قصر الشمس|Sun Castle

Door QueenAsmahan7

7.7K 863 98

"اندلعت نيران مهيبة هنا و هناك، السرير... الخزانة... السجاد... الستائر الجميلة... حتى المرآة العاجيَّة تحترق... Meer

الفصل الأول: جدران سوداء
الفصل الثالث: الكابوس!
الفصل الرابع: و عادت الشمس لقصرها
الفصل الخامس: بكاء! سقوط! و حمل!!
الفصل السادس: وجه يرعب الجميع!
الفصل السابع: الحلقة المفقودة
الفصل الثامن: المواجهة!
الفصل التاسع و الأخير: ابنة الشمس!

الفصل الثاني: قطعة من الشمس

864 103 9
Door QueenAsmahan7

رفعت القدح إلى شفتيها، و أخذت رشفة طويلة حتى كادت تفرغ محتواه، ثم أعادته إلى الطاولة، قبل أن ترمي ببصرها إلى بعض الورود التي تزين الحديقة المجاورة للمقهى. لاحظت دوروثي أن الجو جميل جدا و ابتسمت دون أن تشعر بالرجل الذي جلس أمام جمالها هي صامتا مأخوذا بكل حركة من حركاتها العفوية!
-يبدو أنك تتوقين لجولة في هذا الجو اللطيف!
التفتت إليه بحركة سريعة من رأسها، و اتسعت ابتسامتها حتى لمعت أسنانها الناصعة، مما أسعده فتابع قائلا:
-حمدا لله أنك ضحكت! خشيت أن تعزفي عن الابتسام لأنني فتحت دون قصد جراحك.
هزت رأسها نفيا، و ارتشفت ما تبقى من قهوتها، ثم ردت بمرح:
-يدهشني أنك دائما تقرأ أفكاري!
-آمل ألا يزعجك أن أتطفل على ما يدور في هذا الرأس الجميل!
-بالطبع لا! يريحني أن تقرأ أفكاري... و يوفر علي الكثير، فانا لا أجيد التعبير عن نفسي.
علت وجهه ابتسامة عريضة، ثم قال:
-لن أكذب عليك دوروثي، قراءة الأفكار ليست مجرد هواية بالنسبة لي، ساعدتني هذه المقدرة كثيرا في اكتشاف من حولي، لقد درست علم الفراسة، و حرصت على تطوير مهاراتي في هذا المجال، لأكون خبيرا في قراءة وجوه الذين أقابلهم، و النفاذ إلى أعماقهم.
همهمت دوروثي مقدرة مدى أهمية هذا المجال العظيم، ثم طرفت بجفونها و هي تسأله:
-هل أفهم أنك طبيب نفسي أو ما شابه؟
-كلا! إنما أنا رجل أعمال و...
توقف عن الكلام فحثته على المواصلة مستفهمة:
-و ماذا؟!
-و روائي أيضا.
-روائي؟
لم يتوقع ردة فعلها حين دفعت الكرسي إلى الخلف، و شرارات الغضب تتطاير من عينيها، قالت بحنق:
-يا لي من حمقاء! ظننت لوهلة أنك شخص شريف و طيب... و متعاطف معي، بينما كنت حضرتك تقرع الطبول لعثورك على رواية جديدة تكتبها!
انطلقت خارج المقهى لا تلوي على شيء، سار في أعقابها مسرعا حتى أدركها، و استوقفتها يده القوية. تفرس فيها بنظرات غاضبة، لكن سرعان ما تلاشى غضبه حين لمح مآقيها المحمرة. فهمس بلطف أثر فيها:
-يا صغيرتي إنك حمقاء فعلا! أظننتني حقا روائيا تافها يستغل مآسي الناس سعيا خلف الشهرة و المال؟ على كل كلاهما معي... و أنا في غنى عن المزيد!
انتفضت كقطة مذعورة و قالت بحدة:
-أنا لا أعرف عنك شيئا سوى اسمك الأول! فكيف لا أظن بك الظنون؟
-أنت محقة.
اجابها بهزة من رأسه موافقا على ملاحظتها، ثم أردف مبتسما:
-كنت سأطلعك على أهم سر في حياتي عاجلا أم آجلا...
سحب نفسا عميقا، ثم مد يده إليها و تابع ممازحا بلهجة رسمية:
-أقدم لك نفسي يا آنسة غرين! أنا جون أندرسون.
لاحظ الاندهاش عليها، و بالكاد تمكنت من مصافحته، فلم يضف شيئا إذ تيقن انها عرفته! حركت جفونها بسرعة ثم قالت بذهول:
-أنت... رجل الأعمال المعروف؟ الملياردير جون أندرسون؟!
اكتفى بإيماءة من رأسه مؤكدا لها ذلك، فسارعت لتضيف في نبرة استفسار:
-سمعت عنك كثيرا في «باريس»، فصفحات التجارة و الأعمال في الجرائد لا تخلو من اسمك، لكنك قلت منذ قليل انك روائي!
-صحيح! هذا هو سري الصغير، و لا أحد من المتعاملين معي يعرف أنني كاتب.
-لكنني أعرف كل الروائيين الانجليز، لماذا لم أسمع عنك إذن؟
انحنى برأسه إلى الأمام، و قال هامسا:
-لأنني أستبدل اسمي الثاني باسم باركر، و لا أضع صورتي على ظهر الكتاب، حرصا مني على الفصل بين مهنتي و هوايتي، لا أحب أن يقرأ أحد أعمالي فقط لكوني شخصية معروفة.
فغر فم دوروثي من الدهشة، و بدت مصعوقة بما سمعته، فطنت أخيرا من ذهولها، و نظرت حولها محاولة السيطرة على حماسها و فرحتها، ثم قالت بهمس حتى لا تحدث جلبة و تلفت أنظار المارة إليه:
-أنت جون باركر؟ يا إلاهي! أتعلم أنني قرأت كل رواياتك؟
-أفعلت حقا؟
كانت نبرته حنونة و نظرته دافئة، مما جعل حمرة الخجل تزحف سريعا إلى وجنتيها، بينما أطلق جون ضحكة قصيرة و أضاف:
-لقد أخذنا الحديث عني، و نسيت كليا أمر الجولة!
قالت دوروثي بعفوية:
-لن تصدق مدى لهفتي لرؤية لندن عن كثب!
-أتعنين أنك لم تتجولي في لندن أبدا؟
اكتفت بهز رأسها يمينا و يسارا نافية، فسأل ثانية:
-كم مضى عليك هنا؟
-ثلاثة أشهر.
-فهمت... أمضيت أغلب هذه الفترة سجينة لدى سبنسر الوضيع!
لاحظ انزعاحها فقطب حاحبيه، و اردف متداركا خطأه:
-المعذرة! ما كان يجب أن أذكرك به.
-أرجوك لا تعتذر! لقد فعلت الكثير من أجلي، و في المقابل آذيت شعورك بتصرفي الأرعن، أنا التي عليها الاعتذار.
نظر إليها بعبوس، ثم ابتسم بمرح، و قال محيطا كتفيها بذراعه:
-لا داعي لاعتذارك يا صغيرتي، كان تصرفك من باب الحذر، هيا بنا! هناك الكثير لتريه.

وسط ميدان «طرف الأغر»، لم تستطع دوروثي كتم صيحة إعحاب أفلتت منها، و هي تتنقل بنظراتها من معلم لآخر. و وقفت مذهولة أمام التماثيل التي نصبت في كل زوايا الميدان، حدثها جون عن كل معلم على حدى، من تمثال الأدميرال اللورد هوارشيو نيلسون ذو العين الواحدة، إلى تماثيل الأسود البرونزية حوله.
-هناك أسطورة تقول انه حين تدق ساعة «بيغ بن» ثلاثة عشر مرة، فإن هذه الأسود تتحرك لحماية لندن من الشر! هل تؤمنين بالأساطير يا دوروثي؟
-كلا! لكنني كنت أؤمن بها في طفولتي، ماذا عنك؟
-أنا لا أؤمن بشيئين... الأساطير و الأشباح!
و ابتسم بسخرية إذ سافرت ذاكرته إلى قصة جينا عن أشباح أجداده الذين لا زالوا يقطنون «بلاك كاستل»! ثم سرعان ما عاد إلى الواقع مواصلا دور الدليل السياحي ببراعة، لكنه توقف عن الكلام حين انتبه إلى شعر دوروثي الذي لمع تحت أشعة الشمس. كانت تقف على مقربة من النوافير تراقب الماء الفيروزي يترقرق، و شعرت به يبتعد فجأة، فاستغربت ذلك، سحب هاتفه من جيب سترته، ففهمت ما ينوي فعله و ضحكت بخجل.
-أريد صورة أخرى تجمعنا معا.
-لك هذا!
دنا منها و التقط صورة ذاتية لهما، ثم لاحظ ابتسامة ذات معنى على وجهها، فتساءل قائلا:
-مالذي يجول في خاطرك؟
-أشعر أنني محظوظة... و أمتلك امتيازا خاصا!
همست له مردفة:
-من المؤسف أن يجهل كل هؤلاء الناس من حولنا هويتك... بينما من الرائع في آن واحد ان أنفرد أنا بمعرفة هذا السر العظيم!
-أنا محظوظ أيضا... و محسود على هذه الحسناء التي ترافقني.
-يا للمبالغة! لست حسناء البتة!!
-طبعا يا عزيزتي! هذا الوصف قليل... ربما من الظلم أن أصف جمالك بكلمات بسيطة، لا أجد تعبيرا مناسبا الآن سوى أن أقول أنك... تبدين قطعة من الشمس!
-اوه! إن هذا... أجمل ما سمعته في حياتي!!
و أخفت وجهها خلف راحتيها، فضحك بشدة، و أعقب على ذلك قائلا:
-التركيبة الأخطر هي الجمال و الخجل، يمكن للرجل أن يموت إثر ذلك.
-حسنا... لا أريد خسارة كاتبي المفضل!
ابتسم جون بسعادة، في حين عضت دوروثي على شفتها السفلى بعد هذا التصريح العفوي، ثم مضى يقول بحماس:
-أنا سعيد جدا لكوني كاتبك المفضل، و سأكون أسعد إذا قبلت عرضي.
-أي عرض؟
سألته و هي تحرك أهدابها بحيرة، فأجاب:
-سأخبرك شرط أن تكملي لي القصة! ماذا حدث بعد وفاة والدتك؟ و كيف انتهى بك الأمر هنا؟

كانت شمس الزوال ترسل خيوط نور طفيفة من خلف الغيوم، فتلامس بها أبراج «بلاك كاستل» ثم تختفي من جديد متوارية، كما لو أنها هي الأخرى تخافه. أزاح المصور الذي وصل لتوه إلى قرية «سيليس» غصنا تدلى من شجرة معمرة، فلاح أمام ناظريه القصر الأسود بهيبته الحالكة و شموخه الرهيب، أخيرا! ها هو في حضرة المبنى الذي دارت حوله الكثير من القصص المرعبة لأزيد من قرن!
مسح عن عينيه ذهوله العميق، و تقدم بخطى واثقة، ممنيا نفسه بترقية من رئيس الجريدة التي يعمل لصالحها، كان واقفا أمام البوابة الحديدية الغليظة لباحة القصر، و التي تصدأت بفعل الزمن، لاحظ لافتة على يمينه، و استحالت عليه قراءة ما كتب فيها، فمد يده ليزيل غبارا سميكا تراكم فوق أخرف ذهبية لم تفقد بعد لمعتها، و قرأ: "سان كاستل -حيث لا تغيب الشمس-"، تكرر صدى تلك الكلمات في عقله كالسحر، و تمتم بفخر و هو يدفع شقا من البوابة إلى الأمام:
-سأكون أول شخص يدخل القصر الأسود الملعون، و يلتقط له صورا من الداخل، سأحقق مجدا عظيما!
كان منظر «بلاك كاستل» من الداخل أفظع مما هو عليه في الخارج، النوافذ متداعية، الغبار فرض سلطانه في كل مكان، و الرماد الذي اتشحت به الجدران سواده ينافس الليل، و فروع الأشجار التي تسللت عبر كل مدخل متاح، لتستعمر القصر بجرأة، ربما كانت هي الكائن الوحيد الذي لم يخش اللعنة، إضافة إلى ذلك المصور المتهور! كان يوجه عدسته العطشى هنا و هناك، ملتقطا الصور كيفما اتفق، بلغ بهو القصر الداخلي و كان عليه تسلق السلالم، لكن منظرها المهدم أرغمه على التراجع، قرر ان يكتفي بالصور التي التقطها للطابق الأرضي، إذ لم يكن يود أن يمضي في جنونه إلى درجة المخاطرة و كسر عنقه تحت أنقاض سلالم هشة!


و بينما كان يهم بترك البهو، تلاعبت بأعصابه ظواهر غريبة، بدأ يلمح طيفا بثوب ذهبي يظهر هنا و هناك ثم يختفي، و تداخلت أصوات الريح مع صيحات مرعبة، كما لو أن هناك فعلا أشباح غاضبة لانتهاكه حرمة سكينتها. أطلق لساقيه الريح، و خيل إليه أن الطريق من البهو إلى البوابة الحديدية للباحة طويل جدا، ارتفعت ساقاه عن الأرض، فسبحت خطواته المضطربة في الفراغ، و لم يشعر إلا بشيء بارد يسحبه إلى الخلف، ثم... ضاع صراخه في ظلمة القصر الأسود!
استيقظت السيدة باول من غفوتها على الكرسي، و قد هيء لها أنها سمعت صراخا مستنجدا! فركت عينيها المحاطتين بتجاعيد السنين، و عادت لمواكبة أعمالها ظنا منها أن ذلك لم يكن سوى كابوسا، و تمتمت بامتعاض و هي تغلق النافذة: "طبعا... هذا ما يحدث حين ينام المرء أمام قصر ملعون!"
لم يشهد أحد على ما حل بالمصور الفضولي، سوى الريح التي راحت تئن ببطء زاحفة وسط الغابات، و الأشجار التي تمايلت على صرخاته كأنها تؤدي رقصة الموت، كأنهن يعبرن في مشهد مسرحي عن عاقبة الفضول و الطمع!

اقترح جون أن يتابعا حديثهما في الحديقة العامة، حيث تتناثر المقاعد في هدوء على بساط أخضر يبهج النفوس. اتخذا مكانا منزويا و جلسا متجاورين، بينما بدأت غيوم رصاصية طفيفة تزحف في عرض السماء حاجبة الشمس، كأنما هيأت سماء لندن الجو الكئيب الملائم لقصة دوروثي. تنهدت بعمق، تحاول إفراغ همومها في زفرة واحدة، و روت له تفاصيل معاناة والدتها من ورم خبيث في الدماغ، لم تكتشفه إلا بعد بلوغه المراحل الأخيرة، و انطلقت دموعها رغما عنها، فأخرج منديله و جفف خديها برقة بالغة، ثم جاء صوته عميقا دافئا، كمن يتحدث من ثنايا قلبها، و هو يتأسف و يحاول تهدئتها. تمكنت أخيرا من تمالك نفسها، فقالت:
-حاولنا أنا و فيليب التماسك و المضي قدما، كان إنسانا رائعا، فكما عوض غياب أبي، حاول إخفاء آلامه بعد رحيل أمي، و انشغل بمواساتي، أمضينا معا بعد وفاتها ثلاث سنوات رائعة، كان الأب و الأم و الصديق بالنسبة لي، علمني الرسم، و جعلني أرى الحياة بشكل مختلف و جميل جدا، ثم فجأة... رحل هو أيضا...!
وضع جون يده على كتفها مساندا، فتابعت مستمدة القوة من وجوده:
-فقدت الرغبة في فعل أي شيء، أغلقت المحترف، و لازمت البيت لأيام، كنت أسأل نفسي باستمرار: "مالذي سيحدث أسوء مما حدث؟" و جاءت الاجابة سريعا بعد شهر من وفاة فيليب، في ذلك اليوم فتحت الباب لأجد نفسي في مواجهة والدته و شقيقه، علمت في ما مضى أنه كان على خصام معهما، و كدت أنفجر ضحكا و أنا أسمعهما يقولان أنني غريبة عنه، و لا يحق لي أن أرثه! فهمت حينئذ فقط لِمَ لم يكن على وفاق معهما، و استغربت كيف لشخص طيب و راق مثل فيليب أن يحمل نفس الدم الذي يسري في عروقهما؟! كانا يتحدثان عن قيمة منزله و محترفه و لوحاته... كما لو أن رحيله لا يعني شيئا سوى ما سيدره من مال في جيوبهما!
-ماذا فعلت بعدها؟
رفعت كتفيها و لوت فمها قائلة:
-تركت كل شيء و غادرت، لم أتناول في حقيبتي سوى المال الذي جمعته من العمل في المحترف، و جواز سفري، و بعض الثياب اللازمة، حتى هدايا فيليب لي في أعياد ميلادي تركتها، و اللوحات التي علمني فيها الرسم، و أغراض أمي، و صورنا معا، جميعها ظلت هناك، لم أحمل معي سوى الذكريات العالقة في رأسي.
-أفترض أنك قررت أن تأتي إلى بلدك الأم و تبني حياتك من هنا!
-تماما... أتيت بأمل كبير في أن أجد على الفور عملا و مسكنا لائقين، لكن هيهات! من ذا الذي يوظف فتاة في التاسعة عشر من عمرها، لا خبرة لها و لا شهادة تؤهلانها لأي عمل، بحثت عن معرض أو محترف لأن ذلك هو العمل الوحيد الذي أجيده، إلا أنني خبت. لحسن الحظ وجدت فتيات رحبن بي في شقتهن، و تقاسمت معهن أجار أول شهر، ثم نفذ مني المال، و كان لزاما إن استمر سكني معهن أن أدفع ما يقع على عاتقي أجارا أو مصاريفا، فتركت الشقة و بالصدفة دلفت مقهى سبنسر، و لاحظ و هو يقدم لي القهوة أنني أبحث في الجرائد عن وظيفة، فعرض علي العمل كنادلة عنده، و أخبرني أنني محظوظة، إذ يمكن أن أشغل الغرفة الملحقة بالمقهى، التي كان يستعملها النادل السابق كمسكن له، فوافقت... و بقية القصة تعرفها.
أفلتت من جون تنهيدة طويلة، و سأل بشكل عفوي:
-ماذا عن موت فيليب؟ هل كان طبيعيا؟
ارتعش فمها، و ظللت عينيها الزرقاوين بأهدابها الطويلة، فأدرك جون بحدسه أنه ركز على تفصيل كانت دوروثي قد تجاوزته عن عمد، أجابت بصوت متهدج تعوزه القوة:
-كان يعاني في صمت... و لم يخبرني بتعب قلبه، وفاة أمي و كتمه لحزنه أمامي... جعلا قلبه يتحمل أكثر مما يستطيع، و هكذا... تعرض لسكتة قلبية مات على إثرها!
أجهشت بالبكاء و هي تردد بصوت مهزوز:
-أحيانا أشعر أنني قتلته...
و بحركة سريعة ضمها إلى صدره مربتا على شعرها بحنان، و قال برقة:
-اهدئي يا صغيرتي العزيزة!
ابتعدت عنه قليلا و شرعت تجفف دموعها، ثم ضحكت بنعومة حين مازحها قائلا:
-يبدو أن هناك ما هو أخطر من الجمال و الخجل عند الجنس اللطيف، إنها الدموع بلا شك.
اختار جون مطعما قريبا بعدما اتصل و حجز هناك طاولة لشخصين، و بينما هما يتناولان شتى أنواع الطعام الشهية، عرض عليها العمل معه. تلعثمت دوروثي و هي تمسح فمها بعد الوجبة الفاخرة:
-أنا... أعمل معك؟ كيف ذلك؟... أعني... اوه يا إلاهي! أنا لا أملك خبرة تؤهلني للعمل، و لا أحوز شهادة تتيح لي شغل أي وظيفة... مهما كانت سهلة و بسيطة!
-لا عليك... وافقي و ستتحصلين على الشهادة، أما الخبرة فتأتي مع الممارسة!
عجزت دوروثي عن استيعاب مرمى كلامه، و نظرت إلى الأطباق الفارغة أمامها، فبدت لها تشبه عقلها الخالي، الذي لم تقتحمه سوى تساؤلات عقيمة، فأضاف جون مفسرا و هو يسدد الحساب للنادل:
-إن سكرتيرتي فانيسا كريغ، كانت قد تركت العمل منذ ما يقارب الشهرين، فلم يعد بمقدورها مواصلة مهامها، خوفا على صحة جنينها، و بما أنني كثير السفر... فإنني بحاجة لمن يعتني بالشركة في غيابي.
لم تقطع حديثه كانت تصغي إليه باهتمام شديد، و استمر جون يقول و هما يجتازان بوابة المطعم نحو سيارته:
-أمضيت فترة عصيبة و أنا ألعب دوري المدير و السكرتير معا، آن الأوان لأعين شخصا يساعدني، و أجدك مناسبة تماما للمنصب.
فتح لها باب السيارة و أشار عليها لتتخذ مكانها، ثم ما هي إلا لحظات حتى قبع إلى جوارها خلف عجلة القيادة، و أضاف بنبرة كلها حماس:
-سأسجلك في دورة لتتلقني دروسا في السكرتاريا، عادة هكذا دورات لا تزيد مدتها عن شهر، و ذلك كاف، ستكون الدروس النظرية صباحا... و التطبيق مساء في الشركة. أما عن السكن... فستكون لك شقة في بناية «أندرسون» بشارع «سكواير ميل» التي لا تبعد عن مقر الشركة سوى ببضع أمتار، فشعار شركتي الأول: "لا للتأخير! " لذا أحذرك يا آنسة غرين.
ضحكت بمرح و علقت على كلامه في خجل بالغ:
-هذا كثير علي، أنت طيب جدا...!
-كلا...!!
نفى جون بشدة ثم أضاف مبتسما:
-تستحقين أكثر من ذلك صدقيني! لقد ولى زمن المآسي و الشقاء يا دوروثي، أريدك منذ هذه اللحظة أن تنظري إلى الشمس و أنت واثقة كل الثقة... أنك تستطيعين القبض على نورها بين أصابعك، بل أريدك أن تضعي نفسك موضع الشمس، لأنك كذلك حقا!

كان فيكتور أدامو جالسا في مقعده، و قد هم بربط حزامه بعد سماعه إشارة الانطلاق، الرياح القوية تحمل الطائرة نحو بلجيكا، لم تكن قد مضت ساعات على جنازة والدته لويزا، آخر من تبقى له من عائلته. تطلع للأسفل فرأى «باريس» الجميلة قد أصبحت مجرد نقطة بعيدة، تلك المدينة التي كلما زارها تذكر وجها واحدا فقط، إنها... مارثا كولين! لقد كان يعيش هانئا في فرنسا مع والدته المسنة، و الآن ها هو مشتت وحيد في تلك القرية الغريبة عنه، لولا الرسالة التي تلقاها من مارثا و التي ترجته فيها أن يساعدها و يجد من يشتري منها القصر المهجور، لظل مع والدته بعيدا عن كل ذلك، لما كان اليوم يترك «باريس» الحبيبة و يرحل عائدا إلى «سيليس» و «الأبراج الزرقاء» و... «بلاك كاستل»! تأوهت روحه بحسرة... إنه الحب! الذي داهمه بقوة... و نهش قلبه، و لم يتمكن من نسيانه أو تجاوزه على مر السنين، حب جارف عاصف، قوض كل مقاومة صدرت منه.
كان فيكتور بروفيسورا محاضرا يتنقل بين فرنسا و بلجيكا و ألمانيا ملقيا محاضراته حول الهندسة المعمارية، و صادف أن شدته شابة جميلة بريئة الملامح دافئة النظرات، فسرَّ قلبه أن يتوقف بين الحين و الآخر عن الشرح... ليرقب التباين الساحر بين شعرها الأشقر و عينيها السوداوين!
و حدث مرة أن كانت مارثا تعبر الشارع فصدمتها سيارة، و نزل السائق مذعورا لتفقدها، فإذا به نفسه البروفيسور أدامو. كانت في حالة إغماء، فنقلها لأقرب مستشفى، و أسفر الحادث عن كسر في الساق اليمنى، فما كان منه كرجل نبيل إلا أن يتعهد بإلقاء المحاضرات في منزلها بعد انتهاء دوامه في الجامعة. و هكذا... قامت صداقة قوية بينهما، و رغم فارق السن الذي تجاوز العشر سنوات... إلا أن فيكتور لم يستطع منع نفسه من حب مارثا!
على حين غرة... جذب انتباهه صوت مذيعة التلفاز المثبت في سقف الطائرة، فتسمرت عيناه الزرقاوان الغائرتان بتركيز كبير على الخبر المنقول، و سمعها تقول: "اختفاء مصور فرنسي يدعى لويس هوميه في ظروف غامضة، كان من المفروض أن يعود ظهر اليوم إلى مقر الجريدة في «نامور» ببلجيكا، بعدما كان في مهمة بقرية «سيليس» ليلتقط صورا للقصر المهجور «بلاك كاستل» و..."
ضاعت كلمات المذيعة الباقية، فقد شحب فيكتور شحوب الموتى، و جحظت عيناه و أصابه ذهول حد الصمم! و تمنى لو يصرخ بالطيار ليقوده بسرعة جنونية نحو «سيليس» مباشرة.
-اللعنة!!
فرت شتيمة من بين شفتيه المزمومتين غيظا، حتى أن المرأة التي كانت تجاوره في المقعد رفعت حاجبيها و حدجته بنظرة غريبة، ثم صرفت عنه وجهها المصبوغ بمساحيق التجميل إلى مجلة الموضة التي لم تتركها منذ إقلاع الطائرة!
أمضى فيكتور ما تبقى من الرحلة إلى «بروكسل» متضايقا، و سرعان ما استلم سيارته من المطار، و التهم الطرقات مسرعا، كمن يطارد الزمن، و هو يردد بصوت مخنوق: "أغيب ليوم واحد فتحدث كارثة!"

انبهرت دوروثي بالبناية الشاهقة و هي تترجل من سيارة جون، و مضت تعلق ضاحكة بينما النسيم يتلاعب بخصلات شعرها الذهبية:
-أتسمي هذه بناية؟ إنها ناطحة سحاب!
شعرت بأصابعه أسفل ذراعها ليقودها إلى الداخل و هو يقول بمزاح:
-حسنا... دوروثي غرين، ناطحة «أندرسون» ترحب بك!
-كنت أعلم أنك واسع الثراء، لكن لم أتصور أن لديك بناية بهذا العلو و الجمال!
-هل ستصدقين أن هناك أجمل من هذه البناية؟
كان يقصد قصر أجداده، فلم يشك جون يوما أنه سينجح في استعادته و ترميمه، ليغدو أبهى مما كان عليه في القرن الماضي. أجابت دوروثي مبهورة:
-لديك أجمل منها؟ أنت محظوظ... و لا بد أنك سعيد بما تملك!
قالت ذلك حين بدأ المصعد يرتفع بهما، فعقب جون على كلامها بنبرة حزينة:
-السعادة ليست بما يمتلكه المرء من مباني شاهقة... و ما تمتلئ به حساباته البنكية من أموال طائلة، حتى لو ملك الشمس في يمينه و القمر في يساره... لما استطاع أن يكون سعيدا و هو وحيد!
أتم تلك العبارة و غرق في شرود عميق، تتقاذفه الذكريات الحزينة. فكرت دوروثي في عمق كلامه، فتذكرت طفولتها السعيدة في قرية «بيبوري»، و الهناء الذي تذوقته مع فيليب حين تبينت معدنه الأصيل! لم تكن تلك السعادة يوما تتطلب أكثر من البساطة المطعمة بالحب، و المحلاة بالصدق! ابتسمت لشريط الذكريات الذي مر أمامها، و إلى جانبها رجل عابس، يتجرع المرارة، و يجتر آلامه في صمت! و رغم ذلك... كان لديه أمل في أن جزءا من سعادته سيحظى به إن ظفر بـ «بلاك كاستل» من فيكتور أدامو، و من يدري؟ ربما الجزء الآخر من السعادة... مع دوروثي!
و أفاقا على انفتاح باب المصعد، فوجدت دوروثي نفسها في ردهة واسعة، و لاحظت وجود بابين متقابلين. أشار جون إلى أحدهما قائلا:
-ستكون هذه شقتك يا دوروثي.
ثم وجه إصبعه للباب الآخر و أضاف:
-أما هذه... فشقتي أنا، نحن الآن في آخر طابق، في السابق كان طابقي الخاص، و منذ اللحظة أصبح طابقنا المشترك. تعالي لتلقي نظرة على شقتك، أعتقد أنك ستحبينها كثيرا!
مشت في أعقابه بحياء، لقد قال أنها ستكون قريبة من الشركة، و الآن تبين أنها ستكون قريبة منه أيضا! تلكأت خطواتها عند المدخل قليلا... فاستعجلها قائلا:
-هيا يا دوروثي... إنها شقتك فلا تتصرفي كما لو كنت ضيفة فيها!
مضى جون يفتح بابا تلو آخر، و يتنقل من غرفة إلى غيرها، و هو يحدثها عن مزايا الشقة. وصلا إلى المطبخ، فقال:
-و إجمالا يا آنستي... ستوفر عليك هذه الشقة متاعب عديدة، هناك غسالة للصحون، و أخرى للملابس، بالإضافة إلى ثلاجة كاملة الحجم... و مايكرويف.
ابتسمت دوروثي و هي تردد عبارات الاعجاب بكل زاوية و غرض، و سحرها المنظر الذي تطل عليه غرفة الجلوس، حيث بدا شارع «سكواير ميل» مبهرا ببناياته التي تناطح السماء بشموخ، و زجاجها الذي يلمع تحت وهج شمس العصر. استرخى جون على الأريكة الرمادية، التي كسرت كآبتها بعض الوسائد البيضاء و الحمراء، ثم هب واقفا على قدميه حين طرقت باله فكرة ما. طلب من دوروثي أن تنتظره ريثما يعود، و بينما هي تعيد التجول في أرجاء شقتها الجديدة، دلف مجددا من الباب، و بالكاد كان رأسه يُرى من خلف كومة الأغراض التي كان يحملها، فهرعت إليه تساعده.
تساءلت قائلة:
-ما كل هذا؟
-لحم، خضار، فواكه، و بعض المواد الأخرى الضرورية. هل كنت تتوقعين العيش في شقة خالية من الطعام؟!
بسطا الأغراض على طاولة المطبخ، و باشرا ترتيبها معا، بعدما شكرته بحرارة على كل ما يفعله من أجلها. قال و هو يناولها علب الحليب:
-ضعي هذه في الثلاجة، مهلا! سآخذ واحدة لأعد الشاي لنا، و ها هي ذي علبة الشاي هنا.
التقطها و أضاف:
-أحضرت القهوة أيضا إذا كنت ترغبين بها الآن.
-كلا! سأشرب الشاي معك، أحب الشاي كثيرا.
بدأ جون بصنع الشاي، و هو يروي لها كيف تعلم ذلك من والدته مارثا، مما ذكر دوروثي بوالدتها، فحتى في فرنسا كانت تحافظ على عادة شرب الشاي الإنجليزي كل مساء. تركت أطياف الماضي تنساب من بين ثنايا مخيلتها، و أثنت على براعته بعد أول رشفة من فنجانها.
بقيت لوحدها، بعدما غادر جون فور انتهائه من احتساء الشاي، حاولت جاهدة مناجاة النوم، و ها هي تفكر في أحداث ذلك اليوم المذهلة، يا لغرابة الحياة! كيف تنتقل بالإنسان من السعادة إلى الحزن، و من الحزن إلى السعادة؟ في الصباح فقط كانت تلعن حظها العثر الذي أوقعها في يد كليفورد سبنسر، و الآن أصبحت تمتن لنفس الحظ الذي قاد جون إلى تلك المقهى، الحظ الذي جمعها به! تُرى إلى أين سيأخذها هذا الحظ بعد ذلك؟
بينما كانت دوروثي تغط في النوم أخيرا، كان جون على متن الطائرة متوجها إلى بلجيكا، انطلق من مطار «هيثرو» عند الواحدة بعد منتصف الليل، و حط بعد ساعة في مطار «بروكسل». أمضى ما تبقى من الليلة في فندق بالعاصمة، دون أن يغمض له جفن، و عند أولى ساعات الصباح... استأجر سيارة، و شق بها طريقه نحو مقاطعة «نامور» حيث تقع قرية «سيليس».
صدق من قال أن «نامور» أنسب مكان للعشاق في بلجيكا، سُحر جون بصفاء أنهارها، و هندسة حصونها، و شعر و هو يرى الكنائس الباروكية، و القناطر الحجرية، و الأسقف الرائعة، كأنه يعبر إحدى مدن الرومان في العصور الوسطى. و كرجل مجال عمله العقارات، و كإبن لمهندس عبقري، فقد قدر جون قيمة ما تزخر به «نامور» من إرث تاريخي عريق.
بعد ساعة تقريبا، أخذ جون طريقا فرعيا ينعطف باتجاه قرية «سيليس»، كان قد ترك «نامور» و هو يراقبها في مرآة سيارته تنسحب للخلف، و حلت محل الشوارع ذات الطابع الروماني، غابات «آردين» التي تبدو لا نهاية لها، آلاف الأشجار العملاقة التي كانت تحف جانبي الطريق، و مساحات شاسعة من التلال الوعرة، تلوح غارقة في غلالة من نور بهيج، و رؤوس أفراد الغزال التي كانت تطالع السيارة الغريبة من كل حدب و صوب في ذعر صامت، كل ذلك خلب لب جون، حتى هيء له أنه يقوم بمغامرة نحو المجهول!
اختلف صباح ذلك اليوم بالنسبة لدوروثي، فبعد استيقاظها باكرا، و تناولها الشاي و الخبز المحمص، طرقت على باب شقة جون... فأدركت حين لم يفتح و لم يجب أنه لا بد في الخارج، و فكرت و هي تفتح حقيبتها و تختار ثوبا قطنيا أزرق اللون لترتديه، ربما استيقظ أبكر منها و قصد الشركة! سارت في الشارع المالي «سكاوير ميل» بضع خطوات، و توقفت تتأمل شركة «أندرسون» الباسقة، و قد انعكس بريق الزجاج الفيروزي للمبنى في عينيها الحالمتين، فبدتا أخاذتين. كان يغمر قلبها شوق غريب لرؤيته، لكنها قاومت ذلك الشوق و تمردت على رغبتها في زيارته، و هي تتمتم لنفسها متابعة السير: "كلا يا دوروثي... لا تتحامقي الآن! ربما زيارتك ستقطع عليه عمله المهم، ثم إنه لم يشر إلى موعد إنطلاق دروس السكرتاريا بعد، و من يدري؟ قد لا يكون في شركته، فهو رجل أعمال كثير السفر!
قطعت شارع «بيكاديلي» دون أن تجد شيئا تقوم به، فلم تعتد البقاء دون عمل يشغل وقتها. كانت تقلب رأسها و تعدو بخطواتها الصغيرة من شارع لآخر لقتل الوقت، و بعد مسيرة طويلة... ألفت نفسها في شارع «بوند ستريت» تنزلق نظراتها المتأملة على واجهات المحلات، ثم عادت أدراجها و هي تستعيد الساعات الرائعة التي قضتها مع جون، و دون أن تشعر بنفسها، أو أن تعي لذلك سببا وجيها، وجدت ساقيها تقودانها بخفة إلى ميدان «طرف الأغر» ثانية! و لأول مرة شعرت دوروثي أنها غريبة عن لندن، و فرت تمتمات خفيضة من شفتيها الحائرتين:
-تُرى أين أنت الآن يا جون؟

وقف جون أمام قلعة «الأبراج الزرقاء» مدهوشا بروعة تصميمها، لم يكن مهندسا بارعا كوالده بنجامين جوناثان أندرسون المعروف، لكنه من خلال عمله في العقارات، كان ملما بهذا المجال، يقدر الأعمال الأثرية الفذة، التي تنطق فنا و حضارة، و يوليها اهتماما خاصا. و بينما هو يحاول تقدير ارتفاع الأبراج المكسوة بمخاريط زرقاء تحاكي زرقة السماء الصافية، تناهى إلى مسامعه نقر على الأرض، فالتفت صوب الصوت يطالع مصدره، و فوجئ برجل يمتطي حصانا أبيضا. كان يبدو في بداية العقد التاسع من العمر، قد غزا الشيب شعره الطويل و لحيته الكثة. أيعقل أن يكون هو؟
تأرجح نظره بين جون و السيارة، ثم قال باللغة الفرنسية:
-كيف يمكنني مساعدتك أيها الشاب؟
-إذا لم أكن مخطئا... فأنت حتما السيد فيكتور أدامو!
ترجل العجوز عن حصانه، و قد لمس اللكنة الغريبة التي تحدث بها هذا الزائر، و لاحظ جون قامته المديدة، و لياقة بدنه، فأدرك أن من الظلم تخيله كشيخ هرم. مد يده ليقدم نفسه قائلا:
-جون أندرسون، رجل أعمال و صاحب شركة «أندرسون» العالمية للعقارات.
تلقى فيكتور اليد الشابة ببرود، حتى خيل لجون أنه فور سماع اسمه سيطلب منه الرحيل، لكنه عاكس توقعاته، و دعاه للدخول إلى باحة القلعة، و هو يسحب لجام الحصان بهدوء، ثم سلمه للسائس بعدما ربت على عنقه البيضاء، و قال:
-أطعمه يا طوم، فبعد هذه الجولة الطويلة في الغابة، لا بد أن شهيته مفتوحة.
ناول اللجام لطوم ثم التفت ليصب جام اهتمامه على ضيفه المتوقع، مضيفا:
-جينيور حصان شره، و مع ذلك فهو سريع و قوي البنية.
ابتسم جون و قال معلقا:
يبدو من نسل أصيل!
-إنه من سلالة عربية.
لاحظ جون لمعة حزن في عيني فيكتور و هو يراقب السائس يبتعد بحصانه نحو الاصطبل، ثم فجأة أفاق صاحب القلعة من شروده، و واصل مخاطبة ضيفه بالبرودة ذاتها التي صافحه بها قبل قليل، فقال:
-حسنا يا سيد أندرسون! لقد توقعت قدومك بعدما أخبرتني مدبرة قلعتي عن زيارة وكيل أعمالك لي أول أمس، و بما أنني سمعت عن عنادك في كسب الصفقات، و قدرتك المذهلة على الإقناع، توقعت أن تأتي عاجلا أم آجلا لتقنعني ببيع «بلا كاستل»، لكنك ستلقى ما لقيه سابقوك من رجال أعمال و مستثمرين، مع ذلك! أرحب بك في قلعتي المتواضعة لتشاركني وجبة الغداء، لأنني أحترم شخصك كشاب ذكي و جريء، فما سمعت عنك إلا و تم وصفك بالكياسة و الفطنة، حتى أن هناك من لقبك بـ «حاصد العقارات»!
أفلتت ضحكة قصيرة من جون إثر ذلك، و عقب:
-هذه شهادة أعتز بها... خاصة من رجل مثلك، فقد بلغني أنك بروفيسور و مهندس فذ، و ذلك واضح من تصميم قلعتك الأخاذ!
-عنيد و ماكر!! تحاول رمي طعمك المعسول لصيد ثقتي، طبعا... التجارة مكنة وقودها المكر!
عبس جون و هو يستأنف الحديث:
-أسأت فهمي يا سيد أدامو، فأنا أريد «بلاك كاستل» لأن هناك سببا شخصيا يربطني به.
-حقا! و أي سبب شخصي هذا الذي يربطك بذلك القصر المهجور؟!
-مارثا كولين... كانت والدتي.
أدرك جون وقع الاسم عليه، حين لاحظ جموده و اتساع حدقتي عينيه، فأحجم عن متابعة الكلام، ريثما يستعيد وعيه من الصدمة، ثم انتبه مرتبكا للصدمة الثانية التي ستطاله حين وجه إليه فيكتور سؤالا تثاقل بين شفتيه:
-كانت! لِمَ... لماذا تقول كانت؟!
-لأنها توفيت... كان ذلك حادثا أودى بحياة والديَّ معا!

نهاية الفصل الثاني.

Ga verder met lezen

Dit interesseert je vast

141K 6.4K 53
"أتحب أنتَ هكذا" "لو أُريكِ وأوقعكِ به، لـ علمتي ماهو حُب مالك" "دع حُب مالك لـ مالكه، لستُ بحاجه حُب كهذا" "أنتِ غيمـه نقاء أحاطت بقلبي فأزهرته، روح...
11.8K 418 18
«منحاز لنفسي ومتعصب لأفكاري .. لا أملك وقتاً أصرفه التفنيد وجهة نظر يقف خلفها حاقد ناقم .. ولا ذرة احترام أقدمها لمتغطرس متعال .. مكلف بجنوني .. متعا...
33.9K 933 13
انها ليس حبًُ عادياً انها هوس
19.5K 3.2K 13
تم النشر تاريخ ٢٠٢٣/٨/٨ يوم الثلاثاء بقلم شمس العراقية