19

33 4 0
                                    

مذكرات شادية ❤️
بقلم إيريس نظمي
-------------------
(الحلقة التاسعة عشر)
-------------------
وكانت المرأة المجهولة نقطة تحول كبيرة فى حياتى.. وودعت معها الأفلام الغنائية الخفيفة إلى الأفلام الدرامية التى قربتنى أكثر من قلوب الناس الذين ظننت أنهم لا يحبون مشاهدتى إلا فى هذه الأفلام الغنائية الخفيفة.. ولم أعد أهتم بتقديم الأغانى فى الأفلام.. بل كان اهتمامى كله قائماً على الأدوار الإنسانية..
بل بدأت أقتنع بأن الأغانى تكون دائماً ضد التصاعد الدرامى للأدوار التى أقدمها.. بل أصبح الغناء يستخدم كنوع من الخلفية فقط للأحداث وهذا ما حدث فى فيلم (نحن لا نزرع الشوك) وبهذه الطريقة يكون دورى أكبر فى الفيلم.. وأنا لا أعترض على الأفلام الغنائية.. ولكنى فقط أطلب لها كاتباً متفرغاً ومتفوقاً فى تقديم هذا النوع من الأفلام.. والدليل على ذلك أن معظم الأفلام الغنائية تظهر فيها الأغانى محشورة بأمر المنتج أو المخرج وليس بأمر كاتب القصة الغنائية المتخصص.
وبعيداً عن هذه الأفلام الغنائية قدمت أحسن أدوارى التمثيلية فى (المرأة المجهولة) و (اللص والكلاب) و (الطريق) و (زقاق المدق) و (ميرامار).
وكان من حسن حظى أنى ارتبطت بأدوار وروايات الكاتب الكبير نجيب محفوظ وهذا ما أعطانى فرصة أكبر للعثور السريع على الأدوار الإنسانية التى كانت بالنسبة لى فرصة لاكتساب خبرة إنسانية جديدة.. أذكر مثلاً أثناء ترشيحى لدور (كريمة) هذه الغانية التى دفعتها ظروف الفقر إلى عالم الرذيلة والليل والجنس المدفوع الثمن.. أذكر أنى ذهبت مع عطيات وصيفتى إلى مقاهى شارع كلوت بك لكى نبحث عن مثل هذه الشخصيات داخل المقاهى والبنسيونات.. كنت أضع على وجهى منظاراً أسود كبير.. وأضع فوق رأسى إيشارب كمحاولة لإخفاء ملامحى الأصلية وحتى لا يعرفنى أحد أو يسىء فهم أسباب ذهابى إلى شارع كلوب بك الذى التقيت فيه بالشخصية التى أبحث عنها.. صاحبة اللبانة والعيون الناعسة السهتانة التى استفدت بها بعد ذلك فى تمثيل شخصية كريمة فى فيلم (الطريق).
لكن هذا النضج الذى بدأ يظهر فجأة فى أفلامى وأدوارى كان يصاحبه فى نفس الوقت نضج أخر فى علاقاتى الشخصية بعيداً عن الشاشة والأضواء.

أنا والكاتب الكبير

فى هذه الفترة تعرفت بالكاتب الكبير الذى اعتبره مسئولاً عن حياتى الجديدة العاقلة.. حياة المرأة الناضجة التى أصبحت تفكر بعقلها قبل أن تفكر بقلبها.
دعوة من رئاسة الجمهورية وصلت (الكاتب الكبير) لحضور إحدى حفلات العشاء مع الرئيس الذى رحل.. لكن الكاتب الكبير لم يستطع أن يخفى دهشته.. فالدعوة ليست موجهة له وحده.. بل هى أيضاً موجهة إلى (زوجته شادية).
ورفع الكاتب سماعة التليفون ليتحدث إلى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فى ذلك الوقت ليقول له أنه ليس متزوجاً..
فقال له الرئيس جمال عبد الناصر: بل انت متزوج بشادية
قال: أنا لست زوجها.
فقال له: معلوماتنا تؤكد ذلك.
قال: ومن الذى حصل على هذه المعلومات؟
قال الرئيس الراحل: مخابرات صلاح نصر!
وضحك الكاتب الكبير وهو يقول: كنت أرجو فقط من مخابرات صلاح نصر قبل أن تزوجنى أن تأخذ رأيى!
لم أكن أتصور أن هذه الصداقة تهم أحداً سوى الكاتب والمرأة وفوجئت بأنها أصبحت إحدى المسائل العليا فى الدولة.
فوجئت بمقال فى جريدة الدولة فى أربعة أعمدة تهاجم الجريدة فيها الكاتب الكبير لأنه صديق وتقول له (حرام عليك ان فريد الأطرش يبكى فى كل مكان فأعد له المرأة التى يحبها كأن ذلك الكاتب الكبير ركب دبابة واقتحم بيت فريد الأطرش وخطفنى من هناك.. أو كان مسألة صداقتى هى مسألة علاقات دولية).
ثم فوجئت بعد ذلك بأن إشاعة تملأ البلد بأن الكاتب الكبير منعنى من الغناء فى الحفلات وفى التليفزيون بينما الواقع أن الكاتب الكبير كان يلح على أن أغنى.. وكنت قد رأيت أن اعتزل الغناء وأتفرغ للسينما.. وكانت أم كلثوم توسط الكاتب الكبير عندى أن يلح على فى العودة إلى الغناء لأنه كان لها رأى طيب فى صوتى.. وإلحاح أم كلثوم على وحسن ظنها بصوتى هو الذى جعلنى أعدل عن قرارى وأعود إلى الغناء.. ولكن الإشاعات استمرت تطاردنى بأن الكاتب الكبير هو الذى أمرنى بالتوقف عن الغناء.
وعندما بحثت فى ذلك.. وجدت أن هذه الإشاعات ليست إشاعات من الشارع إنما هى إشاعات يرددها مسئولون والمقصود بها القيام بحملة كراهية ضد الكاتب بالذات.
ثم علمت أن بعض المسئولين يتصلون بالصحف فى البلاد العربية وينشورن فيها إشاعة منعى من الغناء وإشاعة زواجى وأحسست أن المقصود بها هو القضاء على صداقتى بالكاتب. ولكننى صمدت وقيل لى أننى برئية وأن الكاتب برىء وأن المقصود بهذه الحملة هو تغطية صداقة شخصية كبيرة بفنانة كبيرة.
أجمل ما فى الحكاية أننى اكتشفت فى هذه الصداقة أن الرقص أو الليالى الحمراء أو ممارسة الشرب أو لعب الورق ليس هو أجمل شىء.. إنما اكتشفت عالماً جيداً لم أعرفه إلا منه وهو أن أجلس مع ذلك (الكاتب الكبير) ومع محمد عبد الوهاب ونهلة القدسى وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وكمال الطويل من الفنانين ومع كامل الشناوى وعلى أمين وسعيد فريحة وأحمد رجب وموسى صبرى وسعيد سنبل وجليل البندارى ومجدى العمروسى وكمال الملاخ وأنيس منصور.
ونمضى الليل نناقش حواراً فى السياسة والأدب والفكاهة.. كان الواحد يشاهد فيلماً أو أغنية.. ولا أنسى ونحن جالسون عندما وقف عبد الوهاب فجأة وانشغل بتدوين شىء غامض على باب المكتب.. اكتشفت بعد ذلك أن هذه الرموز الغامضة لم تكن إلا اللحن الذى أصبح ذائع الصيت والنجاح (لا تكذبى) وشعرت بسعادة لأنى عشت اللحظة التى ولد فيها هذا اللحن الكبير. كان شيئاً عادياً أن أسمع رأياً أو نقاشاً ثم أجده فى اليوم التالى منشوراً فى الصحف والمجلات فأكون أنا من بين الذين عرفوا الرأى قبل أن يصل إلى القراء.
أو نمضى الليل فى مناقشة كتاب جديد لنعرف ما خلف الكتاب وما خلف المؤلف.. ونسمع تاريخاً لا ينشر وأفكاراً يحذفها الرقيب.. أنك تسمع فى هذه الجلسات أغنية أم كلثوم قبل أن تغنيها وألحان عبد الوهاب قبل أن تذاع وتجديدات كمال الطويل وهى تولد فى رأسه الموسيقى.. وكأنك جالس فى جامعة يختلف فيها الأساتذة.. أو جالس فى مسرح تختلف فيه القصص.. أو فى كونسرفتوار تختلف فيه الألحان.. كل ذلك فى غرفة واحدة.. وكانت هذه السهرات تحدث يومياً أو تتكرر مرتين فى الأسبوع.. وكان أعضاؤها حريصين على أن يحضروها كأنهم طلبة يحرصون على حضور محاضرات الجامعة ويخشون أن يتغيبوا عن إحدى هذه المحاضرات.. فإذا حدث مثلاً أن اضطررت إلى التخلف حرصت أن أعرف ماذا جرى فى المحاضرة الماضية.
أجمل الأشياء أن تجلس وسط فنانين وكتاب ومفكرين مختلفين.. فكر كل واحد منهم أشبه بألة موسيقية.. وكل منهم يعزف لحناً على انفراد وأحياناً يعزفون معاً..
هذه الجلسات ليست فيها صخب ولا خمر ولا رقص ولا طبول.. ولكن فيها أفكار تدوى أحياناً كالطبول وتتمايل كالراقصين.

مذكرات شادية  Where stories live. Discover now