الفصل الخامس عشر

280 16 6
                                    


( بعد عدة أيام )

ملل .. ملل .. ملل
منذ عدة أيام فقط كان المنزل يضج بالحركة و الان يبدو لها كمقبرة جماعية !
مقفر و صامت و كأن ساكنيه قد هجروه !
في العادة هي لا تعطي اي أهمية لمثل هذه الأمور لأنها تقضي معظم وقتها في غرفتها لكنها اليوم تشعر بالسأم لأنها جلست في المنزل و لم تذهب إلى الشركة كما اعتادت في الفترة الأخيرة ..
فحين استيقظت شعرت بالتعب و الارهاق و بعد أن تفحصت تاريخ اليوم  أدركت أن دورتها الشهرية هي السبب ففضلت الراحة اليوم لكنها ندمت فيما بعد ..
فمنذ الصباح و هناك شيء غير طبيعي في الأجواء !
شيء له علاقة بعمها أو بحماها المستقبلي ..
ذاك الرجل الذي يختفي كعادته كل صباح بعد الفطور ثم يعود بعد الظهيرة بقليل اليوم اختفى نهائيا ً و قبلها أيضا لاحظت ان معظم العاملين اليوم يتجنبون التحدث معه !
تأففت جزاء بضجر ثم أمسكت بجهاز تحكم التلفزيون و اشغلته لتسلي وقتها لكنها لم تجد ما يثير اهتمامها لكن قبل أن تغلقه وجدت بكر يدخل الى حيث تجلس بغرفة الجلوس بملامح هادئة عكس عادته معها فأزداد توجسها مما يحدث حولها و لا تفهمه .. فهذا ليس موعد عودته من الأساس !
ترى ما الذي جلبه باكراً ؟!
جلس بكر جوارها على الأريكة بصمت ثم اجفلها حين مال بجسده مرة واحدة و وضع رأسه على فخذها متخذاً وضع الاستلقاء مما جعلها تهتف بخفوت و هي تحاول إزاحته عنها :
" ما الذي تفعله ؟! .. لا يصح أن يراك احد هكذا "
تنهد بكر باحثاً بيده عن يدها الى ان وجدها و امسك بها قائلاً بصوت هادئ .. خالي من اي انفعالات :
" ليس اليوم يا جزاء ، دعي النقار في وقت لاحق "
كادت أن تسبه و تخبره انها تتحدث بجدية لكن بدلاً من ذلك وجدت نفسها تتنهد بصبر ثم تسأل بفضول خاصة ً و انها و لأول مرة تراه هادئاً بهذا الشكل :
" ما الذي يحدث اليوم ؟! .. هناك شيئاً غير طبيعي في الأجواء "
اراح بكر رأسه جيداً فوق حجرها ثم فتح عينيه بعد ذلك قائلاً بهدوء :
" ألم يخبرك أحد ؟! "
" عن ماذا ؟! "
زفر بعمق ثم اغمض عينيه مجدداً فيما يقول بصوت مكتوم :
" اليوم ذكرى وفاة امي "
اجفلت جزاء للحظات ولم تدري ماذا عليها أن تقول لتجد نفسها تحدق فيه لأول مرة بتمعن وعجز مستغلة اغماضه لعينيه ثم قالت بعدها بصوت خفيض :
" لم اكن اعلم .. البقاء لله "
فتح بكر عينيه يطالع ملامحها ثم ابتسم بحزن يجيبها بما يقال عادةً في مثل هذه المواقف لتسأله هي بعد لحظات بفضول لا ينتهي و هي تتهرب من عينيه المتفحصتين :
" الى اين ذهب اباك ؟! .. هل ذهب إلى المقابر ؟! "
امسك بكر بيدها و وضعها فوق صدره يربت فوق قلبه بها مما اربكها اكثر ثم أجاب سؤالها غير آبهاً لرجفتها :
" ابي يذهب إلى زيارة امي مرتين كل اسبوع و يقضي هذا اليوم دائما ً كله معها "
" واضح انه كان متعلق بها كثيرا ً "
ابتسم بكر بدفء دون أن يفتح عينيه ليهمس بعد عدة لحظات بصوت خفيض للغاية :
" جداً .. لم ارى رجلاً يحب امرأته مثلما كان يحبها "
ترحمت جزاء عليها من جديد ليفتح هو عينيه و يداعب أطراف شعرها فيما يقول بثرثرة :
" هل اروي لكِ قصتهما معاً ؟! "
شعرت جزاء انه بحاجة إلى الثرثرة فلم تبخل عليه بما يريد و اومأت له بخفه فأبتسم لها بتقدير ثم أغمض عيناه من جديد قائلاً بخفوت :
" ابي كان رجلاً هادئ الطباع للغاية و كان حلمه الالتحاق بكلية الهندسة لكن جدي وقف أمامه و أصر على التحاقه بكلية الشرطة معوضاً فيه فشل عمي فاروق في اختبارات الكلية .. ففي رأي جدي كان لابد أن يكون للعائلة ذراع في الداخلية لا لشيء سيء لكن كنوع من أنواع تسهيل أمور العمل و المصالح "
طالعت جزاء ابتسامته الساخرة التي احتلت وجهه بترقب ليكمل هو بعد لحظات :
" و أمام إصرار جدي وافق ابي مرغماً رغم ضيقه من الأمر برمته لكنه لم ينسى الأمر ابداً لجدي، و بعد فترة و رغم انكسار قلبه مما حدث استسلم ابي للأمر الواقع و كون العديد من الصداقات كان من بينهم اشرف زين عبد الناصر الذي أصبح خالي بالمناسبة .. لتمر السنوات و يزداد تقاربهم حتى ُكللت صداقتهم بالمصاهرة بعد أن وقع ابي في حب امي بشقاوتها التي أخذت منها وصال اختك الكثير دون أن أفهم السبب وراء ذلك بصراحة "
قال اخر كلماته ضاحكاً بخفه فابتسمت له جزاء تنتظر منه أن يكمل ليتنهد هو ثم يقول بعدها :
" المهم .. تزوجا و انجبانا و حياتنا كانت طبيعة كأي أسرة إلى أن قبض ابي على رجل اعمال مهم بتهمة غسيل الأموال و رغم محاولات الرجل المستميتة لنفي التهمة عن نفسه إلا أن ابي كان يكبله بأدلة إدانة لا حصر لها لينتهي به الأمر محكوماً عليه بالسجن لمدة طويلة "
صمت بكر قليلاً و تغيرت ملامح وجهه فعلمت أن الجزء الأصعب من القصة قد حان و لم يخيب ظنها إذ استطرد بعدها :
" اعتقدنا أنها النهاية لكن الرجل بدا كالثور الهائج بعد ما حدث له و ارسل من عبث بسيارة ابي و شاء القدر أن تقرر امي في هذا اليوم الخروج معه لسبب لا اذكره لتنقلب بهم السيارة لعدة مرات مما أدى إلى إصابة ابي بجروح خطيرة دخل على إثرها في غيبوبة لعدة اسابيع بينما توفيت امي بعد دخولها المستشفى بسبب نزيف داخلي لم يستطيع الأطباء السيطرة عليه فأودى بحياتها "
دمعت عينا جزاء لكنها تماسكت تستغرب الوجع الذي تسلل إلى قلبها بينما فتح هو عينيه أخيراً مكملاً بصوت مكتوم :
" حين استفاق ابي من غيبوبته و أخبرناه بما حدث شعرت بأن هناك جزء منه مات معها ، الجزء الاغلى على الاطلاق .. الجزء الذي يبقيه حياً .. رأيت بأم عيني المعنى الحقيقي لكلمة ميت على قيد الحياة "
كان بكر في تلك اللحظة لا يتعجب من نفسه الثرثارة التي تحررت و باحت بما لم تبوح به لشخص سابقاً ..
و لما العجب ؟!!
ألم يفقد عقله في كثير من الأحيان و تخيل وجودها حوله مراراً و أدار هذا الحوار معها ؟!!
ابتسم بكر ساخراً من أفكاره بينما كان الفضول يسيطر على جزاء فسألته بهدوء دون أن تلاحظ أن أصابعها بدأت تداعب شعره بلا وعي :
" ألهذا ترك عمله ؟!! "
ارتجف جسده من شعوره بملمس أصابعها  لكنه كان يدرك انها تفعلها بغير عمد فتجاهل التعليق على الأمر يستمتع بما تفعله به و اومئ محافظاً على الهالة التي أحاطت بهما قائلاً بخفوت و كأنه يخاف جرح الهدوء الذي يسيطر على الأجواء :
" بعد أن تعافى و عاد إلى عمله بحث خلف الرجل اكثر و توصل إلى الكثير من المخالفات و الاعمال غير المشروعة التي تربط بين هذا الرجل و العديد من رجال الأعمال حتى إنه ارسلني انا و امين قهراً الى الخارج حفاظاً على سلامتنا و لم يقبل بعودتنا إلا بعد أن أنهى أمر هذا الحقير نهائيا ً ليفاجئنا جميعاً بعدها و يقدم استقالته رغم أن الجميع كان يتوقع  ترقيته بعد فضحه لهؤلاء الـ.... و كان جدي اكثرنا سعادة و ترقباً لترقيته حتى أنه تقريباً نسى أن ابي فعل ذلك من باب الانتقام "
لم تتحكم جزاء بابتسامة سخرية ملحة فيما تقول باستنتاج :
" و بالطبع ثار جدي و أقام الدنيا فوق رأس ابيك "
بادلها بكر الابتسامة مستمتعاً بثرثرتها معه التي طالت هذه المرة على غير عادة منها فيما يجيبها :
" كانت حرباً طاحنة لكن ابي رفض تسلط جدي هذه المرة و أصر على موقفه .. فأبي كان قد فاض الكيل به من تسيير جدي لشؤونه بهذه الطريقة وهو رجل على ابواب الخمسين "
اومأت له جزاء بتفهم بينما نهض هو من نومته وجلس معتدلاً فيما يقول بصوت خفيض :
" بيني و بينك لطالما شعرت أن ابي يُحمل جدي الذنب فيما آل إليه الوضع  و بعدها لم تعد العلاقة بينهما كما كانت سابقاً بل أن ابي أعلنها صريحة وقال انه لم يعد له دخل بشؤون العائلة فيكفيه ما خسره من أجلها كما أنه رفض التحاقي بكلية الشرطة رغم أنني اردت ذلك وقتها "
قطبت جزاء بعدم فهم فأبتسم لها بكر ثم قال مفسراً :
" كان يعلم انني ارغب بالالتحاق بها حتى اكمل مسيرته و انتقم ممن حرموني من أمي .. فأنا لم اكتفي وقتها أبداً بسجن هذا الرجل ، اردت قتله بنفسي و امين أيضاً لا اذكر اني رأيته منهاراً بهذا الشكل من قبل ، كنا نتوعد و نهتف دائما ً بأنه لن يكفينا الا موته لكن ابي كان خائفا ً من فقدنا نحن أيضاً فأرسلنا سوياً للخارج حتى هدأت الأمور "
مسحت جزاء دمعة غافلتها بينما اخرج بكر محفظته من جيبه و اخرج منها صورة امه فيما يقول بحنين وهو يناولها لها :
" هل تعلمين ! .. أمي هي الشخص الوحيد الذي اجتمع اهل هذا البيت على حبه "
همست جزاء بحنين مشابه و هي تنظر الى هيئة تلك المرأة الضاحكة بانطلاق :
" رحمها الله .. امي كانت تحبها و تذكرها دائما ً بالخير "
لم تختفي ابتسامته و هو يأخذ منها الصورة و يعيدها الى مكانها فيما يقول مغيراً الموضوع :
" على فكرة .. حضري نفسك لأننا سنذهب غداً الى مدينة ( .... ) سوياً ، سآخذك حتى تشاهدي كيف نبرم الصفقات مع الشركات "
لم تكن جزاء بكامل تركيزها معه بل كانت تنظر الى ما يخبئ في محفظته فهتفت مرة واحدة باستغراب وهي تسحب محفظته من بين يديه :
" ما هذا ؟!! "
قالتها و هي تفتح المحفظة لتخرج منها صورة لها لم تراها من قبل !
ظلت تحدق جزاء في صورتها لعدة لحظات ثم قالت من جديد :
" ما هذا ؟! .. من اين اتيت لي بهذه الصورة ؟! "
هز بكر كتفيه دون أن يرد بشيء فاستفزها لتهتف هي من بين أسنانها ببوادر غضب :
" هل كنت تدخل غرفتي و تلتقط لي الصور و انا نائمة ؟!! "
ظل على صمته ينظر لها مبتسماً بهدوء مستمتعاً بتحولها عليه فلكزته هي في خاصرته بغل فيما تقول بصوت مرتفع و قد طارت حمامة السلام البيضاء التي كانت ترفرف حولهما منذ لحظات :
" انطق يا مستفز "
توجع بكر ضاحكاً ثم قال متصنعاً الحزم :
" عيب .. لقد أصبحت زوجك ولا يصح أن تتحدث ِ معي هكذا "
" لا يصح !! .. و هل يصح أن تصورني و انا نائمة ؟! .. هل انت مخبول ام ماذا ؟!! "
ضحك فازداد غضبها من قلة إحساسه فتركته واندفعت بغضب تذهب الى غرفتها ..
لا تصدق جرأته !
كيف سمح لنفسه ؟! .. كيف دخل الى غرفتها و متى ؟!
بل كيف لم تشعر به ؟!
دخلت غرفتها ترغي و تزبد لتجده يدخل في إثرها قائلاً بهدوء ساخر مستفز :
" سبحان مغير الاحوال ! .. لقد كنتِ مثل النسمة منذ دقائق ، ماذا حدث لكِ ؟!! "
هتفت جزاء بغضب و قد كرهت استباحته لها :
" اخرج من غرفتي "
نظر لها بكر ببرود مصطنع ثم قال بعد لحظات من الصمت :
" اعطيني صورتي لأذهب "
جزت على أسنانها فيما تقول بغضب عارم :
" هذه صورتي انا .. انا لا أصدق انك سمحت لنفسك بدخول غرفتي و تصويري أثناء نومي ! "
تأفف بكر مدركاً خطأه لكنه رغم ذلك قال بمكابرة :
" التقطت لكِ صورة و انتهى الأمر .. ثم هل علي ّ أن اذكرك كل يوم انكِ زوجتي ؟!! "
اقتربت منه جزاء فيما تسأله بسخرية سوداء :
" حقاً ! .. و هل كنت زوجتك حين دخلت و التقطت لي هذه الصورة ؟!! "
اشاح بكر برأسه عنها ثم عاد لأول حديثه قائلاً بهدوء مصطنع محاولاً إنهاء هذا الحديث العقيم معها :
" اعطيني صورتي "
قلدت نبرته مما فاجئه و جلب الابتسامة الى شفتيه :
" اخرج من غرفتي "
ضحك بكر و نظر لها بمشاكسة يخبئ خلفها رغبته القاتلة في تقبيلها مجدداً .. فمنذ يوم عقد قرانهما و هي تتبخر من أمامه كلما رأته و كأنها تعاقبه على استسلامها اللذيذ له ليلتها و هو أيضاً لم يرغب في الضغط عليها بمشاعره و فضّل أن ينتظرها حتى تأتيه لحالها و ها هو يتلظى بنار الشوق بمفرده  :
" هذه ستكون غرفتي أيضاً بالمناسبة .. سنهدم هذا الحائط الذي يفصل بيننا في اقرب وقت و نفتح الغرفتين على بعضهما لهذا أنتِ لا تملكين الحق في اخراجي من هنا "
قالها ضاحكاً حتى يخرج نفسه من أفكاره المنحرفة بينما جزت على أسنانها للمرة الألف فيما تنظر إليه شزراً فهجم هو عليها مرة واحدة محاولاً اخافتها فيما يقول بمرح و هو يحاول اخذ الصورة منها :
" اعطيني صورتي "
" هذه لي و لن تأخذها "
هتفت بها وهي تخبئ كفيها خلف ظهرها تتلوى و تدور حول نفسها حتى تمنعه من الوصول إلى ما بيديها ليكبل هو حركتها بذراعيه مستمتعاً بمناوشتها لتجد نفسها في النهاية أصبحت اسيرته من جديد فقالت بلهاث حين رأت تغير نظرته لشيء آخر لا ترغب في التفكير به الان :
" ابتعد "
تركزت نظراته على شفتيها المنفرجتين قليلاً للحظات ثم ارتفعت بعدها ببطء إلى وجنتيها المتوردتين لتنتهي اخيراً على عينيها التي كانت تتهرب منه بخوف و .... خجل !
رباه .. معنى أن تخجل جزاء منه و من قربه أنه يؤثر بها
معناه انه لمس ولو جزء صغير من قلبها !
هكذا حدثه قلبه فمال عليها قائلاً بمكر ممتزجاً باضطراب حاول ألا يظهره أمامها حتى لا تكتشف ضعفه تجاهها و تستغله ضده :
" لما اضطربتِ ؟!! .. اعطيني ما اريد حتى ارحل "
تكلمت جزاء بعد عدة لحظات محاولةً التحكم في اهتزاز نبرتها فيما تقول بذكاء و مساومة ترغب في إبعاده بينما هناك جزء آخر منها صغير للغاية مختفي في أعمق قطعة من روحها يترجاه أن يبقى :
" ابتعد عني و سأعيد لك الصورة "
حدق بكر في عينيها للحظات مدركاً تخبطها الذي تفضحه ضربات قلبها و تنفسها السريع و بالطبع توردها ثم همس لها  :
" اريد شيئاً آخر "
" لا "
قالتها قاطعة .. حازمة ... مرتعبة !
فقطب هو متصنعاً التأثر فيما يسألها بتلاعب :
" ألن تسألي أولاً عما اريد ؟!! "
كانت تعلم أنه يلاعبها لكنها مع ذلك لم تخاطر و قالت ببساطة مغيظة له و هي تحاول تحرير نفسها من بين يديه :
" أيا ً كان ما تريد لن اعطيه لك .. فقط اتركني و خذ تلك الصورة اللعينة و ارحل من هنا "
ابتسم لها بكر وحدق فيها للحظات بدت له كعمر آخر يحيياه بقربها !
أجمل ما فيها انها تذوب مثل قطعة الشكولاتة بين يديه دون أن تستطيع السيطرة على نفسها ..
روحها أصبحت تألفه و تسعد بقربه و تقربه ..
تتمنع و تكابر لكن الطفلة التي تقبع بداخلها تخونها و تظهر لعينيه تطالبه بالدلال و تستجدي قربه فيقترب هو بلا حول ولا قوة رغم عنجهية من تقابله و لسانها الطويل !
مال بكر عليها وقبل أسفل اذنها بخفة ثم همس يسترضيها :
" حسناً سأتركك .. لكن اريدك ان تعلمي شيئاً ما "
نظرت له جزاء بتوتر فحرر أحد ذراعيها ثم أشار إلى قلبها قائلاً بثقة لا يعلم من اين تحط عليه :
" انا أدرك ما يدور هنا ، و افهم ما يدور هنا "
أنهى كلامه مشيراً لرأسها ليترك ذراعها بعد ذلك فيما يستطرد بحنان مس عمق قلبها :
" علمي عقلك أن لا يستهين بي ، أما قلبك فاتركيه لي .. انا اعلم جيدا ً أنه سيكون حليفي ضدك و عما قريب لأنه هو الوحيد وسط تركيبتك المعقدة الذي يعرف قدره عندي "
ختم بكر كلامه غامزاً لها ثم سحب الصورة من بين أصابعها بسهولة شديدة لتدرك انه استطاع بحديثه أن يرخي اعصابها المشدودة دوماً في حضرته خاصةً من بعد أن تواصل معها بتلك القبلة التي زلزلت كيانها و التي لا تعلم حتى الآن كيف تاهت بها و كأنه القى عليها تعويذة ثبتتها مكانها و ابقتها أسيرة ذراعيه !
لكنها حقاً لا تزال مشتتة ..
خاصة ً وهي تستقبل منه تلك العاطفة القوية نحوها و التي لا تفهم متى تكونت لديه !
ما سره و ما الذي يربطه بها بهذا الشكل ؟!!
تابعت رحيله الهادئ من غرفتها و أدركت أنه كان يرفه عن نفسه بما يفعله معها حتى لا يسمح لحزنه على موت امه أن يهزمه أمامها فتشوشت أفكارها حوله أكثر لتهمس في اثره و كأنه يسمعها :
" سأعرف ما تخفيه عاجلاً أم آجلا ووقتها سنتحدث مطولاً دون أقنعة أو ألغاز "
و على الجانب الآخر خرج بكر من غرفتها هارباً من تأثيرها القاتل عليه مدركاً عظم ما أوقع نفسه به حين دخل خلفها من الأساس و عالماً بأن ليلة سهاد أخرى في انتظاره بسبب قربها المهلك لأعصابه !
فما اصعب ان تكون حبيبتك حلالك و على بُعد خطوتين منك و انت مجبر على الانتظار و غير مسموح لك الا بمشاهدة تعذيبيه لا تسمن ولا تغني !
أخرجه من أفكاره رنين هاتفه فأمسك به ليجد اسم ادم أمامه فاستقبل المكالمة هاتفاً بمزاح :
" انظروا من تذكرني ! .. هل هنت عليك تتركني بضعة أيام دون سخافتك يا قاسي القلب ؟! "
لكن و لأول مرة لم يستجب ادم لمزاحه و قال بصوت جاد للغاية :
" بكر .. انا احتاجك في شيء لكن دون استفسارات "
قطب بكر و قد انتقلت جدية صاحبه إليه فقال بلا لحظة تردد :
" ماذا تريد ؟! "
" اوصلني إلى وصال .. ضع هاتفك و لو قهراً فوق اذنها حتى اتحدث معها لأن الغبية لا ترد علي ّ "
رفع بكر حاجبه بتعجب من طلب صاحبه ثم قال رغماً عنه :
" وصال ! .. منذ متى و انت تتقرب منها دون علمي يا نذل ؟! "
على الناحية الأخرى تنهد ادم بضيق ثم قال باختصار:
" لست متفرغاً لمزاحك .. كما انني قلت لك دون استفسارات "
تحركت خطوات بكر ناحية غرفة وصال فيما يقول باستفزاز :
" و هل أحتاج إلى استفسارات ؟! .. الأمر واضح و صريح "
ليبعد بكر الهاتف عن اذنه حين هتف ادم و قد نفذ صبره :
" انجز و اعطيها الهاتف اللعين "
" حسناً .. حسناً انتظر .. انا امام غرفتها "
قالها بكر وهو يطرق على باب غرفة وصال و قد لاحظ للتو انها حقاً مختفية عن أنظار الجميع منذ يوم عقد قرانه تقريباً لكنه لم يكن متفرغ ليتتبع اخبارها !
..........................................
متكومة فوق سريرها بوضع الجنين تحتضن نفسها ، تختبئ من الجميع و أولهم نفسها !
تهمس لروحها بتشجيع كاذب أجوف لم يتوقف للحظة منذ أن علمت بما أصابها !
( لن ابكي .. لن أسقط .. لن انهار )
( انا وصال الغانم و اعلم قدر نفسي جيداً ! )
( لم ينتهي العالم و لن تنتهي رحلتي به بهذا الشكل المريع )
( انا اقوى من كل سوء يصيبني )
( لن أسقط .. لن ابكي .. لن انـ ....... )
( آاااااااااااااااااااااااااه )
روحها تصرخ و تصرخ و تأن و تستغيث لكن وجهها ...
هادئ للغاية .. واهن للغاية ..
ميت للغاية !!
اسوء شيء أن تكتشف انك حاضر لدرجة النسيان !
فوصال دائما ً موجودة حول الجميع ، حاضرة بمزاحها بسخريتها و بدعمها اللامحدود ..
فظن الجميع انها من فرط ما تُعطى لا تحتاج ..
من فرط ما تهب لا تنتظر !
لكنها الآن أكثرهم احتياجاً ، أكثرهم فقراً و عجزاً و لكن اين هم منها ؟!!
دمعت عيناها لكنها تماسكت تستغرب شعورها بالغربة و الوحدة الذي تولد داخلها منذ أن اخبرها ادم بحقيقة مرضها ..
لم تجد من تشاركه حملها برغم انها شاركت الجميع حمله ..
وقتها شعرت أنها ليست سوى شبح و آن وقت احتراقه !
ابتسمت بانكسار لا يظهر بحضور أحد وواجهت نفسها بأنها حقاً لم تمثل لهم سوى شبح .. وجه اخر بديل لعلياء !
علياء الطموحة ، القوية ، الجذابة التي ناقضتها هي في كل الصفات فولدت متهورة .. قنوعة و غير مرئية في معظم الأحيان .
حتى امها منذ موت علياء و هي تحاول احيائها فيها من جديد و كأنها ترفض تصديق رحيل ابنتها فترسم وجودها فوق كل شيء حتى هي !
محاولاتها المستميتة لتزوجها من أمين ..
تدخلاتها التي لا تنتهي في تصرفاتها حتى تجعلها وجه آخر لمن تركتهم في منتصف الطريق رغبةً منها في لفت نظر كبير العائلة المنتظر رافضة  رفض قاطع الاقتناع بأنه لم يمثل لها سوى اخ !
و الآخر الذي اهدته قلبها بلا ثمن فأهانه و خسف بكرامته الأرض ..
محق ! .. فمن يأخذ بلا ثمن لا يُقدر قيمة ما أخذه !
تنهدت بتعب شديد هاجمها منذ علمت بحقيقة مرضها وكأنه السرطان يعلن وجوده صريحاً يجري بين عروقها و ينخر في جسدها نخراً بلا رحمة .
رن هاتفها للمرة المليون فتجاهلته مدركة أنه اتصال اخر من ادم !
ادم الذي بعد أن فجر قنبلته في وجهها حتى أصابها الخرس أمامه و زحفت البرودة فغلفت قلبها بغلاف من جليد فأقترب هو منها تحت انظارها الذاهلة و اخبرها بضرورة الخضوع لفحوصات ادق حتى يستطيع معرفة أبعاد حالتها و أدق تفاصيلها مطمئنا ً إياها و مثرثراً عن مدى تقدم الطب و عدد الحالات التي شُفيت من هذا المرض لكنها لم تكن معه أبداً !
كانت كمن سقط في بئر عميق أو كمن غاص في عالم اخر بعيد كل البعد عن ما حوله و انفصل تماماً عن واقعه !
صوته كان يأتيها مشوشاً ..
بعيداً للغاية عن مداركها  و كأنها في حلم بشع تتداخل فيه الاصوات مع بعضها ..
حتى وجهه اختفى خلف غلالة دموعها التي لم تدرك أنها تبكيها إلا حين اقترب ادم منها مطوقاً إياها بذراعيه لتنهار بعدها الواجهة القوية التي تظهرها عادةً و تتحطم أسوار كبريائها العتيد أمام ما تمر به لتنخرط في بكاء طويل على صدره بلا تحفظ ..
سيطرت عليها فكرة الموت فقهرتها و ارعبتها !
بكاءها لم يوقفه تربيت ادم الذي لم ينتهي على ظهرها و لا كلامه المطمئن ووعوده بأن يبذل كل جهده حتى تشفى في اسرع وقت .
ليمر بعدها وقت طويل حتى هدأ انهيارها قليلا ً فوجدت نفسها تطلب منه أن يخفي الأمر عن الجميع خاصة ً امها خوفاً من أن يصيبها شيء هي الأخرى ثم هربت منه في النهاية لا تدري كيف تحركت ولا كيف عادت ؟!!
  فقط وجدت نفسها هنا تختبئ في غرفتها تحاول شحذ همتها كما اعتادت حتى تستطيع مواجهة واقعها من جديد دون خسائر !
لكن هذه المرة الصمت كان موحشاً و كأنه نذير شؤم يحلق فوق رأسها ..
ترى هل اقتربت نهايتها ؟!!
سمعت طرقات فوق بابها فأغمضت عينيها بضيق دون أن ترد لكن الطارق لم يتوقف حتى نهضت هي بصعوبة و فتحت الباب لتجد أمامها بكر الذي تراجع للخلف وهتف مشاكساً إياها :
" سلام قولا ً من رب رحيم .. ما هذا المنظر ؟! "
نظرت له وصال بلا تعبير ثم قالت بصوت واهن :
" ماذا تريد ؟! "
نظر لها بكر قليلاً لا يفهم ماذا ألم بها ثم قال بعد ذلك و هو يعطيها هاتفه :
" تكلمي مع ادم .. يريدك و لا يستطيع التواصل معك "
تأففت و اخذت الهاتف منه ثم وضعته على اذنها و تكلمت مع ادم تسأله بنفس البرود :
" ماذا تريد ؟!! "
رفع بكر حاجبيه تعجباً من حال هذه الفتاة بينما تكلم ادم قائلاً بحزم لا تراجع فيه مدركاً أن عليه أن يكون صارماً معها :
" اسمعي يا وصال .. انا لا أحب الغباء .. هل تظنين أنه من الصعب عليّ المجيء إلى بيت جدي و الوصول إليكِ ؟! .. انا فقط احترم كلمتي لكِ حتى الآن لكن قسماً بالله إن لم تأتِ غداً الى المستشفى سآتي انا الى البيت و أخبر الجميع بنتيجة تحاليلك "
صمتت وصال قليلاً و اغمضت عينيها بيأس ثم قالت باختصار أمام عين بكر النافذتين :
" لكنك وعدتني "
فيأتيها صوته المصمم بنبرة لم تسمعها منه من قبل :
" انا قلت ما لدي .. و بالمناسبة انا قادم لكِ بعد قليل .. اريد التحدث معك اولاً بعيدا ً عن جو المستشفى ، سآتي و لكني لن أدخل و سأنتظرك في الحديقة حتى اتحدث معكِ على انفراد "
" حسناً .. انتظرك "
همست بها وصال قبل أن تنهي المكالمة ليقطب بكر بريبة فيما يسألها بحذر و قد استشعر جدية الأمر :
" ما الذي يحدث ؟! .. هل أنتِ بخير ؟!! "
فردت عليه قبل ان تختفي خلف بابها و تغلقه في وجهه بفظاظة :
" لا تشغل بالك "  
لتعود بعد ذلك إلى ظلمتها تستسلم الى قدرها ..
تعطي نفسها حق الانهيار بشكل كامل قبل أن يحين موعد ارتدائها قناع القوة و التماسك من جديد أمام ادم .
..................................
" هل اعطلك ؟!! "
رفعت عهد رأسها تنظر له بإشراق يُكذب حديثها معها حيث قالت بغير رضا :
" يا امين هذه خامس مره تمر الى مكتبي اليوم .. هكذا سيظن الموظفين أن هناك شيئاً ما يحدث بيننا "
ابتسم لها امين ثم خطى الى داخل مكتبها قائلاً بغرور مصطنع :
" و الله هذه شركتي و شركة عائلتي و لذلك انا حر ادخل المكتب الذي يعجبني في الوقت الذي يعجبني "
ابتسمت عهد حين جلس أمامها تكاد لا تصدق انها حقاً تحيا هذه الأيام لتتمالك نفسها ثم تقول بمشاكسة وهي تغلق شاشة حاسوبها المحمول :
" و ما سبب مجيئك هذه المرة يا صاحب الشركة ؟!! "
ضحك امين بخفه فيما يجيبها ببساطة :
" لا شيء محدد .. اردت رؤيتك فأتيت "
اتسعت ابتسامتها الغير مصدقة لما تعيشه بينما قال هو بصوت متحمس :
" ما رأيك أن نقضي يوماً انا و أنتِ و قصي معاً ؟! .. أنا متأكد من أنه سيفرح للغاية حين أخبره بأمر ارتباطنا "
صمتت عهد قليلاً ثم قالت بخفوت :
" انا بالطبع ارغب في قضاء كل وقتي معكما لكن كما تعلم حالياً الوضع في البيت متأزم للغاية و أبي فرض على الجميع حالة الطوارئ بعد ما حدث "
قطب امين ثم سألها بعد لحظات :
" هل ارتباطك بأنس كان يمثل له كل هذه الأهمية ؟! "
غشى الحنان حدقتيها ثم قالت بخفوت :
" ابي لم يكن سيفرض عليّ وضع لا أريده أبداً .. لكنني خذلته بشكل ما حين تخطيته و الغيت الخطبة بيني وبين أنس دون الرجوع إليه .. ابي هو صاحبي و شريكي في معظم قرارتي كما تعلم ، كما أنه أراد أن يطمئن قلبه عليّ بعد كل هذه السنوات التي وهبت نفسي فيها لـ ..ـلعمل فقط "
تداركت نفسها في اخر حديثها قبل أن تخبره بسذاجة انها كانت تهب نفسها له بينما اتسعت ابتسامته هو متأملاً ملامحها الناعمة مرة بعد مرة ليهمس في النهاية بنبرة حانية تدك كل حصونها :
" اعدك أن اطمئن قلبه و اريح عقله من ناحيتك تماماً .. اما أنتِ فوعدي لكِ أن اُهديكِ قلبي و اهبك عمري و ابقى لك الصديق قبل الحبيب حتى تزهق أنفاسي "
و يلومونها على عشقها اليائس له !
بحق الله من تجد أمامها رجل متدفق العطاء حتى بنظراته بهذا الشكل و لا تسقط صريعة هواه ؟!
من وجهة نظرها أمين خُلق ليُعشق ..
و كأنه يحاكي أفكارها و يسمعها إذ همس بمشاكسة :
" لا تنظري لي هكذا فأنتِ تحرضيني "
قطبت عهد وتورد وجهها ثم سألته بعدم فهم :
" احرضك على ماذا ؟! "
لتتسع ابتسامته هو ثم يجيبها بوقاحة :
" منذ ذلك اليوم الذي اخبرتني فيه انكِ تحبينني و انا امنع نفسي عن الانغماس بكِ بمعجزة لذا ارجوكِ حبيبتي لا تزيدي الطين بلة بنظراتك الكارثية هذه "
كان وجهها الاحمر دليل حي على الفتنة في نظره فبقى ينظر لها دون شبع يلتهم كل لمحة منها دون أن يرحم خجلها و عذرية مشاعرها بينما كانت هي هائمة في مناداته لها بحبيبتي تكاد تطلب منه أن يظل يرددها عليها اعواماً و أعوام عله يروي بها ظمأ سنوات عجاف مرت عليها بدونه !
رفع ذقنها بإصبعيه ليقابل عينيها الهاربتين بخجل منه ثم همس معترفاً :
" أتعلمين .. أشعر هذه الأيام أنني اراكِ و أتعرف عليكِ من جديد و كأنني كنت غريباً و مغيباً عن كل ما حولي و استيقظت اخيراً للتو فأتذوق حلاوة القرب منكِ "
رغم حيائها من حديثه وجدت عهد نفسها تهمس بعتب :
" لأنك فعلاً كنت مغيب ، دفنت نفسك مع علياء و لم تعد نفس الشخص من بعدها و كأنك تستكثر على نفسك الحياة من بعدها "
شعرت عهد بتغير الأجواء حولهما بعد ما قالت خاصة ً بعد أن شعرت بأصابعه تشتد على ذقنها فيما يقول بصوت مكتوم :
" دعينا لا نفتح هذا الموضوع .. انا لا أفضل الحديث عن ما مضى "
لم يعجبها ما قاله فوجدت نفسها تحدق في عينيه بتركيز و تسأله بترقب شديد :
" و هل مضى و انتهى حقاً يا امين ؟!! "
للحظة اجفلت حين رأت غضبه المهول يشتعل في عينيه لكنه اخمده و كأنه لم يكن ثم قال بعد ذلك بغموض لم تستسيغه بنفس النبرة التي تمقتها :
" دعي ما دُفن يبقى مكانه و لنبقى نحن مع القادم "
كادت عهد أن تتحدث لكن قاطعهم و أبعد امين عنها صوت طرقات على الباب تبعها دخول جاسم فشعرت بتحفز جسد امين جوارها لكنها أعطت اهتمامها لجاسم الذي سأل بلا مقدمات :
" اين وصال ؟!! .. بحثت عنها في الشركة و اتصلت بها لم تجيب "
أوشكت عهد أن ترد عليه لكن سبقها امين الذي كان ولأول مرة يظهر أمامها بمثل هذا الغضب مما أصابها بالعجب :
" ماذا تريد منها ؟! "
شاهدت عهد كيف نظر له جاسم باستهانة دون أن يعيره اي اهتمام ثم عاد بنظره لها من جديد سائلاً بصوت هادئ :
" ألم تأتي اليوم ايضا ً ؟!! "
هزت عهد رأسها نفياً فأومئ هو متفهماً ثم تركهما و رحل لتجفل عهد حين شتم امين بخفوت فنظرت له بصمت مطبق تنتظر تفسير تصرفاته ليتدارك هو نفسه قائلاً ببعض التوتر :
" لقد ضايقها في شيء ما .. لقد رأيتها في ذلك اليوم الذي فقدت فيه وعيها .. كانت خارجة من مكتبه و سقطت "
ردت عليه عهد بهدوء مخالف لكم التشوش الذي تشعر به من تقلباته :
" لكنها قالت انها فقدت وعيها لأنها لم تتناول افطارها و حتى لنفترض انك محق و أنه ضايقها في شيء ألا يمكن أن يكون يبحث عنها الان ليسترضيها ؟! "
اشاح امين بوجهه دون أن يرد عليها فعقبت هي تقول باستغراب وضيق دون أن تدري بأنها تضغط على جرحه القديم :
" لم افهم يوماً سر العداء الذي ولد بينكما في يوم و ليلة ..هل يمكن أن تحول المنافسة في العمل صديقان مقربان مثلكما الى غريبين بهذه الطريقة المقيتة ؟!! "
ضم امين قبضته يكبت عنف يتولد داخله بمجرد ذكر الآخر بينما استطردت هي لاهية تماماً عما يمر به من يجاورها :
" أتعلم انني كنت أغار من علاقتكما ونحن صغار ؟! .. كنت دائماً أراه منافسي الوحيد على صداقتك ، لكنني حزنت و صُدمت بحق منذ أن تغير شيئاً ما بينكما و جعل منكما ما بتم عليه كنت اظنـ...... "
" انتهينا يا عهد .. لا داعي لفتح هذا الموضوع "
هتف امين بصوت حاد موقفاً حديثها المؤذي الذي ينبش في جراح حارب لدفنها و ليتها دُفنت !
فليس هناك اقسى من ان يكون عدوك هو اعز صديق ..
ما افظع أن يطعنك في ظهرك من كان يسند ضعفك ..
من كان يركض إليه يشتكي همه أصبح هو سبب بلاءه في هذا العالم !
انتبه امين لنظرة عهد الحادة بعد أن صرخ بوجهها فتنهد و مسح وجهه بكفيه ثم اقترب منها محاولاً التحكم في أعصابه فيما يقول :
" انا آسف .. لم اقصد مضايقتك ، و لكن لي عندك طلب إذا سمحت "
ظهر التساؤل بعينيها فقال مستطردا ً :
" دعينا لا نجري هذا الحديث مجدداً فما هُدم بيني وبين جاسم لن يصلحه شيء أبداً "
كادت عهد أن تتحدث مجدداً لكنه قاطعها قائلاً بإرهاق :
" ارجوكِ يا عهد "
فأومأت له هي بلا اقتناع حتى تريحه الآن لكنها وعدته ووعدت نفسها سراً أن تفعل المستحيل حتى تعيد المياه إلى مجاريها بينهما من جديد.
........................................
تحرك جاسم عائداً الى مكتبه بخطوات متثاقلة بعد أن بحث عنها في كل مكان في الشركة دون نتيجة فعرف انها تغيبت لليوم الرابع على التوالي !
هل فقدت شغفها بالعمل و ملت منه ؟!!
هل لم تعد ترغب بالتواجد في محيطه ؟!
هل يمكن أن تكون مريضة و هو لا يدري عنها شيئاً ؟!
آخر مرة رآها لم تكن بخير على الاطلاق ..
كانت هزيلة و مرهقة و لا تبدو على طبيعتها !
تباً لما أصبح وجودها و اختفائها يمثلان له كل هذه الأهمية ؟!
قلبه يخبره أن بها شيئاً ما ..
شيء اكبر بكثير من جرحه الغبي لها !
دخل مكتبه و امسك بهاتفه ثم حاول الاتصال بها مرة أخرى  لكن أيضا ً دون نتيجة فشتم بغضب ثم كاد يتصل برغدة لكنه تذكر أن اليوم جدول محاضراتها مزدحم و سينتهي بوقت متأخر .
جلس جاسم متأففاً لا يعرف ماذا عليه أن يفعل و لا لما يبحث عنها من الأساس !
بحق الله ما المفيد الذي سيخبرها به اذا توصل إليها ؟!
ماذا سيقول لها ؟!!
هل سيقف أمامها مثل الحائط ينظر لها بحماقة فيما يخبرها بأنه شعر بأنها ليست بخير فأتى يستفسر عن حالها ؟!
ستظن أنه يتقرب منها وسترد لها ما فعله بها دون قصد و تهينه من جديد !
اللعنة ما كل هذا التعقيد الذي يحيا به ؟!!
نهض جاسم ممسكاً بسلسلة مفاتيحه محدثاً نفسه بضيق و هو يتحرك مغادراً الشركة إلى حيث تبقى تلك المستفزة القصيرة :
" لتظن ما تظنه .. لا يعقل أن تختفي بهذا الشكل المريب و أظل انا هنا اشحذ أخبارها من الراحل و القادم "
( و لما أصبحت اخبارها تهمك الى هذه الدرجة ؟!! )
تجاهل جاسم ذلك الصوت الماكر الذي يصدر عن عقله و تحرك متبعاً  صوت قلبه لأول مرة منذ زمن بعيد غير مدركاً لما ينتظره !
............................
نزلت وصال تجرجر خطواتها المرهقة مثلها حتى تستقبل ادم الذي اتصل بها منذ عدة دقائق و اخبرها بأنه وصل و ينتظرها في الحديقة كما اتفق معها و من حسن الحظ لم تجد في طريقها احد مما وفر عليها ثرثرة لا ترغب بها حالياً و لا طاقة لها بها من الأساس  ..
خرجت إلى الحديقة فوجدته يقف في ركن قصي فتحركت نحوه بينما بقى هو واقفاً ينتظر اقترابها بصبر وهدوء يعاكس رغبته الشديدة في الشجار معها الان حتى يكسر ذلك الوجه المتخشب الذي تصدره له !
وقفت أمامه فقال ساخراً :
" لا يبدو انني بحاجة لأن أسأل عن حالك "
نظرت له وصال بلا تعبير ثم قالت بعدها بصوت ميت :
" لما جئت ؟! .. ألم أقل لك انني سأحضر الى المستشفى ؟! .. ما فائدة قدومك الان ؟!! "
قطب ادم ثم أجابها بعد ذلك بصبر مدركاً عظم ما تمر به :
" جئت لأراكِ .. لأعرف احوالك بعد أن اختفيتِ تماماً و لم استطع الوصول إليكِ "
ابتسمت وصال بسخرية شديدة فيما تقول بصوت مختنق بالبكاء :
" محق .. يجب أن تراني ، أتعلم انا أيضا ً يجب أن أرى نفسي الان و احفظ شكلي جيداً حتى استطيع تذكره فيما بعد .. بعد أن يتغير فور أن أبدأ جلسات العلاج "
تنهد ادم بعجز يكبله .. لا يدري ماذا عليه أن يقول ليخفف عنها !
لقد اعتاد دائما ً رؤيتها منطلقة ، ضاحكة و الآن ها هي تقف أمامه مثل الطيف الباهت و كأن القيامة قد قامت في قلبها و نجوم دنياها الوردية سقطت و احترقت !
صغيرة للغاية و هشة للغاية على ان تحمل هذا الحِمل !
اقترب منها مجدداً يهمس بهدوء أبعد ما يكون عن ما يدور في خلده :
" افهمي يا وصال .. استسلامك بهذا الشكل هو أكثر ما يضرك كما يجب أن يعرف الجميع في اقرب وقت لأن سيتم حجزك في المستشفى "
نظرت له نظره شطرت قلبه بما تحويه من حزن و ألم بينما هتفت من بين أسنانها بغضب عارم على قدرها فيما تحاول خفض صوتها حتى لا يكتشف أحد ما يحدث معها و هي ليست جاهزة بعد لأي مواجهة من اي نوع  :
" اخبرتك انني اريد بعض الوقت .. ماذا؟! .. أليس من حقي ؟!! "
هتف ادم هو الآخر و قد فاض به الكيل من عنادها معه :
" يا غبية كلما تأخر العلاج كلما تأخرت الحالة .. لما لا تفهمين ؟! "
دمعت عيناها بقهر مسه في الصميم و هتفت بنشيج منهار و قد تصدع قناع تماسكها من جديد أمامه :
" انت من لا يفهم .. انا مريضة سرطان .. سرطااااان ، بمعنى أن حياتي أصبحت على طرف الهاوية .. هل تعتقد انني جاهلة ولا اعرف الاعراض الجانبية لجلسات العلاج ؟! .. الأمر سيبدأ بتساقط شعري و سينتهي بتدمير أعضاء جسدي و قد اُحرم من أن أكون ام .. كيف لم تفهم بعد ؟! .. انا بدأت أحتضر يا ادم "
خبئت وصال وجهها في كفيها تبكي بانهيار وقد طار كل حديثها مع نفسها عن القوة و التحمل ادراج الرياح فلم يتمالك ادم نفسه خاصة ً حين سقطت أمامه على ركبتها كورقة ذابلة خانتها الفصول كتفيها متهدلين باستسلام و عجز فنزل هو الآخر امامها وأمسك بها  يضمها غير مبالياً بموقعهم المكشوف نوعاً ما فيما يهتف بصوت حزين لأجلها :
" و أين ذهبت انا ؟!! .. ألم تخبرينني اكثر من مرة انني الاكثر شبهاً بأخيكِ الخيالي الذي لطالما تمنيتِ وجوده ؟! .. هل تظنين انني سأتركك تعانين بمفردك ؟! .. مستحيل يا غبية .. مستحيل "
تعالى صوت بكائها تشعر بضعف لم تشعر بمثله سابقاً و برعب رهيب يتغذى عليها فضمت نفسها إليه اكثر دون أن تدري بمن دخل للتو الى الحديقة و وقف مبهوتاً يشاهد العرض الذي امامه ثم همست بخفوت وضعف :
" أنا خائفة .. خائفة جداً "
ربت ادم الذي يعطي ظهره الى جاسم على رأسها بحنان فيما يرد عليها بوعد صريح :
" لا تخافي ولا تجزعي يا بسكوتة انا معك و سأبقى معك حتى النهاية "

نهاية الفصل الخامس عشر

ضربة جزاء .. الجزء الأول من سلسلة قلوب تحت المجهر حيث تعيش القصص. اكتشف الآن