الفصل الثاني: قطعة من الشمس

758 94 9
                                    

رفعت القدح إلى شفتيها، و أخذت رشفة طويلة حتى كادت تفرغ محتواه، ثم أعادته إلى الطاولة، قبل أن ترمي ببصرها إلى بعض الورود التي تزين الحديقة المجاورة للمقهى. لاحظت دوروثي أن الجو جميل جدا و ابتسمت دون أن تشعر بالرجل الذي جلس أمام جمالها هي صامتا مأخوذا بكل حركة من حركاتها العفوية!
-يبدو أنك تتوقين لجولة في هذا الجو اللطيف!
التفتت إليه بحركة سريعة من رأسها، و اتسعت ابتسامتها حتى لمعت أسنانها الناصعة، مما أسعده فتابع قائلا:
-حمدا لله أنك ضحكت! خشيت أن تعزفي عن الابتسام لأنني فتحت دون قصد جراحك.
هزت رأسها نفيا، و ارتشفت ما تبقى من قهوتها، ثم ردت بمرح:
-يدهشني أنك دائما تقرأ أفكاري!
-آمل ألا يزعجك أن أتطفل على ما يدور في هذا الرأس الجميل!
-بالطبع لا! يريحني أن تقرأ أفكاري... و يوفر علي الكثير، فانا لا أجيد التعبير عن نفسي.
علت وجهه ابتسامة عريضة، ثم قال:
-لن أكذب عليك دوروثي، قراءة الأفكار ليست مجرد هواية بالنسبة لي، ساعدتني هذه المقدرة كثيرا في اكتشاف من حولي، لقد درست علم الفراسة، و حرصت على تطوير مهاراتي في هذا المجال، لأكون خبيرا في قراءة وجوه الذين أقابلهم، و النفاذ إلى أعماقهم.
همهمت دوروثي مقدرة مدى أهمية هذا المجال العظيم، ثم طرفت بجفونها و هي تسأله:
-هل أفهم أنك طبيب نفسي أو ما شابه؟
-كلا! إنما أنا رجل أعمال و...
توقف عن الكلام فحثته على المواصلة مستفهمة:
-و ماذا؟!
-و روائي أيضا.
-روائي؟
لم يتوقع ردة فعلها حين دفعت الكرسي إلى الخلف، و شرارات الغضب تتطاير من عينيها، قالت بحنق:
-يا لي من حمقاء! ظننت لوهلة أنك شخص شريف و طيب... و متعاطف معي، بينما كنت حضرتك تقرع الطبول لعثورك على رواية جديدة تكتبها!
انطلقت خارج المقهى لا تلوي على شيء، سار في أعقابها مسرعا حتى أدركها، و استوقفتها يده القوية. تفرس فيها بنظرات غاضبة، لكن سرعان ما تلاشى غضبه حين لمح مآقيها المحمرة. فهمس بلطف أثر فيها:
-يا صغيرتي إنك حمقاء فعلا! أظننتني حقا روائيا تافها يستغل مآسي الناس سعيا خلف الشهرة و المال؟ على كل كلاهما معي... و أنا في غنى عن المزيد!
انتفضت كقطة مذعورة و قالت بحدة:
-أنا لا أعرف عنك شيئا سوى اسمك الأول! فكيف لا أظن بك الظنون؟
-أنت محقة.
اجابها بهزة من رأسه موافقا على ملاحظتها، ثم أردف مبتسما:
-كنت سأطلعك على أهم سر في حياتي عاجلا أم آجلا...
سحب نفسا عميقا، ثم مد يده إليها و تابع ممازحا بلهجة رسمية:
-أقدم لك نفسي يا آنسة غرين! أنا جون أندرسون.
لاحظ الاندهاش عليها، و بالكاد تمكنت من مصافحته، فلم يضف شيئا إذ تيقن انها عرفته! حركت جفونها بسرعة ثم قالت بذهول:
-أنت... رجل الأعمال المعروف؟ الملياردير جون أندرسون؟!
اكتفى بإيماءة من رأسه مؤكدا لها ذلك، فسارعت لتضيف في نبرة استفسار:
-سمعت عنك كثيرا في «باريس»، فصفحات التجارة و الأعمال في الجرائد لا تخلو من اسمك، لكنك قلت منذ قليل انك روائي!
-صحيح! هذا هو سري الصغير، و لا أحد من المتعاملين معي يعرف أنني كاتب.
-لكنني أعرف كل الروائيين الانجليز، لماذا لم أسمع عنك إذن؟
انحنى برأسه إلى الأمام، و قال هامسا:
-لأنني أستبدل اسمي الثاني باسم باركر، و لا أضع صورتي على ظهر الكتاب، حرصا مني على الفصل بين مهنتي و هوايتي، لا أحب أن يقرأ أحد أعمالي فقط لكوني شخصية معروفة.
فغر فم دوروثي من الدهشة، و بدت مصعوقة بما سمعته، فطنت أخيرا من ذهولها، و نظرت حولها محاولة السيطرة على حماسها و فرحتها، ثم قالت بهمس حتى لا تحدث جلبة و تلفت أنظار المارة إليه:
-أنت جون باركر؟ يا إلاهي! أتعلم أنني قرأت كل رواياتك؟
-أفعلت حقا؟
كانت نبرته حنونة و نظرته دافئة، مما جعل حمرة الخجل تزحف سريعا إلى وجنتيها، بينما أطلق جون ضحكة قصيرة و أضاف:
-لقد أخذنا الحديث عني، و نسيت كليا أمر الجولة!
قالت دوروثي بعفوية:
-لن تصدق مدى لهفتي لرؤية لندن عن كثب!
-أتعنين أنك لم تتجولي في لندن أبدا؟
اكتفت بهز رأسها يمينا و يسارا نافية، فسأل ثانية:
-كم مضى عليك هنا؟
-ثلاثة أشهر.
-فهمت... أمضيت أغلب هذه الفترة سجينة لدى سبنسر الوضيع!
لاحظ انزعاحها فقطب حاحبيه، و اردف متداركا خطأه:
-المعذرة! ما كان يجب أن أذكرك به.
-أرجوك لا تعتذر! لقد فعلت الكثير من أجلي، و في المقابل آذيت شعورك بتصرفي الأرعن، أنا التي عليها الاعتذار.
نظر إليها بعبوس، ثم ابتسم بمرح، و قال محيطا كتفيها بذراعه:
-لا داعي لاعتذارك يا صغيرتي، كان تصرفك من باب الحذر، هيا بنا! هناك الكثير لتريه.

قصر الشمس|Sun Castle Where stories live. Discover now