خطوات جديدة

43 2 2
                                    

لقد حطت الطائرة أخيرًا في أحضان إريدانوس، تلك البلدة التي تربض وسط وادٍ مُنعزل، مُحاطٍ بجدران من الجبال الشامخة. طرقاتها، التي يبدو أنها تناضل للحفاظ على رابطها الرقيق مع العالم الخارجي، تُصبح ممرات مُعتمة تحت وطأة الثلوج الكثيفة في فصل الشتاء، وتكاد تعلن استسلامها بالغلق التام خلال مواسم العواصف القاسية. كانت إريدانوس تفوح منها روائح التاريخ القديم؛ فمراسم مُتأصلة وأساطير مُروَّة من جيل إلى جيل تُشكِّل نسيجها الثقافي. وتلك الغابات المُحيطة بثقلها وظلالها .
ألورا، المحققة الجنائية ذات الذهن اليَقِظ والعزيمة الصارمة، تركت أروقة المطار ورائها بعد إنهائها للإجراءات الروتينية ببرود عادي. وقد كانت تتوقع أن يُلقي بها القدر في تحقيق يحيكه الغموض على أرض هذه البلدة. لكن حين وصلت، لم يكن السائق الذي افترضت وجوده في انتظارها قد ظهر حتى لان . البرودة كانت تتسلل إلى جلدها، تُنذر بتجميد أي حماسة وربما تفكير. محاولات جوالها المتكررة للاستدعاء لم تسفر إلا عن وقع صدى الفراغ الإلكتروني. لحسن الحظ، كانت الذاكرة الحاضرة ومعها ورقة الوجهة، مُخطط النجاة الذي حملته معها من دون وعي.
لم تستسلم ألورا للوحدة أو الصقيع، وبُعيد نداء ورقتها المُحفوظة، أوقفت سيارة أجرة بثبات يدل على خبرتها في التعامل مع المواقف الغير متوقعة. وخلال رحلتها المُتجمِّدة نحو المنزل الذي ستتخذه مأوى لمهمتها، كان صوت الرجل في الراديو يعبق في الهواء بأخبار الاختفاءات التي كانت مُعدةً لبث الضوء على ألغازها.
هكذا بكل الجدية والقدر المنزلق من عدم اليقين، دخلت ألورا عالم إريدانوس، وعالم تحقيقاتها المُلفع بالأسرار، والذي من شأنه أن يكون مدينةً من الخيوط الرفيعة التي تتوجب عليها تتبعها، وتتبعها بدقة.
بعد حمل ثقل يومها المليء بالمتاعب، دلفت ألورا إلى المكان الذي من المفترض أن يكون ملاذها في إريدانوس. إلا أن ما اعترض نظرها في داخل البيت، لم يكن إلا الفوضى التي لا ترحب. بسرعة، استبدلت ثياب السفر بأخرى تناسب مهمة التنظيف التي لم تكن في الحسبان، وبدأت تضع الأمور في نصابها، واحدة تلو الأخرى. تنتقل من ركن إلى ركن، تنثر النظام الذي تعودت عليه في حياتها اليومية، وواحدة تلو الأخرى تُرتّب مستنداتها وتضعها على مكتبها. أما الخريطة السميكة لإريدانوس فتجد مكانها على الحائط، تُعلق بعناية شديدة تعكس مهماتها في تحقيق.
وإذ بها تذكر شيئا مهما - الطعام. ومعها، جاءت الحاجة للخروج مرة أخرى , وما أن تتجاوز عتبة بابها حتى تصادف لوكاس، الجار الذي يقطن بجوارها.
ألورا مبتسمة بود: "مرحبًا، أنا ألورا. أعتقد أننا جيران الآن، أليس كذلك؟"
لوكاس يرد بابتسامة مرحّبة: "أهلاً بكِ في إريدانوس. نعم، أنا لوكاس. أعيش في البيت المجاور. إنه لمن دواعي سروري أن أرحب بكِ هنا."
ألورا بنبرة يُمزج فيها الجدية والحاجة: "سررت بلقائك. في الحقيقة، كنت أتساءل... هل بإمكانك مساعدتي؟ أحتاج إلى الذهاب إلى بقالة لشراء بعض الأغراض، وأنا غير مألوفة بالمكان بعد."
لوكاس مُبديًا استعداده: "بالطبع، لا بأس على الإطلاق. حقيقةً، يوجد هنا بقالة صغيرة لا تبعد كثيرًا. وإن كنتِ تفضلين تناول الطعام خارجًا، فهناك أيضًا مطعم ريفي لطيف في الساحة المركزية. سأرشدكِ إلى هناك إذا أردتِ."
ألورا بارتياح وامتنان: "ذلك سيكون رائعًا. أشكرك لوكاس، أقدر لك هذا كثيرًا."
يمضيان سويةً، و في خضمّ طريقهما المعبّد بالحكايات وظلال الأشجار المتراقصة، تُبدل الأحاديث. ومن بين سِجالات حديثهما المُنساب كنسيم المساء، يُطلق لوكاس سؤالاً يحمل بين طياته فضولاً عميقاً:
"إذا سمحتِ لي بالسؤال، ألورا، ما الذي جلبك إلى إريدانوس؟"
تستقي ألورا نفسًا عميقًا قبل أن تجيب، وفي صوتها تلوح رسمية المحققة: "لقد تم تكليفي للعمل على قضية هنا، هناك مسألة اختفاء بعض من سكان البلدة التي لا تزال بدون إجابات."
لوكاس، ينظر إليها مُبديًا قلقًا مُصحوبًا بروح الدعابة: "لقد سمعت عن ذلك في الأخبار. يبدو الأمر مُقلقًا بالفعل. لكن مع قليل من النكتة... من يدري؟ ربما أكون أنا التالي على قائمة الاختفاء!"
تخترق وجه ألورا ظلال من الانزعاج، فموضوع بالجدية هذه لا يستحق الهزل. وبصوتٍ تشوبه نبرة الرجاء: "لوكاس، يرجى ألا تمزح حول هذه الأمور. الاختفاءات مسألة خطيرة."
تقبل الرسالة لوكاس مع ابتسامة خفيفة، فيما تتفقد ألورا الأفق لتجد أنهما وصلا، "ها قد أوشكنا على الوصول." تدل الاستجابة السريعة منه على إدراكه أن الحديث قد اتخذ منحنى ليس موضع ترحيب، وبالتالي يعود بالحديث إلى مساره العادي، ويستعرض بود الأماكن والوجوه التي ستكون جزءًا من حياتها الجديدة في إريدانوس.
و بعد مغادرة البقالة واشتراء الحاجيات ، يسدّ لوكاس رفيقته الجديدة، ألورا، إلى باب منزلها حاملًا أنفاس اليوم المنقضي بين الأرفف والأقواس. يودّعها بإيماءة ودّ ويختلط خُطاه بالظلال المديدة إحداها تصحبه والأخرى تتركه نحو مكتبته الأثيرة. فلقاء مُعدّ مسبقًا مع صوفيا، يعد بمنحى آخر يقتسم فيه العطاء والمعرفة معها.
يدخل لوكاس إلى المكتبة حيث الأروقة تسرد قصصًا من الحكمة والعبر، ولعلّها تجود بصوت صوفيا التي بدت تنتظره بشوشةً ومُحضّرة. التقائهم يشبه موعداً مع الكلمات، ومعًا يسبران غور الواجب المدرسي، يناقشون، يحلّون، ويتبادلون الأفكار، حتى يُعلِن الحبر جفافه على الورق أخيرًا.
بعد الانتهاء من مهمتهم الذهنية، وفي الوقت الذي تُبرعم فيه أحاديث جانبية، كان خروجهم من المكتبة إيذانًا بإنهاء الواجب. لكن سرعان ما تستحوذ ذاكرة صوفيا، لتُفلت من فمها كلمات إلى لوكاس بعجالة: "أوه، لوكاس، لقد تذكرت للتو، هل سمعت؟ قطة الحكيمة مرجانة قد ضاعت!"
تحت وطأة الأخبار الطارئة، يلقي لوكاس الكلمات من فم مكتنز باللامبالاة: "وما يهمني في أمر قطة تائهة؟" لم يكن جفاء بقدر ما كان ردة فعل لأحداث يوم شاق أرهق تفكيره.
و مع إرتداء الغسق عباءته وتلبس الثلوج شكلها الجليدي، خرجت صوفيا من مكتبة مودعة لوكاس ، لتركب درّاجتها النارية وتنطلق في مهمة شخصية شائكة. كانت الوجهة منزل الحكيمة مرجانة، ذاك الصرح الأنيق بطرازه الياباني العتيق، الشامخ في زاوية البلدة بأكمل وقار.
تحت وطأة الثلوج، كانت العناصر تُظهر تقلبها، تعسّر على صوفيا عبورها. صدى صوتها، الحامل باسم "أفا"، يتردد في الفضاء، أملًا في أن يستقر فوق أذن القطة الغائبة. وفي سكون اللحظة، حيث تصمت القلوب لتستمع، ترى صوفيا ذلك المخلوق الصغير يستسلم لدفء ضوء فوق شجر الصنوبر.
"هاا قد وجدتك أخيرًا!" كلمات صوفيا كانت أنشودة إنتصار، تحطّم سكون المكان وتعلن العثور على القطة. بخطى حثيثة وقلب يتملكه الفرح، تنهمر على باب الحكيمة مرجانة، حيث كانت غارقة في تأمل الثلوج المتساقطة واحتسائها للماتشا.
تُشرق مرجانة بابتهاج لعودة صديقتها المقربة "أفا" إلى أحضانها، لتجد بين توبيخها الماكث بالضحك فرصة لتقديم كرم الضيافة لصوفيا بدعوتها لمشاركتها كأس الشاي. تُشعر الحفاوة التي أُظهرت لها صوفيا بطيف السعادة وهي تنصت لكلمات الحكيمة، متشربةً منها الحكمة وكانها نهر من العلم.
تقترح صوفيا خلال حديثهن عن رغبتها في تبيان غموض الاختفاءات الجارية في البلدة لتضيفها إلى روايتها. تتلقى نظرة من مرجانة، محملة بعمق قد يشير إلى معرفة أو ربما تردد. فما قد يكون كلام الحكيمة مفتاحًا لأسئلة كبيرة.
ورغم الأمسيات الممتزجة بالألفة والإطمئنان، تتذكر صوفيا أن الزمن لا ينتظر. الجناح الليليّ ينشر سدوله على الأفق، وتعي بدء غروب الشمس، إشارة إلى أن ساعة الإنصراف قد حانت، فتودع بود وتنطلق إلى منزلها.

إيردانوسWhere stories live. Discover now