إعلانات حتى الممات

329 33 2
                                    

الآن تعال نشرب الشاي وننعم بنعمة الصمت .. نحن نتكلم طيلة اليوم ولا نعطي أنفسنا فرصة واحدة للسماع أو تكوين آراء . عندما ننصت فلأننا نرتب ما سنقول في الجملة التالية .. إن مسرحية ( الخراتيت ) ليونسكو تلخص كل شيء لكن ليس هذا موضوعنا علي كل حال ..

أحب الشاي الذي تعده .. رديء جدا لدرجة أنه جيد كما يقول الغربيون ..

يبدو أنني سأخرق الصمت الآن .. كنت أشاهد مجموعة من الإعلانات في التليفزيون منذ قليل فخطر لي أن فن الإعلان عندنا تطور جدا لكنه لم يتحرك خطوة واضحة في طريق فهم سيكولوجية المشتري نفسها .. بعض الإعلانات مستفز وبعضها مخجل وبعضها يحاول مجاراة العصر إلي درجة أنك لا تفهم حرفا مما يقال .. بعض الإعلانات جميلة فعلا لكن الإعلان ينتهي دون أن تعرف عن أي شيء يتحدث..

كانت أولي تجاربي في طفولتي مع فن الإعلان هي مع الباعة الذين ينادون علي بضاعتهم بطريقة حرفية منغمة فيصير من المستحيل أن تعي حرفا مما يقولون . مثلا كان هناك ذلك الرجل النحيل الأسمر الذي يقف جوار مدرستي وينادي بأعلي عقيرته : ' شيها دوج دوج'. أما بضاعته فشيء مغطي لا يمكن أن تعرف كنهه .. ربما هو ضفادع محمرة أو ثعابين مقلية أو ألغام دبابات من الحرب العالمية الثانية . ظل الفضول يغلبني خاصة أنني لا أجرؤ علي الاقتراب لسؤاله عما يبيع ولم أر في حياتي من يشتري منه قط فيبدو أن كل الأطفال لا يعرفون ما يبيع .. في النهاية جرؤ أحدنا علي أن يقترب ويكشف الغطاء .. عندها اكتشف أنه يبيع نوعا من الحلوي .. وعبارة ( شيها دوج دوج ) ليست سوي ( فيها بندق ) منغمة وممطوطة وملوية بحيث صار من المستحيل أن تعرف ما تقول .. وطبعا لم يكن فيها بندق.. تعلمت أن الكذب والجعجعة جزء مهم من الدعاية ..

بائع آخر كان يقف تحت شرفتنا كل عصر ويصرخ ( هيآآآآآآآآ أوووووووه !) كأنه طرزان ينادي حبيبته شيتا في الغابة . وقد سألت كل أفراد أسرتي عما يبيعه فلم يعرف أحد واقترح أبي أن الرجل يبيع أكياس قمامة بينما اقترحت أمي أنه يبيع مشانق .. في ذات يوم سعيد دنت منه طفلة فكشف لها الغطاء عما يبيعه .. كان يبيع الزبادي لكن لا تسأل من فضلك عن علاقة الزبادي بالـ ( هيآآآآآآآآ أوووووووه!) .. يبدو أن الصيحة أهم عنده من البيع ويعتبرها إهانة أن يصيح بصوت واضح النبرات : ( زبادي ) !

كان هذا درسي الأول عن الدعاية التي تجعلك لا تشتري شيئا .

بدأت إعلانات التليفزيون تكتسب شعبية . في طفولتي كانت تعتبر من الفقرات المهمة في التليفزيون والتي تجتمع لها الأسرة وتشعر بالدفء . هل قلت فقرة .. طبعا لأن إعلانات ذلك الزمن لم تكن تؤمن بالوقت . الإعلان يأخذ راحته تماما كأنه فيلم قصير .. لت وعجن وقصة وذروة .. كان هناك إعلان شهير عن شهادات الاستثمار (الفايدة متزايدة) عرفت فيما بعد أنه محاولة الإغراء الأولي للثنائي (أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام) المتمرد كي يصير برجوازيا ويمشي مع التيار . يرى نجم أنه نجا وأنقذ الشيخ إمام بمعجزة من هذا الشرك .

احمد خالد توفيق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن