لم تمضِ إلا بضعة أيام وعاد صالح لمحكمته وهو يبدو في ظاهره صحيح العقل كما لو كانت حالته فيما مضى مجرد نزوة مخيفة منه، لكنها كانت تحرك في علي شيئًا ما، ابتسامة قاضيه وإيماءاته، حركاته ونظراته، بدا كما لو أنه يجامل أحدًا ما، لكن من ذا الذي قد يجامله وهو قاضٍ عظيم في القاهرة! يجب أن يحق الحق فحسب! لكن المشكلة أنه يحكم بشكل صحيح مع ذلك يجامل! يجامل بالإصلاح؟ بدت الكلمتان متناقضتين لكن صالح جمعهما في محاكمات هذا الأسبوع!
مضى بين شوارع العاصمة ووسط ميادينها، مدن ومساجد ومتاجر شيدت منذ الفتح مازلت تحتفظ برونقها كما لو أنها بنيت بالأمس. عربات الأحصنة تطوف لتنقل البضائع وتتعالى أصوات الباعة ليباهوا بسلعهم فيجذبوا بذلك زبائنهم!
ونهر النيل الذي يحمل على ضفافه القوارب يرمي بكنوزه للصيادين الذين يحلي غنائهم الشوارع الطينية التي يصيبها المد تارة وينحسر من فوقها تارة، هذه هي مصر! وستظل كذلك! القاهرة التي ولدت منذ أولى قرون الهجرة وبنيت بأيدي الصحابة والأقباط سواءً أسلموا أو ظلوا على المسيحية، تتجانس الديانتان ولا تخلان بوحدة المجتمع، ويظل الشعب المصري رغم اختلافه وتنوعه مشتركًا في حب وطنه ومليكه!
مر علي على ساحة عامة فوجد بين المشترين من يخال أنه يعرفه، دقق في ملامحه ليتيقن أنها نعيمة! فجاءها يلقي التحية ويستفسر إن كان قاضيه صالح قد تخلى عنه الجنون حقًا، أم أنه يخادعنا نحن من نراه في خارج بيته، ثم يحل عليه مجددًا حين يطأ المنزل!
ألقى التحية فالتفتت له نعيمة وحدقت بعينها الخضراء الزمردية، رفقتها كانت هناك امرأة تحمل المشتريات، عرفت نعيمة المرأة على علي بأنها خادمة تشرف على شؤون الدار،طبعها هادئ يستعصي عليها التشاور مع الباعة، ودومًا ترافقها نعيمة لمساعدتها، وتعتبر هذه الجولة ترفيهية لها.
سألها علي عن مراده، ما أحوال زوجها في المنزل هذه الأيام؟ سكتت لوهلة وهي تفكر بما تجيب، لم ترد أن تفضح زوجها ولا أن تسبب له الحرج، ثم أجابت بصوت خافت كي لا يسترق لمحادثتهما واشٍ فيعلن في العباد أن قاضيكم مجنون فكيف تأتمنونه على مصالحكم!
«هو.. يبدو أقل غرابة لكن مازال يحادث نفسه، بالأمس سمعته يشير بيده للجدار ثم يقول له:
«لقد أصلحت فلا حجة لك علي! فلتبتعد عني وترحمني!»
«وأخاف أنه رفض فكرة أن يمر عليه طبيب أو حتى يرقيه شيخ! لكنه أخذ الورقة مني! لربما لغطرسة ذاته يرفض لكن سرعان ما سيذهب إليه وسيشفى بإذن الله!»ابتسمت تأمل من زوجها أن يحيا بخير، لكنها تذكرت وجهه حين أشارت له أن زر الطبيب! فثار عليها وكاد يكسر أثاث الغرفة كلها على رأسه لو لم يدخل صفوان ويبلغه أن ضيوفًا وصلوا له.
ثم نظر لها صفوان نظرة شفقة! أن يراها خادم بهذا المنظر! ضاق صدرها وتحسست رقبتها التي أصيبت، ففردت خمارها عليها أكثر كي لا يراها أحد! فهي وصمة تريد أن تخفيها للأبد!

أنت تقرأ
رخُّ البردي
Randomيرى نفسَه، يرى جسده وهو يُلف بكفنه إستعداداً لدفنه دون الصلاة عليه، لا أحد يراه ولكنه يرى الجميع، نظر إلى الواقف بجانبه، الوحيد الذي يراه، والذي إبتسم ضاحكاً « تلك كانت النهاية المُتوقعة لشخص مثلك يا باشا، أما الآن أخبرني.. كيف ستكون حياتك الآخر...