The thug's hybrid✓

By Merieme_vani

247K 9.7K 5.9K

مقتطف: "اتّخذيني أنا وحياتي كمزحة إن أردتِ لكن حياتكِ أنتِ هي حدّ مُحرّم لا يمكنكِ الاقتراب منه هانا" •••• ت... More

••المُقدّمة••
1-وعد منسي
2-الدقيقة السّحرية
3-شِجارُ الهاتف
4-خوف وغيرة
5-الوجه الآخر
6-خفايا وأسرار
7-المنطقة المحرّمة
9-رسالةُ وداع
10-كابوس وانتضى
11-الخاتمة

8-ذكريات ضائعة

9.4K 430 272
By Merieme_vani

للعشّاق منطقة خالية من الإهانة، قد يرفعها الوفاء وقد تهدمها الخيانة..

•••

بعد يومين:
في أحد المقرّات التابعة للاتّحاد الرباعي:

فتحت هانا عينيها بتثاقل، فوجدت نفسها داخل غُرفةٍ فوضوية لم تخلُ من الغموض والسوداوية.
غرفة واسعة مُظلمة انتشى هدوؤها الخادع بأصوات الأجهزة الطبية وثمل اليقين فيها ليُستبدَل بشك ترنّح في ثنايا نفسِ تلك الهادئة المستلقية على سرير متين لم يُميّزه سوى جسدها النّحيل

ابتلعت تلك الأخيرة ريقها بصعوبة ثم تحرّكت في فراشها بهلع مُوجّهةً سؤالها الخافت للطّبيب الواقف أمامها:

-"ما الذي يحدث هنا..أين أنا ومن أنت!"

دمعت عيناها لا شعورياً ثم تحرّكت قليلاً في السّرير لتُضيف بلُغتها الأم:

"أخبرني رجاءً..لمَ أنا هنا ثم لمَ لا أذكر أي شيء..تبّا أشعر أنّني...أشعر أنني لا شيء"

أجهشت بالبكاء كطفلةٍ صغيرة أُُجبِرت على مفارقة لعبتها المفضّلة فابتسم الطبيب بمكر ثم ابتعد قليلاً واضعاً يدهُ على سمّاعة أذنهِ:

-"زعيم يبدو أنّها فقدت ذاكرتها.."

-"قد تكون هذه المسرحية مجرد خدعة أجادت حياكتها لذا دعها تخضع للاختبار حالاً.."

-"أمرك زعيم"

أنهى كلامه ليشرع في إعداد الأجهزة التي عادةً ما تستعملها المُنظّمة في حوادثٍ مشابهة لهذه ثم بمجرد ما انتهى من فعلِ ذلك جلس إلى جانب هانا ووصلها بالجهاز مبتدئاً في استجوابها بملقٍ شديد كي لا تشك به، وقد تعمّد أن يتحدث بنفسِ لغتها:

-"من أنتِ"

-"لستُ أدري"

إجابتها تلك كانت صحيحة...الجهاز أوضح ذلك ومن سابع المستحيلات أن يُخطئ جهاز المنظمة في تحديد الصدق من الكذب لذا عقد السّيد ماكسويل حاجبيهِ طارحاً عليها السؤال الموالي بخشونة:

-"أحقّا أنتِ لا تذكرين شيئاً؟"

-"أجل..لا أعلم لمَ لكنني لا أذكُر شيئاً، أشعر أنني مشتتة بل وأشعر أنّني خالية تماما.. خالية من أيّ شيء."

تدفّقت الدموع من عينيها بغزارة فسألها ذلك الأخير أسئلة أخرى بدت أقل أهميّة من التي سبقتها ثم عندما انتهى الاختبار ابتعد عن السرير ببطءٍ شديد ووقف أمام البوابة محدّثاً زعيمهُ عبر السّماعة:

"زعيم هي صادقة، لقد فقدت الذاكرة حقا فالحادث لم يكن هيّنا ودماغها تأذى قليلاً."

بمجرد ما أنهى كلامه ذاك وصلهُ صوت زعيمهِ الغامض:

"هذا أمر رائع، نحنُ الآن سنُحوّلها من فتاةٍ شرسة إلى أخرى مطيعة، سنعبّئ رأسها بالأفكار الكريهة ثم سنعاود تدريبها لتطيعنا نحن فحسب، لطالما شعرتُ أنّها أذكى من أولئك الأغبياء الذين جذبوها إلى صفهم."

ضحك بمكرٍ وحماسة بمجرد ما انتهى من الافصاح بأفكاره، ضحك ضحكة ارتجّ لها المكان ثم أطلق سيلاً من الكلمات الحاقدة بنبرةٍ بدت متعطّشة للمعرفة:

-"صحيح على ذكر الأغبياء الذين كانت تعمل معهم هل توصلتم إلى أي شيء بخصوص جثثهم؟"

-"أجل زعيم، تحدّثت مع ميشال البارحة وأخبرني أننا لم نُخطئ...الجثث كانت لهم، يبدو أننا نجحنا في التّخلص منهم بعد تفجير تلك السّيارة..الجثة الأولى كانت لجيم، الثانية كانت لهيليوس أمّا الثالثة فقد كانت لشخص غريب لم يُسجَّل اسمه في لائحة بيكازدوم -لائحة الأعداء- الخاصة بنا من قبل."

ابتسم "ماكسويل" بخبث ما إن تذكّر أمر التفجير الذي مسّ تلك السيارة الكبيرة، السيارة عينها التي احتضنت سيفاك وجيم إضافة إلى شخص مجهول رافقهم في مهمتهم المستحيلة فبمجرّد ما نُقلت هانا من السّيارة المتضررة ظهرت سيّارة أخرى من العدم وقامت بملاحقة حُرّاس الاتّحاد الرّباعي لكن أولئك الحراس تصرّفوا بفطنة وأقدموا على تفجيرها دون تردد ثم نقلوا الجثث المستقرّة فيها إلى مشرحة المنظّمة.

استفاق الطبيب من شروده فاسترجع هدوءه وفطنته ثم تقدّم من هانا يُحاول جاهداً أن يُشعرها بالأمان كي لا تشك بهِ فتكشف عن نواياه لكن تلك الأخيرة لم تكف عن مجابهته بطرح الأسئلة اللّامنتهية لذا وبهدفِ انقاذ الوضع دخل رجل أربعيني إلى القاعة، رجل ضخم ووسيم تميّز بعينينِ خضراوين تشبهان أعين القطط وبشعرٍ بني طويل نسبياً..

تقدّم ذلك الأخير من هانا ليجلس إلى جانبها واضعاً يدهُ الموشومة على يدها المجروجة ثم تكلّم بهدوء وبإيطالية غير متقنة:

"أهلاً بعودتكِ إلينا سوزي.."

عقدت هانا حاجبيها بعدم فهم:

"سو.. سوزي!"

أومأ لها مُدّعياً الحسرة:

"أجل أنتِ سوزي، لقد كنتِ يدي اليمين..كنتِ سندي في هذه المنظمة لكن الحادث الذي تعرضتِ له في آخر هجوم تسبب في سلب ذكرياتك منك"

امتعض وجهُ هانا وهي تُجيب بحزم:

"كيف لي أن أصدّقك بحق الجحيم! أنا لا أذكر شيئاً يا هذا."

هي لم تكن في وعيها عندما تفوّهت بذلك الكلام فقد كانت مشتّتة إلى حدّ كبير حتّى أنّها كانت تشعرُ بشيءٍ من الخوف في كل مرّة تقعُ فيها عيناها على خضراوي ذلك الرّجل الغريب لذا وفي الأخير ازدردت ريقها كاسرةً الصمت الذي خيّم على الغرفة:

"فلتمنحني إجابةً من فضلك..أنا حقّا مشتّتة"

أغمض الأخير عينيهِ مُدّعياً الأسى ثم نبس بنبرةٍ ضعيفة:

-"إليون رونديش...ألا يذكّركِ هذا الاسم بشيء!"

-"لا أعلم..أشعر أنني سمعت بهذا الاسم من قبل لكنني لا أذكر شيئاً...أظنه مجرد شعور عابر فقط."

-"لا.. ذلك ليس مجرد شعور.. أنا هو إليون رونديش وأنتِ هي سوزي خاصتي...لقد كنتِ نائبتي المميّزة...كنتِ قوية وأعلم أنّك لا تزالين كذلك كل ما تحتاجينهُ في الوقت الراهن هو القليل من التدريب وبعدها ستعودين إلى مكانكِ الصحيح...إلى جانبِ الملك..يعني في صفّي أنا."

تنفّست هانا باضطراب ثم علّقت خضراويها على سقفِ الغرفة لثوانٍ بشرود قبل أن تُجيب على مضضٍ:

-"كيف لي أن أثق بك.."

-"لو لم تكوني منّا فلمَ أنتِ الآن في قاعةٍ كهذه ولما قد أهتم بصحّتكِ لو لم تكوني مهمّة بالنسبة لي؟"

للحظة شعرت أنّه يقول الحقيقة مع ذلك سمحت لشكوكها أن تسيطر على الموقف إذ نفت برأسها طارحةً سؤالها عليه:

"ماذا لو كنتُ رهينة من رهائنك؟"

"صدقيني سوزي أنا لا أعالج الرهائن بل أقتلهم."

ارتعش جسدها بخوف فمسح بدورهِ على شعرها مُهدّئاً:

"ثقي بي سوزي ودعينا نبدأ من حيث توقّفنا..أنا لن أجبركِ على شيء..سأترك لكِ وقتاً للتفكير لكنّكِ ستوافيني بقرارك بعد أربع ساعات من الآن.. أهذا واضح؟"

أومأت لهُ بهدوء فاستدار ليخرج من الغرفة ثم بمجرد ما شعرت بمغادرته ادنسّت تحت غطاء السرير بقلق ليُدرك ماكسويل أنّها تُفكّر في الكلام الذي سمعته قبل قليل فمن جهة كلام زعيمهِ بدا صادقاً ومن جهة أخرى تلك الأخيرة لن تتمكن من الوثوق بالغير دام أنّها لا تذكُر شيئاً عن نفسها....

•••••••

إيطاليا -ميلانو-

الساعة تشير إلى السابعة مساءً:

دخلت هيلينا إلى المنزل بعد اختفاءٍ دام يومين كاملين إذ اعتقدت أنّها وبغيابها ستجعل جون ينسى أمر غضبه من سرقتها لسيارته الغبية، تلك السّيارة التي أرسلتها لهُ البارحة مع توبياس...

أقفلت الأخيرة باب المنزل بملل ثم تمشت في الأرجاءِ بهدوءٍ مبالغ فيه، وذلك قصد الصعود إلى غرفتها خلسةً لكن أصوات الضّحكِ التي دوت من غرفة الجلوس استوقفتها فجأةً وأجبرتها على إلقاء نظرةٍ سريعة في المكان ففعلت ذلك بحيطةٍ وحذر لتلمح جون اللّئيم وهو جالس على الأريكة مع فتاة سمراء لطيفة المظهر...فتاة ذات أعينٍ عسلية تشبهُ أعين الغزال وذات ملامحٍ عفوية تشبّعت بالجمال.

انتبهت هيلينا إلى سعادةِ جون وهو يستعمل هاتفهُ في الاستماعِ إلى شيء ما مع تلك الفتاة الجميلة وقد بدا مُهتمّا بما يفعله فضغطت بدورها على يديها بغضب بدت تحاول إخفاءهُ بكلّ ما امتلكته من قوة لكنّها فشلت في ذلك ما إن وصلها صوت جون الهادئ:

"لقد أحببتُ صوتكِ كثيراً جولي، أخبريني لما تستمرين في إخفاء موهبتك عن الغير؟"

هزّت الأخيرة رأسها بقلّة حيلة فسحب بدوره هاتفهُ من يدِها وأضاف:

"حسناً يا ذات الصوت الجميل ها قد تابعتكِ الآن، أظنني سأكون من أوّل المعجبين"

ضحكت جولي بخفة ثم رفعت عينيها بعفوية لتلمح هيلينا الغاضبة وهي واقفة أمامها فلم تجد نفسها إلّا وهي تتحدّث بهدوء:

"حسناً جون يبدو أنّني سأرحل."

عقد جون حاجبيهِ باستغراب ثم رفع عينيه ليعلّق بملل ما إن لمح هيلينا:

-"بربكِ جولي، لا تخبريني أنّك تريدين الرحيل بسببها؟"

-"يبدو أنّها بحاجةٍ إلى التّحدثِ إليك وأنا لا أريد التدخل بينكما..."

-"كفاكِ سُخفاً...اجلسي هيا فوجودها من عدمه لا يفرق معي."

تلك الكلمات الجارحة كانت مُجرّد هراء فرّ من ثغره الذي لا يجيد سوى التفوه بالتُراهات لما إذا تحطّم قلب هيلينا بسماع ذلك؟ ولما أضحى التنفس صعباً عليها إلى ذلك الحد الخانق! ثم إن كانت تعلم أنّه لم يعد يحبّها لما أرادت البكاء كطفلةٍ صغيرة أُجبرت على دخول المدرسة؟

حرفياً هي لا تنجح في فهم ما يحدث معها، هي الآن تكابد آلاف المشاعر الحارقة مع ذلك لا تزال تؤمن أن حُطام روحها لا يجب أن يظهر أمام ذلك النّذل مهما حدث...

هي لن تكون ضعيفة أمامه ولو لثانية، هي لن تريه شيئاً مما أحدثهُ بداخلها وإن كان للاحتراقِ في صمت جرعة مضاعفة من الألم.

ابتسمت هيلينا ببرودٍ لم تعلمْ من أين أتاها ثم جلست على الأريكة المقابلة له وأشعلت التلفاز لتشرع في مشاهدةِ أحد الأفلام وقد تعمّدت رفع صوت التلفاز إلى حدّ مزعج ومستفز فزفر جون بسخط:

"ألا ترين أننا نتحدث!"

لم تجبه بشيء بل ظلّت تتأمّل التلفاز مدّعية الانغماس في أحداث الفيلم...

أولم يقل ذلك الأخير أن وجودها من عدمه لا يفرق معه! فليكن أهلاً بكلامهِ إذاً وليتركها تفعل ما يحلو لها...

ضغط جون على يديهِ مُحاولاً كتم غضبه ثم ما لبث أن صاح بنبرةٍ ارتجّ لها المكان:

"هيلينا اخفضي الصوت..."

مرّة أخرى هي لم تجبه بل بكل جرأة نهضت والتقطت بعض التّسالي التي كانت موضوعة على الطاولة ثم عادت إلى مكانها تكمل ادّعاء المشاهدة فوضع جون يديه على أذنيه يصرخ كالمجنون ثم نهض متوعّداً:

"سأصعد الآن إلى الغرفة لكنّك ستدفعين الثمن..أساساً أنا لم أنسَ بعد سرقتك لسيارتي"

تجاهلت كلامه ككل مرّة فشعر لوهلة أنّ صوته لم يعد مرئياً بالنسبة لها لكنّه تجاهل شعوره الغبي وصعد إلى غرفته برفقة جولي فحبست هيلينا دموعها ووضعت يدها على صدرها تُحاول التّنفس رغم صعوبة الأمر عليها...

حرفياً ما حدث آلمها كثيراً فهي لا تصدق أن اللّئيم الذي يستمر في جرحها هو نفسه جون الذي كان يموت بمجرد رؤيتهِ لدموعها...لقد كان مستعداً للاحتراق فقط كي يرالها مبتسمة.

تُرى كيف تغيّر بهذا الشكل! والأهم من ذلك لما تغيّر معها هي بالذات...هي متأكّدة من كونها لم تخطئ في حقّه...هي لم تجرحهُ يوماً ولم تقلل من شأنه لطالما اعتبرته أهم شخص حياتها..

حرفياً هي لم تعد قادرة على التّحمل...هي ولأوّل مرة في حياتها تمنّت لو أنّ جون لم يعد، تمنّت لو تركها تعيش في شوقٍ قاتل بينما تراهُ كشخصِها المُفضّل بدلاً من أن يعود ليدمّر صورته في ذاكرتها بطريقةٍ كهذه.

تنهّدت الأخيرة بألم ثم أطفأت التّلفاز وأمسكت هاتفها لتشرع في إمضاءِ وقتها في التّطفل على صفحة لانا قصد رؤية مقطع الفيديو الذي نشرتهُ عنها فوجدت أنه قد جاوز العشرين مليون مشاهد!

ابتسمت رغماً عنها ودخلت التّعليقات لتجد أن أغلبها إيجابية...

صحيح أن البعض لم يبخلوا عليها بالانتقادات لكن الأمر لم يفرق معها البتة فالغلبة كانت لمن أعجبوا بصوتها وهذا الأمر كان كفيلاً بإسعادها...

استمرت هيلينا في قراءة التعليقات إلى أن دخل جون إلى صالون راكلاً الأريكة بغضب:

"كيف تجرّأتِ على سرقة سيّارتي؟"

تثاءبت هيلينا مُدّعية النعاس ثم أجابت على مضض:

"أتعلم أنّك تبدو مثيراً للشفقة حين تسعى إلى التّحدث إلي بطريقة أو بأخرى!"

أنهت كلامها لتتحرّك بنيّة الصعود إلى غرفتها لكن صوت جون الحانق استوقفها:

-"توقّفي هيلينا وامنحيني ردّا.."

-"يُفضّل أن تأخذ موعداً قبل التحدث إلي في المرة القادمة كي تحصل على رد مناسب وإلّا فأنا آسفة لن أتمكن من إجابتك ولن أُشفي فضولك.."

بهذا فقط غادرت القاعة مُتجاهلةً نداءه...غادرت لتشعر بنشوةِ النصر..

إنّه شعور رائع بحق لذا فلتذهب مشاعرها الآثمة إلى الجحيم.

إن كانت مشاعرها تشكّل تهديداً على كرامتها فهي مستعدة لدفن تلك المشاعر بل ومستعدة لتحمّل نيرانها التي تتأجّج بداخلها...

هيلينا جابهت الأسوأ في حياتها لذا آمنت فجأة بأن القليل من الألم في سبيل الحفاظ على كرامتها ليس بالشيء الكثير عليها.

•••••••••••

وقف داڤي أمام بوّابة المنزلِ بتردد، يفكّر إن كان عليهِ الدخول أم فقط المغادرة والفرار بروحهِ من ذلك الجحيم...

هزّ الأخير رأسهُ بيأس اعتراه فجأة ثم فتح الباب ودخل إلى المنزل لتقابلهُ والدته بابتسامةٍ مشرقةٍ، ابتسامة استغربها كثيراً مع ذلك نجحت في إسعادهِ قليلاً إذ سرعان ما ضحك مقترباً منها:

"مرحباً سيّدة إيروسٌا..تبدين جميلة ككل مرة"

ضحكت الأخيرة مُحرّكة رأسها بطريقة غريبة ثم نبست:

"لكنّه لا يراني جميلة..إذن أنا قبيحة."

أغمض الأخير عينيهِ بتعب فضحكت إيروسّا بصوتٍ عالٍ ثم ضمّتهُ مُضيفةً:

"لا تحزن صغيري...لا بأس إن كنت بشعة الأمر ليس بذلك السوء"

ابتعدت عنهُ بسرعة لتضرب وجنتيها بقوّة:

"لا تتكلّمي في ذلك الموضوع إيروسّا..ركّزي على داڤي الآن...سعادته بين يديكِ."

ظلّ الأخير يناظرها بصمتٍ وهدوء دون أن يحاول التصدي لجنونها أو حتى تجاهله فالأمر بدا روتينياً بالنسبة لهُ.

استمرّت إيروسا في التّحدثِ إلى نفسها لدقائق ثم صرخت بعلو وأمسكت بيدِ داڨي هامسةً:

"سيبرد الطعام...أنا لن أدعك تتناول طعاماً بارداً بسبب إهمالي أيها الصغير"

أومأ لها يحاول مسايرتها فقادتهُ بدورها إلى الصّالون الذي كان مزيّناً بطريقةٍ بسيطة ثم أشارت إلى طاولة الطعامِ بحماسة:

"أنظر صغيري لقد حضّرتُ لك الأطباق التي تُحبّها.."

كاد أن يسألها إن كانت تعرف ما يحبّه من الأساس لكنّه تجاهل سؤاله ذاك واكتفى باستدعاءِ السعادة فهو وبكل غباء كان مسروراً بما رآه...

أجل، أن تقوم والدته بفعل شيء من أجله هو أمر لا يمكنه تجاهله لذا ابتسم بسعادة ثم جلس معها إلى الطاولة وشرع في تناول طعامه بهدوء فجلست بدورها إلى جانبه وأخذت تمسحُ على شعرهِ بحب لتدمع عيناهُ مُعلّقاً:

-"أمّي.."

-"أجل صغيري"

-"هلّا أطعمتني بيديكِ"

أومأت له ضاحكةً ثم تناولت أحد الأطباق وباشرت في إطعامهِ بينما تدندن بكلماتٍ غريبة فشعر داڤي بدوارٍ مُفاجئ وحاوط رأسها دون قدرةٍ منه على التّحمل لتدمع عينا الأخيرة واضعةً الطبق جانباً...

"أمي..ما..ما الذي..يحدث هنا"

بكت إيروسّا كطفلةٍ صغيرة ثم أجابته بخفوت:

"آسفة صغيري لكنه أخبرني أنه سيعود لي إن فعلت بك هذا"

ضحك داڤي بسخرية لاذعة ثم شيئاً فشيئاً فقد وعيهُ وغاب عن واقعهِ لترفع الأخيرة يديها ماسحةً على شعره:

"لا تخف صغيري، والدك سيأخذك إلى مكان سعيد...هو أخبرني بهذا...لقد أخبرني أن أخدّرك كي تحصل أنت على السعادة وأحصلُ أنا على الحب...لقد حصلنا على خلاصنا أيّها الصغير"

تزامناً مع إنهائها لكلامها ظهر كورنيليس ديلا كروي وهو يصفّق بتشجيع:

"عمل رائع ومتقن إيروسّا...هذا تماماً ما أردتُ الحصول عليه"

ابتسمت لهُ ماسحةً دموعها:

"صغيري سيكون سعيداً أليس كذلك؟"

أومأ مطمئناً:

"أجل سيكون سعيداً لا تقلقي..هو سيكون سعيداً معي وأنتِ ستسعدين بوحدته"

بهذا فقط استدعي رجالهُ كي ينقلوا داڤي إلى السّيارة ثم غادر بعدهم مباشرةً فركضت إيروسّا صارخةً:

"توقّف نيليس، ماذا عنّي أنا!"

التفت يرمقها بسخرية ثم أجابها على مضض:

"أظنني أخبرتكِ أن تسعدي بوحدتكِ..أوه صحيح تذكرت"

سحب مبلغاً مالياً من محفظته ثم ألقاه عليها مُكملاً:

"احتفظي بهذه الأموال كي تشتري بها بعض السموم التي تعشقينها"

نزلت دموعها بعدمِ تصديق وركضت تحاول منعه من الرحيل لكن خرج صافعاً الباب بقوة فوقعت أرضاً وشرعت في الصراخ بجنون:

"لقد وعدتني..كيف لك أن ترحل..لقد وعدتني، هذا ليس عدلاً"

شرعت في ضرب رأسها مع الأرضية مردّدة نفس العبارة إلى أن خارت قواها وفقدت الوعي...

••••••••

في قصر المالدونادو

كانت مايا جالسة في غرفتها بشرود، تعبث بصفحات كتابها مدعية القراءة رغم أنّها في حقيقة الأمر كانت مُنغمسة في التفكير بإنزو والفتاة التي رأتها معه في ذلك اليوم المشؤوم.

حرفياً هي لا تعلم كيف ستواجهه بعد كلّ ما رأته، من الجيد أنها لم تدرس طيلة الأيام الماضية بسبب الإضرابات لأنّها لو التقتهُ صدفة في الجامعة كانت ستهاجمه وتلكمهُ أمام الجميع ثم تدّعي أنها فتاة ملبوسة كي تبرر فعلتها تلك وتبرّئ نفسها ككل مرّة..

تأففت بدورها بملل ثم ألقت الكتاب على السرير وعلّقت بسخط:

"بئساً، حتى هذا لم يعد يفي بالغرض"

أنهت كلامها لتعلّق عينيها على الشُرفة فلحمت كات القلقة وهي تعبث بهاتفها مراراً وتكراراً لذا تقدمت منها سائلة إيّاها بهدوء:

"ماذا هناك توأمي؟ أيزعجكِ شيءٌ ما؟"

نفت الأخيرة برأسها ثم رسمت ابتسامة صغيرة على ثغرها:

-"لا تقلقي مايا، أنا قلقة قليلاً على داڤي فهو لا يرد على اتّصالاتي"

-"بحقك كات، لقد كنتِ معهُ قبل ساعة لذا أظن أن قلقك هذا غير مبرر، قد يكون نائماً الآن لذا أنصحكِ بالاتصال به في وقتٍ لاحق"

أومأت لها بهدوء ثم أخفت هاتفها في جيبِ سُترتها وراحت تحدّق في الفراغِ بشرود فابتسمت مايا بخفة ثم عانقتها مسندةً ذقنها على كتفها:

"لا تُحاولي إخفاء قلقكِ عني وادّعاء الهدوء..أنا أعرفكِ أكثر من نفسي يا فتاة..نحن تشاركنا مساحة واحدة قبل أن نخرج لهذا العالم حتى لذا لا تحاولي إخفاء ضعفكِ أمامي"

دمعت عينا كات دون وعي منها ثم همست بنبرةٍ مختنقة:

"هو لا يستحق هذا، إنّه يستحق السعادة فحسب..لقد أصبحت ملتصقةً به كالعلكة مخافة أن يؤذي نفسه...ربما من الطبيعي أن لا يجيبني الآن لكنني خائفة عليه..خائفة من أن يكون في ورطةٍ جديدة..صدقيني أنا على شفا حفرةٍ من الجنون..هو لا يستحق هذا العذاب، إني أتوق لرؤيتهِ سعيداً بعد كل شيء..."

أجهشت بالبكاء في نهاية كلامها فضمّتها مايا بقوّة أكبر ثم مسحت على شعرها مجيبةً:

"إن لم تشعري بالراحة يمكنكِ الذهاب إليه..لا تفعلي هذا بنفسكِ كات، أنتِ الآن مصدر قوّته لذا عليكِ أن تكوني أقوى. عليكِ أن تكوني الطرف المُتفائل في هذه العلاقة."

أومأت لها بهدوء واكتفت بالصمت فكادت مايا أن تتحدث من جديد لكن صوت هاتفها الذي أعلن عن وصول رسالةٍ جديدة منعها عن ذلك.

تأففت بدورها مُظهرةً مللها ثم سحبت الهاتف وفتحت الرسالة لتفغر فاها بصدمة فسألتها كات باستغراب:

-"ما الذي يحدث معكِ يا فتاة...من ذا الذي راسلكِ؟"

-"إنّها يولا القذرة"

سحبت كات الهاتف من يد مايا فوقعت عيناها على تلك الرسالة لتُتمتم بدهشة:

"توصّلتُ إلى حدثٍ جديد في الرواية، يبدو أن الفتاة المهووسة بالبروفيسور أقدمت على اختطافهِ أيضاّ.. تخيلي فقط أن يعلم البروفيسور بهذا!"

لعنت مايا في سرّها بغضب ثم لكمت الحائط بغيظ:

"سأحطّم وجهها...بل سأمزّقها وألقي بها في أقربِ حظيرة"

ربتت كات على كتفِ أختها:

"لا بأس مايا، تلك الغبية لن تنجح في فعلِ شيء خاصة ونحن في فترةِ اضرابات..على كلّ نحن سنجد حلاً بالتأكيد"

أومأت الأخيرة بإحباط ثم دخلت الغرفة وجلست على السرير لتزحف قليلاً ملتقطةً الكتاب الذي أعادهُ لها إنزو بعدما نستهُ في سيارته فابتسمت رغماً عنها وقرّبتهُ من أنفها لتشرع في استنشاقِ رائحته بجنون ثم ما لبثت أن فتحتهُ ناويةً قراءته من جديد لكن ما أثار انتباهها أنذاك هو ما كتبهُ إنزو في أوّل صفحة...

عقدت مايا حاجبيها مُظهرةً دهشتها ثم تمتمت بالكلمات التي كتبها لها:

"إن فتحتِ الكتاب من جديد ووقعت عيناكِ على هذه الملاحظة فقابليني على السابعة مساءً من أي يوم في هذا العنوان"

شعرت الأخيرة أن العنوان غريب عليها مع ذلك هي لم تفكر مرّتين قبل أن تفقز إلى خزانتها وتشرع في تجهيزِ نفسها بغية مقابلة بروفيسورها ومما لا شكّ فيه أن كات انتبهت إلى حماستها المفاجئة لذا اقتربت منها سائلة إيّاه بمزاح:

-"مايا أظنّك تمتلكين أكثر من شخصية..قبل دقيقة واحدة كنتِ متوتّرة ما الذي دهاكِ فجأةّ"

-"هو يريد مقابلتي، هذا ما كتبهُ في الصفحة الأولى من الكتاب يا توأمي"

-"اسمحي لي أن أجهّزكِ بطريقتي إذن لعلّني أتغاضى قليلاً عن اختفاء داڨي وأُلهي نفسي بفعل شيء أحبّه"

أومأت مايا مُبدية موافقتها على كلام توأمها فقفزت كات بنشاطٍ وباشرت في تجهيزها بطرقها الخاصة لتنتهي بعد مدة مُصرّحةً بلطافة:

"يا إلهي تبدين جميلة جدّا مايا، أشعر بالفخر في كل مرّة أرَى فيها وجهكِ"

قهقهت مايا بخفّة:

"إذن لا بد أن تنظري إلى المرآة في كل مرة تريدين فيها الشعور بالفخر أثناء غيابي لأننا نتشارك نحن الوجه عزيزتي"

هزّت كات رأسها بنوعٍ من السُّخرية ثم أجبرت أختها على مغادرة الغُرفة كي لا تتأخر على موعدها لتجلس في ما بعد مُعاودة الاتصال بداڤي ولم تكن لتتوقّف عن المُحاولة لو لم تصلها رسالته الغريبة...

عقدت حاجبيها باستغراب ثم راحت تقرأ الرسالة بدهشة:

"أنا آسفة كيتي، لا أقصد تجاهل اتصالاتك لكن أظن أنّ كلانا بحاجةٍ إلى الراحة، لا تقلقي أنا بخير أحتاج فقط إلى الابتعاد قليلا وبمجرد ما أشعر أنني عدّلت من مزاجي بعد كل ما حدث سأتصل بكِ دون شك."

زمّت كات شفتيها بقلق ثم ألقت الهاتف جانباً واستلقت على السرير تفكّر بأمر الرسالة...

حسناً هي تعلم أن الاختلاء بالذات هو أمر وارد في حالة داڤي لكنّها حتماً تشعر بغرابةِ ما قرأته فداڤي اعتاد أن يهرب إليها من وحدته كيف له إذاً أن يختفي فجأة رغم أنهما كانا مع بعض قبل وقتٍ قصير...

انتفضت الأخيرة من مكانها بمجرد ما سمعت صوت الطلقة التي دوت في القصر فتنفّست بضيق وخرجت من الغرفة لتلمح كارلين وهي واقفة أمام اليرون حاملة سلاحها بهدوء شديد...

تقدّمت كات منهما بتردد فاستطاعت أن تلمح تعابير الغضب على وجهِ اليرون مما أثبت لها أنّه بات يتألم من الرصاصة التي استقرت على كتفهِ...

"سُحقاً لا أظنه مناسب اليري، أعتقد أن سلاحي أفضل منه من جميع النواحي لذا يمكنك الاحتفاظ به...أنا لم أعد أريده"

بمجرد ما نطقت كارلين بتلك العبارة فهمت كات كل شيء، من المؤكد أن كارلين كانت تجرّب جودة سلاحها الجديد من خلال الاطلاق على ذلك السفاح المسكين فهذا أمر وارد الحدوث في كلّ مرة يسيطر فيها كارل السفاح على كارلين...

استفاقت كات من شرودها على صوتِ خالها البارد:

-"حسناً كما تريدين، هيا تصرفي الآن واخرجي هذه الرصاصة اللعينة من كتفي..تبّا لي أؤكّد لكِ أنّك ستكوني سبباً في مقتلي يوماً ما."

-"لا تقل هذا زوجي العزيز فأنت تعلم أنني لم أطلق بجدية، هيا فلنذهب إلى الغرفة كي أهتم بجرحك..صدقني أنا لم أكن لأفعل هذا لو لم توافق عليه فأنت تعلم أن احترام الزوج أمر مهم بالنسبة لي."

كتمت كات ضحكتها بصعوبة فرمقها اليرون بملل:

"لما تكتمين ضحكتك يا فتاة، اضحكي ليس وكأنني وحش سيلتهمك"

بمحرد ما أنهى كلامه أطلقت كاترينا ضحكةً عالية كانت بمثابةِ عاصفةٍ هوجاءٍ مسّت القصر فضحكت كارلين من ضحكتها تلك ليُعلّق اليرون بسخرية:

"حسناً، يبدو أنني أخطأت..أرجوك لا تضحكي من جديد"

كلامه ذاك جعل ضحكتهما تعلو أكثر وذلك تسبب في خروج صوت ديفيد الكهل -والد أليرون- من الغرفة بتذمر:

"فلتلعنكم روحي السابعة حتى بعد موتي أيها السافلون."

وقعت كاترينا أرضاً وراحت تهتز من شدّة الضحك ثم علّقت بنبرةٍ مختنقة:

"انظرا إلى كلماته المضحكة، يتحدّق كما لو أنّه قط بسبع أرواح"

وضع اليرون يده على فم كارلين وهو يتبسم بجانبية ثم وجّه كلامه لكات بنوعٍ من التحذير:

"لن تلومي إلّا نفسكِ إن طاردكِ بسلاحه القديم، أكاد أقسم أنه سينسى ألم قدميه الذي أصبحت بدوري أشك في حقيقته فالبارحة فقط رأيته وهو يركض خلف قط توبياس ناعثاً إيّاه بالقط الحقير."

ذلك الكلام لم يزد الوضع إلّا سوءاً فكاترينا هذه المرة أصبحت تبكي من شدّة الضحك لذا هرب اليرون بكارلين إلى غرفتهما وتركها هناك تتخبط ضحكاً إلى أن خرج ديفيد وطاردها بعكّازه الثمين بدلاً عن سلاحه...

حسناً يبدو أنّ كات تأكّدت من أمر ما، ألا وهو تمثيل جدّها للعجز والضعف فهو الآن ينافس الطفل الصغير في تحرّكاته! لقد سمِعَتْ كاترينا من قبل أن الخوف يُحتّم فعل الركض حتى على الكهول لكنّها لم تسمع أن الأمر سيّان عند الغضب...

استمرّت الأخيرة في الركض في الأرجاء ثم ما إن لمحت توبياس وهو يخرج من الغرفة التفتت إلى جدّها صارخةً:

"جدّي لم أكن أنا صاحبة الصوت صدقني، توبياس هو من كان يضحكُ كبائعات الهوى"

فتح توبياس ثغره بصدمة فأضافت كات على مضض:

"لقد كان يضحك مع ابنتك الجميلة كارلين ثم بمجرد ما لمحني دفعني لأقع مكانه وهرب...انظر إلى وجهي جدّي ألست قادراً على رؤيةِ دموعي"

نظر لها الأخير مليّا فلمح الدموع في عينيها، يبدو أن اللّعينة نجحت في استغلال أمر الدموع لصالحها لذا شرع ديفيد في مطاردة توبياس الذي لم يفهم شيئاً في القصة ولم يتمكّن حتى من الفرار بروحه مُطوّلا فديفيد أمسكهُ ونال منه بمساعدة من عكّازه القاسي ليصرخ الأخير بحنق:

"تبا لكِ كات...يبدو أنني سأهاجر، الأمر لم يعد مضحكاً، قبل أيام حصلت على ما يكفيني من الشتم والقيء واليوم ها أنا ذا أحصل على الضرب المبرح...ثم بحقك جدي أولم تعد قدماك ضعيفتان!"

استند ديفيد على عكّازه ثم سمح على قدميهِ مجيباً بعجز:

"بلا إنهما تؤلمانني بشدّة بني..هيا اقترب ودعني استند عليك...خذني إلى فراشي فأنا لم أعد احتمل الوقوف."

ضحكت كات دون سابق انذار فاحتدت عينا ديفيد وكلّمها بغضب:

"أظنني سمعتُ هذه الضحكة من قبل، حسناً لقد فهمت كل شيء.. تعالي إلى هنا أيّتها المشؤومة."

بمجرد ما أنهى كلامه اختفى ضعفه من جديد وراح يطاردها بعكّازه القاسي فتحرّكت كات برشاقة محاولةً إيجاد عذر ما:

"جدّي لا تفعل أرجوك، أنا فتاة حسّاسة لذا ضربة واحدة قد اتلقّاها من عكازك هذا ستتسبب في مقتلي"

ضحك ديفيد وقد نال منه التعب بالفعل ثم استدعي حفيديهِ ليستند عليهما قائلاً:

"رافقاني إلى الغرفة، فهكذا لن أبقى وحيداً ولن أضطر إلى مجالسة ذلك السفاح المكتئب الذي لا يجيد سوى التحرش..تعلمون أن الحذر واجب يا رفاق"

أومآ لهُ وهما يضحكان بخفّة فديفيد ورغم سعادته بالاهتمام الذي يظهره اليرون اتّجاهه إلّا أنه لا يُمضي يوماً دون أن ينعثه بالسفاح المتحرش..

يبدو أنّها أصبحت عادة من عادات عجوزٍ هرمٍ لا يكف عن ادّعاء الضعفِ والخرف..

••••••

في أحد الحانات الكبيرة:

وقفت مايا أمام رُقعةِ القتال التي التف حولها مجموعة من الأشخاص وهي تمرر عينيها في الأرجاءِ بعدم تصديق فهي وللوهلة الأولى ظنّت أنها تحلم وكذّبت ما رأتهُ مُطلقة عليهِ مصطلح الوِهام لكن عندما تعالت الأصوات في المكان كتشجيعٍ لحبيبها أدركت أن ما تراه حقيقة لا بد من تصديقها...

أجل ما تراهُ الآن عبارة عن حقيقةٍ لا يمكن إنكارها فذلك البروفيسور الرزين الذين اعتادت عليه كان في تلك اللّحظة منشغلاً بمقاتلة أكثر من رجل، لقد قاتلهم جميعاً داخل الحلبة وقد بدا أسلوبه القتالي أقرب إلى الأسلوب المستعمل في قتال الشوارع...

انتفضت مايا بذعر ما إن تلقّى إنزو لكمةً أمالته لكنّها استرجعت هدوءها عندما كُسرت اليد التي لكملته في الثانية نفسها!

الأمر نال اعجابها حقّا لكنّها كانت خائقة بعض الشيء، بالنهاية جرح على جسد إنزو هو بمثابة جرحين عليها.. جرح لروحها وآخر لقبها..

استمرت الأخيرة في متابعة القتال بنوعٍ من الصدمة إلى أن انتهى الأمر بفوزِ إنزو، إنزو الذي مرّر عينيهِ على الأقلية المتواجدة في المكان فابتسم بوسع ما إن لمح مايا من بعيد وقد لمعت عيناه بإعجابٍ شديد حين رآها واقفة بفستانها الأحمر القصير، فستان خلا من أي شيء قد ينفي البساطة عنه...

مرر إنزو يديهِ على شعره لا إرادياً حين لفت انتباهه شعر مايا الأسود الطويل الذي انسدل على كتفيها وظهرها والذي لم يفشل يوماً في لفت انتباه ذلك البروفيسور العنيد لطالما كان شديد التّأثر بشعرها الجميل وعينيها الزرقاوين اللّامعتين..

استفاق الأخير من شروده على صوتِ الصراخ الذي احتضن المكان فرفع يدهُ مُلوّحاً ثم غادر الحلبة وركض إلى مايا مُلقياً التحية:

"مرحباً مايا...لم أتوقّع قدومك بصراحة! لطالما انتظرتكِ في الأيام السابقة دون أن أخرج بنتيجة"

ابتسمت بدورها تحاول السّيطرة على قبضتها كي لا تلكمه بكلّ قوّتها فمشهده مع تلك الفتاة سيطر على عقلها فجأةً وأجبرها على التّصرف معه ببرود:

-"أنا لم أكن متفرّغة بروفيسور.."

-"بربّكِ مايا كُفي عن مناداتي ببروفيسور! خاصة في هذا المكان."

كتمت مايا ضحكتها بصعوبة:

-"حقّا وما المميز في هذا المكان؟"

-"في هذا المكان سأظهر أمامكِ كذلك الشيء المخالف لكلا الشيئين..بمعنى سأكون مختلفاً عن إنزو داخل المدرج وعن إنزو خارج المُدرّج"

-"هذا مثير للاهتمام لكن لما من بين الجميع اخترتني أنا.."

-"لأنّك مميّزة ولأنّك بشكلٍ من الأشكال تخصينني.."

شهقت مايا بدهشة:

-"عفواً"

-"آسف على وقاحتي لكن إنزو الواقف أمامك الآن صريح وجريء نوعاً ما. أرجو أن تصبري على كلامي"

غريب...بل غريب جدّا..

تلك كانت المرة الأولى التي ترى فيها مايا شخصاً يشتكي من أعراض الانفصام دون أن يكون منفصماً بحق.

ضحكت الأخيرة بخفّة لكنها استرجعت جمودها ما إن تذكّرت أمر الفتاة التي كان جالساً معها في رقعة العُشّاق يومها...

تبّا أيعقل أن إنزو مُجرد زنديقٍ يُظهر للغير أنّه محترم حدّ الثناء في حين أنّه في الحقيقة مجرد منافق لعوب ينتشي بالتلاعب بمشاعرِ الفتيات...

جديا في تلك اللحظة مايا كانت تحلّق في سماءِ التخيلات المضحكة وكانت مستعدة لمفارقة الغلاف الجوي وصولاً إلى الفضاء الخارجي بأفكارها الغريبة لكنّها استفاقت من شرودها على صوتِ هاتف إنزو فعلّقت عينيها على الشاشة بفضولٍ وحذر ليمتعض وجهها بمجرد ما رأت صورة تلك الفتاة اللّئيمة وهي تزيّن الشاشة...فتاة الموعد عينها....لكن الغريب في الأمر أن ذلك الأخير سجّل رقمها باسم المزعجة رقم واحد! تبّا ما الذي يعنيه هذا! أهناك ألف مزعجة في حياته أم ماذا!

أجاب إنزو على الاتصال لينقذ مايا من أفكارها ثم وضع الهاتف على أذنهِ مفتتحاً الحديث بحزم:

-"ماذا هناك يورينا.. أخبرني ما الذي فعلهُ هذه المرة كي أذهب وأقتله مباشرةً."

انتظر سماع أي شيء قد يغضبه ويفسد مزاجه لكنه هدأ ما إن وصلهُ ذلك الصوت الأنثوي الهازئ:

-"لم يفعل شيئاً ولم ألتقيه من الأساس، أخبرني ماذا أطبخ لك؟"

قهقه بدورهِ مُدّعياً الصدمة:

-"لا أصدق..أنتِ تريدين الطبخ من أجلي! آسف لكنها فكرة سيئة أفضل أن أطلب الطعام من أحدِ المحلات"

-"من يسمع كلامك سيظن أنني لا أجيد الطبخ..تبا لك يا ناكر الجميل أنسيت كيف طبختُ من أجلك البارحة ثم أأذكّرك كيف نظّفت منزلك القذر!"

-"كفاكِ سخفاً أيتها الحمقاء، منزلي لم يكن بذلك السوء كما أنني لم أجبركِ على تنظيفه.."

تأففت يورينا بملل تحاول تغيير الموضوع:

-"اخرس وأخبرني من تلك الفتاة."

-"ماذا!"

قالها بدهشةٍ وانفعال فقهقهت تحاول استفزازه:

-"فتاة الكتب التي تحتفظ بصورها في دُرج المكتب.."

-"أطبقي فمكِ الذي لا يجيد سوى التفوه بالهراء واقفلي الخط قبل أن اتّصل بالسيد ماركوس وأجبره على إطلاق كلبهِ عليكِ.. روكي كلب مطيع ويجيد الدخول إلى المنزل أيتها الغبية"

شهقت بخوف ما إن تذكّرت أمر ذلك الكلب ثم لم تجد نفسها إلّا وهي تنهي المكالمة بملقٍ مبالغٍ فيه:

-"حسناً أخي الوسيم لا تغضب، أراك لاحقاً."

أبعد إنزو هاتفهُ عن أذنه ثم هزّ رأسه بسخرية وتكلّم بينما يُناظر مايا:

"تلك المجنونة...عليّ أن أعرّفكِ عليها من المؤكّد أنّكما ستشكّلان عصابة خطيرة"

ابتسمت مايا تحاول إخفاء نيّتها في الاستفسار:

"من دواعي سروري بروفيسور لكن من هي؟"

"سأتجاهل تلك الكلمة وأجيب...تلك الفتاة هي أختي الصُغرى وحاليا هي تعيش معي فقد انفصلت عن زوجها قبل أيام قليلة إذ وجدته وهو يخونها في أحد الحانات.."

تنهّد بأسىً قبل أن يسترسل:

"لن تصدّقي كم عانيتُ معها يومها...لقد اضطررت إلى الذهاب لذلك المكان الغريب من أجل تحطيم عظامه ومواساتها والآن بات عليّ الاهتمام بها إلى أن تتخطى الأمر...هي الآن تحاول الظهور في حلة الفتاة القوية لكنّني أعرفها أكثر من نفسي..هي هشّة من الداخل لطالما كانت كذلك منذ طفولتنا.."

للحظة شعرت بالسعادة من كلامه وكادت أن تقفز عليهِ فرحاً لكن عندما تذكّرت ما حدث مع أخته تملّكها الحزن وأجبرها على التّعليق بهدوء:

"أظنها بحاجةٍ إلى سماع بعض من محاضرات كات..أؤكد لك أنّها ستناسى حزنها فقط كي لا تستمع إلى تلك المحاضرات مجدداً"

ضحك إنزو بخفّة فابتسمت مايا مُعلّقة:

-"بالمناسبة بروفيسور..هل تراني مجنونة أم ماذا؟ أظن أن هذا ما كنت ترمي إليه عندما صرّحت لي عن ضرورة اِلتقائي بأختك."

-"بالطبع أنتِ مجنونة...مجنونة بطريقةٍ تروقني كثيراً..."

-"ومنذ متى وأنا مجنونة بالنسبة لك؟"

-"منذ أن تفوّهتِ بذلك الكلام الجميل أمامي وأمام جميع الطُلاب...صدقيني يومها تمنّيتُ أن يكون كلامكِ موجّهاً لي..تمنّيت لو قلتِهِ لي وأنتِ واعية كي ألتمس فيهِ صدقكِ"

طأطأت مايا رأسها بتهرّبٍ وإحراج فضحك إنزو مغيّراً الموضوع:

"لا عليكِ مايا..دعينا نشرب شيئاً ما مع بعض ولنستمتع بوقتنا بعيداً عن كل شيء"

أومأت لهُ بابتسامةٍ صغيرة فمدّ يده لها لتتمسك بها ويذهبا معاً إلى حيث الطاولات، أين جلسا أمام بعضهما البعض وطلبا كأسين من العصير ثم باشرا في تبادل أطراف الحديث إلى أن تساءلت مايا باستغراب:

"صحيح ب... إنزو.. كيف توصّلت إلى هذا المكان..أعني لم يكن بادياً عليك أنّك تميل إلى مثل هذه الأمور."

ابتسم إنزو بعفوية:

"بعدما فقدتُ أسرتي في حادثِ سير وأصبحتُ مسؤولاً عن نفسي وعن أختي أصبحتُ كثير التواجد في هذا المكان...هنا حصلت على أول وظيفة لي...وظيفة تلقّي الضرب مقابل الحصول على القليل من المال"

ضحك بخفّة ثم أكمل:

"لكن لا بأس بذلك فما إن كبرتُ قليلاً اعتدت على الأمر وأصبحتُ قادراً على كسبِ النزالات...لقد أُجبرت على التفاوض مع هذه الوظيفة كي أضمن حياتي وحياة أختي وكما ترين أنا الآن بروفيسور في الجامعة..."

ازدردت مايا ريقها بصعوبة ثم علّقت بنبرةٍ هادئة:

"لا بدّ أنّك كابدت الكثير إنزو.."

"تماماً لهذا السبب أريد النيل من ذلك الوغد الذي وقف في وجهِ حلمي ذلك اليوم وجعلني أنتظر ثلاثة أشهرٍ أخرى كي أصل إلى غايتي.."

دقّ قلبها بخوف وشعرت أنّها على وشكِ البكاء خاصة بعدما تذكّرت الرّسالة التي وصلتها من يونا...

تبّا عليها التصرف بسرعة وإلّا فالنتيجة التي ستلقاها لن تكون مُرضية....

•••••••

بعد ساعات:
في مكانٍ ما من ساو باولو:

كانت هانا واقفة بصعوبة في قاعةٍ واسعة خلت من غيرها وقد بدت شاردة الذهن خائرة القوة فقد كانت هناك أمور عدّة شغلت رأسها وانتشلتها من واقعها..

فُتح باب القاعة على مصرعيه فدخل إليون رونديش بفخامتهِ المعتادة وتقدّم من هانا هامساً بقلق نجح في اصطناعه:

-"لما غادرتِ سريركِ! أنتِ لم تتعافي بعد.."

ابتسمت تلك الأخيرة بتكلّف:

-"لا أعلم لكنني أشعر أنني بخير، بل حتى أنني لا أشعر بذلك الألم الكبير في جسدي. لربّما واجهت بعض الصعوبات في المشي لكنّني بخير سيّد إليون."

أومأ لها يدّعي الرّاحة والاهتمام:

-"أخبريني إذن سوزي..ما هو قراركِ..أنا أعدك الآن بأنني سأحترم رغبتكِ كيفما كانت، يكفيني أنّك كنتِ ولا تزالين مهمّة بالنسبة لي لذا بعضّ النظر عن قرارك سأكون داعماً لكِ."

-"لقد اتّخذت قراري بالفعل سيد إليون...صحيح أنّني مشتّتة وصحيح أيضاً أنّني لا أرغب في الغوص في أمور كهذه لكنني حاولت التفكير بمنطقية.... من المؤكد أنني كنت أمتلك أعداءً كُثر في وقتٍ سابق وعلى ما أظن هذا كان سبباً في وصولي إلى حالٍ بائسٍ كهذا لذا أصبحت أدرك أنّ فكرة مغادرتي لمنظمتك ليست بالفكرة السّديدة...أنا لن أغادر وسأعود للعمل معك لكن أرجوك أترك لي وقتاً أستوعب فيه ما يحدث."

تراقصت أفكار الانتصارِ في ذهنهِ ثم وضع يدهُ على كتفها ونبس بنبرةٍ هادئة:

-"طبعاً سوزي، هذا أمر مفروغ منه...أنتِ الآن تحت حمايتي ولطالما كنتِ كذلك لذا رُويداً رُويداً ستعودي كالسابق أنا واثق من هذا."

تنهّدت هانا بخفّة واكتفت بتبنّي الصمت كحليفٍ لها فتدخّل إليون من جديد:

-"أخبريني سوزي...أأنتِ قادرة على مُرافقتي؟"

-"لا أعلم...أشعر أنني بالكاد أنجح في المشي."

ابتسم بدورهِ محاولاً الظهور في حلّة البطل المغوار:

"لا بأس سوزي، يمكنكِ الاستناد علي"

أومأت لهُ باحراجٍ لم تنجح في كبحه ثم استندت عليهِ وخرجت معهُ من القاعة ليدخلا المصعد وينتقلا معاً إلى قاعةٍ أخرى لم تخلُ من الأسلحة والملفات الغامضة فعقدت تلك الأخيرة حاجبيها باستغرابٍ وسألته:

"ما هذه الغرفة سيّد إليون؟"

"نادني إليون، فقط إليون..."

مرّة أخرى شعرت بالاحراج وطأطأت رأسها بخجلٍ طفيف فابتسم ذلك الأخير ورفع ذقنها مضيفاً:

"هذه الغرفة مليئة بالأسرار عزيزتي سوزي، ومن بين هذه الأسرار مخططات القضاء على أعدائنا خاصة بعدما حصلنا على عقدِ الإيرولندا الخاص بهم."

عادت هانا إلى الخلف قليلا ورفعت يدها مُحاوطةً رأسها الذي أوشك على الانفجار بسببِ ما قاله ذلك الأخير فأسرع بدورهِ إليها ومسح على شعرها متسائلاً:

"ما بكِ هل أنت بخير.."

أجابته هانا وسط دموعها:

"هذا مؤلم...أشعر بالغرابة...بئساً...هناك أصوات تعاود نفسها في رأسي..اسم هذا العقد يبدو مألوفاً بالنسبة لي.."

شعر إليون بخطورة ذكر تلك الأمور أمامها فابتسم موضّحاً:

-"من الطبيعي حدوث أمر كهذا معكِ، فقد وصلتِ إلى هذه المرحلة بفعلِ ذلك العقد...لقد تعرّضت للاغتيال بعدما سرقتهِ من أعدائنا لكن هذا ليس مهمّا ما يهمّكِ الآن هو أن أعداءنا قد يفعلوا المستحيل لاسترجاع العقد لذا عليّ أن أهيّئكِ لكل شيء"

-"لكن لما أقدمنا على سرقة العقد منهم؟"

-"كي لا يتمكّنوا من السيطرة علينا وطمسنا...هم وإن توسّعوا على حسابنا فسنفقد كل شيء لذا علينا أن نعكس الأمور..علينا أن نصبح نحن المسيطرون وهذا قد ينجح إن حافظنا على الإيرولندا وفكّكنا شيفراتها."

بدت الأمور غريبة عليها فمن جهة هي تسمع عن الإيرولندا وشيفراتها ومن جهة أخرى تسمعُ عن السيطرة والدمار اللذان قد يكونا من نصيب أحد الطرفين لذا نال الخوف منها وتساءلت برهبة:

"سيّد إليون ألا تظن أنّني سأشكّل خطراً على المنظمة...أعني ماذا لو وقعت بين أيديهم."

ابتسم الأخير ساحباً سيجارةً لنفسهِ:

"لا تجزعي فأنتِ قويّة جدا سوزي..أنتِ فقط بحاجةٍ إلى القليل من التدريب كي تستعيدي مهاراتك"

أومأت لهُ دون أن تضيف حرفاً فتحرّك بدورهِ وتناول مسدّساً من مسدساته ليلقيهِ عليها فالتقطتهُ باحترافية وقد كان الأمر خارجاً عن طاقتها...

اتّسعت عينا الأخيرة بصدمة ثم حدّقت بالسلاحِ معلّقة:

"كيف حدث هذا! ثم إنّه ثقيل للغاية"

أوشكت على إلقائهِ أرضاً لكن إليون حذّرها بعينيهِ وتقدّم منها ليلتصق بها يحاول تعليمها كيف تستخدم السّلاح وقد أخذ وقتهُ في شرح الأساسيات لها ككيفية فحصه وتفكيكه مثلاً ثم بعدما علّمها عدّة أمور أخرى حثّها على التّصويبِ قائلاً:

"تأكدي من قبضتك، يجب أن تكون قوية ومتينة."

أمسكت هانا بالمسدس بثبات واتبعت توجيهاته الصارمة ثم تساءلت بنوعٍ من الشك:

"هكذا؟"

هزّ رأسهُ بهدوء شديد:

"هيا الآن فلتنظري إلى الهدف بعين حازمة"

فعلت هانا ذلك بارتباك فتدخّل إليون بهدوئه المعتاد:

"لا أريد رؤية الخوف والارتباك في عينيكِ...الأمر ليس صعباً"

أومأت لهُ لتبتلع ريقها معاودةً التّركيز فتحدّث بدورهِ بينما يُشعل سيجارة جديدة لنفسه:

"ركزي على نقطة صغيرة في الوسط، وتنفّسي جيّداً.. الهدوء والتّنفس مهمّان جدّا.."

مرّةً أخرى أومأت لهُ تحاول السيطرة على خوفها فاقربت منها من جديد وهمس:

"اضغطي على الزناد قليلاً كي تتخلّصي من الفراغ ثم اضغطي بجدية أكثر"

فعلت هانا ذلك بعدما سيطرت على توتّرها فنجحت في التصويب لذا ابتسم إليون مُعلّقاً:

"لم تكن بالمحاولة السّيئة...إنها مجرد بداية فحسب."

هزّت رأسها وابتسمت بتوتّر فابتسم لها بدوره مُردفاً:

"هيا اذهبي لترتاحي سوزي...صحيح نسيتُ أنّك بالكاد تقفين لذا لا بأس سأوصلكِ بنفسي."

أنهى كلامهُ لقترب منها ويحملها بين يديه فشهقت بدهشة وتحدّثت باحراج:

-"من فضلك إليون..أظنني قادرة على المشي لوحدي"

-"لقد بدلتِ جهداً قبل قليل لذا لا تعترضي على شيء"

ابتسمت هانا بشيء من الإحراج وراحت تُناظره بهدوءٍ شديد فعلّق الأخير عينيهِ صوب البوابة وخرج بها ناقلاً إيّاها إلى غرفةٍ من غرفهِ الخاصة ...

••••••

في اليوم التالي:

الساعة تُشير إلى العاشرة صباحاً:

جلست هيلينا على أحدِ الأرائك بعشوائية ثم سحبت هاتفها واتّصلت بوالدتها -إيلا- التي ردّت على اتصالها وباشرت في التّعبير عن اشتياقها:

"لا أصدق صغيرتي الجميلة تتصل، اشتقت لكِ كثيراً..حاولت أن أتّصل بكِ لكن هاتفك كان مغلقاً.."

ابتسمت هيلينا بتوتّر ثم أجابتها:

-"أنا أيضاً اشتقت لكِ أمي...واليوم...اليوم أنا بحاجةٍ ماسّة إلى دعمكِ."

-"لماذا صغيرتي..أخبريني هل من مشكلة."

-"أنا متوتّرة فحسب...اليوم سأسجل أول أغنية من الألبوم الذي أخبرتكِ عنه ولا أعلم لماذا أشعر أنني لن أتمكن من النجاح"

-"بربّك هيلينا، أشكّ في أنّك لم تسمعي صوتكِ كما يجب..."

قهقهت هيلينا مُبديةً اعتراضها:

-"الأمر ليس هكذا أمي..لكنني فقط متوترة..أشعر أن صوتي غير مميز ولن يجذب أحداً"

-"اخرسي من فضلكِ واذهبي لتسجيل أول أغنية من الألبوم..أراهن أن الأمر سينجح وحينها ستضطرين إلى إعداد الطعام بعد عودتي إلى المنزل لمدّة شهرٍ كامل"

ضحكت هيلينا رغماً عنها تشكر والدتها على الطاقة الإيجابية التي منحتها إيّاها فتنهدت بدورها مُجيبةً:

-"لا تتوتري هيلي..كوني واثقة من نفسكِ، لا تخسري حلمكِ بسبب شعور عابر كالخوف."

-"سأحاول أمي، سأفعل ما بوسعي..المهم علي أن أذهب الآن.. وداعاً.."

-"اتّصلي بي ما إن تنتهي."

-"حسناً اتفقنا.."

أنهت كلامها لتبعد الهاتف عن أذنها بسرعة ثم فصلت الخط ونهضت ناويةً اللجوء إلى سيارتها التي قامت بإصلاحها البارحة لكن قبل أن تخرج من الصالون لمحت جون وهو يقف على حدةٍ وقد كان يناظرها باستحقار استفزها إلى حدٍّ كبير...

تجاهلت الأخيرة وجودهُ وأقدمت على الخروج بالفعل لكن صوته المستفز وصلها على حين غرّة واستوقفها رغماً عن رغبتها المنعدمة في التوقف:

"نصيحة منّي لكِ، لا تذهبي لتسجيل الأغنية."

التفتت ترمقه باستنكارٍ شديد:

"عفواً.."

هزّ كتفية بلا مبالاة ثم أردف بنبرة حقود:

"أنتِ لستِ من النوع الذي يحتملُ الفشل لذا يفضل أن تحافظي على مشاعركِ بعيداً عن هذه التفاهات."

ابتسمت هيلينا بسخرية تحاول جاهدةً أن لا تظهر غضبها أمامه:

-"أخبرني فقط من ذا الذي طلب رأيك عزيزي جون.."

-"هذا ليس رأياً بل حقيقة عزيزتي هيلينا، صوتك المزعج تسبب في انسداد أذني لمدة يومين كاملين لذا النتيجة تبدو واضحة جدا."

-"سنرى...سأذهب الآن وسأعمل جاهدة من أجل تسجيل الأغنية...سأفعل ما بوسعي وسأنجح رغماً عن أنفك أيها اللّئيم."

-"حسناً سنرى...أنا أيضاً سأجلس هنا وأنتظر عودتكِ باكية...حينها فقط ستعترفين أنّك مجرد فاشلة لا تُجيد فعل شيء"

احتدت عينا هيلينا بغضب مع ذلك تجاهلت كلمات جون السّامة وخرجت من المنزل بسرعة لتركب سيّارتها مُقلعة بها نحو شركة الأحلام...

وصلت الأخيرة إلى الشركة قبل الموعدِ بدقائق فوقفت أمام المرآة التي علقت على الحائط تتأكد من مظهرها بتوتّر..

لقد كانت ترتدي بيطال جينز أزرق وقميص أسود كشف القليل من بطنها وقد نسّقت إطلالتها مع كعبٍ من نفس لون القميص.

ابتسمت الأخيرة بتوتر ثم جلست تنتظر وصول المدير الذي ما إن أتى حتى قادها إلى الأستوديو لتباشر في تسجيل الأغنية..الأغنية عينها التي أمضت أكثر من أربع أيام في التدرب عليها....

هكذا وبعد مدّة ليست ببسيطة انتهت هيلينا من التسجيل فخرجت من الغرفة ليستقبلها المدير بحرارة:

"لا أصدّق يا فتاة..أين كنتِ مختبئة طيلة السنوات الماضية..صوتكِ غير طبيعي من المؤكد أنّكِ ستحققين شهرةً واسعة..تذكري كلامي جيّداً.."

ابتسمت هيلينا بسعادة ثم قرصت نفسها كي لا تفقد السيطرة وأجابت برزانة:

-"شكراً لك سيد إلْياروس..كلامك أسعدني"

-"بل صوتكِ هو من أسعدنا جميعاً.."

قهقهت بخفّة ثم استمرّت في تبادل أطراف الحديث معه إلى أن أتاه اتصال مهم، حينها فقط خرجت لتركض في الشارع كالمجنونة إذ سحبت هاتفها تتصل بوالدتها أوّلاً ثم برفاقها واحداً بواحد...

انتهت بدورها من إجراء المكالمات فصعدت على متنِ سيارتها وراحت تتوعد لجون...

ذلك الوغد سيتمر في التقليصِ من حجمها بكلماته السامة لذا ستسحقه بنجاحها عمّا قريب وستجعله يندم على كل حرفٍ نطقهُ فأبكاها...

أساسا هي فكّرت في كتابة أغنيةٍ مليئة بالشتائم والمسبات لتكون أعظم هدية منها إليه...

ذلك النذل الحقير، ستُريه قيمته وتجعل العالم شاهداً على وقاحتهِ...

••••••

بعد مرور أسبوع:

ساو باولو:

جلس إليون رونديش على الأريكةِ الفاخرة التي توسّطت القاعة الخاصة بهِ ثم وضع ساقاً على ساق وسحب نفساً من سيجارته منتظراً سماع أيّ كلمة من ذلك الخائف الذي يقف أمامه بارتعاش سرى في جسده عُنوة...

تنفّس ذلك الأخير باضطراب ثم شابك يديهِ ببعض وتكلّم باحترام:

"زعيم، لن تصدّق ما توصلنا إليهِ اللّيلة.... هيليوس وجيم لم يموتا...لا أعلم كيف حدث هذا وكيف أن نتيجة التشريح سابقاً كانت توحي بأنهما صاحبا الجثتين فأعيننا رصدتهما البارحة في أحد حانات ساو باولو، ومن الجدير بالذكر أنهما يذهبان إلى تلك الحانة باستمرار...يبدو أنهما يحاولان إيجاد الفتاة، إنهما يخططان بتريث فهما لا يعرفان موقع مقرّنا هذا نظراً لحداثته... أعني جيم أغريس لم يكن في السّاحة عندما غيّرنا مقرّنا الرئيس."

ابتلع إليون غضبهُ الشديد وسحب نفساً طويلاً من سيجارته يُحاول السيطرة على نفسهِ ثم رفع عينيه الخضراوان ببطءٍ وتكلّم:

"تلك الفتاة..أريد رؤيتها حالاً.. ولا تنس إرسال صور الوغدين في الحانة إلى جهازي الخاص."

أومأ الحارس باحترام ثم خرج ناوياً إحضار هانا لزعميهِ وحقّا كان ذلك هو ما حدث إذ دخلت الأخيرة إلى القاعة وهي ترتدي بنطال أسود ضيّق وصدرية رفيعة أرفقتها بسترةٍ جلدية أنيقة...

شعرها الطويل كان مرفوعاً على شكلٍ ذيلِ حصان ووجها كان خالياً سوى من مرطّب شفاهٍ لامع فهي مؤخراً أصبحت تحصل على كل ما يستهويها من إليون إذ حاول الأخير إقناعها بأن الأغراض التي تستعملها حالياً كانت أغراضها قبل أن تفقد الذاكرة.

وقفت هانا أمام إليون بهدوء فابتسم لها ضارباً يده الموشومة على الأريكة قبل أن يستدعيها بلسانٍ إيطالي بدا غريباً عليه:

"اقتربي سوزي.."

أومأت الأخيرة بابتسامة صغيرة ثم تقدّمت من إليون وجلست إلى جانبه عاقدةً حاجبيها:

"أخبرني إليون هل من خطب ما؟ أمن خطر أم شيء من هذا القبيل"

هزّ رأسهُ بهدوء ثم رفع جهازه الإلكتروني أمامها:

"الوغدان اللذان تسببا في وصولك إلى هذه الحالة لا يزالا على قيد الحياة...إنّها فرصتنا للانتقام..عليكِ أن تراقبيهما من كثب، راقبيهما ثم أحضري لعنتهم إلي"

ارتجف جسد هانا لا شعورياً وهي تُجيب:

"لكن زعيم...أنا... أعني...أنا لستُ مدرّبة كما يجب كيف لي أن..."

قاطعها ذلك الأخير بجدية:

"أستطيع تفهمك لكن خوفكِ هذا مبالغ فيه، ستذهبين أنتِ وروكو...ستدّعين فقط أنك تعرفين مكان عقد الإيرولندا وأنك تنوين تسليمهُ لهما وتذكّري جيّدا.."

علّقت عينيها عليهِ بتركيز كبير فتابع بنبرةٍ بالغة الجدية:

"هما وإن تظاهرا أنهما يعرفانك لا تصدّقي شيئاً مما يقولانه، من المؤكد أنهما سمعا بفقدانك للذاكرة أساسا من الواضع أنك تتصرفين بغرابة لذا حاولي تجاهل التُراهات التي سيتفوهان بها..تذكري شيئاً واحداً فحسب...أنتِ سوزي وأنتِ نائبتي أنا..أنت لن تكوني وفيّة لأي منظمة أخرى أهذا مفهوم"

أومأت لهُ بهدوءٍ شديد مع ذلك نجح الشك الذي ساورها في الظهور على وجهها بوضوح لذا ابتسم إليون خافياً ضيقهُ:

-"ماذا الآن؟"

-"لا شيء...سأجهّز نفسي للذهاب أرجو فقط أن لا أعود إلى هنا وأنا جثة ممزقة."

ابتسم الأخير مُحاولاً كبت ضحكته:

-"لا يا فتاة، لن يجرؤ أيّا منهما على لمسكِ دام أن سلاحك معك كما وأنّ روكو سيراقبك من بعيد لذا لا داعي للخوف.."

تهنّدت هانا بشيء من الراحة ثم استأذنت وغادرت القاعة فابتسم إليون ماسحاً على شعرهِ بوهن:

"سوزي..."

تنفّس باضطراب وأكمل:

"ما نوع اللعنة التي ألقيتها علي في هذا الأسبوع اللعين...لمَ بتّ أفكر بكِ كما لم أفكر بأحد من قبل ثم لمَ حلمي في أن تكوني في صفّي دائما أضحى كبيراً لهذه الدرجة.."

هزّ رأسهُ بسخرية من نفسه ثم باشر في التدخين يحاول تجريد أفكاره من تلك السذاجة التي اقتحمت عقله وجعلته يعود به إلى فترة المراهقة...

الأمر بدا مزعجاً بحق فإليون لم يعتد على مشاعرٍ مشابهة لهذه لذا أصبح يلتمس الخطر على قلبه في كل مرّة يجلس فيها مع هانا أو يتبادل معها أطراف الحديث....

سُحقاً، عليه أن يجد حلّا سريعاً فهو يعلم أنه ليس أهلاً بهذه المشاعر الغريبة...

••••••••

إيطاليا
-ميلانو-

وقفت كاترينا على أحدِ الصخور المتناثرة في المكان الذي خلا من غيرها ثم شرعت في تأمّل تلك الكآبة الطاغية على الأجواء، الكآبة التي بدت مُتناسقة مع مشاعرها الضعيفة المُرهقة فما تعيشهُ الآن بغيابِ داڤي أقسى بكثير من الموت بأبشعِ أنواعه..

تنهّدت الأخيرة بيأس ثم رفعت يدها مُحدّقة بالساعة الذهبية التي زيّنت معصمها لتنفخ وجنتيها بتوترٍ صاحبه خوف دفين فهي الآن في انتظار داڤي بناءً على طلبه وبصراحة هي غير مُطمئنة بخصوص ما يحدث معه فاختفاءه لأسبوعٍ كاملٍ ليس بالأمرِ المنطقي..

أغمضت كات زرقاويها بحزن وتعب محاولةً الغوص في دوامةٍ خالية من أيّ شيء، دوامة قادرة على إنقاذ مسامعها من تلك الأصوات المزعجة التي جعلت من فكرها مجرد مسرحٍ بائسٍ لها...

عاودت الأخيرة فتح عينيها بسرعة ما إن وصلها ذلك الصوت الضعيف الهادئ، صوت مهزوم اخترق أذنيها بنبرةٍ لم تترجم سوى الخذلان والألم:

"مرحباً كيتي، ها قد عدت لكِ يا ملاذي الوحيد."

التفتت كات بسرعة نحو مصدرِ الصوت فاتّسعت عينيها بصدمة ما إن وقعت زرقاويها الجميلتين على داڤي...داڤي الذي بدا شاحباً حزين...لقد بدا من وجهه وشكله أنّه شخص أُجبر على الوقوفِ حافياً فوق أشواكٍ جارحة فحتّى كاترينا أصبحت تشكّ في قدرته على التحمل والوقوف أكثر!

ركضت بدورها نحوهُ معلّقة يديها على كتفيهِ تُحاول تثبيته بكل قوّتها ثم سألته بقلق:

"ما الذي يحدث معك داڨي! أولم تخبرني أنّك بحاجةٍ إلى الراحة...تبا أتسمي هذا راحة!"

أبعد الأخير يديها عن كتفيه ثم راح يتأملها بنظراتٍ لم تتمكن من فهمها بل كل ما قرأته في عينيهِ أنذاك هو حزنه المكبوت أو ربما يأسه وخذلانه اللذان لم يزُورا حدقتيهِ قبلاً...

"داڤي تحدّث أرجوك..لمَ تجاهلت وجودي طيلة الأسبوع! ما الذي يحدث معك..أنا قلقة بشأنك."

تنفّس داڤي باضطراب ثم أسند رأسه على كتف كاترينا بتعب قبل أن يعانقها بقوّة كبيرة فبادلته بدورها ذلك العناق هامسةً:

"قل شيئاً أرجوك، أنت تُخيفني عليك."

مرّة أخرى ظلّ صامتاً ولم يجبها بشيء لكن عندما شعر أنه اكتفى من استنشاقِ عبيرها تحدّث دون أن يبتعد عنها:

"تلك الرسالة لم تكن مني..السيد ديلا كروي هو من راسلكِ عندما كنتُ في المستشفى..."

شهقت بصدمة:

-"كنت في المستشفى!"

-"أجل..ذلك الدنيء اتفق مع أمي وأخذني إلى المستشفى عنوة لذا يؤسفني القول يا كيتي أنني الآن فتىً يعيش بكليةٍ واحدة فحسب."

ضحك بسخرية ثم ابتعد عن كاترينا وتابع بمرح:

"لكن لا بأس بذلك فقد نلتُ ما يكفي من الحزن..صحيح أنني أعيش بكلية واحدة الآن لكن على الأقل أنا أنعم بقلبك...قلبكِ معي وهذا كل ما يهمني فما حدث لن يتسبب في مقتلي..أنا بخير صدقيني..لقد تج.. تجاوزت الأمر.. حتى أنني لا أشعر بأي ألم أو ما شابه."

نزلت دموع كات رغماً عنها ولم تجد نفسها إلّا وهي تحتضن داڤي من جديد تحاول التعبير عن قهرها الكبير:

"هذا كثير...هذا كثير جدا داڤي.. أنا لن أصمت بعد الآن، ذلك الوغد سيدفع الثمن غالياً..هو يستمر في الافتخار بذاته وبإنجازاته أليس كذلك! حسناً إذاً سأسلب منه كل شيء...سأجعله مجرد كلب متشرد يفتقر إلى الطعام."

نفى الأخير برأسهِ ثم أبعدها عنهُ محاوطاً وجنتيها:

"أنتِ لن تفعلي شيئاً كيتي، ذلك النذل يمتلك عائلة بنهاية الأمر...أنا لا أريد لأولاده أن يعيشوا ما عشته بسببه...صحيح أنني لا أحبهم، صحيح أيضا أنهم يمقتونني أكثر مما أمقتهم لكنني لست مثلهم، أنا لن أسعد برؤيتهم مشرّدون..لن أسعد برؤيتهم يتألمون فقط لكوني تألمت أيضاً."

صمت قليلا ليبتلع ريقه مُبلّلاً حلقه الجاف:

"لا أعلم إن كنت سأحصل على سعادتي يوماً ما لكنني أدرك جيدا أن سعادتي تكمن معكِ أنتِ...أجل كيتي سعادتي تكمن معكِ لا مع الانتقام"

مسحت كاترينا دموعها دون أن تُخفي غيظها إذ رصّت على أسنانها بغضب قبل أن تعلّق بنبرةٍ باردة:

"على الأقل اسمح لي بفعلِ شيء صغير، اسمح لي بتوريطه، دعني أراه وهو يجرّب شيئاً صغيراً مما عشته أنت."

مرّة أخرى عارض داڤي كلامها:

"إن فعلنا ذلك فلن نفرق عنه بشيء..جديا كات أنا لا أريد تصفية الحسابات معه، أريد مسحه من ذاكرتي...سأعتاد على فكرة أنه لا يحبني وسأحاول إنقاذ أمي من المرض الذي سببه لها، لن أنكر وأقول أنني لستُ منزعجاً ممّا فعلته بي لكنني لن ألوم إنسانة مريضة..أنا أعلم أنّ أمي لم تكن لتسلمني له لو لم يستغل مرضها لصالحه...أنا سأنقذ أمي يا كات، سأنقذها فهي كانت ضحيةً له..هي كانت أول ضحاياه"

تنهّدت كات بضيق ولم تجد كلاماً قد تواسي بهِ داڤي لكن ذلك الأخير تصنّع المرح من جديد وتكلّم مُمازحاً:

"انظري يا فتاة، هناك شاب مسكين واقف أمامكِ وقد حارب ضعفه ليخرج من بيتهِ فقط ليراكِ ويعبر لكِ عن اشتياقه لذا اسعفيهِ حبا وحبا ثم حُبا فهو بحاجةٍ إلى ذلك."

حاولت أن تجاريه وتضحك لكنّها لم تنجح في ذلك...تبّا هي تعلم أنه يتألم في صمت لذا تظاهرها بأنها بخير لم يعد ممكناً..

استطاع داڤي أن يقرأ مشاعرها تلك من نظراتها الغريبة فتنهّد مُداعباً وجنتيها بلطف:

"لا تحزني يا ذات الشعر القصير، لن أكذب عليكِ وأقول أنني لم أتأثر بما حدث في بادئ فقد كدت أفقد عقلي بعد استيقاظي من العملية لكنني عدت إلى رشدي ما إن تذكرت أنني استطعت إنقاذ حياة شخص ما دون أن أخسر حياتي!... لقد فكرت ملياً في الأمر وأظن أن ما حدث ليس بالأمر الكبير، ما حدث كان بمثابة صفعة فتحت عينيّ على الواقع، الآن أصبحت مدركاً أن السيد ديلا كروي لم ولن يحبني لذا لن أسمح له بالاقتراب مني من جديد"

صمت قليلاً ثم أعقب مظهراً نوعاً من الشجاعة:

"أما بالنسبة إلى أمي فأنا لن أنجح في كرهها مهما فعلت لأن قلبي الأحمق يستمر في تبرير أفعالها...لقد اتخذت قراري كات، أنا سأعيش من أجلكِ أنت ومن أجل والدتي...أنا سأتعالج من إدماني وسأحول أمي من امرأة غير سوية إلى امرأة حكيمة...أنا سأحميها من لعنة الحب التي قتلتها...لقد قررت أن أصبح قويا وأن لا أهرب من واقعي بتعاطي تلك السموم...لقد قررت أن أواجه.. قررت أن أصبح شخصاً آخر... شخص يليق بكِ يا ذات الشعر القصير."

ابتسمت كات وسط دموعها ثم احتضنت يدهُ مُجيبةً:

-"حسناً إذن فلتعلم أنني أدعمك، أنا معك وسأبقى معك دائما..."

-"أعلم، لذا أنا أحبكِ كيتي..."

-"شكراً لك."

قهقه بعدم تصديق:

-"اعترفي لي ولو لمرة واحدة يا ذات الشعر القصير"

-"أُنظر إليك، Të dua...مثير للسخرية... ها قد ترجمتها لك قبل أن تطالبني بالترجمة.."

أجل هي وللمرة الألف اعترفت له بلغة غريبة عنه، اعترفت لهُ بالألبانية التي لا يفقه فيها كلمة ثم ترجمت له ذلك الاعتراف كما يلحو لها فاكتفى بهزّ رأسه مُدّعياً الأسى:

"لا بأس، فلتُشفقي إذن على هذا الشاب المثير للسخرية ولتذهبي معه لتناول الطعام...أكاد أقسم أنني سأفقد وعيي من شدّة الجوع."

ابتسمت كاترينا بهدوء ثم هزّت رأسها بالموافقة وأمسكت بيدهِ ليُغادرا المكان بسيارته فقد سبق أن طلب منها الحضور دون سيارة كي لا يفترقا في طريقِ العودة.

•••••••

ركن توبياس سيارتهُ في منطقةٍ شبه مقفرةٍ ليترجّل منها باستغرابٍ شديد مع ذلك هو لم يُبالي بغرابة المكان لوقتٍ طويل إنّما توغّل في المنطقة قليلاً ليجد نفسهُ واقفاً أمام منزلٍ غامض كبير وقد رُكنت أمامهُ سيّارة لانا الحمراء...

رفع ذلك الأخير يدهُ ليطرق الباب ببطء ففُتح بعد ثوانٍ وظهرت خلفهُ لانا التي كانت تبتسم بلطف:

"أخيرا وصلت إلى مكاني، للوهلة الأولى ظننتُ أنّك لن تأتِي"

ابتسم بدورهِ مجيباً إيّاها بهدوء:

"وكيف لي أن لا آتي، أيعقل أن أترك فاتنة مثلكِ تنتظرني!"

ضحكت بدورها بخفّة ثم ككل مرّة ارتمت في حضنهِ مُرحبة بهِ قبل أن تتحدث بتذمر:

"انظر إلى المكان، إنه تقريباً خالٍ من غيرنا. أولم تزرك فكرةً ما؟"

ابتسم توبياس بخبث لتلمع عيناهُ ببريقٍ غريب فضربت لانا كتفهُ باحراج:

-"تبّاً لك لم أقصد ذلك أيّها المنحرف."

-"انظري إليكِ! أنا لم أقل شيئاً من الأساس."

-"لغة جسدك أخبرتني بالكثير عزيزي..هيا أخبرني ألم تتذكر شيئاً يليق بهذا المكان!"

-"لا لم تزرني أي فكرة طبيعية لحدّ الساعة"

زمّت شفتيها بحنقٍ مدفون ثم راحت تعبثُ باصبعها الخالي من ذلك الخاتم العجيب الذي حصل عليهِ من أجلها وبالرغم من وضوحِ إشارتها إلّا أنّه لم يفهم شيئا فشتمتهُ بخفوت ثم نبست بحزم:

"لا بأس سأتغاضى عن هذا، أشعر أنك لا تستحق ما جهّزته من أجلك لكن لا بأس..سأكون أعقل منك وأفاجئك."

كتم توبياس ضحكته بصعوبة ثم هزّ رأسهُ بالموافقة فسحبت بدورها قماش أسود من جيبِ سترتها وراحت تتذمر:

"لطالما كنت أحلم بمواعدة شاب طويل القامة لكنني لم أحسب حساباً للسلبيات التي قد أحصل عليها، انحني قليلاً من فضلك فأنا لن أصل إلى عينيك مهما حييت"

توبياس وللحظة شعر أنه يحلّق في الفضاء الخارجي، بل وشعر أنّه يرقص في كوكبٍ آخر كان هو أول مكتشفيه، نبضات قلبهِ باتت أمر صعب التحكم فيه وجسده ككل باشر في ارتعاش حُبا وسعادةً جرّاء ما قالته..

تبا، تلك الفتاة وبكلمة واحدة فقط أسرته وحوّلته من شابّ نشيط إلى كهلٍ ضعيف...

أيعقل أنها تعتبره حبيبها؟ أهي تحبه حقا!

حرفيا بمجرد ما فكّر في ذلك شعر أنّه ملكَ العالم بأسرهِ لكنه سرعان ما استفاق من شروده على صوتها المتذمّر:

"توبياس أين أنت..انحني قليلاً من دون فضلك."

قهقه توبياس بخفّة ثم انحنى قليلاً فرفعت يديها الناعمتين وأقدمت على تغطية عينيهِ بذلك القماش الأسود ثم تعلّقت بذراعهِ وراحت تقودهُ إلى الداخل بكلّ حماسة.

بعد لحظات شعر توبياس بنفسهِ وهو يقف في رقعةٍ هادئة فنزعت لانا قطعة القماش عنه وأشارت بيدها إلى المكان:

"أخبرني الآن ما رأيك!"

المكان كان في غايةِ البساطة والجمال، الأرضية الخشبية أضفت جمالية غريبة إليه بينما الحائط الذي لم يخلُ من صورِ لانا وتوبياس أضاف جانباً شاعرياً إلى الأرجاء...

الأثاث كان قديماً إلى حد ما مع ذلك هو لم يكن بطاغٍ في الغرفة إذ اقتصر على أريكة كبيرة وطاولة رفيعة إضافة إلى تلفاز صغير وطاولة وضعت على الجانب الآخر وقد احتضنت الكثير من التحليات التي أعدّتها لانا من أجلِ حبيبها اللّئيم..

مرر ذلك الأخير عينيه على الزينة اللطيفة التي أظهرت نوعاً من الأجواء الرومانسية ثم ضمّ يديه إلى صدرهِ مُعلّقاً:

"المكان جميل جدا، هادئ وبسيط والأهم من ذلك أنه خالياً إلّا منا."

أومأت له مُدعّمةً:

"إذن، ألم تزرك فكرة ما الآن.."

نفى برأسه لتشتعل عيناها بغيظ حارق لكنه سرعان ما ابتسم وسحب من حيب سترته ذلك الخاتم النادر الذي حصل عليهِ سابقاً في منافسة غريبة أقحم نفسهُ فيها من أجل صاحبة الجلالة التي تنفّست شاعرةً بارتياح:

"أخيراً اشتغل عقلك عزيزي توبياس."

ضحك توبياس بخفّة ثم جثا على ركبةٍ واحدة ورفع الخاتم نحوها:

"إلى الفتاة التي يحبها الجميع، أتقبلين أن أختطفك من الجميع وأجعلك لي فقط!"

ضحكت لانا من كلامه ذاك ثم أومأت لهُ ومدّت يدها نحوه:

"نعم، أنا موافقة..اجعلني لك فقط وبالمقابل سأجعلك خاصتي إلى الأبد."

ابتسم بدورهِ بسعادةٍ لم يشعر بها من قبل ثم ألبسها الخاتم لتنزل إلى مستواه وتعانقه بقوّة فتساءل بعفوية:

"أنحن في موعدٍ الآن."

قهقهت قبل أن تمنحه ردّا:

"نعم، وهو أفضل موعدٍ على الإطلاق."

ابتعدا عن بعضهما ليتبادلا نظرات العشق الغريبة ثم بعد تواصل بصري دام لأكثر من دقيقة وقفا ليتقدّما من طاولة الطعام بناءً على رغبةِ لانا فباشرا في شرب النبيذ وتناول بعض التحليات التي صنعتها بكلّ حب..

-"أخبرني توبياس، ألا تشعر بشيء اتّجاهي؟"

رفع رأسه ببطء شديد ثم ناظرها بهدوء وقال بنبرةٍ متثاقلة:

"بالطبع أشعر، أنا أحبك لانا..أحقا مشاعري غير مرئية لهذه الدرجة!"

ارتشتفت لانا القليل من كأس نبيذها ثم ابتسمت بهدوء وأجابته بنبرةٍ لطيفة جدّا:

"مشاعرك واضحة توبياس لكنني أردت سماع تلك الكلمة منك كي أتأكّد من أنّك ستموت وأنت تشعر بألم الحب من طرفٍ واحد."

عقد حاجبيه بعدم فهم فاختفت علامات اللطافة من وجهها ليحتلّه برود غريب، برود أُرفق بابتسامةٍ حاقدة...

ضغط توبياس على رأسهِ بقوّة ثم ضرب الطاولة هامساً:

"ما الذي يحدث هنا لانا..."

ابتعدت الأخيرة عن مكانها ثم وقفت خلفهُ لتحاوط كتيفهِ هامسةً بنبرةٍ هادئة:

"لا تقلق توبياس، أنت لن تتألم كثيراً فبعدما تسمع هرائي هذا ستفقد وعيك ولن تستعيده من جديد..حسناً لا أنكر أنني أعجبت بك قليلا في الآونة الأخيرة لذا قررت أن أجعلك تنام قبل أن أحرق هذا المكان..."

التفت إليها بصعوبة ثم علّق عينيهِ المحمرتين عليها وسألها باستنكار دون أن يخفي صدمته وألمه:

"تبّا.. ما الذي تتفوّهين به..أخبريني أنّك تمزحين"

وضعت لانا يدها على فمه ثم رمقته بحقد ونبست بنبرةٍ هادئة ناقضت نظراتها الحارقة:

-"لا تُجهد نفسك بالكلام، سأشرح لك كل شيء."

احتدت نظراتها أكثر وهي تُكمل:

-"لم أحضرك إلى هنا كي أفاجئك كما ظننت بل أحضرتك كي أنتقم منك، أحضرك كي أخبرك أنني خدعتك وأنني لا أحبك، وكي أحطم خاتمك اللعين أمامك ثم أسلب منك حياتك..أجل توبياس سأسلبها منك تماما كما سلبت أخي مني."

ضحكت كالمختلة وهي تنظر إلى ملامحه التي مزجت بين الصدمة والاستغراب إضافة إلى الحزن والغضب..

توبياس كان يحتضر أمامها...كان يشعر بموته بعد كل حرفٍ يخرج من ثغرها مع ذلك هي لم تأبه به بل فقط أظهرت سعادتها المختلطة بأوجاع الماضي ثم أكملت كلامها السام:

"أعلم أنّك لن تعيش ألمه، أنت لن تصرخ وتستنجد بأحدهم كما فعل هو لكنني أعلم أيضا أن ما تشعر به الآن أقسى من ذلك بكثير، أن تنخدع بفتاة وتقع لها ثم تموت على يديها هو شيء لا تحسد عليه أيها المدلل"

ابتسم توبياس ابتسامة ألم ثم سألها بخفوت دون أن يأبه باحتمالية عدم وصول صوته إلى مسامعها:

"لا أصدق..فعلتِ هذا دون أن تسأليني أو تستفسري عن أيّ شيء، لقد وضعت قواعد اللعبة في صمت.. تبا أأنتِ حقّا لانا التي أحببتها!"

قلبت الأخيرة عينيها بملل:

"لا لستُ هي... أنا أكون لانا التي كرهتك منذ مراهقتها... أنا لانا التي حرمتها من أخيها الوحيد..لقد قتلته أيها المجرم، قلتله هو وعشرات المحتفلين بتخرجهم من الثانوية دون أن تأبه بمشاعر أهاليهم، لقد حرمتني من أخي ومن عائلتي السعيدة..أنت وبدلاً من أن تخوض شجاراً عنيفاً معه حبسته في قاعة الاحتفال وأحرقت المكان...أتظنني سأتجاهل هذا وأقع في حبك كالمذلولة!"

ضحكت بسخرية وتابعت دون أن تظهر شيئاً من انكسارها:

"مستحيل، أنا لم أكن لأقع في حب شخص مثير للشفقة مثلك..شخص لا يختلط بالغير مخافة إعادة ذلك الخطأ وقتل من يعبث معه...أنت فعلت الكثير بي، لقد دمّرتني دون أن تظهر أمامي لذا حان الوقت لأنتقم."

نزعت الخاتم من إصبعها ثم ألقته بعيداً عنها فوقع توبياس من الكرسي، وقع لكنّه لم يبعد عينيه عنها ولو لدقيقة واحدة، لقد أرادها أن تكون آخر شيء يراه قبل موته، أراد ان يرى الفتاة التي أحبها بجنون فقاده جنونه بها إلى موته....

هو ولسنوات طوال ابتعد عن الجميع، لقد حرم نفسه من الاختلاط بالغير فحتى هي اكتفى بحبّها من بعيد لكن ما حصل عليهِ في المقابل هو الخيانة لا غير...خيانة ارتبطت بانتقامٍ لا يستحقه لطالما كان توبياس ذلك الشخص الذي يحمل على عاتقهِ نتائج خطايا لم تكن بخطاياه.

اقتربت لانا منه لتنظر إليه بابتسامة ماكرة فأغمض عينيه باستسلام تام لتخرج بدورها حاملةً قدّاحة بيد وعلبة بنزين بيد أخرى ولم تحتج سوى إلى دقائقٍ قليلة قبل أن تشعل المكان وتغادره دون أن تظهر شيئاً مما شعرت به في تلك اللحظة فهي اعتبرت مشاعرها مجرد خيانة لأخيها الذي رحل عنها بسبب شخصٍ دقّ قلبها من أجله...

أجل.. قلبها دق له بالخطأ وهي من النوع الذي لا يكترث بأخطائه بل تتركها خلفها كما لو أنها لم تقترفها..

••••••

البرازيل:
في حانةٍ من حانات ساو باولو:

ترجّلت هانا من سيّارة الحارس روكو بتردد ثم استندت عليها خافيةً وجهها بيديها الناعمين فوقف ذلك الأخير أمامها باستغراب ونبس:

"ما الأمر سوزي!"

ابعدت بدورها يديها عن وجهها مُعلّقةً عينيها صوبهُ ثم أجابته بتلعثم:

-"أ.. أنا..أشعر بال..حسناً أنا متوترة لذا أرجوك رافقني"

-"لمَ كل هذا الخوف!"

زمّت شفتيها بغيظ ثم مسحت على شعرها بتوتر:

-"سُحقاً، تتحدث كما لو أن الوغدين اللذان سأقابلهما الآن لم يكونا سببا في ما حلّ بي!"

-"لكن هذا ليس بالأمر الكبير لطالما مررتِ بمواقف مشابهة لتلك، الفرق الوحيد هو أنّك فاقدة لذاكرتك الآن."

-"وهنا تكمن المشكلة، ذاكرتي الخبيثة لا تُسعفني"

-"سوزي تشجعي وافعليها، أنتِ مسلّحة الآن"

أخفضت هانا رأسها بتوتر ثم همست باختناق:

"ستكون معجزة من معجزات العالم لو تذكرت كيف أستعمل هذا السلاح الثقيل وسط التوتر الذي يعتريني."

لم يجبها روكو بشيء فحدت به بابتسامة طفولية:

"رافقني أرجوك."

أومأ لها بقلة حيلة فتشبّتت بذراعةِ ليدخلا الحانة معاً وقد وقعت عينا روكو على هيليوس آنذاك، هيليوس الذي كان جالساً لوحدهِ بوجهٍ جامدٍ كئيب...

لقد كان كمن فقد روحه وطرد من عالمٍ تسوده الطمأنينة ليحتضنه عالم الأوجاعِ المُستديمة.

انتبهت هانا لتحديق روكو بسيفاك فأدركت أنّه هدفها الذي جاءت إلى الحانة من أجله وذلك الأمر جعلها تعلّق بنبرةٍ حاقدة:

"هذا هو إذن! تبا لِمَ يبدو كأمٍ فقدت جنينها ..لا أصدق هذا التعبير الذي يرسمه على ملامحه المستفزة...جديا لو كنت أذكر شيئاً مما تعلمته من فنون قتالية لركضت إليه ومزّقته..ذلك الوغد"

استمرت في الثرثرة تحاول إلهاء روكو كي لا يطلب منها التقدم والاحتكاك بذلك الأخير ويبدو أن الأمر كان ظاهراً لروكو لذا هزّ رأسه بيأس ثم تحدّث بجدية:

"توقفي عن الثرثرة سوزي، هيا اذهبي وافعلي أي شيء قد يثير انتباهه..دعينا ننهي المهمة بسرعة."

أومأت له وابتعدت قليلا تحاول التقدم من سيفاك لكنّها عادت أدراجها وطرحت سؤالها بتوتر:

"ماذا لو حاول إيذائي..انا فتاة ضعيفة الآن، تبّا الرحمة يا رجل."

"أنا هنا سوزي، اذهبي ولا تخافي سأراقبك دون شك"

حرّكت رأسها بثقة لا مثيل لها ثم ابتعدت من جديد ناوية التقدم من ذلك العاشق الضائع لكن وللمرة الثانية عادت إلى روكو هامسةً:

"مهلاً لحظة، إليون يقول أنني كنت نائبته قبل فقداني للذاكرة مما يعني أنني كنت أقوي منك جسدياً، سُحقا أنا وبقوّتي تلك لم أنجُ من بطش هذا الوغد الحزين كيف إذن ستتمكن أنت من إنقاذي! أرأيت لقد كشفتك لذا حُسم الأمر أنا لن أذهب."

أدارت وجهها بحزم فتنهّد روكو بقلة حيلة:

-"سوزي، سلاحي معي وأنا أراقبك من بعيد. حركة خاطئة منه لن تمنعني من الإطلاق."

لم يبدُ عليها الاقتناع إذ سرعان ما عارضتهُ بطفولية:

-"روكو أرجوك فلنخبر الزعيم أنني حاولتُ التحدث معه لكنه غادر ولم يقتنع بفكرتي...افعل ذلك من أجلي أرجوك."

ضغط الأخير على أسنانه بغضب ثم علّق عينيه على سيفاك ليراه وهو يتحرك من مكانه بسرعة فلم يشعر بنفسه وهو يصيح صيحة الذعر:

"اللعنة إنه يغادر..تصرفي سوزي وإلا سنموت على يد الزعيم"

أنهى كلامه ليدفعها بخفّة فتحرّكت بدورها بخوفٍ حاولت إخفاءه بكل ما امتلكته من قوّة..

أغمضت هانا عينيها تحاول استرجاع ثقتها بنفسها ثم عندما تذكرت أن روكو يحميها بسلاحهِ فتحت خضراويها من جديد وتقدّمت من سيفاك بثقة وجمود..تقدت وهي تمتّع نفسها بصوت كعبها الذي أصبح طاغياً على المكان...

رفع سيفاك سوداويهِ لا شعوريا فلمحها وهي تقترب منه بثقتها تلك ليفتح عينيهِ بدهشة خاصة عندما تجاوزته دون أن تقول كلمة!

تسمّر الأخير في مكانه بصدمةٍ وعدم تصديق ثم استدار ليجدها واقفة أمام البار تطلب شراباً من النادل.

لقد بدت هادئة إلى حدٍّ مزعج، خضراويها كانتا خاليتين من أي شيء، هي لم تظهر اهتماما اتجاهه حتى! بل ولم تظهر أي شيء قد يثبت له أنها هان خاصّته!

ضغط سيفاك على يديهِ بتوتر ثم تقدّم من البار بسرعة ووقف بمحاذاة هانا محدّقا بها، هانا نفسها التي استمرت في اخفاءِ خوفها وتصنّعت عدم الشّعور بوجوه إلى جانبها.

"هانا.."

قالها الأخير هدوء شديد فظهرت تقطيبة صغيرة على جبيها لكنها تجاهلت تأثير ذلك الاسم عليها وظنّت أنّه يُكلّم فتاة أخرى فالرقعة التي وقفا فيها لم تخلُ من الفراشات...

همس سيفاك باسم هانا للمرة الثانية فلم تُبالي بدورها بذلك لكنّها شعرت بالحرارة وهي تسري إلى جسدها ما إن أمسكها من يديها يُديرها إليه عُنوةً:

"لمَ واللعنة تستمرين في تجاهلي هكذا!"

حاولت الأخيرة أن تتخلص من يدهِ بانزعاج ثم عندما فشلت في ذلك صرخت بغيظ:

"فلتبعد يدك القذرة عني..يا لك من نذل."

حرّك سيفاك عينيه يحاول التأكد من تواجد أي شخص غير مرغوب فيه في المكان.. شخص قد يجبرها على التصرف بغرابة ثم ما لبث أن حرّك هانا من مكانها يجبرها على اللّحاق به لكنّها استمرّت في محاربته ووتمسّكت برخام البار صارخةً:

"لا تُبعدني أرجوك..دعنا نتحدث هنا..سأوافيك بجميع المعلومات لكن لا تختطفني أرجوك..."

التفت إليها ورمقها بنظرةٍ مخيفة فدمعت عينيها لا شعورياً مما أجبره على البدء في الشتم واللّعن بسخط...

حاول بدورهِ أن يسحبها من جديد لكنّها بقت متشبّتة بالرخام كطفلةٍ صغيرة تشبّتت بذراعِ والدها كي تحصل منه على الحلوى المحظورة عليها فأدرك سيفاك أنّه لو استعمل قوته في سحبها ستتألم وقد يحدث شيئاً لذراعها بالخطأ حتى أنّ إمساكه لها بقوة كبيرة قد يؤدّي إليه ترك آثارٍ على يدها وهو لن يرضى بذلك، على الأقل ليس هو من يُؤذيها..

ترك الاخير يدها ببطء شديد لتتنفّس بارتياح لكنّها صرخت بهلع وصدمة ما إن تقدّم منها ورفعها على كتفهِ ليخرج بها من القاعة ناقلاً إيّاها إلى الرواق فسحب روكو سلاحه وأقدم على اللّحاق بهما...

توقّف سيفاك في وسطِ الرواق الذي كان شبه مظلم ثم حاصر هانا مع الحائط سائلاً إيّاها بهدوء:

-"لمَ تتصرفين معي بهذه الطريقة، كيف أتيتِ اليوم إلى هنا إن كنتِ أسيرةً عند ذلك الوغد."

-"كيف لي أن أتصرّف مع الشخص الذي تسبب في جعلي هكذا! ثم أنا لن أسمح لك بالتحدث عن زعيمي بهذه الطريقة"

-"لا أصدق أنتِ تدافعين عن ذلك الوغد العاهر أمامي!"

اشتعلت عينا هانا بغضب ثم داست على قدمهِ بكعبها العالي مُحذّرةً:

"أخبرتك أن تتوقف عن التحدث عنه بهذه الطريقة اللّئيمة."

ضرب سيفاك الحائط بغضب فصرخت هانا بهلع وأخفت وجهها بين يديها ليعقد الأخير حاجبيه بدهشة:

-"بربّك هانا ما الذي يحدث معكِ!"

-"لا تناديني بهذا الاسم اللعين ثم..أ.. ألا تريد عقد الإيرولندا!"

-"لا أريد عقد الإيرولندا بل أريدكِ أنتِ"

-"تبّا لمَ أنت متعطش لقتلي هكذا! صدقني أنا لم أعد قوية وحصولك علي بانتشالي من المنظمة لن يهزّ من قوة الزعيم ولو قليلاً.."

تنهّد سيفاك بتعب ثم جذب هانا إليه وعانقها بقوة كبيرة ليمرر بعد ذلك يده على شعرها هامساً:

"لقد تعبت من سماعِ هذا الهراء."

تسمّرت في مكانها بصدمة اعترتها نتيجةً لذلك الشعور الذي سيطر عليها...شعور غريب جدا لم ينجح في منعها من التحدث بحقد:

-"ابتعد عني حالاً!"

-"اخرسي.."

همس بذلك وهو يستنشقُ رائحتها بحب كبير فدمعت عيناها بخوفٍ وتشتت قبل أن تشعر بتصلّب جسدهِ نتيجة للوخزة التي شعر بها في ذراعه!

ابتعد الأخير عنها ببطء شديد ثم علّق عينيهِ على يدها المرتجفة ليجدها ممسكة بحنقةٍ ما..

يا للسخرية، هي كانت على علمٍ بأنها لن تنجح في سحب سلاحها والتخلص من شخصٍ مدرب مثله لذا وبمساعدةٍ ومن الطبيب ماكسويل حصلت على بديل للسلاح، بديل كانت متأكّدة من أنها ستُجيد استعماله...

"ما الذي فعلتهِ هانا!"

ابتعلت الأخيرة ريقها بصعوبة:

"أنا لست هانا...أنا سوزي..سوزي نائبة الزعيم إليون رونديش"

عاد سيفاك إلى الخلف ببطء شديد ثم استند على الحائط قليلا قبل أن يقع أرضاً بضعف غريب فنظرت الأخيرة إليه بتأنيب ثم همست:

"أنا آسفة يا هذا..لقد تحتم علي حقنك فأنا لن أتمكّن من الغدر بالزعيم.."

•••••

نهاية الفصل

لا تنسوا الفوت..تفاعلكم على الرواية يشجعني على الكتابة..

Continue Reading

You'll Also Like

14.3K 454 3
هو كان الدوق الإيطالي صاحب السمعة الراقية في كلا العالمين...ملك في القانون و صِنْدِيد في خرقه... اسمه لقبه و كل ما يخصه كان مقدسا لم يعبه عبئ مدنس...
15.7K 947 8
طفل يتيم مشاغب يتسلل إلى فناء ميتمه ويرى سيارة فاخرة متوقفة يقرر العبث بها بالرسم على السيارة و تحطيم نافذتها، لكنه يتفاجأ بمالك السيارة وهو رجل ثري...
46.6K 2.9K 10
𝙵𝙸𝚁𝚂𝚃 𝙻𝙾𝚅𝙴 𝙳𝙾𝙴𝚂𝙽'𝚃 𝙰𝙻𝚆𝙰𝚈𝚂 𝚆𝙸𝙽 . أخرجتُ نفسًا ساخنًا وثقِيل، اُحدق نَاحيته بعِيون نَاعسة « هل تعلم أن الأوزمِيُوم ثَانِي أثقَل...
302K 9.9K 49
"المقدمه" بين الحب والشهوة خيوط متشابكة إذا هوى القلب تشبعت شهواته، وإذا تتبع شهواته أضاع الحب ونبضاته