آدم

253 28 25
                                    

-

الفصل الاول-

Oops! This image does not follow our content guidelines. To continue publishing, please remove it or upload a different image.

الفصل الاول-

حَبّاتٌ مِنَ الثَلجِ تَتَساقَطُ ببطءٍ على شوارِعِ مدينة نيولايت
في لَيلَةِ يسودها الهدوء...لا تسمَعُ فيها أصواتَ السياراتِ أو الازدحام المعتاد، لا أصوات حفلاتٍ أو مِهرجانات لا أضواءَ ساطعةً ولا موسيقى صاخبة...الصوتُ الوَحيدُ المسموعُ هو النسيمُ البادر و اصواتُ الغيوم الرعدية الخفيفة...صوتُ أعمِدَةِ الإنارة المَوجودَةِ على جانِبِ الطريق ذلك الصوت الناتجُ عن الكهرباء الخافتة التي تعطي للمصباحِ القوة الكافية لإضاءة مساحة صغيرة من الشارع، وفي وسطِ هذا الهدوءِ المُريح و بينما الجميعُ في منازلِهم نيام يوجدُ شخصٌ يَكسِرُ هدوءَ الليلِ بصوتِ خطواته، إنه آدم سبينسر...يَبلُغُ من العمر عشرينَ عاماً هو شابٌ متوسطُ الطول بشَعرِ أسودِ كسماء الليل و عيونٍ خضراء داكنة كلونِ الزَيتون و بشرةٍ بيضاءَ...جسمه نحيل لكن بنيتهُ رياضية و عروق يديه بارزة...وجهه متناسقٌ و فكهُ حاد كأنه مرسوم، آدم يعيشُ مع جدتهِ البالغة من العمر إثنين و ثمانين عاماً بَعدَ أن فَقَدَ والِديه في أحدِ اسوءِ الكوارِث التي شَهدتها مدينةُ نيولايت قبل عشرة أعوام...أكثرُ من خمسةِ آلافِ شخصِ فقدوا أرواحهم في يومِ واحد مِئاتُ الناس أصبحوا مُشردين في الشوارع لان منازِلهم تدمرت إثرَ تِلكَ الفاجعة خَسِرَ ما يزيدُ عن الألف شخصِ أحبتهم و اقربائهم ولهذا أصبح ذلك اليوم يُسمى ( إنفيرنوم دايز ) أي يومُ الجحيم، آدم لا يَملِكُ الكَثيرَ من الاصدقاء و لَيسَ لديهِ الكثيرُ مِنَ الهِوايات يُحبُ أن يكونَ بِمفرده في أغلبِ الأوقات لا يحب الأماكن المزدحمة ولا يُطيقُ التواجد بين حشدٍ كبير ولا يستطيعُ التعامُلَ مع الأشخاصِ الملحين كثيراً لهذا السبب...آدم يعشقُ المشي تحتَ ضوءِ القمر أي في أوقاتِ متاخرةٍ من الليل حينَ تكون الشوارعُ فارغةً و هادئة تماماً مثلَ هذه الليلة .
.
.
.
تَوقفَ آدم بجانِبِ المتنزه الرئيسي للمدينة و أخرجَ يدهُ من جيبِ مِعطفهِ الثقيل الاسود الذي يغطي نِصفه العلوي تماماً و نَظرَ إلى ساعةِ اليد التي تحملِ ذات لون المعطف يَتفقدُ الوقت...الغريب أن زجاجَ الساعة محطم ويصعبُ رؤية الوقت منها...أعاد يده إلى جيبه و نظرَ عالياً نَظرةً تحمِلُ شعورَ الإرهاق إلى حباتِ الثلج التي تتساقط على خديه و أنفه المُحمَرِ برداً...
"...لو أن الوقت لا وجود له..."
قالَ آدم مُحدثاً نفسه...
نَظرَ إلى الطريق و أخذَ خطوته الأولى عائداً إلى منزلهِ حينَ سَمِع صوتاً صادراً من المتنزه تحديداً من بينِ الشُجيرات الكثيفة...ألقى بِنظره إلى مكان الصوت، الرؤية صعبة بسبب الظلام اخرج يديه من جيبيه و أخذ يَقتَربُ ببطءٍ نحو مصدر الصوت...ركزَ بنظره إلى بقعة سوداء خلف الشجيرات محاولاً رؤية ما يوجد فيها بدا نظره يعتاد على العتمة و اصبحت الرؤية تتضح شيئًا فشيئا فجاةً ركض ظِلٌ من تِلكِ البقعة إلى أعماق المتنزه الضخم!...تفاجئ آدم وشعر بنوعٍ من الارتباك تسارعت أنفاسهُ قليلاً بسبب الفزعة، تلفتَ يميناً و يساراً يتاكد من حقيقةِ أنه وحيدٌ تماماً في هذا الشارع...ثم أعاد بنظره إلى المتنزه...بعد ترددٍ خفيف دخَلَ المتنزه خلفَ ذاك الظل محاولاً اللحاق به، متنزه (ليانا وودز) الذي سُمي بهذا الاسم تيمناً بالأميرة التي توفيت بسبب المرض والتي كانت تحب الطبيعة بأنواعها فقد تم تصميم هذا المتنزه الكبير بحيث يكون نسخةً عن الغابات الساحرة الضخمة يضم من كُل أنواع النباتات و الأشجار و الزهور في الصيف و الربيع و يعتبرُ رمزاً قومية لاهل المدينة لجماله و ضخامة حجمه...أما في الشتاء و خاصةً في الليالي المظلمة يكون كمرقدِ أشباح أو غابةٍ مسكونة فضخامةُ الأشجار و كثرتها تجعل منظر الممرات فيه كأنفاقٍ مُعتمةٍ و طويلةَ...
مشى آدم مسافة معتبراً داخل المتنزه متوغلاً إلى أعماقهِ باحثاً عن أيٍ كان الذي رآه سابقاً، يمشي ببطءٍ يفحصُ المكان من حوله و كلَ ما إقتربَ من قلبِ المتنزه زادت برودةُ الجو فلم تعد جيوب المعطف السميك كافيةً لتدفئ يديه من التجمد فأخرجهما و وضعهما أمام فمه لينفخُ فيهما من أنفاسه الدافئة...وصلَ إلى مُفترقِ طُرقِ في ممرات المتنزه طريقٌ من اليمين و من اليسار و من الأمام...و كلما تعمق أكثر كلما كثرت الأشجار العارية من الأوراق، أخذ آدم بعض الخطوات نحو الطريق الأمامي حينَ سمِعَ صوتَاً خافتاً يشبهُ صوت البكاء او الأنين...الصوت صادرٌ من الطريق الأيسر الذي يؤدي إلى نافورةُ المتنزه الرخامية المزخرفة المزينةِ بأضواء زرقاء و بنفسجيةٍ خافتة، تسارعت أنفاسُ آدم و تنبهت كُلُ عضلاتِ جسده لكنه استجمع رباط جأشه و أخذ يمشي نحو الصوت، الطريق مغطى بطبقة خفيفةٍ من الثلج و الأشجار العريضةُ تتواجد على جانبي الطريق الضيق...بدأت أضواء النافورة بالظهور أمام آدم من بعيد بسبب الظلام الحالك المحيط به شيئا فشيئا أصبح الصوت أكثرَ وضوحاً ليتضح اخيراً أنه صوتُ فتاةٍ تبكي عند حافة النافورة...وقفَ آدم خلفَ أحد الأشجار و راقبَ الفتاة من بعيد...كانت جالِسةً على الارض تبكي بيأسٍ و الحزنُ بادٍ في صوتها...تضم ركبها إليها و يداها المجمدة تلتفِ حولَ ساقيها، الرؤية غير واضحة و ملامح الفتاة مجهولة و بالكاد تُرى...دُهِش آدم مِما تراه عيناه و شعرَ بغصةٍ في قلبه على حال الفتاة المسكينة فأراد أن يقترب منها و يعرض عليها المساعدة...خرج بحذرٍ من خلفِ الشجرة و بدا يقترب منها، أثناء سيره داسَ على غُصنِ شجرةٍ و كسره...تنبهت الفتاة الغريبة بصوت الغصن و شاهدت ظِل آدم من بعيد...انطلقت هاربةً كانها تركض خوفاً على حياتها..!
" مهلاً انتظري!..." نادى آدم راكضاً خلفها ولكن من دون جدوى فقد ابتعدت كثيراً...
اقترب آدم من النافورة و أخذ ينظرُ محتاراً في شأن تلك الفتاة...
" ما كانَ هذا!!؟" قال متعجباً من الذي حدث.
جلسَ على حافة النافورة يلتقطِ أنفاسه و شعورُ الهواء البارد الذي يدخل رئتيه كشعور سكاكين حادة تجرح في الحنجرة...
لفتَ نظرَه قِطعةٌ معدنيةٌ تلمع على الارض بينَ الثلوج وقفَ و اخذ يسير نحو القطعة، مد يده إليها و التقطها من الارض...مسحَ بإبهامه نثراتِ الثلج و بدا يدقق بها، عيناهُ تركز على القطعة محاولاً التمعنَ بها أكثر...
" ملاكٌ بجناحٍ واحد...أين رأيت هذا الشكل من قبل؟" قال آدم واصفاً الرمز المنقوش على القطعة...
" أنت فالتثبت مكانك!" نادى صوتٌ من بعيد و أنيرَ ضوءٌ يدويٌ بوجه آدم.
" تباً!!!" أنطلقَ آدم مسرعاً نحو أقرب مخرج...
" مهلاً توقف مكانك!!! توقف!!" صوتٌ رجلٍ مجهول.
لم يلتفت آدم وراءه مطلقاً إنما تابعَ الركض بأسرع ما يمكنه أنفاسه تتقطع و الهواء المتجمد الذي يستنشقه بكمياتٍ كبيرةٍ يُقطِعُ بحنجرته و عيانه تدمع بسببه لكن آدم تابع الركض دون توقف حتى بدا صوتُ الرجل المجهول بالتلاشي و اصبح يبعد اكثر فاكثر.
.
.
.
تابع آدم الركض دون توقفٍ حتى وصلَ إلى حديقةِ منزله الخلفية و وقف يتلقط انفاسه عند سورها الخشبي المرتب، أسند أحدًا يديه على السور و الأخرى على ركبته و أخذ يتنفس بسرعة و بشكل هستيري...
" أشعرُ بالدوار...بالكاد...استطيع الوقوف"، جلسَ سانداً ظهره على السور ماداً إحدى ساقيه على الارض بينما الاخرى قريبةُ منه.
حين استعاد التوازن في انفاسه و هدأت نبضات قلبه وقف ببطءٍ و سار مسنداً بِيَّدِهِ على السور نحو البابِ...
" هل رئ وجهي يا ترى؟..." تسائل بينه و بين نفسه خوفاً من أن يقعَ في المشاكل، فهو لا يحبُ أن يسببِ المشاكل لنفسه أو لغيره دائما ما كان يبعد نفسه عنها و دائما ما كان يتغاضى عن إزعاج الاخرين له، لهذا يعاني آدم من ضغطِ نفسي و من مشاعر مكبوتةٍ و متراكمة.
دخل المنزل من خلال نافِذةٍ صغيرة كان قد تركها مفتوحةً حتى لا يُزعج جدته بصوت الباب أثناء خروجه و دخوله، أخرج هاتفه الذكي و اضاء به محيطهُ المظلم خطواتٌ يتَخذُها بهدوء فالمكانُ ممُتلئٌ بالاغراض العشوائية...النافذة التي دخل منها كانت لغرفة الغسيل حيث توجد فوق غسالة الملابس مباشرة مما يجعل من السهل على آدم الدخول و الخروج منها بالوقوف على الغسالة فقط...صعد الدرج الخشبي القديم المؤدي إلى غرفة المعيشة التي عادة ما يكون مكان نوم جدته فهي تبقى تشاهد التلفاز من كرسيها المريح حتى تغفو...فتح آدم الباب الأبيض بهدون و خرج برأسه أولاً ثم قدميه...يحاولُ أن لا يصدرَ أي صوتٍ قد يُقِظ الجدة  عندما مرَّ من الباب أغلقه خلفه و مشى بثبات و هدوء نحو الأريكة المقابلة للتلفاز و بجانبها يوجد كرسي الجدة و بالطبع الجدة نفسها نائمةً عليه...في منتصف الغرفة و بين أريكة و كرسيين منفصلين طاولة ضيافةٍ صغيرة سوداء و اسفلها سجادةٌ زغبية بملمس ناعم فضية اللون و على الطوالة ابريق ماء زجاجي و كوب و علبة ادوية  و صحنُ فواكه نصفها مأكول و امام الطوالة يوجد موقِدُ النار الاصطناعي و خزائن بيضان و في وسطها يوجد التلفاز الذي لازال حتى هذه الساعة مضاءً.
وقف آدم عند كرسي الجدة و نظر إليها بنظرة حنونةِ مع بسمةٍ خفيفة...
" آسفٌ لتأخري يا ناني..." قالها بعد أن أعطى جدته قبلةً على راسها و مسح بيده على شعرها الفضي القصير...
قام بخلع معطفه و رماه على الاريكة وألقى بجسده المتعب بجانب المعطف أغمض عينيه و أخذ نفساً عميقاً ثم أخرجه بهدوء مخرجاً معه كل الإرهاق الذي تعرض له هذه الليلة.
وضع هاتفه على الطوالة و اخرج من جيبيه القطعة المعدنية التي يظن أنها سقطت من تلك الفتاة...
أمعن النظر في القطعة...
" ما قصة تلك الفتاة ياترى...ماذا كانت تفعل في هذا الوقت خارجاً...؟"
ظلَّ يحدثُ نفسه معيداً ذكرياتِ الليلةِ حتى اصابه الإرهاق و ثقلت عيناه من النعاس فلم يستطع المقاومة و اخذ يغمض عينيه رويداً رويداً حتى غطَ في نومٍ عميق مسنداً براسه على مسند الاريكة بدون غطاء بدون وسادة نام على ضوء التلفاز الذي جعل من اجواء الغرفة بيئة يصعب مقاومة النوم فيها. 
.
*في تِلكَ الأثناء*.
.
"...أريدها...أريد نورا" قال رجلٌ مجهول.
" سيدي نحن نبذل قصارى جهدنا بحثاً عنها..." قالت إمرأة غير معروفة...
في مكاناً ما داخل مبنى ضخمٍ و مرتفع يجلس رجُلٌ خلف مكتبٍ فخمٍ مُزينٌ بأثاثٍ من أجودِ الأنواع و طقم أرائك مصنوعٌ من جلدٍ يبدو عليه غالِ الثمن و على يمين المكتب رفٌ تملئه زجاجات المشروبات الكحولية باهظة الثمن و في وسط المكتب تقف امراة ذاتُ وجهٍ حسن و جسمٍ جذاب ترتدي ملابس رسمية كما لو انها موظفةُ حكومية من مستوى عالي قميصُ أبيضٌ و فوقه سترةٌ سوداء و ربطة عنقٍ عنقودية الشكل ذات لونٍ اسود قاتم...شعرها أشقر و عيناها زرقاء فاتحة و وجهها مرسومٌ كانها شخصيةٌ خيالية بأحمر شفاه داكن اللون خمري مائل للاحمر...
" أنتم تجعلون القصة تبدو معقدةً جداً...أنتي تعملين...أني اكره التعقيد..." قال الرجل المجهول تارِكاً الكرسي خلفه مُتجهاً نحو رف المشروبات، كان جسده ببنية قوية و كأنهُ لم يعرف الضعفًَ في حياته...الثِقةُ و الكبرياء مرسومانِ في عينيه،
" هل تعلمين ما هي قيمةُ الإنسان يا روز؟" سأل بنبرة واثقة و عميقة...
روز متوترة...عيناها مثبتةٌ نحو الأمام تحاولِ التفكير بجوابٍ قد يرضي هذا الرجل...
" قيمة الأنسان يا روز...لا...أظن أنه بالسؤال الصعب"
لا جواب...الصمت يضيُّقُ على صفاءِ الاجواء...
"روز!...روز!!...روز!!!" قالها بنبرة خذلان
"الإنسان لا قيمة له...الإنسان عبارة عن أداةِ يمكن استخدامها ثم رميها حين تصبح بلا فائدة...البشر كائنات ضعيفة يمكن تهديد حياتها بشوكة" حمَلَ كأساً عريض فاخر الشكل...مشى نحو روز التي كانت تقف دون ان تحرك ساكناً...الخوف بادٍ في عينيها  فحضور هذا الرجل يطغي على المكان و يجعل أي شخصٍ يتواجد في نفس المكان معه يرتعد خوفاً...
اصبح قريباً منها...انفاسهُ تلامسُ أذنَها و الخوفُ يتَقطرُ منها إلى أن أصبحَ الوقتُ مُجردَ وهم...لا صوت يعلو فوقَ صوتِ أنفاسها التي تحاول بكل جهدٍ كتمها...
" القيمة الحقيقة للأنسان هي في مدى الخوف الذي يستطيع أن ينشره في قلوب الآخرين...الطريقة المثالية لجعل الآخرين كالدمية بين يدي هي في بث الرعب فيهم بمجرد النظر في عينيهم..." هو مُنزعج...هو غاضب...هو الأقوى...حتى الكأس بين أصابعِ يدهِ يرتَعدُ خوفاً أن يُكسر..."سأقول هذا للمرة الاخيرة ساعطيكم ثلاثة أيامٍ...لا تخيبي ظني يا روز...أنتي المفضلةُ عندي سيكون إهداراً حقيقاً اذا فشلتِ" عادت نبرةُ صوته لتوحي بالهدوء و الرزان، لا حاجز يمنعُ نظراتِ عينيه عن عَينيها...تراجعَ إلى مكتبه و وضعَ الكأس على الطاولة...عادت أنفاسُ سارة لطبيعتها.
"أريدها حيةَ"...
"أ...أمرك سيدي!"
خرجت روز من المكتب و آلافُ الخطط و الاحتمالات تدور في عقلها ...
مازال الرجل الغامض يحدق خارج النافذة و فيها أنعكاس عينيه التي تحمل الموت في ثناياها.
.
.
.
-آدم-
~الفصل الثاني~
.
.
.
هناكَ فارقٌ كبير بين كَلمةِ ضائع و كَلمةِ راحل...الضائع يَمكن العثور عليه أما الراحل فقد ذهبَ الى الابد من دون عودة، نعيش أيامنا نتمنى عودة من ذهبوا نتمنى أن نستطيع خلقَ إبتسامةٍ معهم و إن كانت لبعض الثواني...لكنهم لا يعودون ابدا و نبقى نحن أسرى لذكرياتٍ عشناها معهم...صورٌ ملونةٌ و لقطاتٌ من أحداث و أوقات مررنا بها معهم تجارب خضناها برفقتهم...تعيشُ في قلوبنا تشعرنا بآلام الفراق و البعد تُشعرنا كم كنا سعداء بقربهم منا تشعرنا كم نحن محطمون ببعدهم عنا كم نحن نكره هذا الشعور،...نلومهم...نلومُ أنفسنا...نلوم القدر، هم يذهبون و نحن نبقى نصارع أنفسنا و نحارب الضيق الناتج عن خسارة من نحب...
.
.
.
" أنت طفل مميز جداً يا صغيري...سأبقى بجانبك دائما أراقبك...سيبقى جزءٌ مني داخل قلبك الصغير دائما يا عزيزي..." صوتُ مراةٍ يترددُ كانه حُلمٌ وردي لقطةٌ مشوشةٌ لوجه إمراةٍ ملامحها غيرُ واضحة يُرى منها شفتاها التي ترسم بهما بسمةً حنونة و وجنتاها اللذان أصبحا ممراً لدموعٍ تسيل...
" سأعود أعدك ياصغيري...لن يطول غيابي...سأعود من اجلك أقسم لك...أحبك يا آدم..." يبتعد الصوت أكثر فأكثر و يتلاشى بحزنٍ عميق بين أضواء الذكريات...او الأحلام...
يفتحُ آدم عينيه المملوءةِ بالدمع ليسمح بقطرة منها بالسيل على خده...يحدق إلى سقفِ الغرفة محاولاً استيعاب ما كان هذا الذي رآه...لماذا الآن من بين جميع الاوقات التي أحتاج رؤيتها فيه...لماذا الآن وليس قبل خمسة أعوام حين كان بأمس الحاجة لحضن والدته الدافئ، لماذا يتردد صوتها الحنون في عقله الآن بعد أن ظنَّ انه نسى كيف كان يبدو...مسح بيده دمعته الوحيدة أخذ نفساً يُسمع له صوتٌ يُشعرُ المستمع كم من الآلام مرت عليه...
نظرَ آدم إلى الطوالة أمامه و أمسك بهاتفه و أخذ يقرا الرسائل الفائتة و على حين غرة و من دون سابق إنذار تلقى آدم ضربةً على رأسه بعكازٍ خشبي مخملي اللون...
"ماهذا بحق ال!...ناني!!!" صرخ آدم على جدته التي تنظر إليه بعينين حادتين ممسكة العُكاز مستعدةَ لتسديد ضربة اخرى موجعة...
"من أنت؟؟!!...أنت لص صحيح تريد قِطعةً مني!! تعال...تعال وخذها!.." صاحت الجدة ماريا وهي تقترب بكرسيها المتحرك نحو آدم تريد ضربه...حاول آدم الابتعاد و الالتفاف حلو الاريكة ليقترب من خلف الجدة نحو كرسييها...
"ناني إنه أنا آدم!...لا عليكِ لستُ لصاً..."
"من هو آدم ؟؟ أنا لا أعرف أي آدم تعال هنا أين أنت؟!"
قالت الجدة ماريا باحثةً عن آدم الذي يقف خلفها ممسكاً برأسه من الألم...
"أنا آدم حفيدك يا ناني...أنظري إلى وجهي!" قال آدم محركاً كرسي الجدة نحوه و نظر بعيني الجدةِ مبتسماً، ركزت الجدة بصرها جيداً و احنت رأسها إلى الامام محاولة التعرف عليه...
"أين نظاراتي؟" سألت ماريا...
التقط آدم النظارات من حُجر جدته و ألبسها اياها...
"هل هذا أفضل..." قال آدم مبتسماً
"آدم! صغيري...أين كنت حتى الآن!!!.." قالت ماريا بنبرةِ ودودة و لحقتها نبرةُ تأنيب...
" لقد كنت هنا ناني لم أذهب إلى اي مكان"
"سأجهز لكِ الفطور لابد أنكِ جائعة"
"لا أريد الفطور.."
"سأعد لكِ وجبتكِ المفضلة!...شريحةُ سمكٍ مع الخضروات المسلوقة...ما رأيكِ؟" قال آدم و هو يرتدي مِئزر الطبخ...ثم مشى نحو المطبخ الذي يتصل بغرفة المعيشة والتي تفصل بينهما منضدةٌ  فضية فيها خزائنٌ من الأسفل للأواني و المنظفات و عليها يوجد المغسلةُ و صحنُ فواكه و جرائد قديمة و بعضُ الأكواب المتسخة...
تنهدت الجدةَ ثم ادارت الكرسي و اخرجت كتاباً صغيراً من سترتها الصوفية الحمراء...لم تقم بفتحه لكن قامت باحتضانه كما تفعل كل يوم...أبتسم آدم و أخذ ينظف الكؤوس المتسخة قبل ان يبدا بتحضير الفطور.
ماريا هي والدة روز التي تكون والدةُ آدم كانت ماريا وحيدةً جداً قبل عشرةِ أعوام ولكن وبعد الحادث الفظيع الذي تعرض له والدي آدم استانست الجدة بحفيدها،على الرغم من الاكتئاب الذي عاشه آدم بسبب فقدانه لأهله و الذي لا زال حتى هذه اللحظة يعاني منه لم يكن ابداً عبئاً على جدته فهو يعتني بها دائما لان ماريا تعاني من الزهايمر و تنسى دائما حفيدها و مواعيد الادوية و غيرها الكثير من الامور...في أعماقها لابد أنها ارادت أن تكون سنداً و قوةً لحفيدها ولكن المرض أثر عليها كثيراً و لم تستطع أن تعوضه عن الذي فقده في طفولته...
أنهى آدم إعداد الفطور و أخذ يجهز المائدة وضع الصحون على الطاولة السوداء الكبير الموجودةِ خلف الأرائك الطاولةُ مصنوعة من خشبٍ عتيق و مزخرفةٌ بنقوشِ ازهار و تزينها مزهريةٌ فيها وردٌ اصطناعي...
"الفطور جاهز..." قال آدم منادياً الجدة...
اقتربت مارياً محركةً كرسييها المتنقل إلى طاولة الفطور و اخذت تصنف الملاعق و الشوك من الاكبر إلى الاصغر كما تفعل كل صباح...و في كل صباح هذا المشهد يجعل آدم يبتسم.
"ماذا حدث لك الليلة الماضية آدم؟" قالت ماريا بنبرةِ تيقن و هدوء...
"لم يحدث شيئٌ يا ناني...لقد كنت-"
" تنام بملابسك المتسخة على اريكتي و معطفك فيه خدوشٌ...هل كنتَ في شجارٍ ما؟" قالت ماريا مقاطعةً آدم كانت تتحدث بهدوء و كانها تعلم مسبقاً ما حدث...
" تكونين حقاً مخيفاً عندما تكونين بذاكرتك يا ناني!" قال آدم بضحكةٍ خفيفة محاولاً التهرب...
" لا تعاملني كاني غبية ياولد..." تنهدت ماريا و اخذت تتناول قضمة صغيرة من الطعام حاملةً الشوكة و السكين...
" أعلم أني أصاب بالنسيان من حينٍ لآخر...ولم اكن عوناً كبيراً لك في معظم الاوقات...بني انت لستَ وحيداً في هذا العالم...أخبرني بما يدور في راسك الفارغ هذا...ربما قد انسى بعدها ولكن قد تشعر انت بالراحة..." قالت ماريا متعاطفة مع حال آدم الذي كان يخرج كثيرا في اوقاتٍ متاخرة في الآونة الاخيرة...
جَلسَ آدم بصمتٍ يحدقُ بطبقِ السَمكِ المدخن...
" في بعضِ الليالي...يأتيني شعورٌ يدفعني للتفكير ربما هو مجرد وهمٍ بسبب الضغوطات المتراكمة...او الإحباط ، في كُلِ مرةٍ أضعُ رأسي على وسادتي أرى...أرى صوراً غيرَ مُكتملةٍ لوالدتي تحدثني و تخبرني انها قريبةٌ مني تزرع في قلبي شعوراً لا أعرف كيف أصفه...ثمَ تضربني فِكرةُ أنها ضائعة وتنتظر أن أبحث عنها...(ضحكة حزينة)...أعلم أن هذا محضُ جنون لاني أتذكر الجنازة...اليوم الذي رحل في أحبائي و تركوني خلفهم و تركوا معي هذا الشعور بالوحدةِ و الضعف...لهذا السبب اخرج ليلاً حتى أجعل هذا الشعور يختفي آخذُ نزهاتِ طويلة و افرغُ عقلي من الافكار، الضائعُ يمكن العثور عليه...أما الراحل...لم يعد له وجود..." بردَ السمك...و جفت الخضراوات...ولا زال آدم يحدق بطبقه منتظراً إجابةً من جدته...
تقابلت أعينهم في صمتٍ دامَ لوهلة...
" من أنت بحق السماء!!!" صرخت الجدةُ ماريا!!
"ناني!!! إنه-....لا عليكِ...كنت سأخرج على اي حال" نهضَ آدم و أخذ معطفه و خرج من المنزل...أغلق من خلفه الباب البني الكبير و نزلَ عدةَ درجاتٍ مغطاةٍ بالثلج السميك...و من أمامه مباشرةً يسمع صوت السيارات و الازدحام و صوت الحياةِ لمدينةِ نيولايت...أناسٌ يمشون في الشارع أطفالٌ يلعبون بالثلج...صوت كلبٍ ينبح...وصل آدم سماعات الاذن بهاتفه الذكي و قام بارتدائها ثمَ نظرَ عالياً إلى السحبِ البيضاء التي تغطي الأفق بأكمله كأنها وساداتٌ ضخمةٌ منتشرةٌ في السماء...
"إنفيرنوم دايز الاسمُ المحرم...الانفجار الذي سرقَ أهلي مني لم يكن حادثاً...أحدٌ ما
.
.
.
قَتلَهم.

WinglessWhere stories live. Discover now