تحت السماء الحارة، التي تتخللها بعض الغيوم البيضاء، سخنت مياه نهر لوش لاناش من جراء الحرارة المرتفعة، و فوق منحدر تلة أوثنوش تمشى أربعة أشخاص، ثلاثة رجال و امرأة .
سبقت الرجال المرأة في الوصول إلى ممر ينحدر باتجاه وادٍ صغير كونه نهر اللاناش و تحيط به أحجار البازالت و الأحجار الرملية، و عندما وصلت إلى الممر دارت المرأة باتجاه النهر، كانت تلبس بنطلوناً أحمراً و بلوزة ناعمة خضراء ربطت فوقها أكمام كنزة على رقبتها .
مشت بخطى ثابتة بالقرب من الجدول المائي و أشعة الشمس تنعكس على شعرها الأسود اللامع الذي ربطته حيث بدا وجهها المستدير جميلاً، و كانت عيناها الزرقاوان تعكسان الذكاء و المتعة بكل ما يحيط بها من أشجار .
و كلما لحقت بالرجال إلى أعلى، كلما خفت مياه الجدول فالهواء كان دافئاً يتخلله أصوات الحشرات و النحل مما أشعرها بالأمان و السكينة .
صرخة الرجل الذي يتقدم المجموعة جعلتها تبتعد عن صخرة كبيرة تحرس أكبر و أعمق بركة في النهر .
و عندما وصلت إلى الشاطيء الضيق المكسو بالحصى المحاذي للبركة، لاحظت حركة على الشاطيء المقابل اهتزت لها الأغصان و الأوراق و كأن الريح دخلت خلالها في هذا اليوم الهادىء المشمس .
«اللعنة عليك، اخرج من هناك !»
صرخ هامیش تاغارت حارس المزرعة .
لم يجب أحد و لم يظهر أحد على صرخته في الجانب المقابل من البركة و لم يرد عليه إلا الصدى .
«من هذا ؟»
سأل الرجال هاميش الذي كان نحيلاً يلبس بذلة أنيقة و شعره الأسود اللامع مسرحاً بعناية و قال بسرعة :
«هناك دخيل في هذه الممتلكات» .
قالها بطريقة ساخرة رد عليه شخص طويل القامة عريض المنكبين بني الشعر أما عيناه فكانت زرقاء تلمع بوميض المتعة، و قال عندما وصلوا إلى شجرة القضبان في الشاطيء المقابل :
«كيف عرفت ؟»
«لقد ترك سلاحه خلفه» .
قال هاميش و هو ينظر إلى المجموعة ثم تابع قوله :
«ألا تراه ؟»
أشار إلى قطعة خشبية في نهايتها شريط حديدي .
«و من هو الدخيل ؟»
سأل الرجل النحيل الأسود و الذي يتكلم الإنجليزية بلكنة أجنبية .
«إنه شخص لا يحق له اصطياد السمك في المزرعة، و هذا يعني بأن أحدهم دخل و اصطاد السلمون بآلة غير شرعية، حيث يمسك السمكة من ذنبها بواسطة السلك، لكنه هرب عندما سمع أصواتنا، و للأسف كل ما شاهدته وميض فضي لسمك السلمون، و قدمين عاريتين عند هروبه إلى الضفة المقابلة» .
أجاب هاميش و الغضب باد في عينيه .
«و هكذا، يعتبر مجرماً لأنه لا يملك الحق في اصطياد الأسماك في المزرعة، و لكن ما أسوأ الأشياء التي تستطيع فعلها بحقه ؟»
سأل الرجل الأسود النحيل و عيناه تلمعان بالإثارة .
«سأجعله يدفع غرامة مالية، و إذا لم يفعل سأضعه في السجن» .
قال هاميش ثم تابع يقول :
«و لكني أشك في أن أفعل هذا الآن لأنه سيهرب إذا بقينا هنا» .
ثم نظر إلى المرأة التي مشت باتجاه الضفة و التي سمعت صوت هاميش يشرح للرجلان عن حقوق الصيد في الأراضي العالية الإسكتلندية .
و في الحال قطعت الضفة و مرت تحت أغصان الأشجار و بدأت بتسلق ممر ضيق يتعرج بين صخور مكسورة حتى وصلت إلى مرتفع يظهر لها المكان .
و خلف الصخرة رأت رجلاً مستلقياً على بطنه يراقب الرجال الذين يعبرون النهر و عندما رأته، شغلت نفسها بمراقبته .
كان طويل القامة عريض المنكبين يلبس بنطلوناً رمادياً و قميصاً ملوناً، أما شعره البني فمقصوص بشكل جذاب و بشرته بلون الكستناء، كان مستلقياً بهدوء كي لا يسمعه الرجال .
و فجأة وقف على قدميه و وضع زوجين من الأحذية و زوجين من الجوارب في كيس الصيد .
و بينما كان يربط الكيس، انتبه إلى وجود المرأة التي فاجأه وجودها و رفع عيناه البنيان نحوها و كانت تحمل سؤالاً بحاجة إلى اجابة ففهمت ما يريده و قالت بسخرية :
«كنت أنظر إلى حذائك يا نيل دايسارت، و لكن ألا تخجل من سرقة السلمون في وضح النهار خاصة و أن البركة ليست عميقة و أن أي انسان باستطاعته التقاط سمكة كهذه» .
رد عليها ببرود و قال :
«أنا لم أسرق شيئاً»
«إذن من هو السارق ؟ فأنا لا أرى أحداً هنا» .
قالت هذا و هي تنظر حولها لتأكيد كلامها .
«لقد ذهبوا، و اعلمي بأني لن أخون أصدقائي» .
قال هذا بقسوة .
«أظن بأنهم لن يرتاحوا من المشي من دون أحذيتهم و جواربهم» .
قالت هذا و هي تنظر إلى الكيس ثم نظرت إليه مبتسمة و أكملت كلامها :
«هل نسيتني ؟ أنا كرستي وايت» .
نظر إليها من قمة رأسها إلى أخمص قدميها و قال مستغرباً :
«لقد تذكرتكِ و لكنكِ تغيرتِ كثيراً» .
«هذا ليس غريباً، لأني كبرت أربع سنوات منذ آخر لقاء لنا و قد غيرت تسريحة شعري» .
قالت هذا و الإبتسامة لم تفارق شفتيها ثم أكملت كلامها بعد أن نظرت إليه جيداً و قالت :
«و أرى بعض التغيرات الصغيرة التي حصلت لك» .
لكنها لم تقل ما هي التغييرات، إذ أصبح بعمر الرابعة و الثلاثين و ما زال ظهره مستقيماً و شعره سميكاً تتدلى منه خصلة طويلة على جبينه، و لكن مرور الوقت ترك أثراً على وجهه إذ اختفى بريق المكر من عينيه و لم يبق إلا نظرة باردة أظهرت الوميض الأصفر فيهما كما بدا فمه قاسياً .
أفاقت من تأمله و سألته بعد أن صدمها بعدوانيته :
«و هل ستمكث في المزرعة الصغيرة قرب كارين رود ؟»
«نعم» .
رد بجفاف .
لكنها لم تتأثر و أكملت أسئلتها :
«متی رجعت إلى هنا ؟»
«منذ أسبوع فقط» .
أجاب باقتضاب .
«أوه» .
فوجئت و انزعجت لأنها لم تعلم بقدومه كما لم تلاحظ الضوء المنبعث من كوخه و أظهرت له انزعاجها حين قالت :
«كان عليك أن تعلمني بقدومك» .
«كان عليّ أن أصرخ و أناديكِ في كل مكان لأعلمكِ بقدومي» .
ضايقتها كلماته لكنها لم تظهر له استيائها فقالت :
«علمت أن أليك توفي منذ أربعة أشهر ؟»
«نعم، لقد سمعت هذا» .
قال هذا و ضاقت عيناه و هو يحدق بها .
«هل زوجتك معك ؟»
سألته و قد شعرت بالتوتر السائد بينهما .
«لا» .
نفيه القاطع أفهمها شعوره نحو حشريتها و مضت لحظة حدق فيها بالضوء المنعكس على البركة و سألها :
«من كان مع هاميش قرب البركة ؟»
«أخي دانسان و معه أحد رجال الأمن التابعين للمستأجر الجديد» .
«مستاجر ؟»
قالها بغضب ثم حدق بها و أكمل سؤاله :
«متى حصل هذا ؟»
«منذ بداية الشهر» .
«هل استأجر المنزل فقط ؟»
«لا، بل المزرعة كلها و أتمنى أن يشتري المكان إذا أعجبته الحياة هنا» .
ظهر الغضب جلياً في عينيه البنيتين فقال بغضب :
«لم أكن أعلم بأنه سيمر يوم أجد فيه بالمور بيد مستأجر يرید شراءها» .
«ليس باليد حيلة، فقد ترك أليك جبل من الديون و نصح المحامي بأن نؤجره و ندفع المال لإنهاء الدين» .
توقفت فجأة ثم أكملت كلامها :
«لقد انتظرت طويلاً حتى وصل الشخص الذي قدم السعر المناسب و هو الشيخ حسين العربي، و حتماً سأبيعه له» .
«الشيخ إذن، أتجروئين على بيع ممتلكات عائلة وايت العائدة إلى ملك اسكتلندي إلى مليونير عربي، لم أدرك أنكِ أصبحتِ حاقدة إلى هذا الحد، يجب أن تظل الممتلكات لعائلة وايت و أن تنقل من أليك إلى ابنه» .
«أنا و أليك لم ننجب أطفال، فلم يكن باستطاعة أليك أن ...»
لم تستطيع أن تكمل كلامها فقاطعها قائلاً :
«لماذا تزوجته إذن، كي تصبحين سيدة بالمور لبيعها ؟»
«أرجوك لا تقل هذا، فقد تزوجته لأني أحترمه و لأنه عاملني معاملة جيدة» .
و أكمل عنها قائلاً :
«تزوجته لأنكِ تشفقين عليه» .
«ربما فعلت ما باستطاعتي كي أقف إلى جانبه في مرضه» .
قالت كرستي هذا و نظرت إليه لتعرف رده لكنه لم يجب و تابعت تقول :
«حسين رجل لطيف و متعلم و هذا سيجعل منه مالكاً جيداً» .
ظهر الغضب في عينيّ نيل و قال :
«عليّ أن ألحق برفاقي كي لا يجدهم هاميش» .
«لقد أرسلني هاميش لأحذرك» .
«حسناً» .
و تذكرت كرستي كيف كانا يمضيان الوقت منذ خمس سنوات و كيف كانت تسرق السمك مع نيل من أجل المرح و الشقاوة، كل هذه الذكريات السعيدة جعلتها تدرك مدى الحزن الذي وصلت إليه الآن .
قطع نيل عليها ذكرياتها و قال :
«أظن بأنكِ على علاقة وطيدة مع الشيخ لأنكِ تناديه بإسمه الأول» .
«لقد فعلت ما طلبه مني» .
قالت كرستي هذا و هي تنظر إليه و تتذكر الأيام السعيدة التي أمضتها معه، قبلاتهم في الخفاء، نزهاتهم في الأيام المشمسة، كل هذه الذكريات جعلتها تشعر بالحزن على ما فات من عمرها .
أرادت أن تصرخ بوجه نيل و تطلب منه أن يتركها بسلام لكنها أدارت ظهرها و مشت باتجاه النهر .
و فوجئت بصوته خلفها يقول :
«عليكِ الإنتباه و إلا ستلوين كاحلكِ عندها سأضطر إلى حملكِ إلى البيت كل هذه المسافة الطويلة» .
لقد كانت الكلمات موجهة جيداً و تذكرها بلقائهم الأول و عوض أن تستدير إليه أسرعت الخطى للإبتعاد عنه حتى قطعت النهر باتجاه الضفة الثانية، و لم تنظر خلفها لترى إذا كان نيل يتبعها و تذكرت كرستي الأمسية التي وصلت فيها إلى الكوخ البعيد منذ خمس سنوات حين تعثرت و لوت كاحلها، عندها جرت نفسها إلى الكوخ و دقت الباب ففتح لها رجل طويل يحمل قصبة صيد .
و بقيا يحدقان ببعضهما البعض لمدة طويلة حتى تكلم الرجل و قال :
«من أنتِ ؟ و ماذا تفعلين هنا ؟»
لم تستطع أن تجيب و أكملت تحديقها به لأنها أحبته من النظرة الأولى، أفاقت من تأمله و أجابت :
«اسمي كرستي أور و أنا أعمل في بالمور هذا الصيف لقد لويت كاحلي و طرقت الباب طلباً للنجدة، و لكن هل تسكن هنا ؟»
«نعم هذا الصيف فقط» .
أجاب باقتضاب و ترك قصبة الصيد و جلس إلى جانبها، و للحال شعرت بموجة عاطفة تلفها حين أمسك كاحلها بيديه ليلمس المكان المصاب .
قال لها بعد فترة :
«دعيني أدخلكِ إلى المنزل حيث ألقي نظرة على قدمكِ» .
هزت برأسها ايجاباً و حملها إلى الداخل حيث أضاء مصباحاً يشبه مصباح علاء الدين في الرواية الخرافية، ثم رفع قدمها و تحسس موضع الإصابة و قال لها :
«ليس هناك كسر» .
«و كيف عرفت هذا ؟»
ابتسم لها و قال :
«أنا أعرف لأني طبيب جراح، سأضمد لكِ قدمكِ و يجب أن ترتاحي من المشي لعدة أيام» .
نظرت کرستي إليه و قالت متذمرة :
«كيف سأعود إلى بالمور ؟»
«سأخذكِ بسيارتي فقد أوقفتها خلف المنزل، ليست رولز رويس و لكنها تمشي» .
قال هذا مبتسماً ثم وقف و أخذ شيئاً من الدرج و سألها :
«هل أنتِ صديقة للسير أليك وايت ؟»
«لا، فأنا أعمل عنده، أنا أدرس علم الطبيعة و الغابات و قد طلب تلميذة تساعده في كتابه عن التاريخ الطبيعي للأراضي المرتفعة، و حصلت على الوظيفة و سأبقى هنا حتى تبدأ الدروس في الجامعة» .
«متى ستتخرجين ؟»
سألها و هو يضمد قدمها .
«بعد سنة» .
أجابت .
«و بعدها ؟»
سألها مستفسراً .
«آمل أن أجد عملاً في مركز حماية الطبيعة، أو في مزرعة و إذا لم أجد، سأسافر» .
كان قد أنهى تضميد قدمها حين أنهت كلامها، حدق بها ثم قال بصوت هامس :
«أتعرفين بأن عيناكِ الزرقاوان يشبهان الزهور الصغيرة التي تنمو قرب الغابة، و عندما وجدتكِ عند باب البيت بشعركِ المتموج حول وجهكِ، ظننت بأنكِ شبح سيدة الأراضي المرتفعة، و جئتِ لتسكني هذا المكان» .
«و عندما رأيتك و القصبة في يدك ظننتك رئيس الفرسان و السيف في يدك و جئت تطلبني لك» .
همست كرستي الكلمات عندها و قال لها :
«يبدو أننا نتشارك بحب الأشياء نفسها» .
عندها وضع يديه على خصرها فتشجعت كرستي و وضعت يداها على رقبته .
و تعانقا عناقاً طويلاً أحسا خلاله بأنهما لا يستطيعان العيش منفصلين .
و فجأة أفاقت كرستي من ذكرياتها القديمة على صوت غراب و وجدت نفسها في الطريق التي تنحدر إلى شاطيء کارین رود و كان جلدها مبللاً بالعرق و فمها جافاً، و كانت تلعن نيل في سرها الذي عاد إلى حياتها و أيقظ ذكرياتها و فجأة سمعت صوته يناديها و كأنه خرج من مخيلتها :
«كرستي» .