ربما هي غطرسته ما منعته عن رؤية العلامات التي تشير إلى خروجه عن طريقه، علك إن سألته في لحظة من لحظات صفاءه، بعيدًا عن الإنتقام الذي أعمى بصيرته، كان ليقول بأنه قد أخفق في الحكم وسلك أسهل الطرق، فإنتهى به المطاف وقد سقط من على جرف الذل والخزي، لكنه الآن واقف أمام منبر القاضي الذي اعتلاه بدوره وعبره قد عثى فسادًا وظلمًا، فلكل ظالم نهاية، ونهايته ستكون وخيمة مما لاشك فيه.
جلد الذات هو آخر همه في هذه اللحظة إلا أنه ما انفك يلوم نفسه على تقصيرها وعدم أخده الحيطة والحذر والتفريط في حق نفسه مما أد إلى انكشاف أمره وبالتالي القبض عليه، حينها ظهر أمامه بهيئته المعهودة، هيئة شفافة لجسد هزيل مسود الوجه، رغوة بيضاء تغطي لحيته في هذه المرة، ثيابه المتربة وعينيه الخضراء التي تحدق به دون توقف، من يطلق عليه لقب شيخ النحس، حينها تبدلت أفكاره وأصبح يوجه اللوم نحوه، لولاه لمضت الأمور على نهج مختلف، لعله بدل الوقوف ذليلًا في سدة المتهم، كان ليجلس على كرسيّ مخمليّ كعضوٍ في لجنة مهمة في الولاية، يحكم ويأمر بعيلاء، لكن بتدخل الشبح تغير الوضع، وآل به المطاف بأن يصبح متهمًا.
تابع المحكمة بعينيه دون أن ينطق بحرف، يتجول بنظره بين القاضي والشبح، الصدمة قد شلت كيانه، كان في مكتبه يعمل على قضية شغلته ثم اقتحم المكان مجموعة من الضباط وأخرجوه بالقوة منه دون أن يعلموه بالسبب حتى، قضى ثلاث ليالٍ داخل زنزانة وضيعة، وثم في صبيحة اليوم الثاني جرجروه إلى محكمة تبين كونها محكمته، وهو لا يعلم بأي تهمة قد اتهموه حتى!
ضوضاء الحشود وأحاديث القائمين على المحكمة لا تتجاوز كونها مجرد همهمات تقتحم مجال سمعه ولا دخل له بها، وثم وعند بدء القاضي بالنطق بالاتهامات عاد إلى الواقع وأنصت بترقب إلى ما يقوله.
:« أثبتت إدانة المتهم صالح درويش باشا بالخيانة، وعليه وبعد اطلاعنا جميعًا إلى الدلائل التي تثبت ذلك، أعلن بأنه مذنب، وعليه أحكم عليه بالإعدام»
أطلق الحشد أصوات تصفير وتصفيق، معظمهم أيد الحكم بل وطالب بحكم أقسى من ذلك، بل إن الجمع المحتشد بأكمله قد راقه الحكم ما عداه، المتهم بلباسه المهترئ ويديه المكبلة بالأغلال الصدئة يمسك به من كتفيه رجال أشداء بأجساد ضخمة، كان هادئًا إلا أنه وعند سماعه للحكم صرخ معارضًا، لم يرق ذلك للقاضي فأخرسه قائلًا:« هل تملك الحق بإبداء الإمتعاض حتى؟ كلّا، بل وليس لك حق بأن تزيح عينيك من على الأرض، أن تنزل رأسك بخنوع موافقًا على كل كلمة تقال في المحكمة دون أن تنبس بحرف.»إلا أن صالح لم يرضخ، وبدأ يصرخ في الحشد قائلًا:« بالنسبة للعثمانيين أنتم مجرد عبيد، خرفان تنقاد لأوامرهم بل وتقدم لهم صوفها بطيب خاطر، يستفيدون من خيرات بلادهم وأنتم مثل الحمقى تهزون رؤوسكم، خيانة! لماذا تعد خيانة إن كانت ضد محتل يغتصب خيرات بلادك؟ إنها ثورة، انتفاضة لإعادة الحقوق إلى أصحاب الأرض.»

أنت تقرأ
رخُّ البردي
Randomيرى نفسَه، يرى جسده وهو يُلف بكفنه إستعداداً لدفنه دون الصلاة عليه، لا أحد يراه ولكنه يرى الجميع، نظر إلى الواقف بجانبه، الوحيد الذي يراه، والذي إبتسم ضاحكاً « تلك كانت النهاية المُتوقعة لشخص مثلك يا باشا، أما الآن أخبرني.. كيف ستكون حياتك الآخر...