الفصل التاسع عشر

4K 131 3
                                    

أسوء أنواع الرجال رجل يقف في المنتصف عاجز عن الاقتراب عاجز عن الابتعاد
(منقول )

واقف ينظر من زجاج النافذة إلى الخارج، يتكئ بذراعه الأيسر على إطار النافذة ويمسك بذراعه الآخر عكازًا يستند عليه حتى يستطيع موازنة نفسه والوقوف هكذا. سئم من كثرة الجلوس وتشاجر مع وجيه أكثر من مرة فسمح له بعد أن فك جبيرة رجله اليسرى أن يستخدم ذلك العكاز وأن يتحرك قليلاً إلي أن تبدأ جلسات العلاج الطبيعي غدًا.
أغمض عينيه بقوة وهو يفشل للمرة المائة أن يبعدها عن تفكيره، غاضب هو منها إلى أبعد الحدود، ومشتاق لها بجنون. يتذكر جيدًا ذلك اليوم الذي أتى فيه وليد بحاسوبه الشخصي وعندما تمكن من دخوله إلى صندوق رسائله وجد رسالتها تلك

عزيزي أمير
كيف حالك؟ أتمنى أن تكون بخير، أعتذر عن انقطاعي عنك الفترة الماضية ولكن ظروف الحياة أشغلتني عنك. اشتقت إلى محادثتنا وأحتاج إلى التحدث معك بأسرع وقت يمكنك التواجد به، أعلم أنك غاضب مني بسبب رفضي مقابلتك ولكني أتراجع الآن عن هذا الرفض، بل أني أريد رؤيتك حالما أتواجد بالقاهرة.
آه لقد نسيت أن أخبرك بسفري إلى الخارج، أنا الآن أكتب اليك من لندن " مدينة الضباب "
أتذكر عندما تحدثنا بشأنها وأخبرتك أني أتوق إلى السفر إليها، كنت أريد أن أسعد بتلك الزيارة ولكن شعور خانق وألم قوي يجتاحني، وليتني استطيع أن أتحدث عما بداخل نفسي، كم أشتاق إلى التحدث اليك أمير.
حسنًا سأحاول أن أتقابل معك بأقرب فرصة، لا تنس أن تطمئنني عليك
أراك على خير، إلى اللقاء.
حينها فقط لم يعلم بم يشعر، هل هو غاضب منها أم مدله بحبها؟
أيغضب بسبب تحدثها لغيره أم يقفز فرحًا لاطمئنانه عليها !
يحزن لحزنها أم يفرح لذهابها إلى الرحلة التي اشتاقت للذهاب إليها؟
كم غضب وكاد أن يرمي بالحاسوب وهي تذكر اشتياقها للآخر
ضحك بقوة وهو غاضب فشعر بجنون لحظي يتملكه فتمتم بقهر: أنت هو الآخر يا غبي !!
ليجز أسنانه بقوة: لكنها لا تعلم، اشتاقت إلى غيري، بحثت عن غيري لتبث له همومها وتفضي إليه بمشاعرها.
شعر بالصداع يقسم رأسه إلى نصفين وهو لا يعلم ماذا يفعل؟
أيتحدث معها بشخصيته الحقيقية أم ينتظر إلى أن يفسر لها ما يحدث
تخيل ماذا سيحدث إذا كتب لها " هاي ليلى إنه أنا عبد الرحمن "
ابتسم باستهزاء وهو يفكر أنها لو قتلته بدم بارد فهو أول واحد سيغفر لها
ردد عقله السؤال: ماذا عليه أن يفعل؟
نظر إلى الرسالة مرة أخرى وفكر أنه سيستجيب للقائها كما طلب منها المرة الماضية. ارتاح قلبه لذلك القرار، سينتظر عودتها ويقابلها حتى لو اضطر إلي الخروج من المشفى دون استكمال علاجه والى الآن ينتظر تواجدها مرة أخرى ليخبرها بما قرره، لكنها لم تظهر إلي الآن، وهذا يضاعف غضبه إلي أطنان والقلق يمزق قلبه ويخنق روحه، ولا يعلم كيف يطمئن عليها. انتظر أن تأتي فاطمة مرة أخرى ليطمئن على ليلاه منها ولكنها لم تأت زفر بقوة وقبل أن تجتاحه موجة تفكير ثانية انتبه على صوت الباب الذي يُفتح وصوت وليد المرح: كيف حالك يا بطل؟
صفر وليد بقوة حينما رآه وقال بفرحة حقيقية سطعت بصوته وظهرت في عينيه: الله اكبر، أخيرًا تقف على قدميك، مبارك يا صديقي.
ابتسم أمير رغمًا عن ضيقه: بارك الله لك.
زفر الآخر بقوة: وستخرج من هنا إن شاء الله قريبًا على قدميك معافى وبأحسن حال.
__إن شاء الله.
هم بالتحرك فاقترب منه وليد سريعًا وأسنده ليتنفس الآخر بضيق وهو يحاول أن يزن نفسه دون فائدة. همس وليد بهدوء: ستتحسن بعد العلاج الطبيعي أمير، لا تضايق نفسك دون داعي.
هز رأسه بهدوء ولكن ظهر عدم الرضا على وجهه فقال وليد: اجلس لترتاح ولا ترهق نفسك كثيرًا فوجيه أخبرني أن الإرهاق سيضر بحالتك ليس إلا.
زفر تلك المرة بضيق وقال بنزق: ليته يتركني أخرج من هنا.
نظر له وليد بعتب وهو يجلسه: ليس في صالحك الخروج الآن، اهدأ إلى أن تتعافى ثم...
صمت وكأنه تراجع عما كان سيقوله لينظر له الآخر بتساؤل فقال متداركًا: لا شيء. أنت تعرف وجيه يفعل كل شيء كما قال الكتاب فأخبرني أن أمامك وقت ليس بقصير إلى أن تخرج من هنا.
نظر له من بين رموشه وقال بصوت خفيض: وليد.
نظر له وليد بارتباك وتوتر في جلسته ليهدر تلك المرة فيه: وليد.
ازدرد وليد ريقه بصعوبة وقال بتلعثم: لن يُسمح لك بالخروج الآن أمير حتى لو شفيت تمامًا.
اتسعت عينا أمير وتألق الغضب بهما وقال بفحيح: نعم؟
نهض واقفًا والكلمات تنثال من فمه بتخبط: آه، لقد أخبرت وجيه أنه من الأفضل أن يخبرك ولكنه قال شيئاً عن أنه من الأفضل إلا تعلم الآن، شيء من هذا القبيل.
نظر له بدهشة وقال بحنق: ما الأمر وليد؟
نظر له وليد وقال بخفوت: لا اعلم بالضبط ولكن ما أخبرني به وجيه أنها تعليمات عليا بعدم مغادرتك المشفى إلا بأوامر أخرى.
اتسعت عينا أمير بعدم تصديق وردد بذهول: لما؟
هز وليد كتفيه بمعنى لا أعرف، لينظر الآخر إلى الأسفل ويفكر بعمق فيما أخبره به وليد، ما الأمر؟!
لماذا يمنعونه عن الخروج إلى إشعار آخر؟ إنه شيء غير مطمئن بالمرة. رغم أنه أتى إليه أكثر من زميل له واطمئن عليه، إلا أنهم لم يذكروا أي شيء عن أوامر عليا بتحديد إقامته في المشفى.
تنهد بقوة.. سيفهم كل شيء من وجيه عندما يراه
زم شفتيه بحنق وهو يفكر في وجيه وعدم إخباره له بتلك الأوامر. هز رأسه بقوة وهو ينوي أن يعلق وجيه من أذنيه لإخفائه تلك المعلومات الهامة
سيطر على غضبه قليلاً ونظر إلي وليد وسأله بهدوء: كيف حال ياسمين؟
عقد وليد حاجبيه وقال بدهشة: أنها بخير. لأول مرة تسألني عنها.
قبض كفيه لملاحظة الآخر الدقيقة وقال وهو يشيح بنظره عنه: لا لم أقصد السؤال عنها حرفيًا، كنت اسأل عن أحوالك معها.
تنهد الآخر بقوة: سأموت كمدًا منها، إلى الآن لا ترد على رسائلي.
ابتسم أمير وقال: هل أخبرتها أنه أنت؟
هز الآخر رأسه نافيًا فقال أمير مغيظًا: ربما كانت تحذفها دون قراءتها.
ابتسم وليد بسماجة وضحك ضحكة قصيرة ساخرة: ها ها، ظريف يا سيادة الرائد.
ضحك أمير بخفة فأتبع الآخر: أنا متأكد أنها تقرأها بل وتتلهف عليها أيضًا، مثل ثقتي أنها تعلم جيًدا إني أنا من يبعثها. ولكن كبريائها اللعين يمنعها من الرد علي.
ابتسم أمير وقال باستفزاز: حسنًا يا أذكى إخوتك ماذا ستفعل؟ هل ستنتظرها إلى أن تتخلص من كبريائها اللعين؟
ابتسم وليد بمكر: كلا بالطبع. لدي ترتيباتي
نظر له أمير باستفهام فقال الآخر: سأقص لك كل شيء ولكن بوقته.
ابتسم أمير وقال: حسنًا على راحتك.
نهض الآخر واقفًا فقال له: إلى أين؟
نظر إلي ساعته وقال: موعد برنامجي اليوم وأريد أن اذهب لأستعد، لا تنس.. استمع إلي لتؤازرني.
ضحك أمير: إن شاء الله. لا تقلق.
__سآتي لك غدًا صباحًا لأكون معك وأنت تتخلص من جبيرة رجلك الأخرى، مبارك مقدمًا.
ابتسم أمير بألم: بارك الله لك.
__هانت يا صديقي أسبوع آخر وستُفك جبيرة يدك، إنها آخر جبيرة لديك أليس كذلك؟
هز أمير رأسه بضيق فضغط وليد على كتفه: لا تبتئس ستبدأ جلسات العلاج على الفور كي تستعيد عافيتك كاملة بإذن الله
تنهد بقوة: إن شاء الله
__أراك على خير.
هز رأسه محيي: إن شاء الله، سلام.
تركه وليد وانصرف ليغرق مرة أخرى في أمواج تفكيره المتلاطمة تأخذه يمينًا ويسارًا، تارة يفكر في ليلى وما عليه أن يفعل ليطمئن عليها ويحاسبها على رسالتها تلك، وتارة يفكر في تلك الأوامر التي لا يفهمها.
نظر إلي الأمام ولمعت عيناه بتصميم قوي لتنفرج شفتيه عن ابتسامة شقية متلاعبة تدل على خبث شديد، خبث يروق له بل ويسعده أيضًا.
***
تنفست بعمق وهي تنظر من النافذة لمعالم القاهرة ومنطقة وسط البلد بسعادة، تشعر بسعادة حقيقية وهي تجلس بجانبه بأريحية وهما عائدان من رحلة شهر العسل التي اقترحها قبل ذلك اليوم بأسبوعين، أسبوعين كاملين استمتعت بهما فعلاً كان طعمهما كالعسل. لا تنكر أن سبب سعادتها الفعلي هو شعورها أخيرًا بأنها زوجة ذلك الرجل الرائع الحنون
أشعرها بتلك المدة القصيرة أنها ملكة متوجة تؤمر فتطاع، دللها بشكل لم تره من قبل. حتى والديها لم يدللاها بتلك الطريقة، والجميل أنه تشارك معها في الاعتناء بكريم، كريم الذي يتحسن بشكل ملحوظ وكأن وجود أبيه بجانبه يدفعه إلي التجاوب مع علاجه بشكل أكبر من ذي قبل، وهذا الأمر أعطاها سببًا آخر للسعادة
التفتت تنظر إلي طفلها النائم في الخلف يتوسط مربيته وخادمة جديدة أتى بها هشام لأجلها هي خصيصًا حتى تكون بأمرها هي بعيدًا عن خادمة والدته الكريمة
حركت رأسها لتنظر إليه وهو يقود السيارة بتركيز شديد، عاقدًا حاجبيه في ضيق بسبب التكدس المروري الذي تشتهر به منطقة وسط البلد
ابتسمت بشقاوة واقتربت من رأسه لتنفخ بعضًا من الهواء بجانب أذنه أدى إلى انتفاضته
نظر لها بلوم وابتسم بثقل: ماذا تفعلين؟
نظرت له ببراءة وهزت أكتافها: لا شيء، اُذهب عنك الضيق.
اتسعت ابتسامته قليلاً ولمعت نظرة تعرفها جيدًا فضحكت بخفوت وقالت محذرة: انظر أمامك حتى لا تتسبب بحادثة لا قدر الله.
ضحك بسخرية: نعم سأتسبب في حادثة ونحن واقفين فيما يقارب الربع ساعة الآن لم نتحرك.
زفرت: لذلك ابتعدت عن الازدحام وخنقة العاصمة، كم سأشتاق إلى الهدوء.
نعم معك حق ولكن ذلك الازدحام له مميزاته أيضًا، لا تنسي أن البيت قريب من عملي ومن عملك أيضًا.
هزت رأسها موافقة، لتنظر إليه فتراه ينظر في مرآة السيارة الأمامية ويتأمل كريم بحب طغى على نظراته، اقتربت منه وهمست: سيشفى بإذن الله.
هز رأسه وتمتم بخفوت: إن شاء الله.
ركنت رأسها على كتفه لينظر إليها ويهمس بمكر: هل تستطيعين تحمل نتيجة فعلك هذا؟
ابتسمت بشقاوة وقالت مغايظة: لن تستطيع فعل أي شيء الآن، نحن في الشارع.
هز رأسه بأسف: نعم، لتلمع عيناه بقوة وهمس بتلاعب: وسنذهب إلي المنزل بعد...
رفع يده لينظر إلي ساعته: بعد ربع ساعة على الأكثر.
همت بأن تبتعد عنه ليمسكها من يدها ويقربها منه: إلي أين؟
نظرت له بتوتر: هشام اتركني، ستتسبب لنا في فضيحة.
لمعت الابتسامة بعينيه وهو يتفحص ملامحها بنظرة ولهه ليرفع كف يدها ويطبع قبلة عميق في باطنه
سحبت نفسها منه وتراجعت بعيدة عنه وهي تقول بغضب: لا والله. وعندما لم يكف عن الابتسام أكلمت بضيق: تخيل عنوان بإحدى الصحف يقول " القبض على وكيل نيابة بفعل فاضح في الطريق العام "
لم يستطع الصمت فقهقه ضاحكًا مما جعلها تمد شفتيها إلى الأمام بزعل حقيقي وتقول بخفوت: لا تضحك علي.
قبض على كفها بكفه: استمتع بحسك الصحفي الذي لا يخف أبدًا.
ابتسمت لتقول له وهي ترى طفلها يرمش بعينيه: انظر لقد أيقظته.
نظر إلى الخادمة والمربية اللتان استيقظتا أيضًا: لقد استيقظوا جميعًا.
تحركت السيارات أمامه ليزفر بقوة: أخيرًا، سنصل إلي البيت في خمس دقائق إن شاء الله.
ابتسمت على حديثه الحماسي الذي وجهه إلي كريم وشعرت بسعادتها تزيد وهي ترى طفلها يتجاوب بشكل ملحوظ مع والده
وصلا إلي المنزل لتخرج من السيارة فقال لها محذرًا: لا تفعلي شيئاً. اصعدي كملكة متوجة إلي البيت، سأنادي البواب ليحمل الحقائب واتركي كريم لي سأحمله أنا.
ابتسمت: لم أعتد على هذا الدلال هشام، أنت تعلم أنني أحب القيام بواجباتي كاملة.
اقترب منها وهمس: عليك واجبات أخرى غير أن تحملي الحقائب أو كريم، واجبات أرحب أنا بقيامك بها كاملة وكل يوم أيضًا.
احمرّ وجهها بقوة وخفضت بصرها عنه لتبتسم بخجل وتصعد إلي الشقة
سبقته إلي باب الشقة لتزفر بضيق وهي تقف منتظرة، فهي لا تملك المفاتيح بعد. فكرت بضيق " ولا أريد أن امتلك مفاتيحها بل أريد مغادرة تلك الشقة والاستقلال بعيدًا عن فوزية هانم "
ابتسم عند رؤيته لها واقفة تنتظره ليقترب ويهمس: ما الذي يضايقك حبيبتي؟
التفتت له بدهشة فأتبع شارحًا: أنت تعقدين حاجبيك بتلك الطريقة عندما تتضايقين أو تفكرين بأمر ما؟
ثم نظر لها متسائلا: أي الأمرين تفعلين؟
هزت رأسها بلا شيء لتتسع ابتسامته وقال وهو يناولها سلسلة مفاتيحه: افتحي الباب وذكريني أن أعطيكِ نسخة بمفتاح البيت.
فتحت الباب ليكمل وهو يدلف إلي داخل الشقة ويضع كريم من بين يديه: لا يصح ألا تملك سيدة المنزل مفاتيحه.
اتسعت ابتسامتها لتموت على شفتيها وهي تسمع صوت حماتها: حمدًا لله على سلامتك بني.
التفت هشام إلي مكان الصوت والابتسامة تشق وجهه إلي نصفين وأسرع إلي والدته يحتضنها بشوق: سلمك الله أمي، اشتقت إليك كثيرًا ماما.
احتضنته السيدة فوزية بقوة وهي تقبله على وجنتيه: وأنا أيضًا حبيبي.
نظر لها: لم تخبريني بعودتك.
ربتت على كتفه: أتيت البارحة. فعندما أخبرتني انك ستأتين غدًا فكرت أن أفاجئك بوجودي.
قبل كفيها: أجمل مفاجأة أمي.
رفعت نظرها لتلك الواقفة هناك وتأملتها جيدًا، وجهها يتألق براحة شديدة وعيناها تلمعان بقوة، احمرار خدودها الطبيعي ازداد بريقًا والسعادة تضع هالة حول رأسها ابتسمت بسخرية وتأكدت أن هذا تأثير ابنها الحبيب.
قالت بهدوء: حمد لله على سلامتك هنادي.
رفعت الأخرى رأسها بتوتر: سلمك الله.
نظر لها هشام بتعجب وأشار لها بعينيه فاقتربت مرغمة لتقبل خدي حماتها وتسلم عليها بما يليق، تجمدت من برودة السلام وجليدية قبلات الأخرى لها. وعندما تلاقت أعينهما رأت بعيني حماتها نظرة جعلت دمائها تسكن وتتوقف عن السريان في عروقها.
اتسعت ابتسامة السيدة فوزية وهي تنظر لابنها وقالت: لن تصدق هشام من أتى معي
ابتسم: من أمي؟
سحبته من يده ليدخل معها إلي غرفة الصالون وهي تقول: أحزر.
لا تعلم ما الذي دفعها للدخول ورائهما أهو الفضول أم الترقب، من المؤكد أنه الخوف من تحركات تلك المرأة القوية
اتسعت عيناها بشدة وهي ترى تلك الفتاه الواقفة أمامها، فتاة في العشرين من عمرها خمرية اللون طويلة إلى حد ما رشيقة القد، ذات عينين نيلية يتألق لونهما أكثر بسبب الكحل الأسود الذي يحيط رموشها الكثيفة، أنف دقيق وشفتين مكتنزتين لونهما أحمر وشامة تتألق فوقهما كأنها إشارة إلي ذلك الفم المغوي.
رفعت نظرها إلى وجه زوجها لترى تأثير ذلك الجمال الطاغي عليه، لتجد الدهشة هي ما ارتسم على وجه وهو يبتسم بدبلوماسية استشفت منها أنه لا يتذكر تلك الفتاه التي توقعت والدته منه أن يتذكرها
سيطرت على ضحكتها بقوة وهي تسمع الفتاه تسأله: إلا تعرفني هشام؟
تنحنح هشام وقال بلباقة: إلى حد ما أتذكرك،
صمت قليلا لينظر إلى والدته سائلاً إياها المساعدة وقال بارتباك: أنت...
لتكمل السيدة فوزية: إنها مديحة ابنة خالك.
نظر بتعجب واضح إليها وهتف: ديدي، بسم الله ما شاء الله.
أكمل: طبيعي إلا أعرفك، آخر مرة رأيتك بها كنتِ بضفيرتين وذاهبة إلي المدرسة، تقريبًا عمرك وقتها كان لا يتعدى الرابعة عشر.
احمر وجه الفتاه بقوة لتقول السيدة فوزية متداركة الوضع: أنها الآن عروس يا هشام.
رد بغباء: حقًا ؟!
أكمل: هل أتيت لتشتري جهاز عرسك من القاهرة.
ظهر الانزعاج على وجه أمه وهي تقول سريعًا: لا هشام.
أكملت مديحة: لا أتيت لأستكمل دراستي.
هز رأسه بتفهم: حسنًا.
التفت إلى زوجته الواقفة على باب الغرفة وقال: تعالي حبيبتي.
تقدمت بهدوء وهي تبتسم ليقول بزهو طاووس: أنها هنادي زوجتي،
أشار إلى الأخرى: مديحة، ابنة خالي
صافحتها بود لتكتشف عند ملامستها للأخرى كم العداء الذي ظهر في عينيها تراجعت إلى الوراء لتقف بجانبه وكأنها تستجمع قوتها منه ليقول بتعب: أعذرينا ديدي أتينا للتو من السفر، ولابد أن نستريح قليلاً.
قالت والدته: ألن تتناول الغداء؟
لوي رقبته بألم: لا أمي لا شهية لي، أنا جائع للنوم، سآكل عندما استيقظ .
أمسك يدها ونظر إليها: هيا نودا، أنت الأخرى تحتاجين للراحة.
تمتمت بخفوت: بعد إذنكم.
راقبتهما ينصرفان والغضب يتصاعد بقوة داخلها وخاصة حينما رأت ابنها الحبيب يحيط خصر زوجته بتملك ويهمس لها بشيء جعلها تضحك بخفوت.
انتبهت على صوت الأخرى: ما العمل عمتي؟
نظرت لها وقالت بقوة: لا تقلقي، سيفعل ما أريد شاء أم أبى !!
***
يقف مثل كل يوم يراقبها من خلف زجاج العناية الفائقة ينظر إليها ويبتهل أن تكون بخير فالطبيب لم يطمئنه. أخبره في أول الأمر أن الجسد يرفض الجزء المزروع، ثم بعد ذلك بيومين بدأ بتقبله ولكن أمه تتحسن ببطء شديد والطبيب قلق من حالتها الصحية. لأول مرة لا يعلم ماذا عليه أن يفعل لتتحسن أوضاع أغلى الناس عليه. ليلى قلقة هي الأخرى، سألت عن حالة والدتها أكثر من مرة ولكنه لم يخبرها بحقيقة الأمر، طمأنها واخبرها أن أمه بخير ولكن الأخرى استشفت أن والدتها ليست بخير وطلبت من الطبيب أكثر من مرة أن يسمح لها بأن تزور والدتها ولكن الأخير رفض رفضًا قاطعًا، واخبرها أن الزيارة ممنوعة عنها.
تنهد بقوة وهو يعلم أنه السبب بكمية التوتر التي نشأت بينهما بعد ما أصر على ليلى أن تجلس بمفردها وتتبادل الحديث مع أمه. جاءت النتيجة سلبية بكل المقاييس، فليلى ازدادت تباعدًا وأمه تدهورت حالتها أكثر ورفضت إجراء العملية. حينها أبلغ ليلى بموقف والدته، والغريب أنها لم تُبدي أي رد فعل. ظلت صامتة وبعد ذلك بيومين طلبت منه بهدوء أن يأخذها إلي المشفى، اندهش من هدوئها لتزداد دهشته عندما طلبت منه أن يتركها على انفراد مع أمه، وبالفعل تركها وخرج وانتظر بصمت أن يفهم ما يحدث ولكنها خرجت بهدوء كما دخلت وفاجأته بأن أمهما ستجري العملية كما كان مقررًا، والمفاجأة الكبرى هو الارتياح الذي رآه على وجه أمه عندما دخل يتكلم معها في سر تغيير قرارها.
لم تخبره أي منهما عن الحديث الذي دار بينهما ولكنه رأى بعينيه أن الارتياح هو السائد على الوجوه، فصمت مكتفيًا بالنتيجة التي أمامه
ولكنه الآن بحيرة شديدة لا يدري ماذا يفعل؟ أمه لا تتحسن وليلى تتقدم حالتها ببطء شديد لا يفهمه. تنهد بقوة مرة أخرى ليردد بدعاء إلي الله أن تتحسن باقي الأمور على خير
انتفض بقوة من حالة الصمت التي يجلس بها على صوت هاتفه يرن
أخرجه من جيبه ليعقد حاجبيه بقوة وهو يرى اسمها ينير شاشته، جز على أسنانه بقوة وهم بأن يغلق الخط بوجهها إلا أنه لم يستطع. وسوس له قلبه بأنه ربما كانت عمته هي المتصلة لتسأل عن حالة والدته الصحية، عقد حاجبيه بقوة أكبر وهو يفكر " لم؟ إذا أرادت عمتي الاتصال ستتصل من هاتفها هي وليس من هاتف.. ."
صمت عقله حتى لا ينطق باسمها، فهو لا يريد حتى أن يردد اسمها بداخله، نظر إلي الهاتف بغيظ وحارت أصابعه أيستقبل الاتصال أم لا؟
لتخونه يده ويفتح الخط. وضع الهاتف على إذنه بمضض ليسمع صوتها الناعم يأتيه عبر الأثير: مرحبًا بلال
أغمض عينيه وسحب نفساً عميقًا تغلل داخله مصحوبًا بنغمات صوتها الجميل، رددت مرة أخرى: بلال، أنت معي؟
شعر بالدم يندفع قويًا داخل أوردته ليمنحه سعادة لحظية نشأت بسبب سماعه لصوتها، ابتسم بتلقائية وقال برقة لم يقصدها: مرحبًا.
ابتسمت ابتسامة مكللة بالأمل عند سماعها لنبرته الرقيقة فقالت بلهفة: اشتقت إليك.
رنت الكلمة بأذنيه ليستيقظ عقله فجأة من حالة السكر التي أصابته بسبب سماعه لصوتها، عنف نفسه بقوة علي انقياده لها وقال بغلظة لم يتعمدها: نعم، أتريدين شيئاً؟
أجفلت من تغييره المفاجئ فقالت بتلعثم: أردت الاطمئنان عليك وعلى خالتي.
قال بشيء من الضيق: نحن بخير.
همت بالرد عليه ليتبع بقسوة: شكرًا على سؤالك، إلي اللقاء.
أجبر نفسه على إغلاق الهاتف بتلك الطريقة حتى لا يفعل ما لا يريد.
فإذا استمر دقيقة أخرى يستمع إلي صوت أنفاسها المتلاحقة لركع على ركبتيه متوسلاً أن تصفح عنه معاملته القاسية لها الفترة الماضية
زفر بقوة وهو يفكر " أكان ينقصني الآن أن أسمع صوتها؟ "
مرر يده بشعره بعصبية وهو يتمتم بقهر: أخرجي من رأسي، أخرجي.
نظرت إلى الهاتف المغلق وهي تشعر بأن آمالها كلها حُرقت وتحولت إلي بعض من الرماد يستطيع الهواء أن يبعثره وينثره بعيدًا عنها
ففي كل مرة تحاول أن ترأب الصدع الذي تسببت به بينهما يجيبها بطريقة قوية أن هذا حلم بعيد المنال
انسابت دموعها بهدوء وهي تشعر بالمرارة تغلف حلقها وأخذت تردد لنفسها كما فعلت من قبل " لن تخسريه سوزان سيعود حتمًا سيعود "
***
طرقت الباب بهدوء لتنظر بداخل الغرفة بترقب تبحث عن شقيقتها هل هي هنا أم لا، ولكنها وجدت غايتها موضوعًا على الكومود المجاور للفراش فأسرعت إليه وهي تتنفس بقوة كطفلة صغيرة تفعل شيئاً بدون علم ذويها.
جرت أصابعها على أزرار الهاتف لتضعه على أذنها وتترقب بصمت إلى أن أتى لها صوته الرخيم يتكلم بإنجليزية ذات لكنته المحببة لها: مرحبًا.
كتمت أنفاسها حينما قفزت صورته إلي مخيلتها، مبتسمًا ابتسامته الرائعة وعيناه تلمعان بزرقة غامقة إلى حد ما يضع الهاتف بين إذنه وكتفه حتى يستطيع صب القهوة التي ميزت صوتها بسهولة. أتبع بنزق ولكن تلك المرة بخليط من الانجليزية والعربية وصوت أعلى: فاطمة، مرحبًا...فاطمة، هل أنت هنا؟
هز رأسه بضيق وتحرك من مكانه إلى الأريكة الموضوعة أمام التلفاز
حمل مج القهوة وامسك هاتفه بيده جيدًا ليقول بنزق: فاطمة سأغلق الهاتف. لم تعودي صغيرة لتلك الألعاب. هذه المرة المائة التي تفعلينها وحينما اتصل بك تنكرين أنك اتصلتِ بي.
ابتسمت رغمًا عنها وهي تراه الآن عاقدًا حاجبيه وعيناه تلمعان بوعيد لشقيقتها وهو يفكر أنها تمرح معه ولكنها شهقت بقوة حينما قال بسكون: منال؟
شعرت به سؤالاً أكثر من كونه جوابًا، يسألها وهو غير متأكد من كونها هي أم لا؟
كان غاضبًا وهو يتحرك من أفعال فاطمة التي لا تنتهي، فهي تتصل به وتغلق الخط بعد سماع صوته بقليل، وعندما يعيد الاتصال بها تخبره أنها لم تفعل. ظن في أول الأمر أنه خطأ من خطوط الهاتف، ولكن عند تكرار الأمر أقر أنها تمرح معه، عقد حاجبيه عندما شعر بالطرف الآخر يبتسم ابتسامة يحفظها عن ظهر قلب، ضرب عقله استنتاجًا لم يفكر به من قبل فتساءل بسكون: منال؟
وعندما شهقت بقوة تأكد إحساسه بأنها هي أكمل ببرود: لماذا لا تتصلين من هاتفك؟
شعرت بألم حاد في قلبها وتجمعت الدموع بعينيها وآثرت الصمت، خنقتها لهجته الباردة وشعرت بتعب شديد يتملك جسدها
شعر بشعور سيء يغلفه وأحس أنها ستبكي إذا تكلم كلمة أخرى، فتطلع شعور لئيم بداخله وأراد القصاص منها لما فعلته به فقال ببرود اشد: أتريدين شيئاً أم انك اتصلت بالشخص الخاطئ؟
انهمرت دموعها فجأة فبكت بنشيج مكتوم. أغمض عينيه بقوة وعنف نفسه على أنه تسبب ببكائها فقال بهدوء: اهدئي منال، وأخبريني هل أنتم بخير؟
زاد غضبها وحنقها عليه عند سماعه يسأل عن أحوالهم جميعًا فقالت بغضب: عمن تسأل؟
قبض كفيه بقوة وقال متمعنا في غضبه عليها: عن الطفلين؟ فاطمة؟ عمي وأمي؟ باختصار عن العائلة !
اتسعت عيناها بقوة وهي تقول بتخبط: وأنا لست من العائلة؟
تحكم في أعصابه بقوة وهو يريد أن يخبرها أنها كل العائلة، فهو يعلم أخبارهم جيدًا. فهو يتصل بعمه ويتكلم معه يوميًا، يهاتف فاطمة ويتكلم معها ويتحدث مع الطفلين أيضًا. حتى والدتها تكلم معها مرة أو اثنتين وسأل عن أحوالها، يعلم عنهم جميعًا ما عداها، فهو لا يستطيع سؤالهم عن أحوالها ولا يستطيع أن يتصل بها، كاد أن يفعلها أكثر من عشر مرات ولكنه ينهر نفسه بقوة ويعنفه عقله كثيرًا وهو يخبره أنه فعل كل ما استطاع حتى يصل إليها وعندما شعر بأن السعادة تفتح لها ذراعيها -أو هكذا أوهمته هي - طردته شر طرده
ضحك ضحكة ساخرة وقال باستهزاء: حسنًا منال، كيف حالك عزيزتي؟
ألجمتها الصدمة فصمتت، حتى دموعها توقفت عن الانهمار وقالت بشيء من الهدوء: متى ستعود؟
فز قلبه ملهوفًا وترجم جسده ذلك بأنه نهض واقفًا ، ولكنه لم يشعرها بشيء بل قال ببعض من القلق أظهره جيدًا: لماذا هل أنتم بخير؟
قالت بغضب وعلا صوتها: لماذا؟ ألن تعود إلا عندما تحدث مصيبة؟
ابتسم وهو يغلف نفسه ببرود يعرف جيدًا أنها تمقته: لا بالطبع، إن شاء الله لن تقع مصيبة ولكني لن أعود الآن.
تمالكت نفسها من الانهيار وقالت بصوت مخنوق: حتى لو طلبت منك ذلك؟
انتفض قلبه بألم حقيقي هذه المرة ولكنه قال بسكون: حتى لو طلبت ذلك منال.
صرخت بقوة: وأنا لا أريدك أن تعود.
أغمض عينيه بقوة من أثر صوت الهاتف الذي أُغلق بوجهه، واحتقنت أذناه سريعًا. سرى الغضب بداخله وهو يجز على أسنانه فتمتم بقهر: حسنًا منال، سأريك كيف تغلقين الهاتف بتلك الطريقة.
جلس ونظر إلي جواز سفره الموضوع على الطاولة أمامه وهو يفكر أنه سيذيقها الجحيم قريبًا بسبب تحديها له بتلك الطريقة السافرة.
أخفى عنها موعد عودته اليوم، فكر سابقاً أنه لن يخبرها به ولن يذهب إليها ولكنه الآن سيذهب ليريها كيف تتعامل معه بتلك الطريقة وكيف تردد على مسامعه مرة أخرى أنها لا تريده في حياتها
نظر إلي ساعته لينهض واقفا وهو يتمتم: قريبًا منال، سأحاسبك على كل ما فعلتيه !!
أغلقت الهاتف بقوة لتجلس أرضًا ودموعها تنهمر مغرقة خديها، تشعر بألم يمزق روحها وخاصة أنها تلوم نفسها كل يوم منذ مغادرته. تؤنب نفسها تأنيبًا قاسيًا لأنها طلبت منه المغادرة، غاضبة منه نعم ولكنها ستجن من شوقها إليه، تشعر بأنها طفلة صغيرة تحتاج إلي الأمان، الأمان الذي غاب عنها منذ مغادرته، ألم يخبرها بأنه سيعود عندما تطلب منه ذلك؟
انهمرت دموعها أكثر " ألم أطلب منه ذلك الآن، ولكنه رفض، رفض العودة، ألم يشعر بمدى شوقي له، ألم يشعر بالحزن والبؤس اللذان سكنا عيني، حتى خبر حملي لم أفرح به، ولم أخبر أحدًا به لأني أريد اخباره هو أولاً، فهذا حقه أن يعلم قبل أي أحد آخر؟
بكت بقوة وهي تلعن غبائها الذي دفعها لإبعاده عنها بتلك الطريقة
تنبهت إلى حركة بجانبها لتجد فاطمة واقفة تنظر لها بذهول
تحركت عندما تلاقت أعينهم باتجاهها وسألت بتعجب: منال لماذا تبكين؟ هل حدث شيء؟
نظرت إلى شقيقتها ومسحت دموعها بقوة ورفعت رأسها بكبرياء غريب: لا لم يحدث شيء، أنا بخير.
نهضت واقفة لتسألها فاطمة: كنت تستخدمين هاتفي؟
نظرت لأختها بقوة فتداركت الأخرى: حسنًا، اهدئي من الواضح أنك تشاجرت مع خالد.
رمتها بنظرة غاضبة تراجعت على إثرها فاطمة إلي الوراء خطوتين وهي تواجه مزاج أختها الناري الجديد عليها
نطقت الأخرى بصعوبة: هل أخبرك؟
تجلت الدهشة على وجه فاطمة وقالت بتساؤل: من؟ خالد؟
أشاحت الأخرى بنظرها بعيدًا فأتبعت فاطمة: امممم، لا ولكني شعرت به وبك.
أكملت بثرثرة: أكثر من مرة أشعر أنه يريد سؤالي عنك ولكنه يتراجع باللحظة الأخيرة، وأنت أيضًا تتصلين به من هاتفي كثيرًا ولا تخبريني عن السبب، فاستنتجت أنكما تشاجرتما وكل منكما متمسك بكبريائه أمام الآخر.
زمت شفتيها بحنق وتحاشت نظرات شقيقتها فسألت الأخرى بخفوت: هل أخبرته؟
نظرت لها متسائلة: عن؟ !
ازدردت الأخرى لعابها وقالت بتوتر: الطفل !
اتسعت عينا منال بدهشة وقالت سريعًا: عما تتحدثين؟
نظرت لها الأخرى متأملة وقالت بهدوء: أنت حامل أليس كذلك؟
رمشت منال بعينيها سريعًا وقالت بارتباك: لا أفهم
لوت الأخرى شفتيها وقالت بالإنجليزية: بحق السماء منال، مظهرك يبلغ الأعمى بحملك !!
أشاحت بعينيها بعيدًا عنها فأكملت الأخرى بهدوء: وزنك ازداد رغم شهيتك المعدومة، طبعك الناري وعصبيتك الزائدة عن الحد.
وابتسمت بخفة: والاكتئاب يندفع من عينيك.
ابتسمت منال والدموع تملأ عينيها مرة أخرى، لتربت فاطمة على كتفها وتدفعها بلطف للجلوس: اهدئي وأخبريني هل تشاجرت مع خالد بسبب الطفل؟
هزت رأسها نافية فتنهدت الأخرى بارتياح: الحمد لله
نظرت لها منال مستفهمة فأتبعت: لا أعلم أتى إلى عقلي هاجس أن خالد لا يريده ولذا رحل.
هزت رأسها نافية مرة أخرى وقالت بسكون: أنه لا يعلم عنه، لم أخبره بعد.
اتسعت عينا الأخرى بتعجب وهتفت: لم تخبريه !!
اتبعت بدهشة: لماذا منال؟ ليس من حقك أن تخفي عنه أمرًا كهذا
ردت بعصبية: نعم، أعلم، عندما يأتي سأخبره.
صمتت الأخرى وهي تنظر إلي شقيقتها بتعجب من أمرها فأتبعت منال: هل شعر أحد آخر غيرك بحملي؟
تنحنحت فاطمة: أعتقد أن أمي على علم بالأمر، ألم تتحدث معك؟
هزت رأسها نافية: حاولت وأنا تهربت منها أكثر من مرة.
نهضت واقفة لتخرج من الغرفة.. . ثم وقفت لتنظر إلي شقيقتها: لن تخبريه.
شحب وجه الأخرى فرددت منال بقوة: لن تخبريه فاطمة، إياك أن تفعلي.
هتفت: ولكن منال.
نهرتها بقوة: إياك أن تخبريه فاطمة، أسمعت؟
هزت رأسها بالإيجاب: حسنًا لن أخبره.
نظرت لها نظره قوية فرددت: وعد لن أخبره.
خرجت من الغرفة لتتجه إلي غرفتها وتتحاشى لقاء الجميع كما تفعل دائمًا ، حتى الطفلين تتحاشى الجلوس معهما حتى لا يسألانها عنه
فأحمد لا يتكلم إلا عنه وهنا لا تنفك تسألها متى سيعود، لذلك تحاشت أن تمضي الوقت برفقتهم، تتجنب نظرات والدها المتسائلة التي تربكها وتتجنب عيون والدتها المتفحصة التي تخبرها أنها تعلم ما بها جيدًا وأن ما بداخلها ليس مخفي عنها
تشعر بفوضى كبيرة تعبث بحياتها، وكأن الاتزان رحل معه
همت بالدخول إلي غرفتها لتقف على صوت أحمد: صباح الخير ماما.
ابتسمت بهدوء: صباح الخير حبيبي.
التفتت إليه ونزلت إليه لتضمه إلي أحضانها فوجدته يبتسم وعيناه تلمعان مثل عيني الآخر، قديمًا كانت تشعر بالضيق من نظرات أحمد لأنها تذكرها به، تذكرها بأنها مكشوفة لديه دائمًا وأنه يستطيع بنظرة واحدة قراءة أفكارها والتنبؤ بردود أفعالها، ولكنها الآن احتضنت طفلها بقوة وهي تشعر أنه ما تبقى لديها منه
سيطرت على دموعها بصعوبة حتى لا تبكي أمامه وقالت بصوت مخنوق: كيف حالك حبيبي؟
ابتسم بهدوء: أنا بخير مامي.
هزت رأسها ونهضت واقفة لتدخل إلي غرفتها مرة أخرى: مامي أريد أن أهاتف أبي لأطلب منه العودة، فأنا أريده أن يحضر مباراتي القادمة.
شعرت بالغل يتصاعد بداخلها فقالت بعصبية وهي تتذكر خالد وهو يخبرها بعدم عودته: لا داعي أحمد.
أتبعها إلي داخل الغرفة وهو يقول بضيق: لماذا مامي؟ كل زملائي في الفريق سيحضرون برفقة آبائهم.
قالت بنزق: سأذهب معك أنا وخالتك وجدك أيضًا إذا أردت.
قال بإصرار طفولي: لا أنا أريد والدي.
صرخت تلك المرة والغضب يملأها: ليس والدك.
انتفضت مما قالته لتنظر سريعًا إليه فوجدته طبيعيًا أشاحت بنظرها بعيدًا عنه: اذهب الآن أحمد
استفزها وهو يقول ببرود ذكرها بالآخر: أريد أن أتصل بوالدي.
جزت على أسنانها ولم تستطع التماسك فصرخت به بقوة: ألم تسمعني؟
قال ببرود يماثل برود عمه: بلى سمعت، وأعلم أنه عمي ليس بوالدي، ولكني أريده أن يحضر معي.
اتسعت عيناها بقوة وسألته في تشتت: ماذا تقول؟ من أخبرك بهذا الأمر؟.
زم شفتيه وقال: دادي أخبرني، من فضلك أريد مهاتفته
رددت وكأنها لم تسمعه: خالد أخبرك أنه ليس والدك؟
ظهر الحنق على وجه الطفل سريعًا: نعم أمي، أنا أعلم الأمر وهنا أيضًا، هلا تسمحين لي الآن بمهاتفته من هاتفك أم أذهب إلي خالتي؟
شعرت بأنها تنفصل عن الواقع وكلمة أحمد تتردد بأذنها أنه هو من أخبرهم بالحقيقة، ليقفز لديها هاجس أنه فعل ذلك لأنه لن يعود ثانية إلى حياتهم، وعند الوصول لتلك النقطة شعرت بأن الأرض تميد تحت قدميها والظلام يحيطها لتسقط مغشيًا عليها.
***
ابتسمت عند رؤيتها لها: مساء الخير آسفة تأخرت عليك اليوم.
ابتسمت الأخرى لها باتساع: مساء النور.
وجهك متألق اليوم عن الأيام الماضية، هل هذا بسبب تسريحك بالخروج؟
أومأت برأسها: نعم فأنا لا أحب أجواء المستشفيات، وأشعر أنها تزيد الفرد مرضًا على مرضه
انطلقت ضحكة الأخرى: حمدًا لله على سلامتك لولا.
__سلمك الله، أخبريني كيف حال ماما اليوم؟
تحركت إيناس بتوتر غير مقصود منها فأتبعت ليلى بلهجة هادئة: أخبريني إيناس من فضلك، فأنا قلقه عليها
نظرت لها وتلعثمت فأكملت ليلى: أعلم أن بلال نهاك عن إخباري بأي شيء ولكن سيظل هذا سر بيني وبينك.
نطقت جملتها الأخيرة بصوت خفيض كما تفعل الأخرى كلما أرادات أن تخبرها بشيء لا يعلمه سواها أو هكذا تظن.
اقتربت إيناس وقالت بجدية ظهرت في صوتها: أقوال الطبيب لا تطمئن وبلال متوتر جدًا وأنا أيضًا، فأمي تتماثل للشفاء ببطء شديد. في أول الأمر رفض الجسم الجزء المزروع ولكن الآن بدء بتقبله ولكن الطبيب لا يخبرنا بشيء مطمئن.
تنهدت ليلى بقوة وهي تنقسم إلي نصفين، فهي تشعر بقلق كبير على أمها وتريد لها التماثل للشفاء ولكن يوجد ذلك الجزء البغيض الذي نمى في شخصيتها الفترة الماضية، والذي يحثها على أن تشعر بالارتياح لعذاب السيدة ماجدة ويقنعها بأن هذا عقاب إلهي للأخرى على ما فعلته معها، على تركها لها من قبل وتقصيرها في حقها
أغمضت عينيها حتى لا تطل الشماتة منهما فتراها أختها وتمتمت بخفوت: اللهم لا شماتة.
نهرت نفسها بقوة " إنها أمي، هل يحق للفرد أن يشمت بأمه، إذا كان لا يحق لي أن أشمت بالغريب، فكيف أشمت بأمي؟ إنها أمي "
رددت سريعًا: لا حول ولا قوة إلا بالله، استغفر الله العظيم.
عادت بذاكرتها لذلك اليوم الذي طلبت فيه من بلال أن يذهب بها إلي والدتها، فبعد أن أبلغها بلال بقرار والدتها برفض إجراء العملية أنبت نفسها كثيرًا وغضبت من ذك البغض الذي ينمو بداخلها. قضت ليلتان في الاستغفار واستخارة ربها على ما فعلته واستيقظت ذلك اليوم وهي تريد مقابلة والدتها والتحدث معها
وعندما ذهبت إليها شعرت بارتياح كبير لأول مرة يراودها عند رؤيتها لأمها، ابتسمت وشعرت أنها تنظر إليها بعينيه هو
نعم هو، والدها رحمة الله عليه أتاها في الليلتين الماضيتين، رأته يتوسطها هي والدتها ويضمهما بحنان كعادته، ابتسم لها ابتسامته الحنونة وهمس لها " أن تعتني بأمها في غيابه " وتركهما ورحل
لم تهتم في الليلة الأولى لهذا الحلم ولم تفكر به ولكن عند تكراره في اليوم التالي شعرت برغبة ملحة في الذهاب إليها وتصفية ما هو قائم بينهما
وبالفعل لم تشعر بالغضب يقفز إلي رأسها عند رؤيتها كما كانت تشعر المرات الفائتة، ولكنها شعرت بأنها تريد مساعدة والدتها ورؤيتها في حالة طيبة، تريد رؤيتها كما رأتها في الحلم بصحة جيدة وابتسامة رائعة.
ليس كما هي الآن حزينة وذابلة العينين، نعم ستفعل ذلك من أجل وصية أبيها
جلست بجانب والدتها ومسكت يدها وقالت بهدوء: أعتذر أمي إن كنت ضايقتك المرة الماضية
انهمرت الدموع من عيني السيدة ماجدة وقالت بحنان: بل أنا أعتذر عن كل ما عانيته ليلى، لا أعرف كيف أعوضك بنيتي ولكني سأفعل كل ما تريدين حتى إذا طلبت مني أن أقتل نفسي، سأفعلها بنفس راضية حتى تشعري ببعض من الراحة
ردت بهدوء شديد، هدوء يخفي حزنًا كبيرًا يستوطن روحها وهي تتذكر حياتها الماضية بعيدًا عن والدتها: بعد الشر عنك ماما، ولكن من أجلي وافقي على إجراء العملية
نطقتها بصعوبة وهي تغمض عينيها حتى لا ترى أمها نظرة اللوم التي تسكن عيني ليلى، فرغم كل شيء هي تلوم والدتها على تركها لها
نهت نفسها بحزم فهي هنا لتنفذ ما يريده والدها رحمة الله عليه
صممت قليلاً لتمسك يد والدتها واحتضنتها بين كفيها: ها أنا أطلب منك، اجري الجراحة من أجلي، فأنا أريدك معي.
نظرت إلي الاتجاه الآخر وقالت بغصة تحكمت بها: أم تريدين تركي الآن أيضًا.
زاد بكاء الأم وهي تقول: لا حبيبتي بل أريد أن أكون بجوارك إلى أن يتوفاني الله.
ابتسمت ابتسامة باهتة وهي تشعر بأن هذه الجملة تأخرت كثيرًا عن موعدها الأصلي: حسنًا ستجري العملية من أجلي.
تمتمت الأخرى بهدوء: إن شاء الله.
لتبكي بنشيج تلك المرة وهي ترجو ليلى بصوت ضعيف: ولكن أريدك أن تسامحيني ليلى، أرجوك ليلى.
أكملت بصوت متقطع بسبب البكاء: لا أريد أن أموت وأنت غاضبة مما فعلته معك.
أغمضت ليلى عينيها بألم ونحت كل ما تشعر به اتجاه والدتها وهمست بصوت خالي من أي شعور: لست غاضبة أمي.
ترجتها السيدة ماجدة بشدة: أخبريني أنك سامحتني
همست بخفوت شديد، كأنها لا تريد أن تقولها أو لا تستطيع النطق بها: أسامحك.
عادت بظهرها إلي الوراء لتسنده " فهي لا تعلم هل سامحت والدتها بالفعل أم لا، لا تستطيع أن تستقر على حالها، ولا تعلم شيئاً، تريد أن تشعر بالراحة ولا تستطيع الوصول إليها
ممزقة هي إلي أشلاء كثيرة، ويؤرقها كثيرًا ذلك الجزء البغيض الذي ينمو داخل شخصيتها، ذلك الغضب المستعر بداخلها، ينتهز الفرص ليطفو إلي شخصيتها فتجد نفسها تفعل أشياء لم تكن تتخيل أنها تقوم بها، تشعر بالحقد والغضب والكراهية لأشخاص هم أحبائها في الأصل، تقوم بالاستغفار وتنهر نفسها على تلك الأفعال التي لا تنتمي لشخصيتها وتعد روحها بأنها لن تعود لتلك الأفكار، ولكنها تعود !!
تنهدت بقوة لتنتبه لصوت إيناس يسألها: ماذا بك ليلى؟
ابتسمت بوهن وهزت رأسها نافية: لا شيء.
ماتت البسمة على شفتيها وطغى الجمود على وجهها لترمش بعينيها سريعًا وهي تشعر بالغصة تتجمع في حلقها والدموع تتراكم بمآقيها وهي تنظر إلى ذلك الواقف خلف الزجاج.
***
__لا أعلم كيف تقنعيها بالمجيء، أرجوك سلمى، نعم أعلم أنها عنيدة، أنها المرة الأولى التي أطلب منك شيئاً
هز رأسه: أعلم ذلك، من فضلك سلمى، ادفعيها أن تأتي غدًا.
زم شفتيه من إلحاح الأخرى: ستعلمين، نعم تشاجرت معها
مشاجرة أخوية سلمى،
نطق بتذمر تلك المرة: لا تكوني لحوحة، من فضلك أقنعيها وسأفعل لك أي شيء.
أغمض عينيه وظهر الضيق على وجهه: حسنا سآتي لك بتذاكر في عرض الأوبرا، وسأقنع مصطفى بأن يحضره معك.
حسنا، أراكِ غدًا.
زفر بضيق وركن سيارته في جراج مبنى الإذاعة، نظر إلى هاتفه وابتسم ليعبث في أزراره سريعًا ويخرج من سيارته ويتجه للصعود
****
تعبث بفرشاتها في ملل باللوحة التي أمامها ليرن هاتفها معلنًا وصول رسالة أخرى إليها
تحركت إليه بلهفة منتظر وهي تبتسم باتساع، فهي تتلهف لتلك الرسائل التي يبعث بها إليها يقص لها فيها أخبار يومه كاملة، تبتسم عندما يقص عليها شيئاً مفرحًا وتعقد حاجبيها وهو يتكلم معها بجدية، وتضحك مليء شدقيها وهو غاضب من شيء حدث له، وتخجل عندما يبلغها باشتياقه لها وأن حياته ناقصة بدونها، باتت تلك الرسائل شيئاً مهمًا لها في يومها وتشعر بالنقصان عندما يتأخر في إرسالها إليها
بل تشعر باشتياقها إليه يزيد ويتفجر بداخلها، وعلى الرغم من أنه رجاها أكثر من مرة أن تقوم بالرد عليه، إلا أنها رفضت ذلك ولم تأبه بترجيه لها
فهي لازالت غاضبة منه
همست لقلبها: نعم غاضبة وإياك أن تسامحه، أتفهم ؟!
ولكنها نسيت كل ذلك الغضب التي تتحدث عنه وهي تقرأ الرسالة المكونة من كلمتين " استمعي إلي "
اتسعت عيناها بدهشة ثم قفزت من الفرح وهي تسرع إلى المذياع وتديره
لتسمع صوته الرخيم الذي يثير في نفسها الكثير يقول بنغمته المميزة
مساء الخير أعزائي المستمعين، موعدنا اليوم مع أولى حلقات برنامج "من أجلك". منتظرين إهداءاتكم واتصالاتكم ورسائلكم، معكم دائمًا وأبدًا على إذاعة النجوم " وليد الجمال".
ضحكت بصخب وهي تسمعه ينطقها بطريقته السينمائية المعتادة
انطلقت بعض الموسيقى استشفت هي أنها المقدمة الخاصة بالبرنامج، لتنخفض الموسيقى مرة أخرى وهو يقول "أترككم مع أول أغنية إهداء خاص مني "
واشتقتلك لفضل شاكر
نهض من على كرسيه ليبتعد إلي أقصى الغرفة ويضغط زر الإرسال بالهاتف
رن هاتفها بيدها لتفتح الرسالة الجديدة الواردة منه وتقرأ " هذه لك، ليتها تعبر عن مدى اشتياقي إليك "
استمعت إلي الموسيقى الهادئة لينطلق صوت فضل شاكر الحنون وهو يقول
مرقت ليالي ولليوم ماطليت
زعلان وصارلك مدي قولك بدا هالقدي
ياخوفي قسوة قلبك تكبر كل مالوقت يطول
تعرف ياغالي من ليلة الفليت.. بشوفك ليلي حدي.. جاي وجايبلي وردة
بتكي راسي عكتفك وبغمض عيني وقول
بغمض عيني وقول
حبيبي ياحبيبي... أنا اشتقتلك أنا بحنلك
متل شمعة على غيابك أنا عم دوب
حبيبي ياحبيبي
سهر عيني بيهون عليي إذا بعرف قلت راجع بعد الغروب

نظر إلى المذياع بقهر وهو يتمنى أن يكون وليد أمامه الآن ليفرغ فيه كم المشاعر المتزاحمة التي بداخله
ألم يجد إلا تلك الأغنية يستهل بها برنامجه ألم يستطع أن يذيع أي من الأغاني الأخرى
تنهد بقوة وأغمض عينه وهو يستمع ويستمتع بطعم الاشتياق الذي يزيد بداخله
ابتسم بخفة عندما خفق قلبه بشدة وهي تتراءى له أخيرًا بابتسامتها الشقية وعيونها البريئة، تنفس بعمق وهو يستعيد نظرات عيناها اللتان تفران منه خجلاً واحمرار خديها الذي يجعله يفقد صوابه، دعك جبهته براحته وهو يتذكر كم تكون رائعة وهي غاضبة، تنقلب تلك النظرات الخجولة الي شرارات تكاد تقتل من أمامها
تنهد بقوة وهي تكتمل امامه بشفتيها الرائعتين وهما مذمومتان عندما تغار عليه
زفر وهو يتمتم: اشتقت إليك ليلى، بل ذبت شوقًا حبيبتي.
انتبه من تخيله إليها على صوت يعرفه جيًدا: أصبحت تستمع الآن إلى الأغاني يا سيادة الرائد؟
****
تهتز بحركة رتيبة تابعة لذلك الكرسي الهزاز الذي تجلس عليه
تنظر إلي أمامها بخواء وتشعر بإرهاق نفسي يملأها حتى الثمالة
فبعد أن تعرضت لحالة الإغماء أفاقت على وجود طبيب العائلة وهو يخبر والديها بخبر حملها
شعرت بالدهشة التي أطلت من عيني والدها ورأت نظرة الثقة التي علت ملامح والدتها
وعندما التفتوا لها أغمضت عينيها ثانية لتوهمهم بأنها نائمة
وساعدتها فاطمة حينما طلبت منهم عدم إيقاظها حتى ترتاح جيدًا، فالطبيب أخبرهم بأن لديها سوء تغذية وأوصى لها ببعض الفيتامينات
بعد أن خرجوا جميعاً، فتحت عينيها لتنهمر الدموع منها رغمًا عنها
تريده بجوارها، تشعر باحتياجها الشديد إليه
جرت نفسها من الفراش وهي تقاوم احساسها بالمرض وتتجه إلي دورة المياه، تريد حمامًا دافئًا يزيل عنها تلك الضغوط النفسية الرهيبة التي تشعر بها
والأهم أن يمنعها من التفكير به، لقد تعبت من التفكير به وتعبت من الشوق إليه، تعبت كثيرًا وتريد بعضًا من الراحة ولو لدقائق قليلة
خرجت بعد أن قضت وقتًا طويلاً بحمامها، وقفت لترتدي فستانًا اسودًا شديد السواد عكس كآبتها المسيطرة عليها، بحمالتين عريضتين. أدارت المذياع على لا شيء فقط ليشتت تركيزها ويبعد تفكيرها، ورغم أنها شردت بأفكارها بعيدًا عنه إلا أن جزءًا من عقلها التقط بعضًا من كلمات الأغنية التي انسابت بهدوء لتمس روحها بقوة
تصدق حبيبي بتنأوز عالحكي. . متل الطفلة الشقية
بدا تسرق خبرية. . تسمع عنك شي كلمة تطمني تردلي الروح
حتى المطارح عم تسأل شوبكي
وينو اللي قلك ياحبي. .. ما حنعرف معنى الغربة
رحت وهيك تركتلي قلبي. . عم بيلم جروح
عم بيلم جروح
حبيبي ياحبيبي... انا اشتقتلك انا بحنلك
متل شمعة على غيابك انا عم دوب
ركنت رأسها لظهر الكرسي ونظرت من خلال الشرفة التي أمامها إلى السماء المظلمة الخالية من النجوم وكأنها تعكس عتمة حياتها بدونه
انسابت دموعها بهدوء وهي تدعو ألا يتركها وحيدة ويعود إليها
لم تنتبه الي ذلك الظل الواقف ينظر اليها بعد أن فتح جزءًا صغيرًا من الباب حتى لا يظهر نفسه لها. وقف ينظر إليها بشوق جارف وعيناه تتوهج بحبه القوي لها
تنفس بعمق حتى يهدئ خفقات قلبه النابضة بجنون، لتشعر هي به، فرائحته اخترقت رئتيها بعدما حملتها نسمات الهواء الباردة، وغزا وجوده جسدها وأنبئها بحضوره الطاغي عليها. التفتت إلى الباب لا إراديًا لتجده أمامها يسد الباب بطوله الفارع وينظر اليها ببرود بعد أن دفع الباب برفق ليفتحه على مصراعيه
****
لف بكرسيه الدوار بخفة وهو يتمايل على إحدى الاغاني السريعة التي يذيعها ويبتسم هو يتخيل كم سعادتها بتلك الأغاني التي تعشقها، اقترب من الميكروفون ونطق بهدوء يشوبه سعادة
انتهت اليوم حلقتنا من برنامجكم وسنلتقي الأسبوع القادم ومع حلقة جديدة من برنامجكم من أجلك،
ثم أتبع بصوت مليء بالعاطفة والحب وابتسم وكأنه يراها أمامه
من أجلك حبيبتي
التحقت بمدرسة العشق...
وجلست في أول صفوفه
وكانت الصعوبة عندما تلقيت أول دروسه..!
علمني بأيام الذي لم أتعلمه بسنين
علمني أن أتصرف كالأطفال
وأن أعشق القمر والسهر
وأنتظر كل يوم على أبواب القدر...
علمني البكاء دون دموع
ونزف الدماء بلا جروح
علمني أن أنتظر المستحيل..!!
وأعيش بأمل حصول المعجزات
( منقول )
رفع رأسه ليقول بلهجته السينمائية المعتادة انتظرونا في تمام العاشرة معكم دائمًا وأبدًا على إذاعة النجوم " وليد الجمال "
تنفس بعمق وقال: أترككم مع هاني عادل و تتجوزيني
في كلام لما بيتقال بيغير كل حياتنا معاه
ع اللي بيستاهلوا ندور طول العمر ونستناه
انا م اللحظة دي بقولك إني بحبك اكتر مني
انتي اللي عشانك بكتب شعري انتي اللي عشانها بغني
تتجوزيني
....
قفز بسعادة ليخرج من الاستوديو وهو يعبث بهاتفه ويبتسم بأمل
أتجوزيني
مش عايز غيرك فى الحياة اوعى تسبيني
من غير ما اتكلم انتي بتسمعيني
عشانك اطول السما لو حبتيني
انا حاسس ان الكون وياك بشوفو بشكل جديد
الدنيا بتضحك وانتى معايا
تكشر وانتى بعيد
انا شايف فيكى ولادنا ومستقبلنا ودنيا أمان
مهما هنكبر ونعجز هفضل احبك زي زماااااااااان
تتجوزيني
مش عايز غيرك فى الحياة اوعى تسبيني
من غير ما اتكلم انتي بتفهميني
عشانك اطول السما لو حبتيني
انا من اللحظة دي بقولك اني بحبك اكتر مني
انتي اللي عشانك بكتب شعري انتي اللي عشانها بغني
تتجوزيني

نظرت اللي المذياع بصدمة وهي تحذر نفسها من الأمل
لتنقل عينيها إلى هاتفها وتحذره أن يعلن عن أي رسائل قادمة جديدة
لتنتفض بقوة عندما رن الهاتف بالرنة المميزة للرسائل الواردة
تأملت الهاتف مليًا وابتلعت لعابها بتوتر وهي تنحي فرحة قلبها الذي انتفض يقفز بسعادة ممنيًا نفسه بأن تكون هذه الأغنية موجهة لها هي فقط
نعم هي تتمنى ذلك أيضًا، تتمنى أن يكون وليد بث تلك الأغنية قاصدًا إياها بها
ولكنها تنهر نفسها وتنحي امنياتها بعيدًا، تتشبث بالواقع أن وليد لن يفعل ذلك أبدًا، فلطالما تمنت وحلمت وتخيلت لتفيق على أرض الواقع أنه لن يتغير ولن يكون كما تتمنى
صرخ قلبها بلوعة وهو يختنق يريدها أن تقرأ تلك الرسالة الأخيرة
وحدسها ينبئها أنها رسالة تحمل لها الفرح والسعادة
زفرت بقوة وفرقعت أصابعها بتوتر لتتجه إلي الهاتف بتمهل وتكتم أنفاسها وهي تنظر إلى الرسالة القادمة وتتسع عيناها بقوة وتتألق السعادة بهما وهي تقرأ " منتظر إجابتك "

سلسلة حكايا القلوب .. الجزء الاول  رواية " امير ليلى " حيث تعيش القصص. اكتشف الآن