الفصل الرابع: و عادت الشمس لقصرها

646 83 10
                                    

كان العرض الذي قدمته دوروثي مذهلا، حيث أعرب العملاء اليابانيون عن إعجابهم الشديد بمخططها، فقد تمحور موضوع الصفقة حول مبنى أثري مهجور في إفريقيا، كان في السابق مسرحا للفنون -خاصة عروض الأوركسترا-، و حين سارع جون لشرائه من مالكه ليجعل منه ملجأ للأطفال المرضى بالسرطان و ذوي الاحتياجات الخاصة في تلك المنطقة، تدخلت شركة يابانية طارحة عرضها المتمثل في تحويل المسرح إلى مختبر تقني. و هكذا دعا جون ممثلي الشركة اليابانية لعقد اجتماع في «لندن»، من أجل بحث الفكرتين و الوصول إلى إتفاق يخدم الطرفين، و كان في نيته أن يقترح تعاون الشركتين معا، ليكون ذلك المسرح ملكية مشتركة، فينشر العلم هناك، و به ينتفع الأطفال. أما عن فكرة دوروثي فقد كانت العبقرية عينها، إذ جمعت بين الموسيقى التي هجرت ذلك المسرح المتداعي، و بين حلم جون في إسعاد الأطفال الأفارقة و بث الأمل في قلوبهم، و رغبة اليابانيين في نقل التكنولوجيا الجد متطورة إلى إفريقيا. حيث قالت بحماس منقطع النظير:
-أقترح أن يظل الهيكل الدائري الأصلي للمسرح كما هو، مع إدخال بعض التعديلات في أجزائه المهدمة، و أن يشيد حوله بناءين مشابهين في شكل حصن روماني، على الطرف الأيمن مثلا المختبر التقني، و على الطرف الآخر مشفى الأطفال، سيتمكن أصحاب المعرفة من ارتياد المختبر، و قد يصطحبون في أيام العطل ذويهم لحضور حفل موسيقي بالمسرح، و هناك يلتقون بأطفال المشفى، فيقررون زيارتهم و التبرع لفائدتهم، أو تحسيس الغير بذلك! و كإسم لهذا المشروع الرائع... فكرت في عبارة: "أرض السلام"، و بهذا التصميم يا سادة... نحيي الفن... ننقذ حياة الأطفال... و أيضا لا نخسر العلم!
هتف أحد اليابانيين مصفقا، و هنأ جون على سكرتيرته الذكية، فيما اكتفى هذا الأخير بالتحديق فيها بامتنان عميق. و أغرق وجه السيد كريغ في الدهشة، فلم يكن هو أو زوجته فانيسا المتفانية في عملها أن يفكرا في اقتراح يجمع بين المستحيلات كما فعلت الآنسة غرين. الآن فقط فهم لِمَ رأى فيها رئيسه شيئا مميزا رغم صغر سنها، شيء كان في جون أندرسون نفسه، إنه الذكاء الممتزج بالإنسانية!
عقب توقيعهم العقد و انصرافهم، اتجه جون إليها بينما كانت تجمع أوراقها، و أدارها نحوه ممسكا بكتفيها الهشين من فرط الرقة و النعومة، في حين وقفت هي بين يديه كدمية حائرة، و ظل يمطرها بنظراته المستغرقة في ملامحها المتوردة خجلا، حتى خالته سيعكف على ذلك الصمت إلى الأبد. إلا أنه قال فجأة بلطف:
-كنت واثقا من أن اجتماع اليوم سينتهي لصالحنا، لكني لم أتوقع هذا العرض العبقري!
-اوه! سيدي المحترم... هل كنت تشك في كفاءتي؟
-لو كنت أشك في ذلك لما وجدتك مناسبة للعمل معي، فهذان الحاجبان الحادان أكبر دليل على ذكائك الفذ!
غمغمت بخجل مخفضة رأسها تكاد تدسه تحت ياقة قميصها الأبيض:
-لا تمطرني بالمديح، و إلا اعتددت بنفسي!
-و ما المانع؟ هذا حقك، أنت جوهرة نادرة!
و أمام صمتها و الحمرة التي خضبت خديها، أضاف بصوت خفيض دافئ لامس قلبها:
-هل توافق الجوهرة النادرة على تناول العشاء معي الليلة؟
طرفت بجفونها، ثم أدركت حقيقة ما سمعته، فأومأت موافقة متحاشية النظر إليه مباشرة. فكرت أنها لو واجهت عينيه، لقرأ حبها الصريح فورا. و بينما كان يغادر، طلب منها أن تستعد عند الساعة السابعة و النصف ثم أضاف قبل أن يختفي من قاعة الاجتماعات:
-خذي بقية اليوم إجازة لك.
لم تغادر دوروثي الشركة، وجدت أن الوقت لا يزال باكرا على ذلك. راجعت بعض الرسائل الإدارية و كتبتها، ثم وضعتها جانبا ليوقعها جون لاحقا. نظرت إلى ساعة يدها، إنها الثالثة بعد الظهر، في ذلك الوقت يرغب بفنجان قهوته المعتاد. استجمعت كل ذرة شجاعة تملكها و دلفت مكتبه حاملة الفنجان، فبينما يستمتع كل من في الشركة بالشاي المسائي، يفضل المدير ارتشاف قهوته المرة بين الملفات!
كان جون غارقا في أكداس من السجلات و الأوراق، رفع رأسه المنكب على العمل، و طالعها من خلف مكتبه، فتأرجح نظره بين طلتها البهية... و الفنجان الذي تحتضنه يداها. سريعا أسدلت ستائر أهدابها الشقراء على عينيها، مخفية مشاعرها العطشى إلى البوح، و همت بوضع الفنجان على المكتب.
-آسفة على المقاطعة! ها هي ذي قهوتك كما تفضلها.
هتف و قد أخذ الذهول منه كل مأخذ:
-يا للسماوات! دوروثي غرين... أنت قارئة أفكاري، خطر على بالي بينما أواصل العمل الذي بدأناه بالأمس تناول فنجان القهوة الذي تعودت على صنعه لي، و ها أنت ذي تأتينني به!!
أخذ رشفة سريعة بتلذذ و استطرد:
-ظننتك خارج الشركة منذ زمن!
-آثرت إنهاء بعض الرسائل التي لم يعد ينقصها سوى توقيعك.
-لكم انا معجب بروح العمل لديك يا دوروثي!
و غرق بعدها في الوثائق من حوله، و ضاع صوته في غياهب الصمت، فسرَّها أنه مشغول عنها، مما يتيح لها تأمل سواد شعره بارتياح، و التغلغل بنظراتها الماسحة في تقاطيع وجهه الأسمر باطمئنان، إنه لها الآن، ملك لعينيها التواقتين لاحتضانه، و كذلك سيكون الليلة في موعدهما، سيكون جون لدوروثي، ستعيش مع الحلم الذي تلاطمت به مشاعرها، و تقاذفته أفكارها هنا و هناك... في بحر شهر مضى، ستعيشه حتى لو استمر لليلة واحدة فقط!
جذب انتباهها عقد موضوع بعناية و إفراد على طرف المكتب، و دون وعي منها تناولته يداها و قرأت بصوت عال: "عقد بيع...«بلاك كاستل»! "، و سرعان ما أعادت الورقة لمكانها معتذرة، و تركت المكتب بسرعة، و هي تتخيل نظرات مديرها الغاضبة تنال من وقاحتها الفجة! و أملت ألا يرى في تصرفها التلقائي تطفلا يثير الحفيظة. لم يكن التطفل من شيمها يوما، لكن قوة عجيبة ما أجبرتها على حمل الورقة، و شدتها لقراءة ما خُطَّ عليها. ازدحم رأسها بالأسئلة و هي تعبر الشارع بين الشركة و البناية التي تسكنها، و تمتمت في سرها بفضول قوي: "لِمَ لم أر تلك الورقة بين الوثائق و العقود الأخرى؟ بيع «بلاك كاستل»؟ لماذا هذا الاسم؟ هل هو قصر فعلا كتلك القصور التي بُنيت منذ مئات السنين؟ ترى هل غضب جون من فضولي؟ رباه... أنا حمقاء!! "
كانت الساعة الخامسة قد حلت، عندما ملأت دوروثي حوض حمامها بالمياه الدافئة و الصابون المعطر، و انغمست فيه إلى غاية العنق، مستلذة الشعور المريح الذي اعتمل في أعماقها، فتراخت عضلاتها المتشنجة من العمل و السهر طوال الليلة الماضية، و سحبها النوم شيئا فشيئا إلى مملكته الآسرة. رأت نفسها مجددا في نفس الغابة، لكن... هذه المرة... ظهرت في الكابوس رموز أخرى زادت الأمر غموضا و تعقيدا، فقد تمكنت من رؤية وجه الطيف الغريب، فتاة شقراء فاتنة! في ثوب أبيض محلى بالدانتيل و العقيق الفضي كأنه من زمن آخر. أما شعرها فكان يتطاول إلى أسفل ظهرها في لون أصفر باهر كما لو أنه مرشوش بماء الذهب! مضت دوروثي تسير في أعقابها متوجسة من المجهول، و ما لبثت أن اختفت الحسناء، و توارت بين أغصان الشجر الوارفة في ثوان... كأنها لم تظهر قط! ثم بدأ فصل العاصفة التي هاجمت دوروثي بغتة، ليأتي دور اليدين الشاحبتين، امتدتا من باطن الأرض لتسحباها إلى الأعماق، تماما كما حدث سابقا. و لم ينته الأمر عند هذا الحد، فتحت الأرض كانت هناك رموز أغرب، عاد طيف الفتاة للظهور ثانية، و صارت تشير إلى دوروثي لتتبعها وسط سراديب تعبق برائحة التراب بعد المطر، و من سرداب لآخر، طال المسير بهما حتى بلغتا قاعة بدد ظلمتها نور خافت مجهول المصدر، فيما ازدحم هواؤها برائحة عفن! أشارت الفتاة إلى الأسفل... حيث يستقر صندوق أسود مرصع في جوانبه الأربعة بأجمل أحجار الزبرجد و الزمرد، و على غطائه نقشٌ ذهبي فرنسي... "سيدة الشمس"! و حالما امتدت يداها نحوه، فتحت عينيها، لتدرك بعد تلاشي دهشتها أنها مكثت في الحوض أكثر مما يجب، فقد فترت المياه و سرت في أوصالها رعشة طفيفة دفعتها للمسارعة إلى تناول المنشفة و التدثر بها، قبل أن تصاب بنزلة برد تنغص حلمها في تمضية السهرة مع جون. و بنظرة سريعة نحو الساعة الجدارية في غرفتها، أيقنت أنها قد نامت في الحوض لأكثر من ساعة كاملة.
وقفت أمام المرآة مشدوهة، تجتر دفعة واحدة ما راودها في غفوتها، علقت بذاكرتها صورة الحسناء ذات الشعر الذهبي الطويل، و هي ترشدها إلى ذلك الصندوق المذهل، كما أنها حفظت تلك الكلمات المحفورة عليه. بدا لها الأمر برمته حلما مدهشا للغاية أكثر منه كابوسا! فلم تهتز هذه المرة من غرابة الطيف، و لم ترتعب من هجوم العاصفة القوية، و لم ترتجف اضطرابا من مشهد سحبها إلى الأعماق، إنما تعملقت حيرتها، و غمرها الفضول المتعطش لمعرفة المزيد عن ذلك الطيف بهي الطلة... و ذلك الصندوق الأسود!
لاحظت الشحوب يغزو وجهها، فطردت عنها الأفكار الحائمة حول كوابيسها، واضعة نصب عينيها حلما واحدا تريد ان تعيشه الليلة في أجمل شكل، تريد أن تشعر بالسعادة، أن تلمسها حقيقة و لو لبعض الوقت. و قررت ألا تزعج جون بما رأته هذه المرة من تفاصيل جديدة، و مضت فورا بشغف تزين وجهها و تعيد إليه الحياة. لم تستخدم الكثير من المساحيق، إذ اقتصرت المواد التي اعتمدتها فقط على كحل لتحديد خطي الجفنين... و قلم حمرة شفاه قرمزي اللون تشوبه لمعة خفيفة، فبدت شفتاها المكتنزتان حول فم صغير منمنم كحبتي كرز متشحتين بمسحة عسل شفاف. ثم ختمت زينتها برقصتين قصيرتين لفرشاة خضبت وجنتيها بلون زهري ناعم، و انتقلت لمرحلة اختيار الثياب. فرشت ثوبين على السرير قد ابتاعتهما في بحر الشهر الماضي من إحدى محلات «بوند ستريت»، و بدأت تطالعهما بعين ناقدة. تراءى لها أنهما يفتقران لميزة تريدها بشدة، ألا و هي الجمال في قالب بسيط. فنحتهما جانبا، و ألقت برأسها في الخزانة من جديد باحثة عن شيء مختلف، حتى وقع نظرها على العلبة المنسية في الزاوية، علبة سوداء بشريط ذهبي! إنها الهدية!!
كان جون قد حجز في أحد المطاعم عبر الهاتف، ثم ترك الشركة عائدا إلى شقته بعد ساعتين من مغادرة دوروثي. ترنم بلحن رومنطيقي و هو يضيف اللمسات الأخيرة على بدلته، ثم رش عطره، و ها هو ذا لاحقا يطرق بابها بلهفة و ترقب.
جاء صوتها من خلف الباب معلنا في تردد ملموس:
-مرحبا! سأفتح الباب... لكن انتظر لحظات قبل ان تدخل، لا أريد أن تراني في هذا الثوب لأنني أنوي استبداله.
ادعى الموافقة على طلبها، لكنها فوجئت به يدخل مباشرة بعدما أدارت القفل، و سرعان ما أمسك بكتفيها قبل أن تلوذ بالفرار منه. لمعت عيناه بإعجاب صارخ حين أيقن أنها ترتدي الفستان الذي أهداها إياه من بلجيكا، فمسحها بنظرات تائهة، تشردت تلك النظرات على كل شبر منها، و غدا مسحورا بها إلى حد بعيد. كادت تعتقد أنه تخشب و استحال تمثالا أمامها، لولا أنه أفاق و تناول إحدى يديها طابعا قبلة عليها، ثم لفها حول نفسها، فضحكت حين انتفخ الثوب ناشرا بريقه في مسرح نظره.

قصر الشمس|Sun Castle حيث تعيش القصص. اكتشف الآن