رخُّ البردي

Por Focifica

635 80 16

يرى نفسَه، يرى جسده وهو يُلف بكفنه إستعداداً لدفنه دون الصلاة عليه، لا أحد يراه ولكنه يرى الجميع، نظر إلى ا... Más

مقدّمة
الفصل الأول: سُلطة
الفصل الثاني: لُعبة المُطارَدة
الفصل الثالث: لتَسْقُط إِسْلَامْبُولْ!
الفَصل الرابع: لَعنةُ المَيت
الفصل الخامس: تنقيب منتصف الليل
الفصلُ السّادس
الفصل الثامن: تَلَبَسَتهُ الشَياطـين
الفصل التاسع : إمرأة العَزيز
النهاية : سقوط الرخ المزيف
الفصل العاشر: سقوط رخ البردي

الفصل السّابع: قناع المكيدة

9 2 0
Por Focifica

سرت محكمة التاجر الفاسد كما خطط لها صالح، فقد قام من مضجعه وحضرها على كرسيّ المرض بوجه شاحب وإصرار يرفع له القبعات، وبالنسبة للمتفرجين الغير عارفين بالأمر، ظنوا بأنه متمسك بوظيفة، فهو لا ينفك يمنحها عقله بل وجسده كذلك، طوال مدة مرضه سرت إشاعة في الأرجاء مفادها أن منصب القاضي وكرسيه الموقر مسكون بلعنة ما، فكل من تقلده انتهى مطافه ميتًا قبل أوانه.

فقبل القاضي مراد، توفيّ قاضيان بأمراضٍ مجهولة حيرت الحكماء في تلك الأنحاء، إلا أن القاضي مراد قد طال حكمه، إذ أنه لم يمت إلا وقد غزى الشيب شعره وفرحت مقلتاه برؤية ابنته متزينة بزينة العرائس، وحضر عرسها كاملًا بصحته وعافية لا مثيل لها على الاقل لمن بعمره، وأرسلها إلى عش الزوجية بحفاوة وعرس قد جعل المدينة كلها تتزين بالأفراح والزغاريد.

إلا أن ذلك لم يدم، فبعد زواج ابنته بثلاث أيام قد مرض ووافته المنية، أتت وفاته فجأة وأثرت على ابنته والمحيطين به، بل أن المدينة بأكملها قد حزنت على وفاته، ثم ها هو زوجها وبعد أن خلف حماه في منصبه قد أصابه المرض، لدرجة أن المحيطين به ظنوا أنه يقف على باب الفُراق الآن .

وقبل النطق بالحكم وإعفاء التاجر الفاسد وإعلان محكمة كبش الفداء، المحاسب المسكين الذي وظفه التاجر قبل المحكمة بأشهر والذي وعده بأنه سيغرق عائلته بالأموال مقابل اعترافه بالتهمة وتقبل العقاب الذي سيعينه القاضي، طأطأ رأسه ووقف منحني الكتفين والظهر متقبلًا قدره المكتوب، أو بالأحرى مسلمًا نفسه لسلطان المال وسطوته وفساد أصحاب المناصب والجاه.

فُتح باب المحكمة الخشبي الضخم على أوسعه، للناظرين لا شيء ظاهر بانجلاء ضفتيه، لكن صالح يراه واقفًا أمامه ونظرة التوعد تعتلي وجهه، شعر بأن ألاعيبه ستبدأ لذلك قرر أن يسرع وتيرة المحكمة وينهي الأمر قبل أن يتصرف الآخر.

وقف بخيلاءٍ وأعلن:
« أعلن أن التاجر بريء، لكن محاسبه ليس كذلك، لذلك سوف ألقاكم بعد أيامٍ معدودة لنناقش مسألته»

أومأ إلى الحاجب وأتبع بصوت مجلجل حازم:
« أيها الحاجب! لننهي المحكمة الآن»

وقف الأخير ونفض عن عباءته وأصلح هندامه وصرخ قائلًا:
« انصراف».

غادر الجمع الحاضر وخلت القاعة من البشر فيما عدا الحاجب والقاضي وكاتب العدل، كذلك تلك الهيئة التي لا تزال تقف في مكانها تبحلق في شخصٍ واحد، لا يزيح بؤبؤ عينيه عنه، يستطيع الشعور بغضبه الذي يرسله مصحوبًا بتحديقاته، شعر بأن أحدهم يحيط بيده على كتفه وكان كاتب العدل عليّ والذي قال والوقار يصاحب كلماته:
« ألن تغادر يا باشا؟»

أدار صالحٌ رأسه إلى جانبه الأيمن حيث يقف كاتب العدل وقال:
« يمكنكما الانصراف إلى مشاغلكما، سوف أغادر القاعة بعد هنيئة.»
غادر الحاجب على مضض دون أن ينبس بحرف، فبالرغم من مرضه إلا أن كلماته لا تزال كنصل السيف، ولا يريد سماع شيء يغرس في قلبه ويحزنه لذلك رمل إلى خارج المحكمة وقماش عباءته يحفُّ قدميه، وعند وصوله إلى باب المحكمة شعر بالقشعريرة لم يعلم السبب الذي دفعه لأن يشعر بذلك، أيقن من أن المكان مسكون، فهو يستشعر وجود الأطياف أينما حلت.

:« استغفر الله، يا رحمن، نجنا يا رحمن! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أن غادر واترك المكان الموقر، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»
نطق بها بأعلى صوتٍ يملكه، فصدح صوته أرجاء القاعة الخاوية وصدى صوته تردد في المكان حتى بعد مغادرته.

صرف الآخران نظرهما نحو الحاجب أثناء ذلك، مما جعل صالح يتمتم تمتمة لا يسمعها سواه:
« لا بد  أنه يستشعر وجود غريمي، لابد أنه لا يراه لكنه علم بوجوده! لا أعلم هل أفرح أم أحزن لهذا!»

أخرجه من شروده عليّ مستفسرّا:« هل أنت بخير يا باشا؟».
لوّح بكفه وقال:« أي خير! أي خير هذا! أقول لك غادر واربح راحتك واتركني أجابه همّي ونكبتي.»
سريعاً ما تسائل علي باهتمام ، ينتظر من الباشا أن يفصح ولو القليل عما يدور حوله خلال هذه الفترة :« أي هم يا باشا؟ أخبرني لعلي أمدك بالعون واساعدك على إزاحة ثقله بما أملك».

وجد صالح نفسه يصرخ بعصبية، وقلة حيلة، وخوف ولأول مرة رآه علي في عيناه :« ما عساك تفعل؟ هل ستطرد الأشباح ؟ لا أحد يشعر به سواي، ولن يتضرر منه سواي أيضاً، لذلك لا مُساعدة تُقدم!»

خرجت كلماته الأخير بنبرة أعلى من سابقاتها.

لم ينطق علي بحرف، فعينا صالح أخبرته أن الجنون الذي داخلهما سيضره إن أصرّ على البقاء؛ لذلك غادر الآخر من الباب الخلفي الذي يضفي إلى مكاتب المحكمة الداخلية، وعندما وجد نفسه داخل الممر وقف هناك وأغلق الباب خلفه لكنه ترك شقًا صغيرًا ليراقب به الباشا.

يرى الباشا ينظر إلى اللاشيء، ولكن ينظر اليه بحدة بالغة، وكأنه ينظر إلى أكثر شخص قد كرهه يوماً، ولكن علي لا يرى أحد، وكذلك لم يسمع أي شيء ، فقط صالح من سمع همساً ، همساً كان عالياً بداخل اذنه ، يسمعه رغم أن شبح القاضي امامه لم يُحرك شفتيه ولو قليلاً :« مصرٌّ أنت على موقفك؟ أراك تظلم المُحاسب وهو لا ذنب له»

ابتسم صالحٌ ابتسامة جانبية متكلفة وهسهس قائلًا: « ذنبه أنه كلبٌ يطارد الأموال، أتظنه بريئًا، كلّا! إذا دققت لوجدته يختلس من هنا وهناك، يدس يديه في جيوب سيده، وقد قبل بالتهمة لأن ما ينتظره خلاف ذلك أسوء بأضعاف، أنا رؤوف بحاله، لذلك سوف أمنحه عقابًا خفيفًا، قطع يده كفيل بتذكيره بدرسه، ما رأيُك ..؟ هل هذا كافٍ؟»

شعر صالح بهواء ساخن عند أذنه مندفع، أثر زفير العِفريت ، الذي مازال واقفاً بنفس طريقته ولم يتحرك، قشعر جلد صالح بفعلته، والتفت الى يساره راغباً في فهم كيف يشعر ويسمع الشبح بينما هو واقف أمامه، وقد كانت الاجابة أكثر رعباً من السؤال.

لقد كان يقف بجانبه بالفعل، قريب جداً من اذنه ، ولم يكاد صالح يلتفت ليرى النسخة الاخرى منه، حتى سمع همسه يصبح أكثر بروداً بجانب أذنه : « التاجر أحق بالعقاب، ليس عدلاً أن تُعاقب أحدهما وتخلي سبيل الآخر».

التفت صالح إلى الأمام حينما رأى النسخة التي كانت واقفة كالصنم بلا حراك ، تتقدم بخطى خفيفة، رجفة قلبه تزداد، ولم يشعر بنفسه إلا وهو يقف صراخاً بعلو صوته ، وقد برز عرق أزرق في منتصف جبينه ، وكذلك رقبته : « أتركني وشأني! ليسَ لك شأن فيما أفعل! لستُ القاضي الوحيد في هذا العالم فالتبحث عن غيري والعب عليه لعبك السخيفة!»

بينما في خارج المكان، حيثُ علي الذي زاد قلقه بسبب رؤيته لقاضيه يصرخ، فقط يصرخ بكلام غريب، وكُلما نطق كلمة وزاد أخرى تأكد أن ما بقاضيه ليس سوى تلبس الشياطين، لا مرض يفعل هذا، ولا حسد يفعل ذلك.

خرج الصوت هذه المرة من يمين صالح، الذي لم تعد ساقاه تحملانه من الخوف :« لستَ الوحيد .. أعلم ..ولستُ مضطراً للتبرير لك أو إفادتك بأي معلومة .. أنا هنا لأعطائك فرصة أخيرة، بالتنازل عن تراهاتك وظلمك لأبناء آدم، وليس للنقاش حول القضاة!».

لوّح صالح بقبضته في الفضاء والتجاعيد ظاهرة حول فاهه وفوق جبهته وقد خرج الكلام من فمه كمن قد أنفجر في أول فرصة أتته للحديث :« اسمعني يا هذا ! أياً كُنت شيطاناً أم جناً ..خطتي اقتضت قتلك وإعتلاء المنصب، ثم الإرتقاء في ظرف أشهر قليلة بمحاكم تافهة، أصل إلى منصب جيد يمنحني السلطة والحظوة  ، ثم أثور  على العثمانيين وأنقذ الشعب من بطشهم، لكن دخولك حياتي قد وقف كل تلك الخطط! وذلك التاجر الذي رأيته سابقًا يشحذ سيوفه ليستل عنقي كما فعل للسابقين، وإن لم أساعد الشركسيين سوف يرسلون من يفتك بي أيضًا»

لم ينتظر ليلتقط أنفاسه، وسريعاً ما أضاف وهو يضغط بكفيه على رأسه، ينظر إلى الأرض بضياع :« لن أقتل أحد عبثاً، لستُ قاتل هاوٍ للقتل!»

رمى جسده على الكُرسي، وأكمل حديثه بتعب، يحاول إظهار براءته لصاحب حكم الإعدام عليه :« حتى الزخرمي .. حتى هو» قال ذلك مشيرًا بسبابته نحو الآخر بعينين شاخصتين:« القاضي الذي تم تعيينه بديلًا عني رأى أنه يحتاج إلى أدلة وبراهين إضافية ليرسي التهم وأرسله إلى قصره، ولا بد من أنه يحيك مكيدة الآن، أخبرني إذا ما أنت بصانع الآن؟ واللعنة لقد أنقذته من تحت السيف! ».

ارتسمت ابتسامة جانبية على فاه صالح، ينظر الى الفراغ وكأنه يرى موته :« برأيك، رجل استطاع النجاة من قاتله، هل سيتركه حياً؟ لا والله.. لو كُنت انا مكانه لذبحتُ من حاول قتلي بيداي!»

صُدم الشبح مما سمع،  ليس لكونه لم يكن يعرف بكل هذا، بل لوقاحة القابع أمامه، هو وبكل بساطة يحاول إظهار برائته.. قاتل يحاول أن يُبرر سبب سفك الدماء وزهق الأرواح.. القتلة ليس لهم مُبرر، أبداً.

وهاهي تتضح أمامه كاملة، كفسيفساء قد جهل فحواها لمدًا طويل والآن يتضح أمامه ما تعنيه، كم أنه كان أبلهًا! كيف استغفله صالح أثناء حياته!وهو إنسان!
كيف أنه وبطيب خاطرٍ قد ذهب وسلّمه ابنته ، وبذلك كالمغفل سلمه منصبه دون أن يدري حتى! دناءة صالح تعدت توقعاته! بل وأنه أفلح في ارتداء أقنعته أمامه، مثّل دور العاشق الولهان، المتيم بحب نعيمة والذي سيقوم من أجلها بإحضار النفيس من أقصى الأقطار المعمورة ويفرش الأرض تحتها رخاءً وسعادة، كم كان أبلهًا ويحسب نفسه مفكرًا لا تخفي عنه صغيرة أو كبيرة، قد غفل عن مكيدة صهره المزعوم، ذلك الخبيث، من أجل ماذا؟ من أجل أن يُفرِح ابنته الوحيدة وفلذة كبده، ولعله حتى قد نجح في هذا.

شخص كصالح، ليس صالحاً  ، ولا يستحق فرصة أخرى لأكمال حياته، لأنه وبكل بساطة، يجد لأخطائه مُبرراً، ويفعل كل جريمة وأخرى ، وكل ما يراه هو -أنا- فقط!

وقف مرتاعًا في مكانه بينما الآخر يحملق فيه منتظرًا رده، صالح بنفسه يشغل دماغه عدة أفكار، تصارع فيما بينه وبين ذاته، جزء منه ساخط مما أسفر فيه في حقّ نفسه، فهو كالأرعن قد كشف خطته للشبح، وقف يثرثر كالنسوة ويقذف الكلام بدون تفكير، وهل ترك له المرض عقلًا! والآخر قد تكفل بالباقي وأرسله إلى الصين!

أمسك رأسه بين كفيه وهو يولول في قرارة نفسه، لابد من أنه سيقتلني الآن كما فعلت وقتلته سابقًا، أيعقل بأنه سيكون أكثر تهورًا مني؟

لا بد من أنه واقف مكانه يفكر في طريقة لتعذيبي، جنيت على نفسك يا صالح! بفعلتك تقود نفسك إلى التهلكة! لن يفسح المجال للأحياء بأن يجتثوا رأسك من جسدك، سيتكفل هو بذلك.

رفع صالح رأسه ينظر إلى الشبح بتفقد، ينتظر منه رداً، كلمة، أو حتى همسه كما كان يهمس بأذنه، لكنه وبكل بساطة لم يجد أياً مما اراد، بل لم يجد الشبح من الأساس!

وقف مذهولاً من مكانه، يتلفت حول نفسه كالأبله، وكأنه بتلك الطريقة يبحث عن شيطانه، بينما في الخارج، يقف أحدهم إلى الآن، بعينين جاحظتين، وصدمة لم ينتبه إليها عقله حتى.

كان علي مازال واقفاً..

يتبع..

Seguir leyendo

También te gustarán

3K 606 22
ملخص الرواية ناتان شاب يطمح أن يكون ممثل ناجح في هوليود لكن الحظ لم يقف معه إذ ان كل محاولاته تبوء بالفشل في الحصول على دور رأيسي حتى استيقظ ذات صب...
125K 6.4K 32
لم يكن مهيبًا بالصوت العالي و التسلط و العُنف، كان مهيبًا باتزانِه و هدوئه و حنانِ جسدِه الذي لا تظهرهُ عينَيه وجدَ بي ملجأ حيثُ يريحُ عَينَيه و وَجد...
2.8K 213 3
سيكون هذا الكتاب عبارة عن مجموعة قصصية من وحي المجتمع العراقي كل قصة تروى بها لحظات جميلة أو مأسي مرت على شعب موطني وأنا أحاول نقلها بصورة شفافة وواض...
551K 28.3K 53
فتاة بسيطه الحال شاء القدر ليغير حالها وتهب الرياح بما لاتشتهي السفن.. وينتهي بها في مطبات ضيقه ويصعب الخروج منهاا... فتعاني وتعاني لتخرج ع واقع...