معايدة وشكر وأشياء أخرى

541 49 5
                                    

كل عام وأنت بخير. سوف تقرأ هذه السطور فى ثالث أيام عيد الأضحى المبارك إن شاء الله، وهو يوم حرج نوعا؛ لأنك تكتشف فى هذا اليوم بالذات أن اللحمة خلصت!..
أذكر فى طفولتي كيف كنا نضحى فى أول أيام العيد -لو سمحت الميزانية- ثم أخرج أنا وأبي فى جولة رهيبة فى أزقة طنطا، والشوارع الضيقة المحيطة بالسيد البدوي، ومنطقة سيدي يونس مضيها والشيخة صباح، حيث ترى عينات من الفقر والمرض والحاجة لم تتصور وجودها فى حياتك، وهذا لتوزيع أرغفة الخبز المحشوة باللحم والأرز التى أعدتها أمي فى البيت. بالطبع لم أكن أنا ابن العاشرة أرى أى شيء فى هذه الجولة سوى التنغيص والقرف والقذارة، لكن أبى بطبيعة الحال كان يعتبرها أهم لحظات العيد. وفى المساء تبدأ جولة أخرى لتوزيع اللحم على المعارف، وفى البيت أكوام من اللحم لا تنتهي أبدا...

كنت طفلا مفجوعا فعلا.. فيما بعد قرأت زجلا لعمنا الرائع بيرم التونسى يحكي عن طفل مخبول لسيدة مات ثمانية من أطفالها:

استنظره الموت وفى العيد الكبير طاله. فى اللحم لما أكل من كل ما طاله
أكل فى بيتهم.. وبيت عمه.. وبيت خاله.. ويعيد غداه كل ما يدخل لأهله ضيوف!!

لا أدري لماذا ذكرني هذا المقطع بشخص ما!!.

هكذا كان أول وثاني يوم يمران وسط جنة من اللحوم والفت وحساء الضأن. فى اليوم الثالث تضع لي أمى بعض الخضر وقطعة لحم واحدة لكنها كبيرة مشبعة.. فى اليوم الرابع أفاجأ بقطعة لحم فى حجم علبة الثقاب!.. فأصيح فى جزع:
ـ «إيه ده؟ الخروف فين؟»
فتقول أمي بلهجة العارف بالحياة الذي لم يعد يدهشه شىء:
ـ «كل سنة وانت طيب.. خلص!!!»

هل هذا الكائن العملاق الصاخب يمكن أن ينتهي أو ينفد؟ مستحيل.. هناك سرقة فى الموضوع.. هناك خدعة... فلو لم تكن هذه أمي لأبلغت عنها الشرطة، ثم كبرت وعرفت الحقيقة الكئيبة: كل شيء ينتهي...

أنت الآن تعيش هذه اللحظات القاسية الحرجة لو كنت قد نحرت، ولو لم تنحر فما لديك من لحم لن يبقى للأبد. حاول أن تتذكر هذه الحقيقة حتى لا تصاب بخيبة أمل غدا أمام طبق الفاصوليا القرديحى.

د.أحمد خالد توفيق
معايدة وشكر وأشياء أخرى

احمد خالد توفيق Where stories live. Discover now