الفصل السابع: الحلقة المفقودة

380 77 6
                                    

أشرقت الشمس طاردة وحشة الليل، و ترنَّمت الأشجار بمعزوفة بديعة ألَّفتها أسراب طيور تتنقل من غصن لآخر، بينما تدفع رياح الشمال الغيوم في الفلك الفسيح. تساءلت دوروثي خلال تناولها فنجان الشاي عما سيحمله ذلك اليوم الجديد لهم؟ أخذت قضمة من البسكويت البلجيكي المفضل لديها، ثم هبت واقفة على قدميها، و اتجهت إلى غرفة المكتب، أين أغلقت الباب على نفسها، و انزوت خلف جهاز الكمبيوتر تتلهف للعثور على الحلقة المفقودة في قصة «سان كاستل».
بحثت ثانية عن تلك العائلة، ركزت هذه المرة على الآنسة الغامضة، كانت ستيفاني كورنيل أكبر شقيقاتها سنا و أطولهن، و رغم صورها المفتقرة للألوان، لكن دوروثي لاحظت شعرها الداكن مقارنة بشعر أنغريد و الأخريات، كانت باردة النظرات، كأن أحزان العالم كله تصطخب في أعماقها، عكس شقيقاتها اللاتي ابتسمن بفرح ظاهر. و ما ألهب نار الحيرة في نفس دوروثي هو أن ستيفاني اختفت في ظروف غامضة، و تزامن اختفاؤها مع حادثة الحريق الذي شب في «سان كاستل»! راحت تذرع الغرفة جيئة و ذهابا، و تضرب أخماسا بأسداس محاولة ربط اختفاء ستيفاني بما حدث في القصر، ترى هل للحريق علاقة بما حلَّ بالآنسة كورنيل... أم أن الحادثتين تزامنتا فقط بمحض المصادفة؟! وجدت نفسها تستعيد الأحداث بتسلسل، إذا كانت أنغريد هي التي تظهر بوجه محترق لترعب جميع من في القصر، فلِمَ تظهر خارجه بشكلها الطبيعي؟! أدركت دوروثي أن الوقت ينساب من بين أصابعها، فكل دقيقة ثمينة بالنسبة لها، و لن تضيع لحظة أخرى في التخبط بين الفرضيات!
طلبت من السيدة ميركس أن ترشدها إلى عنوان السيد سالان الذي يعرف كل العائلات النبيلة في بلجيكا، ثم اتجهت إلى بيته رفقة ميشيل، حيث استقبلها فيكي سالان و زوجته بولا بكثير من اللطف و المودة. تناولت معهما وجبة الغداء بناء على دعوتهما، ثم انبرت تسأل رب البيت عن أفراد عائلة كورنيل، و ما إذا كانت شقيقات أنغريد و ستيفاني لا يزلن على قيد الحياة... أو على الأقل أولادهن إن وُجِدوا! فعلمت منه أن صوفيا أصغرهن هي الوحيدة التي بقيت من سائر أفراد العائلة، و أنها تعيش في بروكسل مع ابنتها منذ زواج هذه الأخيرة بالمحامي الشهير شارل بويل. أخذت منه العنوان شاكرة، و ما فتئت أن ناولته للسائق بينما تدلف السيارة قائلة:
-خذني إلى هذا المنزل حالا ميشيل! صوفيا هي أملي الوحيد لأجد الحلقة المفقودة.
أومأ الشاب طائعا الأمر، لتُطيعه السيارة بدورها، و تنضم إلى بقية السيارات في إحدى طرق نامور العسلية، و ما هي إلا ساعة فقط حتى توقف معلنا بلوغ العنوان المنشود. ترجلت دوروثي من مقعدها الخلفي حالما فتح لها الباب، و شدت ياقة معطفها احتماءً من برد لسعها فجأة... متأملة منزلا أبيضا ملك من الفخامة و الأبهة ما يكفيه ليتعجرف نحو السماء شامخا بقرميده الداكن، و قرأت اللافتة بارتياح: "منزل ش-بويل 107-ب"، إنه هو!
كان الجو في بروكسل يومها عابسا، عكس ما هو عليه في نامور، و قاربت الساعة آنذاك الثالثة بعد الزوال. استقبلتها امرأة في أواخر الثلاثين، و احتفت بها بشكل فاجأها ما إن ذكرت كنية أندرسون، و تزايد الاحتفاء حين علمت أن الزائرة ليست زوجة الميلياردير المعروف فحسب، و إنما هي زوجة حفيد أنغريد شقيقة صوفيا كورنيل، و أدركت دوروثي سبب ذلك الاستقبال الدافئ بعد التعارف، فتلك المرأة لم تكن سوى السيدة سالي بويل ابنة صوفيا!
ألفتها طيبة المعشر، حضورها لطيف، مشرقة المحيا، و لمست في قسماتها شبها كبيرا بوالدتها. قالت سالي مبتسمة و هي تسكب الشاي:
-أدرك حرص الإنجليز على تناول الشاي المسائي.
-اوه... الشاي نعمة عظيمة!
أخذت أول رشفة، و أردف:
-إنه ممتاز سيدة بويل!
-نادني سالي فقط عزيزتي! فنحن ننتمي لعائلة واحدة، سأستخدم بدوري اسمك الأول بدل السيدة أندرسون. اوه! أكاد لا أصدق أن مارثا ابنة خالتي نجت من ذلك الحريق المروع و أن لها ابن على قيد الحياة و يعيش في قصر الرماد! و من يكون؟
أضافت و كأنها تروي أسطورة لا تصدق:
-... الملياردير... جون أندرسون! سترقص أمي طربا لهذا الخبر.
في تلك الأثناء دلفت المنزل سيدة عجوز منحنية الظهر، تتعكز عصا عنبرية اللون، تتناسق مع زيها الكلاسيكي الأبيض، و قبعتها المستديرة العسلية، تتبعها طفلة بشعر أشقر مرفوع لأعلى كذيل حصان، و عينين زرقاوين تتقدان ذكاء.
-ابتاعت نتاليا الكثير من الشوكولاتة، احرصي ألا تتناولها دفعة واحدة اليوم!
-كيف كانت جولتكما أمي؟ آمل أن تكون حفيدتك المدللة قد أحسنت التصرف و لم تزعجك!
-كلا لم تزعجني! لكن بضع أمتار من السير أنهكتني، بينما كانت نتاليا العزيزة تسير بنشاط عظيم، باختصار... بدونا ثنائيا مثيرا للضحك، الشيخوخة و الطفولة تسيران سويا!
أمسكت كلماتها فجأة حين لاحظت بدهشة و تعب وجود ضيفة غريبة، تفرست عينا العجوز في الوجه الفاتن للفتاة الجالسة إلى جوار ابنتها، و بدت الطفلة هي الأخرى منبهرة بالزائرة، إذ أعجبت بشعرها الذهبي المصفف بعناية، و ثوبها الأنيق و معطفها الأحمر المكسو بالفرو، و لو لم تصرفها والدتها لتنجز واجباتها المدرسية، لتمسكت بالوافدة الحسناء حتى أجل غير معلوم!
أخذت دوروثي تقص على صوفيا ما رواه لها زوجها عن والدته مارثا، كيف عاشت بعيدا عن قصر عائلتها، ثم تزوجت من المهندس الإنجليزي، و استقرت في لندن بعدما باعت القصر لفيكتور أدامو، دافنة معه قصة أسطورة الشمس و العشق تحت الرماد. لكن ليس إلى الأبد! فحدثتها عما فعله جون من أجل استعادته و ترميمه للسكن فيه، ثم انتقلت بالحديث إلى أنغريد، و هدفت أن تعرف المزيد عن شقيقاتها، خاصة... ستيفاني!
ظل حديث صوفيا عن شقيقاتها عاديا، إلى أن أتت على ذكر كُبراهن، فتنهدت بعمق، و تهدج صوتها، و قالت دامعة العينين:
-كانت أكثرنا هدوءً، بيد أن هدوءها صار في خبر كان مُذ دخل حياتنا سلفاتور كولين، أوسم نبلاء بلجيكا و أثراهم، كل امرأة تراه تفتتن به، و كذلك ستيفاني، أملت أن يقع اختياره عليها... كونها الابنة البكر و المرشحة الأولى للزواج، لكنه لم يلحظها حتى بطرف عينه أمام سحر أنغريد، التي هام فيها سلفاتور عشقا و اتخذها زوجة له و شمسا ثانية لقصره الأسطوري. كانت أنغريد و ستيفاني وردتان، الأولى تتفتح و تزدان بحب سلفاتور، و الأخرى تذبل و تموت بتجاهله لها! انعزلت عنا في غرفتها بشكل غريب، خفَّت شهيتها و نحلت، و تلاشت ابتسامتها، و كلما حاولنا الترفيه عنها تجاهلتنا ببرود. ثم جاء يوم زفاف أنغريد الذي حضرته ستيفاني بجلادة و صبر!
لمحت دوروثي آلاما تكتنف ملامح العجوز و هي تجتر الماضي، و انتظرت حتى استطردت تكمل قصتها:
-استمر الوضع كذلك، و اتسعت الهوة بينهما، حتى امتنعت أنغريد عن زيارتنا بسبب الكلمات القاسية التي كانت تكيلها لها ستيفاني، كانت تتهمها بسرقة سلفاتور منها، و أنها تسببت في بقائها عانسا، ففي تلك السنوات التي أعقبت زواج أنغريد، تزوجت كل من ايزابيل و فرجينيا و ايلين، و لم يبق سوى ستيفاني و أنا، و سرعان ما بدأت أنا الأخرى أنضج و أنال إعجاب الكثيرين، لكنها لم تحقد علي كحقدها العميق تجاه أنغريد.
-ماذا حدث بعدها؟ و كيف اختفت ستيفاني فجأة؟!
-كان يوما مشؤوما، نشب شجار طويل بينها و بين أمي، قالت أن أنغريد لم تنجب وريثا صبيا لآل كولين لأنها لعنتها، ففقدت أمي أعصابها و طردتها في غمرة غضبها، و حين ندمت توسلت أبي ليعثر عليها، لكن دون جدوى، و كانت الوفاة البشعة التي مُنِّيت بها أنغريد أقسى من اختفاء ستيفاني، ظنت أمي أن الله عاقبها على طردها ابنتها البكر بحرمانها من الأخرى، فماتت من الصدمة!
وضعت دوروثي يدها على ركبة صوفيا تواسيها، و ردت عليها يد العجوز بارتعاش، ثم تحدثن عن جون و أعماله و زواجهما، و تشعبت المواضيع، فذكرت سالي تفاصيل وفاة والدها، و كيف لم تستطع صوفيا تحمل الوحدة، فأرسلت في طلبها للسكن معها في بروكسل. بعد لحظات همت دوروثي بالرحيل، و تفاجأت بنتاليا تنزل الدرج بلهفة محاولة ثنيها عن ذلك.
-أرجوك يا جميلتي لا ترحلي! أمي، جدتي، أرجوكما أقنعاها بالبقاء، لا أريد أن ترحل مثل جوليا!
حملقت دوروثي في المرأتين مستفسرة، فسارعت سالي تشرح لها:
-جوليا دمية نتاليا المفضلة، أضاعتها في إحدى جولاتها مع أمي، إنها قطعة نادرة من صنع فنان فرنسي، ابتاعها أبي لي من معرض في باريس، و حين بلغت نتاليا ربيعها الخامس، كانت جوليا هديتي لها!
صمتت قليلا ثم أضافت ضاحكة:
-الغريب أنك تشبهين الدمية جوليا إلى حد بعيد!
-اوه، الآن أفهم سبب حبك لي، فقط لأنني أشبه جوليا الجميلة!
قالت ذلك و هي تقرفص ليتساوى طولها مع نتاليا التي قاطعتها ببراءة و خجل:
-كلا! أحبك لأنك جميلة جدا! و أريد أن تبقي معنا، سمعت أمي تقول أنك من العائلة، ألا يفترض بأفراد العائلة الواحدة أن يعيشوا معا؟
-بلى! و لكن أخشى أن يحزن «سان كاستل» إذا تخليت عنه فيفقد بريقه الجميل!
-و من يكون هذا؟
-ألا تعرفينه؟!
هزت الطفلة رأسها نافية، فاستطردت دوروثي مبتسمة:
-إنه قصري الذهبي، تحيط به غابات كبيرة غاية في الحسن.
-مثل قصور الحكايات؟
أومأت دوروثي ضاحكة و قالت:
-تماما! هل تريدين لذلك القصر أن يفقد بريقه الأخاذ بسبب الحزن و الوحدة؟
أجابت نتاليا بحماس عارم:
-كلا، ينبغي أن تظل القصور سعيدة و جميلة دائما!
ثم التفتت نحو أمها تسألها بعينين متسعتين:
-أيمكننا زيارة قصر دوروثي يوما ما؟
-مؤكد سنفعل يا صغيرتي.
أردفت دوروثي على قول سالي بسعادة:
-على الرحب و السعة!
وقفت على عتبة الباب تسأل باهتمام:
-عفوا! ما اسم الفنان الذي صنع الدمية؟
-أدريان بواتييه.

قصر الشمس|Sun Castle Where stories live. Discover now