الفصل الخامس: بكاء! سقوط! و حمل!!

439 79 10
                                    

أعلن هدير الرعد بداية العاصفة، فحمدت دوروثي الله لأن زوجها عاد من لوكسمبورغ قبل ذلك بقليل، كانا يتناولان العشاء حين نظر إليها باهتمام و بادرها بسؤال مفاجئ:
-ما بك يا حبيبتي؟ تبدين شاحبة هذه الأيام! هل هناك ما يقلقك؟
لم تشأ دوروثي أن تشغل بال زوجها، و لا أن يستبد به القلق كما يفعل معها إزاء تخيلاتها و كوابيسها، فأخفت قدر الإمكان ما يجول في خاطرها عنه، و نفت شكوكه قائلة بغنج:
-لا شيء يقلقني يا عزيزي، سوى أنني أشتاق إليك كثيرا حين تنهمك في العمل، و أخشى أن أخبرك بذلك فتظنني زوجة متملكة!
فما كان منه إلا أن هب من مكانه ضاحكا و حملها بين ذراعيه، و اتجه نحو الطابق العلوي هامسا:
-إذن فلنصحح الوضع... و لنعوض ما فاتنا طوال اليوم.
و بينما كان يدخل بها الغرفة الذهبية أخفت وجهها براحتيها، فضحك و عقب على حركتها مأسورا:
-أذكر أنني قلت لك أن الجمال و الخجل تركيبة خطيرة على الرجل... ستقتلينني ذات يوم يا حبيبتي الخجولة!
أظهرت وجهها العابس بعدما أخفضت يديها إلى حجرها معلقة على كلامه بحنق:
-كفى يا جون! أرجوك... لا تتحدث عن الموت و نحن في قمة سعادتنا!!
ثم لوت شفتيها و أضافت مغيظة:
-أذكر أنا أيضا يومها حين قلت لك أنني لا أريد خسارة كاتبي المفضل!
قال جون و هو يدعي الاستياء و قد جعد جبينه كالأطفال:
-كاتبك المفضل! أهذا فقط ما أعنيه لك؟
وضعها على طرف السرير فتشبثت بعنقه و سحبته إليها، ثم قالت و على شفتيها ابتسامة مغرية:
-و زوجي الغالي... و حبيبي الأبدي!

كانت الغرفة تسبح في ظلام دامس حين تقلب جون في فراشه فأيقظت حركته زوجته، اعتدلت في جلستها تتأمل الظل الحالك للرجل المستغرق في نوم عميق إلى جوارها. تحسست وجهه و مسحت على شعره بحنان متمتمة: "يا لحبيبي المسكين! تبدو في غاية العياء من العمل اليوم".
كان الوقت آنذاك قد تجاوز منتصف الليل، الكهرباء منقطعة بسبب الرياح القوية التي عصفت بالقرية... أو هكذا ظنت دوروثي! لم تكن تحب الظلام منذ صغرها، فكلما انقطع تيار الكهرباء في بيت والديها بقرية «بيبوري» كانت تلتصق بثوب أمها إلى غاية عودة الأضواء من جديد. و في قصرها تعودت على وضع مصباح بجانب سريرها لا يأفل نوره إلى غاية شروق الشمس، لكن انطفاءه في تلك الساعة من الليل أقلقها و أثارها استغرابها، لأنها شحنته جيدا قبل النوم و ضبطت ساعة أفوله على السادسة صباحا ككل مرة.
عبثت يدها في أحد الأدراج حتى التقطت جسما أسطوانيا باردا، ثم استخرجت علبة الثقاب من درج آخر، أوقدت الشمعة فاستنارت الغرفة، و عاد الاطمئنان إلى قلبها ما إن لمحت ظلال الأشياء تتراقص منعكسة على الإطارات المذهبة للجدران و الأثاث، لكنها ما فتئت أن غصت بريقها و هي تسمع صوتا زرع فيها الرعب! و كان كفيلا بأن يقض مضجعها و يسلب جفونها النوم! هل ما تسمعه بكاء أم أنها تحلم؟
تشجعت دوروثي و هي تخطو نحو الباب يسبقها فضولها، كانت في خضم خوفها، لكنها تحررت من ترددها و عقدت العزم على اكتشاف مصدر البكاء الغريب، فتركت غرفة النوم بعدما ارتدت دثار ثوبها الخفيف، متناولة الشمعة في يد مرتعشة. تجاوزت المنعطف الذي يقود لغرفتها، و ألفت نفسها في بوتقة رواق بدا و كأنه يزداد طولا و إرهاقا لأعصابها مع كل خطوة للأمام!
سارت عدة خطوات متأنية تنادي السيدة ميركس و هيلينا، إذ كان صوت البكاء أنثويا، و لم يكن بالقصر سواهما من النساء. مرت بعدد من اللوحات المعلقة على جدران الرواق الموحش، و التي اقتناها جون فخورا بكونها أثمن الأعمال الفنية و أرقاها في العالم، كانت تتخيل تلك الوجوه المرسومة عليها و هي تتوعدها لأنها تتسكع في القصر ليلا بشمعة مضطربة الظلال... تبدد سلامهم و سكينتهم!
مضت متجاهلة كل وجه و كل نظرة لائمة على الجدران الشاحبة، بينما كان صوت البكاء يزداد قربا و اتضاحا، و تضاربت مشاعر دوروثي المتناقضة بين خوف و فضول، و نعت قلبُها المذعور من المجهول عقلَها المتمرد بخصاصة الحكمة للركض وراء أصوات قد لا تنجر عنها إلا العواقب الوخيمة! لكن عقلها كابر و استمر، فيما تقهقر القلب خائبا خلف قضبان الهزيمة، متوقعا في أي لحظة وقوع الكارثة!
كانت الجدران على جانبيها تحدث أصواتا أخرى أغرب من البكاء، قرقعة هنا و هناك، كأنها ستلد من باطن قساوتها حقائقا ماورائية تصعق الألباب. و كانت كل دعسة تأتي عليها دوروثي تحدث في الأرضية صريرا مزعجا، كأن الجدران تقرقع فراغها الكئيب عبر السنوات الخوالي، و الأرضية تئن من وطأة الماضي الذي لا يغادرها البتة!
بلغت دوروثي منعطفا آخر لا يفضي سوى إلى غرفتين متقابلتين، كأنهما متروكتان في ركن بعيد منزوٍ لا يزوره كائن كان، و لا تطرقه حتى الشمس و النسمات العابرة. كان صوت البكاء يأتي من خلف أحد البابين، تقدمت ملهوفة يتراقص قلبها رعبا مع كل أنة بكاء تسمعها، و أخذت دقاته تعلو و تشتد و هي تفتح الباب ببطء، و قد هيأت أعصابها لرؤية شبح ما، ربما شبح أنغريد!
اهتزت الشمعة في يدها المرتعشة انفعالا، و كادت تختنق في ريقها الذي ابتلعته بصعوبة، فما توقعته يمثل أمامها، ها هي ذي تقف قبالة طيف الفتاة ذات الرداء الذهبي! كانت جاثية على ركبتيها داسة رأسها ذي الشعر النحاسي الطويل بين أغطية السرير و تنتحب بقوة.
كل شيء في تلك اللحظة أكد لدوروثي أنها لم تكن تحلم أو تتخيل، أيقنت قطعا أنها لا تتوهم أطيافا كما ظنت سابقا. شعور الذهول سيطر عليها و جمدها، إلى حد كادت تجزم فيه أن علة ما لحقت بلسانها فقيدته، بيد أنها تمسكت بخيط شجاعة رفيع ظهر وسط عتمة خوفها، و قالت بصوت مهزوز:
-أنـ... أنغريد؟!
فجأة... توقف النحيب، و ارتفع رأس الفتاة الباكية بتؤدة، دون أن تنظر مباشرة نحو الباب حيث لا تزال تقف دوروثي. كان شعرها النحاسي يغطي جانب وجهها، فلا يظهر منه ما يبدي ملامحا واضحة. خطت دوروثي داخل الغرفة تريد رؤيتها جيدا، أنفاسها متمزقة فضولا و رعبا، و ما كادت تدنو منها حتى سمعت صوت خطوات راكضة تمر من خلفها في الرواق، تصفق بالأرضية كحيوان غاضب، فالتفتت مشهرة شمعتها نحو العتمة الحالكة، و ارتعبت أكثر حين عادت بنظرها نحو السرير فلم تجد أثرا للفتاة. بحثت بلا جدوى في أرجاء الغرفة، فلم يقع بصرها إلا على الفراغ!
استعادها الرواق ثانية، سارت بحيرة، تتهاتر في قلبها صرخات التحذير من خطر ما، لكن فات أوان التراجع. كررت بصوت مرتجف:
-أنغريد... أعرف أنك هنا في مكان ما، لأي سبب تبكين؟ و لِمَ اختفيت على حين غرة؟!
كانت خطوات دوروثي خفيفة كدعسات ناعمة على السحاب، و مع ذلك تواصل صرير الأرضية كزعيق كائن يتوعد فضولها بالشر. وقفت بيأس عند قمة السلالم الملتوية تبحث عن أثر الشبح المنتحب مستعينة بنور الشمعة، و أضافت بنبرة أعلى:
-أنغريد... اظهري... لن أؤذيك!
-أما أنا... فسأفعل.
أحست دوروثي بالبرودة تسحقها، كأنما الصقيع بدل الدماء يسري بتثاقل في عروقها. انكمش قلبها في الأعماق، و تخشب ظهرها مقشعرا من الصوت الخشن الذي همس في أذنها للتو، صوت أجش مبهم مفعم بالشر، لا يشبه البكاء الناعم الذي سمعته منذ قليل! و بينما كانت تلتفت نحو مصدره... اعتراها شعور قوي بأن ما ينتظرها ليس خيرا على الإطلاق!

قصر الشمس|Sun Castle Donde viven las historias. Descúbrelo ahora