25

34 4 0
                                    

مذكرات شادية ❤️
بقلم إيريس نظمي
-------------------
(الحلقة الخامسة والعشرون)
-------------------
فجأة بدأت أشعر برغبة شديدة فى العودة إلى الغناء الذى ابتعدت عنه فترة طويلة.. لقد شغلتنى السينما واقنعتنى أن أعطى كل طاقتى وأحاسيسى للتمثيل وحده.. وكدت أنسى أنى مطربة.. وأن الغناء كان هو جواز المرور إلى الشاشة.. ولولا صوتى الغنائى ما كنت أصبحت فنانة.. فإعجاب أفراد عائلتى وبقية أهلى هو الذى جعلنى اتجه للفن.
وبدأت شادية المطربة التى فى داخلى تستيقظ وتتمرد بل وتثور على شادية الممثلة التى كانت سبباً فى ابتعادها واحتجابها عن الحفلات الغنائية.
بل إنى كنت أتخيل أحياناً حوار بين شادية المطربة وشادية الممثلة.. أسمع فيه شادية المطربة وهى تسأل بغضب: لماذا تحاولين أن تسرقى منى الأضواء.. اننى فى الأصل والأساس وجودك من وجودى.. لو لم أكن أنا ما كانت لك أية قيمة أو وجود.. إن الناس عرفونى قبلك.. وأعجبوا بى قبل أن يعجبوا بك.. وصفقوا لى قبل أن يصفقوا لك.
وترد شادية الممثلة: انت الماضى وأنا الحاضر.. انت مرحلة المراهقة والشباب.. لكنى أن العقل والنضج.. بل وأنا المستقبل أيضاً.
وترد شادية المطربة: لا أنا لم أمت.. أنا مازلت قوية شابة نضرة.. إن الشيخوخة لن تصيبنى أبداً.. الصوت الجميل لا ينساه الناس بسهولة مهما ظهر بعده من أصوات.. سأعود مرة أخرى لأنافسك.
وتقول شادية الممثلة: إن الناس يحبوننى أنا أكثر.
ويزداد غضب شادية المطربة: لا.. يحبوننى أنا أكثر.
وفى كل مرة كنت اضطر للتدخل لأفض هذه المشاجرة التى لا يراها ولا يسمعها أحد غيرى لأنها تحدث فى عقلى أنا وفى أعماقى أنا.. إن النفس تتكلم لكن بلا صوت.. تعاتب صاحبها وتحاوره وتلومه.
وما أصعب لوم النفس وما أقساه.
لكنى كنت أشعر بتعاطف مع المطربة التى فى داخلى.. فرغم أنى حققت نجاحاً كبيراً كممثلة فى أفلامى الأخيرة.. ورغم أنى حددت لنفسى مكاناً وسط أشهر بطلات الشاشة.. إلا أننى أشعر فجأة بحنين شديد إلى العودة للغناء.
قد تكون حالتى النفسية هى السبب خصوصاً بعد فشل زواجى الثالث وبعد أن تأكدت من استحالة قدرتى على الإنجاب.. إن الإنسان لا يغنى فقط عندما يكون سعيداً.. بل تكون رغبته أشد فى الغناء عندما يكون حزيناً بائساً.. الغناء راحة للقلب الحزين.. دواء للنفس العليلة.. شفاء لجرحى الحب.. سأغنى.. بل لن أتوقف أتوقف أبداً عن الغناء حتى تلتئم كل أحزانى.. الغناء هو طبيبى.. بل هو أنبغ الأطباء وأقدرهم على شفاء جسدى وروحى.
ولقد ساعدنى وشجعنى على العودة للغناء ذلك اللقاء الذى لا أنساه.. لقاء لم أكن أتوقعه لأنه تم مصادفة وبدون ترتيب.. لكن هذا اللقاء كان من أهم الأسباب التى دفعتنى للعودة بسرعة إلى الغناء.. لقائى بسيدة الغناء العربى أم كلثوم.
وأخذتنى فى معطفها
كنت داخلة إلى "صوت القاهرة" وكانت هى خارجة وبصحبتها محمد عبد الوهاب.. وقبل أن أحييها وأعبر لها عن سعادتى بلقائها.. أمسكت أم كلثوم بيدى.. وانهالت كلمات العتاب، ولم أقدر على الكلام، لأنى كنت مهتمة بمعرفة أسباب هذا العتاب.
قالت أم كلثوم دون أن تغيب ابتسامتها من فوق شفتيها:
أنا من زمان عايزة أشوفك يا شادية.. حاضربك وأموتك انتى حلوة وصوتك حلو.. لكن يظهر إنك نسيتى.. بقيتى بس عايزة تحملى وتولدى.. انت فنانة.. ليه بطلتى تغنى؟ ليه عايزة تهجرى فنك وصوتك الحلو وتقعدى فى البيت تحملى وتولدى؟ ازاى تحرمى الناس منك ومن أغانيكى.. لازم ترجعى تغنى.. اوعدينى يا شادية.. اوعدينى.
ولم تتركنى أم كلثوم إلا بعد أن وعدتها بسرعة العودة إلى الغناء.. فقد كنت مترددة قبل لقائى بها.. أعود للغناء أو لا أعود؟
لكن هذا التردد اختفى الآن.. كان لكلماتها وقع السحر فى نفسى.. وأنا لا استطيع أبداً تجاهل كلماتها.
فارتباطى بأم كلثوم قديم.. ومازلت أذكر تلك الليلة التى رأيتها فيها لأول مرة.. كنت لاأزال طفلة صغيرة لم يتجاوز عمرى اثنى عشر عاماً عندما فوجئت بأبى يقول لى: سأخذك معى الليلة لقضاء سهرة لا تحلمين بها.
وسألته: أين؟
قال: فى المغاورى.
ولم أفهم ما هو المغاورى هذا؟ هل هو اسم مكان جميل مخصص للسهرات؟ لم أسمع من قبل أن إحدى صديقاتى ذهبت لقضاء سهرة فى مكان اسمه المغاورى.
ولم أفهم إلا عندما وجدت نفسى فجأة وسط حلقات الذكر والإنشاد.. وعلى أصوات الدفوف والمنشدين بدأت أفطن للأمر.. إن المغاورى هو أحد المشايخ المباركين وقد أقاموا له فى هذا المكان مقاماً يأتى إليه الناس يلتمسون فيه البركة والخير ويستمعون إلى الأناشيد الدينية والألحان الشعبية ودقات الدفوف.
وأشار أبى قائلاً.. هذه أم كلثوم.. وهذا الذى يجلس بجانبها هو أحمد رامى.. وهذا الشيخ زكريا أحمد.
وقفت مذهولة وعقلى الصغير يحاول أن يحتمل المفاجأة.. وبقيت صامتة وعيناى لا تبتعدان عن وجه أم كلثوم.. وشعرت بأنى أحلم.. لكنه حلم جميل وممتع.. حلم رقيق على دقات الطبول والدفوف.
ولا أعرف كم من الوقت مر.. ساعة أو أكثر لا أذكر.. كل ما أذكره أنى رأيت أم كلثوم تترك المكان المزدحم بحلقات الذكر والإنشاد وتذهب متجهة إلى سيارتها.. ووجدت نفسى أجرى خلفها نحو السيارة. وفتحوا لها الباب وقبل أن تتجه نحو المقعد الخلفى رأتنى أقف وسط البرد الشديد القارس وأنا ارتعد وارتجف.. ونادتنى فذهبت نحوها.. ومدت يديها نحوى وحملتنى وقربتنى نحو صدرها وغطتنى بمعطف الفراء الذى كانت ترتديه فشعرت بدفء عجيب لم أشعر به أبداً من قبل.. انه ليس دفء معطف الفراء السميك بل هو دفء قلبها الذى امتلأ بحب الكثيرين وكنت أنا واحدة منهم.
..وأخذنى أبى إلى بيتها
ومرت شهور طويلة وصورة أم كلثوم لا تفارق خيالى.. ولاحظ أبى إصرارى الشديد على مواصلة الغناء.. ويبدو أنه شعر بأن صوتى أصبح جميلاً وأنا اقترب من مرحلة المراهقة.. ولم أكن أعلم أنه يعد لى مفاجأة أخرى.. فذات ليلة نادانى ليقول لى كلمات مقتضبة: استعدى.. غداً سنذهب إلى بيت أم كلثوم.
ولم أنم ليلتها.. وحتى فى الدقائق القليلة التى داعب فيها النوم جفونى رأيتها أمامى.. كيف سكون اللقاء؟ ماذا أقول لها وماذا ستقول لى؟
هل سيعجبها صوتى؟
أنه امتحان صعب يا أبى.. بل هو أصعب الامتحانات التى تعرضت لها فى حياتى.. لقد غنيت من قبل أمام مدرستى وأما الناظرة أيضاً.. لكنى لم أشعر بمثل هذا الخوف الذى أشعر به الآن.
ولاخظ أبى فى الصباح أن وجهى شاحب ومرهق ولابد أنه ظن أنى مريضة.. هل أخذك إلى الطبيب؟ قلت لا لا.. إنه لا يعلم أن هذا شحوب الخوف وليس شحوب المرض.
ووجدت نفسى فجأة أمام أم كلثوم.. وتذكرتنى بسرعة وتذكرت الليلة الباردة التى رأتنى فيها لأول مرة.. وضاعت الكلمات من حلقى فلم أجد كلمة واحدة أقولها.
وتطلعت لأبى لكى ينقذنى من هذا الموقف.. طلبت منه بنظرتى المتوسلة أن يتكلم ويقول شيئاً حتى يضيع منى ارتباكى وحتى أعثر على الكلمات الضائعة فى حلقى.
وقال أبى لأم كلثوم: إن ابنتى تريد أن تعمل بالفن. وبالطبع لن أجد سيدة وفنانة أعظم من أم كلثوم لكى تقدم لابنتى نصيحة قبل أن تدخل هذا المجال.
ثم تطلع إلى أبى وهو يقول: أنا لا استطيع أن أقدم لك نصائح فنية.. وهى التى ستعطيها لك.
وزاد ارتباكى أمام سيدة الغناء بينما كانت الكلمات تهرب من فوق لسانى.. وأنقذتنى أم كلثوم من خوفى وارتباكى وأبعدت عنى كل هذا القلق بتواضعها الشديد وكلماتها البسيطة.. ما كل هذا التواضع؟ ما كل هذه البساطة؟
وسألتنى أم كلثوم: هل تريدين أن تعملى بالفن من أجل الشهرة؟
قلت: لا لا.. بل أحب الغناء والتمثيل.. وقالت أم كلثوم: إذا كنت تعنين ما تقولين.. فلا تجعلى أى شىء يقف أمام عملك الفنى أو يؤثر فى حبك له.. فالفنان الحقيقى لا تستطيع قوة فى العالم أن تمنعه من الوصول لأهدافه.. ولا يستطيع أحد أن ينسيه حبه لفنه.

إلى اللقاء فى الحلقة السادسة والعشرين

#شادية #مذكرات_شادية

مذكرات شادية  Where stories live. Discover now