورا، متابعة روايتها بحماس غامض: "يا الورا، في قراءتي الشغوفة لأماسي هذه المصنفات، أطل على ذهني جزء متآكل ينبئ بتبدلات مصيرية تجتاح المدنية الهادئة، مع غياب 'أرواح البراءة'. وفي متاهة الكتاب أيضاً، أشرع بكم إلى فصل آخر يفيد بوجود نبتة مثيرة للحيرة، أو قد تكون عرافة لعقار غابر، لم أجلّه في فهمي."

تلك الكلمات قذفت بالورا إلى دوامة الدهشة والاستجواب الصامت.

مع رسم صدى أقوالها في الآفاق، حدّقت صوفيا في مرجانة بدقة وخُضوع وقالت: "يوم عادت خطاي إلى عتباتكِ العليا واطلعتُ عليكِ بحكايا الاختفاءات، وأبنتُ مقصدي لجعلها جزءًا من كتاباتي، أحسست بموجة تصدعات تجتاح ملامحكِ وكأنكِ على أهبة البوح بجلمة واحدة، لكنكِ فضلتِ الصمت. أي سر يجثو خلف عينيكِ، هل أنتِ الآن على استعداد للشرح؟"

وفي متاهة الصمت التي استولت على الغرفة، التأمت شفاه مرجانة بكلمات تجالد الخروج: "حسنًا، لقد دقت ساعة الشروع في البوح..."

يا ترى مالذي ستبوح بيه مرجانة ؟

إيردانوسWhere stories live. Discover now