غريب كيف يتحول مكان نألفه ونستكين له إلى مكانٍ نهابه، ولا نستطيع البقاء بين جدرانه للحظة!
هكذا تبدّل الحال بالنسبة لصاحب البشرة القمحية، دخل قسم الرجال يهرول ناحية مكتبه، لملم الأوراق التي يحتاجها وحملها وانصرف، كمن يمشي على فحمٍ مشتعل لا يقوى على الوقوف لحظة فما بالك الجلوس، كمن يشعر بكائن يترصده، يختبئ خلف جدران البيت منتظرًا خلوته ليهاجمه ويفتك به.
أوقفته صاحبة العيون الزمردية، من ترتب شعرها الكستنائي بجديلة طويلة مردفةً
«هل ستغادر بهذه السرعة؟ لمَ لا تنتظر طعام العشاء، فأسماء تحضر لنا الوجبة في المطبخ الآن»لوّح لها بيده الحرة، عدّل من عمامته متحدثاً بعجلة
«كلّا، سأتناول ما أجده من الغِذَاء من عند أول بائعٍ متجولٍ ألقاه في طريقي إلى المحكمة، لا أمتلك وقتاً لتناول غداء أسماء!»غريبٌ هو أمره، هذا ما توارد في ذهن الأخرى، فهو مغتال بنفسه فكيف له أن يتناول طعام الشارع! وقبل أن تستفسر عن السبب الذي يجعله منزعجًا بهذه الحِدة، صفق الباب خلفه منصرفًا.
وعلى غرار العادة لم يخاطب أحدًا في طريقه، بل إنكب يهرول ويسرع الخطى نحو وجهته، شاردًا بأفكاره، فقراره بقضاء الليلة داخل جدران محكمة المظالم متعذرًا بضوضاء منزله لم يكن سوى غطاء لسبب آخر، فهو يهرب من الكوابيس والأوهام التي تزوره كل يومٍ هناك، ما انفك يضع رأسه على الوسادة حتى تبدأ لعبة المطاردة، أو لعبة اللقاء مع الموتى، سيلٌ من الأحداث المرعبة تتعاقب عليه وتذيقة الويلات، فيضانٌ من الدماء يتدفق من الجدران، زلزالٌ يسقط المنزل فوق رأسه، وأشدُّها رؤية المرحوم يتجول داخل ممرات منزله، كذلك أن يظهر على انعكاس مياه النافورة، أو يطلّ له من خلف شجرة البرتقال، أو يراه واقفًا يداعب بتلات السوسن.
عبر البوابة وثم ساحة المحكمة، حيّ البواب بتحية بشوشة، أمّا الآخر فقد أوقفه مستفسرًا عمّا يجعله يعكف على المحكمة في هذا الوقت، فأخبره بأن لديه أشغالًا يريد قضاءها وضوضاء المنزل تمنعه من إنهائها في موعدها، زوّده البواب بمصباح زيتٍ ذو جسدٍ معدنيٍّ أسود وزخارف من الورود والأشكال الهندسية تتربع على مقبضه، علّه يستنير به و دعى له بالتوفيق في عمله.
دخل القاعة الخاوية التي تتراقص داخلها الستائر الفضية بفعل النسيم الذي يدخلها من الشُرفة، وتنعكس صورة القمر البَهي على أرضيتها الرخامية الملساء، صعد على المنصة الخشبية الجسد والمزخرفة بأشكال هندسية، على جدرانها الخلفية وضعت إطارات تتوسطها آياتٌ من الذِكر مطرزة بخيوطٍ من الذهب على قماشٍ أبيض، وطرح أوراقه على المكتب منكبًا عليها يُغطيها.
مضى الوقت وانتصف الليل، بوحشته ودلهمته التي ازدادت، العتمة والسكون سيطر على الأرجاء، إلا أن سمعه قد التقط ما لا يسره، أصوات غريبة لحيواناتٍ قد تجدها في الغاب أو في الحظائر وليس المدينة، يرتفع صدها كل مرة، محجريه الحالكان تنقلا حوله ليبصر الدلهمة تحيط به،من أين أتى صوت الماعز؟!

أنت تقرأ
رخُّ البردي
Randomيرى نفسَه، يرى جسده وهو يُلف بكفنه إستعداداً لدفنه دون الصلاة عليه، لا أحد يراه ولكنه يرى الجميع، نظر إلى الواقف بجانبه، الوحيد الذي يراه، والذي إبتسم ضاحكاً « تلك كانت النهاية المُتوقعة لشخص مثلك يا باشا، أما الآن أخبرني.. كيف ستكون حياتك الآخر...