الفصل الرابع عشر

7.3K 250 34
                                    


كالبحر يخفي بداخله الكثير
هكذا كنت أظن خاطئا
ولكنني اكتشفت أن كل شيء معلوم
لا أسرار بعد اليوم






حائر











الفصل الرابع عشر
" الحب الأعمى "



استيقظت آية باكرا كعادتها كي تحضر الفطور وتوقظ إيهاب من أجل المدرسة، مرت على الأريكة الموجودة بالصالة التي ينام عليها محمد وتأملته قليلا باشتياق شديد، ثم ذهبت بخطى بائسة إلى المطبخ، ضاع منها جمالها وإشراقها واسودت عينيها وشحبت وجنتيها، مخطئ من ظن أن الجمال بأدوات التجميل والزينة أو حتى ملامح الوجه الرقيقة، الجمال ينبع من الروح، وروحها هي كانت مشبعة بالحب والحنان حد الارتواء فأزهرت وأشرقت وجنتيها وعينيها تنبض وتلمع بوميض الحب والحياة.
والليلة الماضية كانت الأسوأ عندما كانت تجهز حور للنوم سألتها ببراءة عما إذا كان سيترك والدها المنزل وينفصلان، لم تستوعب كيف لطفلة صغيرة أن تقول هذا ولكن هذا الجيل سابق لعصره في كل شيء، لا حقا في كل شيء.. مما جعل ليلتها أسوء من لياليها السابقة، سالت دموعها بشدة أثناء ما كانت تعد الخبز وعلبة الطعام الخاصة بإيهاب وهزت رأسها نادمة بشدة.
لقد كان لديها كل شيء، زوج محب حنون متفاهم ومنزل رائع وأطفال رائعين ولكنها لم تكن تنظر سوى للشيء الوحيد الذي لا يوجد لديها، وسوس لها الشيطان بكل مقدوره كي تتناول الفاكهة المحرمة وسقطت هي بغبائها في الفخ، ورغم سماعها لتلك القصة مئات المرات إلا أن اللعين نجح في إسقاطها في فخه!.
ونجح بإشغال تفكيرها ليل نهار بالشيء الوحيد الذي لا تملكه ومن الصعب الحصول عليه، ليل نهار وسوس دون توقف بأن الطفل الثاني سوف يكون مصدر سعادتها وأن لا شيء آخر سوف يسعدها في هذا العالم وكأنها لا تمتلك شيء بالأساس، وكانت النتيجة أنها خسرت الأمل وكسرت قلب زوجها وحتى صغارها أصبحوا يشكون بانفصالهم، رغم حرص محمد على عدم معرفتهم بشيء مما يدور بينه وبين آية، ولكنهم ليسوا بأغبياء ويعلمون جيدا أن هناك خطب جلل بين والديهم.
رفعت رأسها البائسة لتجد محمد في مقابلتها فغطت وجهها وبكت من جديد وتتالت شهقاتها التي أيقظته من النوم "حور.. خايفة نطلق.. أنا غبية.. ضيعت كل حاجة.. أنا آسفة"
لم يعد يحتمل بكاؤها رغم ألمه الشديد منها لم يكن انعدام الأمل ما كسر محمد وأغضبه من آية، بل ولأنه ظن أنهما روح وقلب وعقل واحد بجسدين منفصلين، ولم يصدق أبدا أنها فعلت ذلك دون علمه رغم رفضه التام لهذا الأمر، تقدم نحوها وضمها إليه وقبل رأسها وألقت هي برأسها على صدره وتمسكت به بشدة وأخرجت كل ما بها من بكاء...
***

هاتفت السيدة نور سارة في الحادية عشرا صباحا وأخبرتها بأن والدتها مريضة وحرارتها مرتفعة، فتركت المكتب وعادت سريعا إلى منزل والدتها، صعدت الطابق العلوي مهرولة لتجدها طريحة الفراش فسألتها بهلع "ألف سلامة عليكي يا ماما ..بس أزاي أنا سايباكي كويسة الصبح!"
"مم فجأة.. كده.. آآآآه"
نظرت إلى السيدة نور مستفهمة "بوقها ماله هي مش عارفة تتكلم ليه؟ طلبتوا الدكتور ولا نروح المستشفى أحسن؟!"ووضعت يدها على رأسها لتجد حرارتها مرتفعة قبلتها بقلق وخوف ثم نظرت حولها باستغراب "آية وأمل فين؟ أزاي سايبينك كده؟!!"
أخفت السيدة نور زجاجة المياه الساخنة التي كانت تضعها على رأس السيدة وفاء وقالت بارتباك "أنزلي جبي ماية ساقعة عشان أعملها كمدات"
نظرت إلى الأدوية الموضوعة إلى جوارها وبحثت فيها "خافض حرارة ومضاد حيوي بس مكتبش حاجة تانية؟!"
تأوهت السيدة وفاء بشدة "آآآآه بطني مش قادرة" وأدلت برأسها وأمسكتها سارة أثناء ما كانت تفرغ معدتها، بينما السيدة نور أرادت لو تنشق الأرض وتبتلعها يبدوا أن السحر انقلب على الساحر فالسيدة وفاء تتقيأ بشدة ولا يمكنها الادعاء هذا!.
نزلت سارة تهرول كي تعد شيء كي تهدأ من معدة والدتها التي تنظر بشر للسيدة نور، وزمجرت بها بصوت مختنق "قولت لك بلاش حلاوة بالشطة، بطني قلبت ولساني اتحرق من الشطة آخرتي على إيدك أنتِ وولادك أنا قلبي حاسس"
ومسحت دموعها ومهما اعتذرت منها السيدة نور لم تسامحها أبدا " خلاص يا وفاء بقى والله آسفة بوصي هاكل منها زيك بس متزعليش مني أنا يعني كنت هعمل إيه؟ أنتِ مشوفتيش الفيلم بتاع ماجدة ورشدي أباظة؟!"
"أفكارك النيرة دي احتفظي بها لنفسك ماشي يا نور دي آخر مرة هسمع كلامك في حاجة" وأزاحت بوجهها بعيدا عنها في غضب.
سمعت السيدة نور صوت سارة تصعد السلم وتوسلت إلى صديقتها "خلاص بقى يا وفاء مشافوهمش وهما بيسرقوا!" نظرت السيدة وفاء بعيدا عنها ولم يتناقص غضبها بعد.
ظلت سارة إلى جوارها تهتم بها وطلبت السيدة وفاء الكثير من المشروبات الباردة كي تهدأ من الحرقة التي أصابت لسانها، مر اليوم ونجحت خطة السيدة نور فالجميع بلا استثناء كان بغرفة السيدة وفاء، حتى أحمد وعبد الرحمن دون أن تحدث أي مشاكل أو شجارات بين الثلاثة تعساء الحظ.
أما عن اليوم الثاني فكان يوم الجمعة وبعد صلاة الجمعة عاد الأخوة الثلاثة وصعدوا مباشرة لحماتهم ولكن أحمد لم يذهب معهم، كانت سارة بالمطبخ تعد طعام الغداء وتناول الأطفال بعض الفاكهة، وعندما عرض أحمد عليها المساعدة لم تستطع كبح جماح لسانها فنطقت بصوت بارد دون أن تنظر له "أنت سبت الصلاة تاني" عض شفتيه ولم يعرف بما يجاوبها وتركته هي رافضة مساعدته.
"ماشي يا نور أنا تعملي فيا كده يوم ونص في السرير!، ده أنا لو تعبانة بجد مبنمش في السرير!!"
"خلاص بقى يا وفاء أنتِ كل شوية تهدديني ما قولت لك آسفة!"
نزلت عن السرير وتذمرت بشدة "والله ما أعده هنا ثانية واحدة وإلا هقولها على كل حاجة واللي يحصل يحصل بقى!"
كبتت السيدة نور حنقها منها وأجلستها بالقوة "يا ربي منك هنزل أقولهم تنزلي تحت شوية تغيري جو بطلي زن بقى!"
نزلت السيدتان إلى الأسفل واعترضت سارة بشدة على ذلك ودلف الثلاثة إخوة في تلك اللحظة وطمأنوا سارة بأن لا شيء سوف يصيبها بالأسفل، فاضطرت إلى تركها، تجمع الجميع حولها فتنفست الصعداء "أيوة كدا والله كنت هموت فوق"
"بعد الشر عليكي يا ماما ما تقوليش كده؟!"
أخذ محمد يشاكس السيدة وفاء بشقاوة كما أعتاد وهو يدغدغها "مش عارف عم شاكر جالو قلب يسيب القمر ده أزاي؟"
"بس .. بس بطل قله أدبك دي!"
ولكنه تمادى وأضحك الجميع عليها "حلاوتك يا فوفا"
أخفت السيدة وفاء وجهها بحرج منهم وشمر عبد الرحمن عن كميه "طيب بالمناسبة دي أنا اللي هطبخ هشوي لكم لحمة ما حصلتش"
اعترضت سارة لا إراديا بعد أن كانت تضحك بشدة لما كان يفعله محمد "لا متشكرين أوي أنت بتستخدم كل طبق ومعلقة في المطبخ خليك مرتاح أحسن وأوفر للجميع"
انحنى عبد الرحمن في مواجهتها بشقاوة "ده كان زمـــان اللي قدامك ده الشيف بودي إديني فرصتي بس"
نظرت له سارة وهي مبتسمة وبدا أن الزمن توقف في تلك اللحظة وكأن لا شيء سيء حدث بينهم ووضعت يدها بخاصرتها "لما نشوف الشيف بودي ولا الشيف عبد الرحمن" وظلت تبتسم له.
بحلق الجميع لهم غير مصدقين انسجامهما ولكن أحمد زمجر بالشيف! "خليك في حالك هي بتعرف تطبخ كويس مش محتاجة مساعدة".
استيقظت سارة ونظرت بحرج حولها واختفت من أمامهم، اصطكت أسنان عبد الرحمن في غيظ ونظر بحنق لأحمد ثم ذهب إلى المطبخ وأعد الغداء مع سارة.  ظل أحمد واقفا لهما بالمرصاد طوال الوقت، فهمست السيدة وفاء إلى السيدة نور "هو مش المفروض أحمد اللي كان هيصالح سارة في الكام يوم دول؟!"
ابتلعت السيدة نور غصتها "ربنا يستر يا وفاء" هل يعقل هذا؟ هل من الممكن أن تعود سارة إلى عبد الرحمن ؟! ولكن كيف وهي لم تحبه مثل أحمد أبدا؟!.
انتهوا من إعداد الطعام وامتلأت الطاولة بالعائلة الكبيرة مجتمعة، وأزاح عبد الرحمن أحمد بعنف أكثر من مرة أثناء ما كان ينقل الطعام إلى الطاولة، جلس إلى جوار زوجته وأحمد يجلس في مقابلتهما وعيناه تقدح بالشرر، ولم يكتفي عبد الرحمن بهذا القدر بعد أن عادت له روحه بوجوده مع حبيبته كل هذا الوقت، بل أخذ يخطف طعامها من طبقها مثلما اعتاد أن يفعل غير مبال بأي من الجالسين على الطاولة، لم يعد أحمد يحتمل أي مما يحدث فضرب الطاولة بيده ضربة قوية بحيث توقف الجميع عن الكلام وظلوا صامتين خوفا مما سوف يحدث، وندمت كل من الوالدتان بشدة على جمع الثلاثة مع بعضهم البعض.
قررت سارة الصعود ولكن عبد الرحمن أجلسها وقال بغضب وهو ينظر في عين أحمد "أقعدي كملي أكلك"
نطق أحمد بغيظ شديد "حقير وكداب تقتل القتيل وتمشي في جنازته"
أمسك محمد بأحمد الذي كان ينوي قلب الطاولة فوق رأس عبد الرحمن وأجلسه بالقوة "صل على النبي يا أحمد في أطفال معانا أهدى كده وكل شيء هيتحل" قضم أحمد شفتيه بشدة وأدعى الجميع بعد ذلك تناول الطعام ولكن شهيتهم كانت ذهبت، وحتى الصغار كفوا عن الضحك وارتعبوا لما رأوه.
أذن العصر وتفرق الجميع للصلاة وهدأ التوتر قليلا وأصرت سارة على والدتها بأن تصعد كي تأخذ قسطا من الراحة، دلف عبد الرحمن إلى مكتب السيد شاكر ليضع المال الخاص بإيجار المحلات، ويسجل عدة أشياء وأمور مالية تخص فارس والسيدة وفاء ولحق به فارس، نزلت سارة ثم صفقت للجميع "حديقة الحيوانات دي لازم تتفض يالا كل واحد على بيته" وأخذت تلملم في العاب وأغراض الصغار والكبار المنتشرة في أرجاء المنزل الذي تعمه الفوضى، وأثناء ما كانت تنحني لجلب عدة أغراض رأت عصفوري الحب حديثي العهد يتغازلان بالعيون، فوقفت بينهما من خلف الأريكة مقاطعه إياهما بسماجة متعمدة "نجيب أتنين لمون!"
تنهد محمد بهيام "كلك نظر"
"أنا مش قولت كل واحد ياخد ولاده وعلى بيته عشان ماما ترتاح شوية؟"
نطق بدون أن يقطع تواصل عينه مع آية "نص ساعة وهطلع أخدهم خلي بالك عليهم" وأخذ يد آية وتركوها مذهولة.
ضربت يدا بالأخرى ونظرت لحور وإيهاب فوجدتهما يلونان بهدوء شديد، فضربت مقدمة رأسها "إيه الغباء اللي أنا فيه ده! أصلا أمل وأولادها وجوزها هما اللي عاملين الدوشة!" وأشارت إلى أختها "أنتِ خودي ولادك وجوزك اللي ناطط في التلاجة بتاعتنا" وصرخت عليه "أنت يا أخ ده غدا بكره على فكرة عندك تلاجة في بيتك تحت!"
رجعت أمل في كرسيها وهي تقلب في التلفاز "لا أنا مش هنزل مع المجانين دول لوحدي استحملي مش أنتِ أختي" وأعطتها مريم كي تريح ذراعها قليلا.
ولكن بقرب المغرب كان المنزل انفض من حولها فصغار أمل ظهرت عليهم أعراض المرض ونزلوا إلى الأسفل معها عدا كريم، ونزلت السيدة نور وضميرها يؤنبها "خدوا عدوى من وفاء أزاي؟ ووفاء مش تعبانة أصلا!! أستر يا رب سامحني على كدبي مش هعمل كده تاني!" وصغار محمد نزلوا أيضا ولم يتبقى سوى أحمد وكريم.
تجاهلته سارة تماما وأخذت تداعب الصغير بكل حب متناسية معه كل هموم ومشاكل العالم الذي تعيشه، أخذ يراقبها وفي النهاية سارة لم تعد تحتمل "أحمد من فضلك أكيد طنط تحت مستنياك"
تجاهل دعوتها بالرحيل "كنتِ هتبقي أحسن أم في الدنيا" دمعت عيونها سريعا ونظرت بعيدا عنه "أنا آسف.. سامحيني أرجوكي .. أنا السبب".
ضمت كريم إلى صدرها بقوة وهزت رأسها نافية وابتعلت بكاؤها بأعجوبة "أمم تعرف يا أحمد أنا مش هنكر أني حملتك المسؤولية لفترة أنك أنت السبب في أني معنديش أطفال .. طفل واحد حتى، كان قدامي 24 شهر ..24 محاولة.. كل شهر أمل جديد إن يكون في جنين بس أنت رفضت.. تفتكر مفكرتش في ده قبل كده؟" نظر لها أحمد بأسى شديد وخجل من الإجابة عليها، مسحت دموعها بعنف بظهر يدها "رفضت عشان مش عاوز أطفال، بكل بساطة.. أنا كنت بعمل أي حاجة تسعدك وتريحك وأنت.. الحاجة الوحيدة اللي عارف قد إيه أنا بتمناها حرمتني منها، عارفة أني كنت بنزل الجنين كل حمل بس أنت حرمتني من المحاولة.. خليت عندي سبب أفكر فيه كل يوم من أربع سنين لو مكنتش سمعت كلامه.. لو كنت حاولت كان ممكن يكون ابني أو بنتي في حضني الوقتي، بس لقيت أنك أنت مش السبب" نظر لها أحمد وقد شعر بأن هناك مخرج لمأزقه هذا ولكنه كان مخطئ "عارف .. أنا السبب.. أنا إنسانة جبانة مدافعتش عن حلمي مواجهتكش .. كنت بخاف أفتح الموضوع معاك عشان متزعلش .. عشان محملكش مسؤولية أنت مش عاوزها .. عشان.. عشان صدقتك" سحبت نفس عميق وبدأت يدها في الارتعاش "والحقيقة بعد سنين من عصر دماغي في كان، ولو، وممكن! لقيت أني أستحق العقاب ده .. لأني جبانة والأم مش المفروض تكون جبانة المفروض تكون شجاعة عشان تقدر تحمي ولادها وتطمنهم"
تساقطت دموع أحمد بشدة "كفاية يا سارة.."
تهدجت نبرتها بالبكاء وارتفع صوتها "عشان كده يا أحمد أرجوك متحسش بالذنب من ناحيتي أو أنك أنت السبب في أني مش أم، لأن ببساطة أنا السبب.. أنا أجبن وأضعف من أني أكون أم.. من العدل أني مكنش أم".
سمعت صوت المصعد ومسحت دموعها سريعا ودلف حسام مسرعا لأخذ كريم "إحنا هنروح للدكتور هناخد كريم بالمرة"
هزت رأسها متفهمة ونزل حسام سريعا واستأذنت من أحمد "بعد إذنك هطلع أطمن على ماما"
خرج وهو يشعر بالعار والخزي منها، ونادى فارس عبد الرحمن الذي سمع كل شيء من باب المكتب "أبيه أنا حليت كل المسائل مش هتراجعها؟"
رد بوجوم شديد "بعدين يا فارس .. بعدين" خرج من المكتب وصعد بثقل شديد ووقف أمام غرفتها يستمع إلى نحيبها ولكن يده تجمدت على المقبض، ود لو يضمها له بشدة كي يطيب جرحها الذي لا يندمل أبدا ولكنه تجمد، لا يريد أن يثقل كاهلها بالخزي منه، لا يريد لجرحها أن يزداد سوء فعاد واجما إلى بيته... .
***

وقفت في أقرب نافذة من منزلها لتراقب الحديقة كي تبدو نوعا ما وكأنها تشاهدها من شرفة غرفتها، أمسكت بكوب القهوة تدفئ نفسها به وقررت فتح النافذة رغم أن الجو بارد للغاية، خاصة وأنها السادسة صباحا، فتحت النافذة ووقفت تراقب الطريق آملة في أن يخفف الهواء البارد من توتر وترهل جفون عيونها التي لم تذق طعما للنوم البارحة، ورغم ما تشعر به من عذاب لم تسترسل في البكاء والنحيب، بل تحاملت على نفسها وغسلت وجهها بدلا من المرة عشرة كي لا يظهر عليها أي أثر للبكاء، فآخر شيء تنوي فعله هي إعطاء أحمد فرصة للشفقة عليها.
"صباح الخير"
التفتت بسرعة إلى جوارها، إلى الصوت المبحوح الذي ألقى عليها تحية الصباح للتو، هدأت من أنفاسها التي ارتعبت لوهلة  وتمتمت ببطء وصوت مبحوح هي الأخرى "صباح النور"
تأمل كل منهما الآخر قليلا ثم التفتت سارة وتناولت رشفة من كوبها كي تهرب من عينه التي تخترقها وتحلل ما بها "بتشربي إيه؟"
انفجرت ضاحكة حتى كادت أن تسقط الكوب من يدها فهذه عادته الدائمة كلما رآها تشرب شيئا ما يسألها بفضول "المج ده في إيه؟!" ويأخذه منها ليتذوق ثم يقول "حلو ده، يلا اعملي لنفسك واحد تاني بقى" ويلوذ هو بالكوب خاصتها تاركا إياها ضاربة الأرض بقدمها، عندما كفت عن الضحك ناولته الكوب مستسلمة ومدد هو ذراعه وحصل عليه وتناول رشفة ثم قال "متبقيش تنطي أوي كده عشان لو وقعتي مش هنزل أجيبك"
نظرت سارة للستة طوابق التي تفصل بينها وبين الأرض وهزت رأسها "أطمن لو وقعت هبقى عند ربنا مفيهاش كلام تاني خلاص!".
أعاد لها الكوب مرة أخرى وأخفت سارة وجهها بحرج منه وهي ترتشف ببطء من الكوب وأعادته له مرة أخرى، ثم دلفت وعادت بقطع من الكعك، أخذها بحبور شديد وتمتم "نسكافيه وكيكة جبنة!أحمدك يا رب أنا مش فاكر آخر مرة فطرت أمتى؟"
"يا حرااام" قالتها سارة بتكهن شديد
"حالتي تصعب على الكافر بس اللي يحس بقى!"
نظرت له سارة بطرف عينها ومن ثم نظرت أمامها مرة أخرى وهي تحاول كتم ضحكاتها منه، ظل الاثنان هكذا ينظران إلى بعضهما البعض وأحيانا يراقبان الطريق والعصافير التي تزقزق بشدة استقبالا لليوم الجديد دون أن يتحدثا، فقط يستمتعان بشعور أن كل منهما يقف إلى جوار الآخر. سمعت سارة صوت والدتها فوقفت سريعا وقالت بوجل "ماما صحيت" وأغلقت النافذة واتجهت نحوها
لوي عبد الرحمن شفتيه بسخرية منها بعد أن ذهبت "محسساني أنها قفشتك مع ابن الجيران!"تمطى عبد الرحمن وقد ابتهج صباحه، قرر عدم الذهاب إلى العمل اليوم والبقاء في المنزل فهاتف محمد ليخبره "بقولك أنا مش رايح الشركة النهاردة"
"تعبان؟ أنت كويس؟!"
"أنا تمام بس عاوز أجازة"
"قشطة والله أنا كمان مليش مزاج أروح هاخد أجازة زيك"
نفخ عبد الرحمن الهواء "ماشي بلغهم في الشركة وبلغ حسام.. خلي علا تبعت البريد على البيت الساعة 12 كده سلام"
تمطى محمد في سريرة بأريحية وهاتف حسام "صباحو أنا وعبد الرحمن أجازة النهاردة مش هنروح الشركة خلي علا تبعت البريد الساعة 12 على البيت"
"أنتو كويسين؟!"
"آه تمام بس عاوزين أجازة"
"طيب إشمعنى أنا والله ما أنا رايح أنا هكمل نوم ده أحلى خبر أسمعه من زمان" وأغلق الهاتف ونزل تحت الغطاء بسعادة شديدة وتمتم بحبور "هنام بقى طول اليوم".
هاتف محمد عبد الرحمن مرة أخرى "بقولك حسام كمان مش رايح قال إشمعنى أنا خليهم يبعتولك بقى البريد أنا هكمل نوم سلام"
ضرب عبد الرحمن مقدمة رأسه بحنق ونظر إلى السماء ودعا ربه "يا رب صبرني على ما بلتني!" وأرسل رسالة لعلا كي ترسل له البريد!.
انتظرت السيدة نور على طاولة الإفطار صباحا ولكن لم ينزل أي من أبنائها مثلما اعتادت، ونزل كل من فارس وإيهاب وحدهما وطلبا مفتاح السيارة فسألت بقلق "هو محمد فين؟"
"مش هيروح الشركة النهاردة وماما قالت خلي عم حسين يوصلكوا"
"طيب يا إيهاب المفتاح في الدرج هناك" ودعاها وازدادت في حيرتها، فحسام لم يظهر وعبد الرحمن لم تره هو الآخر، ما الذي يحدث؟!.
صعدت إلى السيدة وفاء ووجدت سارة تلازمها فتذرعت "سارة اعمليلي فطار يلا وجيبلي حباية الضغط من تحت" هزت سارة رأسها ونزلت وأتت بالدواء ثم صعدت لتحضير الفطور مرة أخرى.
"شوفتي ولاد أمل تعبوا أزاي يا قلبي مريم شكلها تعبان أوي ووشها أصفر، أحسن يكون ده ذنبي يا نور سامحني يا رب والله ما هكدب تاني أبدا"
"آه والله آخر مرة أنا مجليش نوم خالص يا وفاء من امبارح هو إيه اللي حصل هما اتخانقوا هنا؟"
سألت السيدة وفاء بتعجب "مين اللي اتخانقوا؟!سارة طلعتني وأنا نمت بجد قعدة السرير دي مملة أوي، الولاد كويسين؟!!"
هزت السيدة نور رأسها بتعب "في حاجة حصلت يا وفاء أمبارح، وحاجة كبيرة كمان أحمد منمش طول الليل وقعد يصرخ الفجر من ظهره علامات الكرباج كانت حمرا أمبارح أوي كأنه يا قلبي لسه مضروب فضلت أعمله كمدات ماية ساقعة وأحط في كريمات ولاحاجة نافعة بس هو في حاجة مش طبيعية أبدا"
"ربنا ينتقم منهم اللي عملوا فيه كده استني أنا هنزل وأسأل سارة، مسألتيش حد من الولاد"
"معرفش محدش فيهم نزل"
ربتت السيدة وفاء على يدها "طيب متقلقيش تعالي ننزل تحت ونسأل سارة".
نزلتا إلى الأسفل وسألتا سارة بحذر عم حدث البارحة بعد نزول السيدة نور، فأخبرتهما بأن لا شيء هام حدث، عضت والدتها شفتيها ثم سألت سارة بهمس رغم أن لا أحد سو ثلاثتهم بالشقة "عبد الرحمن وأحمد اتخانقوا أمبارح؟"
"لا أبدا عبد الرحمن مشوفتوش من العصر وأحمد نزل بالليل بعد طنط"
ذهبت سارة إلى المطبخ وتمتمت السيدة وفاء "أهدي بقى محدش اتخانق ونزلوا كويسين"
"قلبي مش مطمئن أبدا في حاجة".
دق جرس الباب ودلف عبد الرحمن يسأل عن حال السيدة وفاء ويبتسم لسارة بمكر، ثم جلس لتناول الفطور معهم "أنت أتأخرت على الشركة مش لابس هدومك ليه؟"
رفع بنظره عن سارة التي تحاول إخفاء ضحكها عنهم "أنا كسلت واخد أجازة النهاردة"
"وأخواتك فين؟"
"قلدوني" قالها بسخرية شديدة.
سألت السيدة وفاء "أنتو كويسين يعني حد فيكوا زعلان من حاجة؟" ونظرت إلى السيدة نور التي تنتظر الإجابة.
أنزل كوب الشاي من فمه "آه تمام مفيش عندي حاجة مهمة النهاردة أصلا في الشركة".
عبثت السيدة نور بعينها "طيب كلنا هنتغدى النهاردة سوا عندي" ونظرت للسيدة وفاء "أبقي قولي لآية وأمل عشان يعملوا حسابهم"
نظرت السيدة وفاء إلى سارة "أنزلي مع طنط ساعديها وأنا هحصلكوا"
"حاسة أنك كويسة هتقدري تنزلي"
هبت بها والدتها "أنا زي القردة يا سارة بطلي بقى!"
"ماشي يا ماما" تركت الطاولة ولحق بها عبد الرحمن.
نظرت الاثنتان لهما باستغراب شديد والتفتت السيدة نور لصديقتها "في مصيبة هتحصل النهاردة أنا قلبي مش مطمئن".
ادعى عبد الرحمن أنه يأتي بكوب من الرف العلوي، ثم خطف قبلة سريعة من وجنة سارة التي وضعت يدها على وجنتها غير مصدقة" أنت مجنون أزاي تعمل كده؟!"
"كده" وقبل وجنتها الأخرى بشقاوة.
حاولت جلب أي جدية إلى صوتها "أمشي أطلع برا"
جذبها من خاصرتها "وإلا هتعمل إيه يا شراني أنت؟!"
خلصت نفسها منه "عيب كده أطلع برا"
"عبد الرحمـــن" التفت الاثنان بسرعة للصوت الغاضب ليجدا السيدة نور حانقة بشدة منهما "أنا رأيي تروح الشركة بدل ما تضيع وقتك أو تطلع على شقتك، وأنتِ تعالي معايا عشان نجهز الغدا يلا قدامي"
تنحنحت سارة "هغير هدومي وأحصلك حالا" وصعدت وتركتهما.
واجهته السيدة نور"سيب مرات أخوك وأخوك في حالهم فاهم ولا لاء؟!" وتركته في المطبخ وهي حانقة، ولم تنزل إلا وسارة بيدها إلى الأسفل، خطفت سارة نظرة سريعة نحوه وبدت مرتبكة بشدة مما تفعله السيدة نور.
نزلت السيدة وفاء إلى الأسفل واستيقظ أحمد هو الآخر ولكنه لم يكن يعلم أي منهن مع والدته، فنزل بعكازه ينادي عليها وبدا مصدوما عند رؤيتهما بالمنزل، تحاشى سارة بشدة فكان يشعر بخزي رهيب مما تحدثت به البارحة معه، أما سارة فأرادت أن تنفي أي صفة للشفقة منه فألقت عليه تحية الصباح وكأن شيئا لم يكن، فهو لن يراها منكسرة أو ضعيفة مرة أخرى أبدا، عادت إلى المطبخ رغم أن هناك الكثير من الوقت على موعد الغداء، لكنها كانت مندهشة من لهجة السيدة نور الآمرة، فهي لم تحدثها هكذا من قبل، دلفت خلفها وبنفس اللهجة الآمرة" سيبي اللي في إيدك وحضري الفطار لأحمد"
عبست سارة بمزاح "مالك بس يا نور"
ولكن السيدة نور لم تكن تمزح "الوقتي حالا" فخبت البسمة من على وجه سارة وحضرت الفطور وهي تشعر بغرابة شديدة.
تهامست الوالدتان مرة أخرى "مستحيل يا نور ده إحنا مجوزينها غصب عنها، عبد الرحمن؟ .. لا لاء متقلقيش"
"أنا هتجنن دي لسه قبل ما يظهر بكام أسبوع أنا وهي رايحين المقابر من وراه ومكنتش طايقاه، أزاي؟ أكيد مصدقة إن أحمد طلقها" نظرت الاثنتان إلى أحمد الواجم والذي لم يرفع بنظره نحو سارة حتى، على غير عادته في محاولته لفتح أي حديث معها، وضعت سارة الفطور له وظلت جالسة، بل وادعت تناول الطعام معه أيضا لترى ما تخطط له كل من والدتها والسيدة نور، ولم ترشقها السيدة نور بهذه النظرات منذ الصباح؟!.
بعد ساعة بدأت الوفود بالنزول، محمد وحور وآية و أمل وأحمد وكريم الذي لم يلتقط العدوى لحسن الحظ، وحتى مريم ولكنها كانت هادئة بشدة على غير العادة، وبدأ الفتيات يحضرن الطعام مع السيدة نور وصعدت سارة إلى شقة والدتها للصلاة، وأثناء إغلاقها لباب الشقة وجدت يدا تكمم فمها وذارع قوية حول خاصرتها حملتها بسرعة رهيبة، أخذت تركل بكل قوتها ولكن بعد لحظات مرعبة وجدت نفسها في مواجهة عبد الرحمن في منزلها ولا يزال كفة العملاق يكمم فمها، ظل كل منهما ينظر إلى الآخر ثم فجأة ضربته بقوة على صدره، فتأوه منها ونزع كفه وأخذ يفرك صدره "يا ربي منك لسه إيدك طويلة، كفك صغير بس بيلسع!"
حاولت الذهاب إلى الباب لكنه حاوطها محتجزا إياها بين ذراعيه، التقطت أنفاسها المرتعبة وهي تنظر إلى الأعلى ونطقت بغضب طفولي "رعبتني!"
"حقك عليا وبعدين أنتِ كمان ضربتيني يعني خالصين"
استندت على الحائط خلفها وربعت يديها وقالت بتكهن "خير حضرتك عاوز إيه؟!"
انحنى أمامها وقال بصوت رصين "كل خير إن شاء الله"
"أنا عاوزة أنزل حالا"
"أصل .. أصل في كلام مهم أوي عاوز أقوله ليكي"
"فعلا!"
"طبعا أنا يعني هكذب ليخ!"
زمت شفتيها ثم تمتمت بلا مبالاة "أتحفني!"
تنحنح وحاول جلب أي جدية إلى صوته وأغمض عيونه عدة مرات، ثم انحنى واقترب منها كثيرا وهو يحدق في عيونها بشدة، فأرجعت رأسها إلى الخلف ونظرت له بغرابة شديدة، ظل صامتا وهو يحدق إلى عيونها بشدة فتمتمت بخوف "أنت هتنيمني مغنطيسي ولا إيه؟!"
"عنيكي.. "
سألته بخوف "مالها؟ وارمة!!.."
"عنيكي بحر واسع ملوش قرار .. وقلبي مش قادر على البعاد" اتسعت حدقتي سارة كما لم تتسع من قبل، هل يغازلها عبد الرحمن؟؟؟!!!، نظر إلى الحائط الذي يسند يده عليه برهة ثم نظر لها مرة أخرى وركز بحدقتيها "أرحمي شوقي وحبي واعطفي على نبض قلبي".
ازدادت ضربات قلبها بشكل جنوني وشعرت بهلع شديد وحدثت نفسها بأسى "عبد الرحمن أتجنن!!"
نظر إلى الحائط مرة أخرى وضيق عينه بغرابة ثم نظر لها سريعا "وعيون المها عينك و.. و .. "
"وإيه؟!" سألته ببلاهة
"لحظة بس استني عليا!" ونظر إلى الحائط مرة أخرى.
رفعت هي رأسها مرة واحدة وغضبت بشدة، أمسكت بذراعه وأخرجت ورقة طويلة رفيعة يخبئها في كم قميصه سحبتها ووصل طولها إلى المتر تقريبا!، واجهته بها وعلامات الغضب الشديد على وجهها فنكس رأسه أرضا بخجل شديد "برشـــام! برشـــام يا عبد الرحمن دي آخرتها بتغش!!"
"ماهو ..أصل أنا مبعرفش أقول حاجة!"
كورت الورقة الطويلة بغضب شديد وألصقتها بصدره وزمجرت به "أنا مطلبتش منك حاجة ومش عاوزة منك حاجة"
همت بتركة لكنه أمسكها من ذراعها وأعادها له "خلاص بقى يا سارة والله أنا بس كنت عاوز أقول كلام حلو زي ما أنتِ عاوزة"
ربعت يديها والتفتت برأسها بعيدا عنه "الكلام ده بيطلع من القلب.. لو بتحب هتقول اللي في قلبك مش بيتغش من النت، غاشه منين؟!" سألته بغضب.
زاغت عيناه بخجل ثم تمتم بأسى "منتدى فتكات!".
نفخت سارة وجنتيها بغضب وهمت بتركه ولكنه أعادها مرة أخرى "طيب أستني بس.. أممم آه .. في حاجة عاوز أقولك عليها مهمة"
"والله مخبي برشام فين تاني؟!"
"لا لا مش مخبي حاجة الموضوع بس إن في حاجة بتضايقك أوي حصلت وأنا ميرضنيش أنك تعرفي من برا ف قولت أقولك بنفسي"
تمتمت بكبر "أتفضل"
"الموضوع وما فيه إن الأوضة فوق تضرب تقلب ومحتاجة تترتب جدا وأنا عارف أنتِ بتضايقي قد إيه من اللغبطة"
ضيقت نظرها غير مصدقة ما يقوله أبدا "ها كمل"
"بس ف.. لو يعني طلعتي تساعديني في ترتيبها هكون شاكر جدا .. أنا مش عاوز أقولك على الكبيرة كمان"
"لا قول!"
أقترب منها أكثر وكأنه سوف يقول شيئا خطيرا للغاية "الكرافاتات"
"مالها؟"
"في درج الشربات"
"يا خبر!!"
شبك يده ونظر للأسفل وهز رأسه بأسى شديد "للأسف الوضع كارثي فوق"
نفخت غير مصدقة "بس مش معقولة.. مش لدرجة الكرافات تبقى في درج الشربات!!"
"أنا مكنتش عاوز أقولك ومخبي بقالي فترة بس أنتِ اللي أضطرتيني"
"تؤ تؤ تؤ " هزت سارة برأسها بأسى شديد.
انحنى وهمس لها "أنا عارف أن الوضع ده ميرضكيش أبدا"
ضمت شفتيها مدعية الأسى "الوضع ده ميرضيش حد أبدا، .. والعمل؟"
قال بسرعة وبفرح شديد "تطلعي معايا نص ساعة بس نظبطها على طول وأنا هساعدك"
سألته باستغراب "أطلع فوق؟!"
انحنى مرة أخرى "أنا خايف أقولك إن الفلنات نطت في درج الساعات، وأزاي متسألنيش!"
وضعت يدها على وجنتها بهلع درامي "لا كده كتير أوي مش ممكن أسمح بالمهزلة دي"
رفع عبد الرحمن رأسه بفرح وصفق بيده وقال بصوت عال مرح "كنت متأكد أن قلبك كبير واللي بيحصل فوق ده مش هتسكتي عليه أبدا!".
نظرت له تقيم الوضع "هطلع بس بشرط عشر دقايق بس أنا اتأخرت على ماما"
"موافق جدا"
تقدمته سارة سريعا وهو خلفها يحاول ألا يقهقه عاليا، صعدت درجتين ثم توقفت والتفتت له وذهبت البسمة من على وجهه، مسحت كتفيه وعدلت ياقة قميصه وقالت برقة شديدة "اسبقني أنت وشيل الكرافات من درج الشربات عشان لو شوفت المنظر ده هتعصب، على ما أجيب عصير من التلاجة"
"هوى" صعد السلم سريعا كي يرتب الغرفة قبل صعودها، وما إن وصل إلى آخر درجة في السلم حتى شعر بمدى غبائه وسذاجته، وفي نفس تلك اللحظة سمع صوت فتح وغلق باب شقته فضرب مقدمة رأسه بيده "غبي!!".
ضربت زر المصعد بسرعة ثم عدلت عن الفكرة وركضت إلى الأسفل فلا وقت لديها لانتظار صعوده، وضعت يدها على فمها تكتم ضحكاتها فعبد الرحمن جن تقريبا، فهي لم تره يتصرف على هذا النحو من قبل قط!، خرج يركض خلفها وفتح باب المصعد ليجده فارغا فركض بسرعة على السلم خلفها وهو يناديها بهمس خافت "سارة ..سارة! أطلعي هنا أحسنلك ..أستني بس" ولم يستطع الإمساك بها إلا قبل الدرجات التي تفصلهم عن منزل السيدة نور.
"سيب دراعي أحسنلك!"
"أستني بس قطعتي نفسي.. أطلعي معايا بس هقولك حاجة"
لوت شفتيها بسخرية "بقى الكرافات في درج الشربات ده اللي ربنا قدرك عليه! على العموم الدولاب كله عندك أشبع بيه"
أمسكها من ذراعيها وقربها منه وقال محاولا استرضائها "أصل أنتِ وحشاني موت فقولت أتحجج بأي حاجة .. بحبك"
همس لها بهذه الكلمة ولكن سارة نظرت بعيدا عنه وتمتمت بهمس "كداب".
وضع أصبعا برقة أسفل ذقنها وجعلها في مواجهته وغاص بعينيها وبسمة رقيقة على ثغرة "وأنا كمان وحشتك زي ما أنتِ وحشتيني ولو قولتي غير كده تبقي كدابة"
التفتت بعيدا عنه مرة أخرة ونفت كلامه "محصلش أبدا"
"فعلا! أوك حطي عينك في عيني وقولي أني موحشتكيش" تحداها بالنظر إلى عينيها وظل الاثنان هكذا لفترة، كل منهما يغوص في عين الآخر يبحث عن ونيس الروح الذي فقده في حياته، أمسك بوجهها بين كفيه ومن ثم قربها منه وضمها إلى حضنه بشدة واضعا وجنته على وجنتها، بدت هي منومه في تلك اللحظة فلم تقاومه بتاتا، ظل الاثنان هكذا لفترة لا يعلم أي منهما ما هو مقدارها، ثم انتبه إلى أنهما على السلم فهمس بأذنها "أطلعي معايا .. ولا أقولك تعالي نمشي ونسيب هنا ونروح في أي مكان لوحدنا"، كانت مغمضة العينين لم تجيبه بشيء، بدت مسلوبة الإرادة بشدة في تلك اللحظة، ولكنها فزعت بشدة على صراخ غاضب باسمها أتى من أسفل السلم!.
"سارة،.. أزاي؟ أزاي واقفة معاه كده؟!"
ابتعدت سارة عن عبد الرحمن على الفور وأصفر وجهها وهمت بالنزول لكنه وضع ذراعه على الحائط ومنعها من التحرك، أشتعل لهيب الغضب بعينه ثم نظر إلى سارة بنفس الغضب "خايفة منه ليه ملوش كلمة عليكي"
تحرك صدرها لأعلى وأسفل بعصبية شديدة ونطقت بتهدج "أنا مش خايفة منه.. أنا مش عاوزة مشاكل بطلوا تتخانقوا"
هز أحمد رأسه غير مصدق أبدا وأخذ يسب عبد الرحمن "حقير وواطي وندل والله العظيم لهدفعك تمن اللي عملته فيا غالي أوي" نظر إلى سارة والدموع مجمعة بعينه "بوصي أنا عارف أني ظلمتك معايا كتير بس والله العظيم هعوضك عن كل حاجه أنا بس محتاج لك تسمعيلي زي زمان، سارة بوصي ليا أنتِ هتعرفي إذا كنت كداب ولا لاء"
رق قلبها إلى ونظرت له وزمجر عبد الرحمن به "عاوز تكدب وتقول إيه تاني"
خرجت السيدة نور ثم السيدة وفاء ورويدا رويدا كان المنزل كله يقف على السلم. تقدم أحمد خطوة ثقيلة بعكازه ومد يده لها كي تنزل ولكن عبد الرحمن سحبها من ذراعها الآخر وتمتم لأحمد "أنا صبرت عليك كتير أوي لكن كدبك كله هينتهي النهاردة يا أحمد"
هز أحمد رأسه يقر أمرا واقع "هتخلص مني تاني مش كده، بس المرة دي هتتأكد أني موت مش بعيد تخلص عليا بأيدك"
دمعت عيون سارة بشدة وهزت رأسها غير مصدقة  ونطقت بهمس "عبد الرحمن م.. مستحيل يعمل كده".
رغم أن أحمد تعهد بعدم الحديث عن هذا الموضوع دون العثور على دليل إلا أن الكيل فاض به "بعد سنتين ونص من السجن هناك عرفت أني كنت مخطوف عشان فدية.. أنا كنت فاكر أنهم جروني هناك عشان أشتغل في الأرض لما عرفت خرجت وقعدت أصرخ عشان يطلعوني من هناك، ضربوني وكان هيموتوني واتسببوا في العاهة اللي حصلت لرجلي ولما فوقت "الهندي" قالي أنهم مستحيل يخرجوني من هنا وأنهم طلبوا فدية 400 ألف دولار من أهلي ورفضوا الدفع ولما سألته مين اللي رد عليهم" وجه نظره لعبد الرحمن ونطق بغيظ شديد "قالوا أخويا، محدش غيره خرج من مصر تقدر تقولي لو أنت عارف أني مت زي ما بتقول أزاي تسيب بابا وماما في الظروف دي وتسافر بعد يومين بس من دفني تسافر وتسيب مصر قبل يوم واحد من خطفي" ثم صرخ به حتى انتفضت عروقه "رد عليـــــا".
التفت الجميع برعب إلى عبد الرحمن، حتى سارة سلكت نفسها منه وظلت ملتصقة بالحائط ونزلت عدة درجات برعب شديد، اتجه أحمد ناحيتها ودموعه تسقط على خديه يمد بذراعه وتوسل لها "صدقيني يا سارة هو السبب في كل اللي حصل لنا، هو اللي كان عاوز يكوش على كل حاجة".
وقفت في منتصف السلم حائرة بين الأخوين، لا تستطيع تصديق أي منهما، تتمزق أوصلها بشدة وتشعر بألم بالغ لا تستطيع تصديق أن عبد الرحمن فعل هذا بأحمد وبهم جميعا، وتعلم تمام العلم أن أحمد لا يكذب في تلك اللحظة، تهدجت أنفاسها من البكاء وهي تنظر برعب وحيرة لكل منهما.
صرخت السيدة نور بغضب على عبد الرحمن "كنت فين؟ وسافرت ليه؟!"
ربع عبد الرحمن ذراعيه وسحب نفسا عميقا ونظر إلى أخيه محمد "ها مش عاوز تعرف أنت كمان يا محمد أنا كنت فين؟!"
نظر محمد إلى أحمد وهو يعلم أن أخاه لا يكذب ولا يراوغ في تلك اللحظة وأن دموعه حقيقية "أظن معتش ينفع تخبي علينا يا عبد الرحمن ومن حقنا نعرف أنت كنت فين؟"
سأل عبد الرحمن أحمد مباشرة "سكت ليه المدة دي كلها مقولتش المعلومة المهمة دي ليه على الهوا وسمعت مصر كلها وعرفتهم قد إيه أنا حقير وواطي؟!"
ربتت والدته على ظهر أحمد وسألته بفم مرتعش من البكاء "ليه مقولتش يا أحمد ليه سكت المدة دي كلها؟!"
مسح دموعه وأخذ نفسا عميقا "الهندي والفلبينيين اتقتلوا، والفندق اللي نزلت فيه أتهد وأتبنى غيره وأصلا مستحيل كنت هلاقي بيانات من خمس سنين وماجد قالب الدنيا على مانيلو راجل استرالي كان موجود في الكوخ يوم ما عرفت الحقيقة هو الوحيد اللي عايش من اللي كانوا معايا وماجد قالب الدنيا عليه عشان يجي يشهد معايا في المحكمة.. خفت أقول ليعرف ويعمل حاجة يضيع بيها الشهادة عشان كده فضلت ساكت لحد ما ألاقي دليل".
صفق عبد الرحمن بعدها بشدة وبصوت عال أرعب سارة، ثم نزل درجتين وجلس على السلم بأريحية وقال بدرامية وهو يؤكد على كلمته "الدليـــل، فعلا يا أستاذ أحمد أهم حاجة يكون في دليل وبما أنك مصر ترجع للماضي، تقدر تقول لهم أنت خرجت من مصر مع مين؟!" وارتفعت زاوية فمه بابتسامة متكهنة.
أصفر وجه أحمد بشدة وذهبت أنفاسه "اللعنة أخاه يعلم بكل شيء"، أخذ يلهث ويأخذ أنفاسه بصعوبة شديدة وهو يبحث عن مخرج لورطته، نظر إلى سارة ولكن هذه المرة لم يكن صادقا كان متوترا ومتخوفا إلى أقصى درجة "صدقيني الموضوع مش زي ما أنتِ فاكرة إديني فرصة وأنا هشرح لك كل حاجة" وبدأت يده وشفتيه بالارتعاش "سارة تعالي أنا هفهمك أرجوكِ متسمعيش منه.. هو عاوز يدمر اللي بنا بأي شكل" نظرت بخوف إلى عبد الرحمن، ترى ما يخفيه عنها ويرعب أحمد بهذا الشكل؟!.
نظر عبد الرحمن إلى والدته التي تعتبره خائنا تعدى على حرمة أخيه "سافر مع خطيبته.. مروة"
وضعت سارة يدها على فمها غير مصدقة أبدا، ظلت تبحلق في الفراغ ودموعها تسقط دون هوادة، نزلت رويدا رويدا إلى أن جلست وقد جاوزت صدمتها كل شيء، نظر لها عبد الرحمن ولمعت الدموع بعينه "لم تهتم؟ لم تبالي به؟".
مشط أحمد شعر رأسه بعصبية شديدة "سارة والله العظيم ما حصل حاجة بنا ..سارة ردي عليا" ونظر إلى عبد الرحمن وصرخ عليه بشدة "أنت حقيــــــــر بتحاول تدمرني بأي شكل.."
قاطع عبد الرحمن وصله سبابه وقال بغضب وهو يخرج هاتفه من جيبه الخلفي "وعلى عكس الأستاذ أحمد أنا عندي دليل لكل كلمة بقولها" حاول إعطائه لسارة التي تجلس لا حول لها ولا قوة تنظر لأرضية السلم ولا تشيح بنظرها عنها، ثم قذف به إلى محمد الذي قرأ الرسائل وسجل المكالمات الخاص بهاتف أحمد الذي حصل عليه عبد الرحمن بعد فترة من وفاته من شركة الهاتف، تأكد من كل حرف ونظر بخيبة أمل إلى والدته، أشاح بنظره إلى الأرض وهو يعض شفتيه فقد تأكدت شكوكهم وظنونهم، وضعت السيدة نور يدها على وجهها لا تصدق أن مخاوفها حقيقية، لا تصدق أن أحمد عاود الكرة وأضاع خمس سنوات أخرى من عمره بسبب تلك الفتاة!.
بكت السيدة وفاء وأمل وآية على الخيبة والصدمة التي تعرضت لها سارة التي لا تشيح بنظرها عن درجات السلم التي تجلس عليها "ليه؟.."
التفت الجميع إلى الهمس المبحوح الذي صدر عنها، كانت تتحدث بمعجزة وقد ذهبت أنفاسها تماما "أنا ..أنا فاكرة كويس أني سألتك! لو حابب تكمل معايا ولا لاء .. مكنتش م ..مستاهلة أبدا أنك تهرب وتعمل كده .. كنت قولي الحقيقة وأنا هنسحب بهدوء من حياتك" وقفت بقدم مرتعشة ونزلت الدرجات القليلة بخطى ثقيلة متعرجة، ثم فجاءه أمسكت بمعدتها وأفرغت ما بها، أمسكتها والدتها وأخواتها ولكنها مسحت فمها بكمها ونطقت بصعوبة شديدة وهي ترتعش "والله .. العظيم لو حد فيكو جه ورايا.. عمركوا ما هتشفوني تاني أبدا"
توسلت والدتها "يا سارة خليني بس أجي معاكي.."
لم تستمع لها وركضت مترنحة على السلم، خرجت من البوابة الحديدية بأعجوبة وحاول العم فهمي إيقافاها كي يسأل عن ما إذا كان هناك خطب بها، تقيأت مرة أخرى بشدة أمام البوابة وما إن رفعت رأسها حتى سارت ملتصقة بالسور تستند عليا، وعندما استعادت قوتها قليلا أطلقت العنان لقدمها وركضت وإن كان بوهن وركبت في أول سيارة أجرة، أسندت رأسها على الكرسي القابع أمامها بتعب شديد، عليها فقط أن تتماسك إلى أن تصل إلى شقتها، أخرجت الهاتف خاصتها من جيبها الخلفي وخلعت الغطاء عنه بيد مرتعشة، وبصعوبة شديدة أخرجت عملة نقدية ومفتاح منزلها، فمنذ أن أصبحت مشردة بلا منزل وهي تضعهم بحافظة الهاتف لأنها تعلم أن لا مكان لها .. لم يعد لها شيء.
صعدت إلى شقتها بأعجوبة وما إن وصلت حتى أدلت برأسها في المرحاض وأطلقت العنان لغثيانها دون تحفظ، وعندما انتهت جلست على أرضية الحمام لأنها لم تقوى على الحراك... .
غطت السيدة وفاء وجهها بيدها وبكت كما لم تبكي من قبل على كسر قلب ابنتها التي لم تفعل شيئا سيئا بحياتها كي تعامل هكذا من أزواجها، والقلم الذي وجهه أحمد لسارة وجهه علي لها من قبل، وهذه المرة سيكون ألمه أصعب بكثير "طنط ..صدقيني .. أنا.."
صرخت بوجهه "كفاية أوي لحد كده سيب بنتي في حالها أنت فاهم" أخذتها آية وأمل بسرعة لأن جسدها كله كان يرتعش من الغضب والخوف وألقتا نظرة غضب شديدة على أحمد وصعدتا بوالدتهما.
نظر عبد الرحمن إلى والدته التي تصر على أن أحمد ملاك لا ينتمي لعالم البشر بعتب ثم صعد إلى شقته وجلب مفاتيح سيارته وخرج مسرعا، قاد السيارة وهو معمي من الغضب، ومن حين إلى آخر كانت تدمع عيناه بشدة ولكنه كان يفركها بغيظ نافيا فكرة بكاءه تماما، فأحمد لا يستحق، لا يستحق أبدا أي شيء مما فعله من أجله، لا يستحق أي تضحية قام بها من أجله، لقد تسبب في جنونه الفعلى وخروجه عن طوره وطبيعته الهادئة، الجميع يسأل لم جن؟ لم أصبح مجنونا لا يريد سماع ذكر أسم أخيه ويغير منه غيرة قاتله؟ لا أحد يعلم بأنه حمل هذه الأسرار اللعينة طوال خمس سنوات، خمس سنوات يراهم يبكون أكثر إنسان أناني وخائن على وجه الأرض، لم يخن زوجته وحسب بل وأسرته كلها، خذل الجميع محققا رغباته الأنانية دون أي اعتبار لأخيه الكبير الذي لم يتركه ولو للحظة، ولا لأمه التي كادت تموت ألما لفراقه، ولا لأبيه الذي تدمرت صحته تماما بعد وفاة قرة عينه، ولا لأي من حسام أو محمد، لقد خان الجميع دون استثناء، كان يغلي ويثور من الحنق ومع ذلك لم يفشي سره، لم يفضحه، حافظ على ذكراه بعد وفاته كما حافظ على حياته وها هو الآن بكل بجاحة يتواقح ليخبر الجميع بأنه هو من تسبب في سجنه لخمس سنوات.
ضرب عبد الرحمن مقود السيارة بغيظ شديد وهو يتمتم "بعد كل اللي.. عملته .. عشانه بيحملني.. أنا مسؤولية.. أنانية" أوقف السيارة وهو يلتقط أنفاسه بشدة من الغضب ثم انحنى على المقود يخفي وجهه، حتى سارة عذبها كثيرا بسببه هو .. لقد عاش لسنوات يحميها ويحفظها دون أن تعلم بمشاعره وعندما باتت ملكه تحول عليها، بات من حاميها إلى الوحش الذي دمر حياتها، يده التي كانت ترعاها صفعتها مرتين، مرة عندما تحدته سارة بإخباره بأن كل الأموال سوف تذهب إلى روح أحمد، لم يتمالك أعصابه فضربها وعنفها، ود لو يصرخ بها ويخبرها بأنها تخلص لأكثر إنسان أناني بالعالم كله، لقد طلقك وتركك ليذهب مع عشيقته ولكن حينها كانت سارة لتنتهي تماما، على الأغلب كانت لتغرق في بحر من الصمت دون العودة إلى الوراء، والمرة الأخرى صفعها عندما كانت تتمتم باسمه أثناء نومها، كان يغلي ويفور ليس فقط من الغيرة بل ولأنها أغبى وأطيب مخلوقة على وجه الأرض، تكن الحب والإخلاص لوغد حقير الذي وبالمناسبة هو أخاه...
فتح باب الشقة بهدوء شديد ودلف بخفة وأغلق الباب وراءه، وجدها على الأريكة تهز رأسها بلا باستمرار بحركة خفيفة، ذهب نحوها ووقف أمامها ولكنها لم تراه، شعرها الطويل أشعث متطاير بكل مكان وعيونها غائرة وشفتيها صفراوان بشدة بدت حالتها مزرية، ركع على ركبة واحدة أمامها وناداها بهمس حذر "سارة!" لم تجيبه فهي لا تراه من الأساس واستمرت تهز برأسها وتبحلق في الفراغ.
انهار عبد الرحمن وأمسك برأسها بين كفيه كي توقف رفضها لهذا الواقع التعيس ونطق من بين أسنانه بصعوبة "ميستحقش تعملي في نفسك كده عشانه أنسيه ..خرجيه من حياتك زي ما هو عمل" لم تنظر له فهز رأسها يبن كفيه الضخمين "سارة أرجوكِ فوقي"
نظرت نحوه، أخيرا وقعت عينها على عينه، ظلت صامتة لوهلة تستوعب أنه أمامها، حلت نظرة الرعب بعينها بدلا من النظرة المبهمة التي كانت تشغلها منذ ثوان، تراجعت في الأريكة وضمت ساقيها لها بشدة في هلع، وبصوت مدمر من البكاء سألته "أنت دخلت .. هنا أزاي؟!"
"سارة متخافيش كده .. أنا.. " أحرج كثيرا وأخرج مفتاحا من جيبه ووضعه إلى جوارها.
صدمت سارة وبدا وكأنها فقدت قدرتها على النطق "أنت. أنت.. أزاي؟ .. منين؟!"
أغمض عبد الرحمن عيونه بتعب "أنا اللي جبت الشقة لسالي عشان أكون واثق من الأمن والحراسة"
ارتعشت شفتيها بشدة وانهارت للغاية "سالي؟!" وأمسكت برأسها غير مصدقة كيف صدقتها، الآن علمت لما لم ترى العقد ولما سالي التي تدفع الإيجار خاصتها!، تمتمت بغيظ شديد من بين أسنانها "أنت إيه يا أخي مبتزهقش أنت فاكر أني عروسة لعبة في إيدك بتحركها زي ما أنت عاوز؟ أروح في المكان اللي أنت عاوزه وأنا بغبائي فكرة أني بقيت مستقلة عنك أخيرا .. أنا بكرهك وبحتقرك أخرج من حياتي مين إداك الحق ده؟ مين سمح لك تلعب بيا كده؟!"
"أنا .. أنا بس . كنت خايف عليكي!".
ذهبت له وأخذت تضربه على صدره بقوة وغيظ، أحنى رأسه بأسى مستسلما لضرباتها الواهية التي تمزق نياط قلبه "أنت كداب أكبر كداب شوفته في حياتي معيشني خمس سنين في وهم.. خمس سنين مخدوعة أنا بكرهك أكتر منــــه" انهارت وحاول أن يمسكها ولكنها رفضته بشدة "أنا عاوزة أعرف مين سمح لك تخبي عليا؟" وتبدلت نبرتها إلى التوسل الشديد "أنا عمري ما أذيتك ليه عملت فيا كده؟ "
قال بهمس شديد "صدقيني عملت كده عشانك"
صرخت بوجهه "كـــداب" وضربت على صدره بإصبعها "أنت أكبر كداب شوفته في حياتي، عاوزاك تخرج من الباب ده وتخرج من حياتي كلها أنت فاهم بس قبل كده لازم تعرفني عملت فيا كده ليه؟ أزاي تخبي عليا حاجة زي كده؟ أزاااي"
"أهدي بس.."
انتفضت صارخة به "مش ههدى قبل ما أعرف الحقيقة كلها"
وضع عبد الرحمن يده على وجهه يفركه بشدة ونطق بعذاب "أنا معرفتش أنه سافر معها إلا قبل ما أنزل مصر بأسبوع.. دورت في السجلات وشوفت الرسايل وإن ده آخر رقم أتكلم معاه"
"أزاي مقولتليش؟!، أزاي تخبي عليا وتسيبني في عذاب السنين دي كلها"
التفت بعيدا عنها وصرخ بحنق وهو يضرب الحائط "عاوزاني أقول إيه؟!.. كلكوا بتلوموني أنا؟! أقولك إن الراجل اللي عاوزة تسيبي الدنيا بسببه وفقدتي النطق تقريبا بسبب موته سابك وطلقك ورجع للخطيبة؟ كان هيبقى شعورك إيه وقتها؟ مش بعيد كان زمانك في صدمة لحد الوقتي، كنتِ هترجعي البيت تاني أزاي؟ أقول لماما إيه؟! أبنك اللي أنتِ فضلتي معاه في كل خطوة أول ما شاف النور سابك قهر قلبك ومشي وسابك!، أقول لبابا إيه؟ الجلطة اللي جتلك والتعب اللي فضلت فيه سنين من الحزن عشان ابنك الجاحد سافر وسابك من غير ما يودعك حتى! مكنش راجل لآخر يوم، أقول لحسام ولمحمد إيه؟ كنا هنبوص ازاي في وش عم شاكر تاني بعد اللي عمله فيكي؟!، آية وأمل وضعهم معاكي كان هيبقى عامل أزاي؟!!" التقط أنفاسه بصعوبة وأقترب منها وهدأت نبرته العالية "أنا لما لقيت الجواب قلبت الدنيا عليه وملقتوش ورجعت أول يوم عشانك أنتِ وماما بس ويومها بالليل وعدتك أني مش هرجع إلا بيه فضلت أدور وأسأل كل أصحابه راقبت كل رحالات الطيران اللي طالعة أمريكا في أي ولإيه ومن كل مطارات مصر.. وفي النهاية جالي تليفون من المرور برقم العربية أنها عملت حادثة وانفجرت .. بطاقته وموبايله كانوا في العربية..مكنتش عاوزكوا تشوفوا المنظر البشع اللي شفته لجثة محروقة" بكي بشدة "سافرت لأني مقدرتش أحط عيني في عين حد منكو بذات أنتِ، مش قادر أشوف ماما بالوضع ده كنت هصرخ فيها ألف مرة وأقولها أحمد خانا كلنا"
"ك .. كل السنين دي. ملقتش فرصة وحدة تقولي الحقيقة؟!".
جلس عبد الرحمن بتعب شديد، لم يعد يحتمل أبدا أي مما يحدث معه "طبعا مستحيل تصدقيني لو قولتلك أني كنت هقولك يوم ما ظهر، وهبقى كداب لو قولت أني كنت هعمل كده عشانك.. كنت هعمل كده عشاني.. عشان مبقتش قادر أخبي.. عشان هتجنن ومحتاج أتكلم مع حد"
تحدثت بعذاب شديد معه "ليه مقولتش؟"
بكي عبد الرحمن بشدة ووضع يده على وجهه "عشان هو أخويا، عشان أنا كنت مستعد أعمل أي حاجة ويرجع تاني بنا.. مقدرتش أنه يبقى في نظركوا كده.. مقدرتش حد يتكلم عليه ويجيب في سيرتة وهو ميت" وأشار إلى نفسه بعذاب شديد "أخويا يا سارة أخويا".
رجعت سارة في الأريكة وهزت رأسها وكأنها بدأت تعي ما يدور حولها، وبعد برهة نطقت بوهن "أنت صح .. هو .. أخوك، الدم اللي بيجري في عرقكوا واحد ومفيش حاجة هتغير ده أبدا.. لكن أنا.. أرجوك تخرجني برا اللعبة دي حافظ على أخوك" ذهبت لباب الشقة وفتحته "أتفضل أخرج وشقتك هتفضى النهاردة"
ترك المفتاح على الأريكة "أنا مش هزعجك تاني أبدا مفيش داعي تسي..."
نطقت بغيظ شديد "إيه الصعوبة في جملة "مش عاوزة أي حاجة ليها علاقة بيك، وأنك تخرج من حياتي مش قادر تفهمه؟!"
نظر أرضا بتعب شديد، يبدو أنه مهما حدث سوف يظل الطرف الخاسر، لم ظن أنها ستتفهمه؟!. أغلقت الباب فور خروجه وجلست أرضا بحزن شديد، لا بد وأن تخرج من دوامة هذه العائلة وإلى الأبد، ظلت على حالها هكذا فترة إلى أن رن الهاتف فذهبت بغيظ كي تغلقه قبل أن تصرعها والدتها باتصالاتها المتكررة، لكنها لمحت اسم سالي فانفجرت بها "لية يا سالي عملتي فيا كده حرام عليكي أنا مكنتش عاوزة أي حاجة ليها علاقة بيه ليه تعملي فيا كده"
"في إيه يا مجنونة أنتي مش فاهمة حاجة منك انتِ فين؟!" سألت سالي بقلق
"الشقة يا سالي ليه خبيتي عليا؟!"
ازدردت سالي لعابها "طيب حقك عليا أهدي بس وأنا هاجي أخدك حالا"
أغلقت سالي الهاتف وهي مقطبة الجبين، توقفت والداتها عن تناول المقرمشات وسألتها "راحة فين المسلسل لسه بادي!"
قالت وهي تشرع في لملمة أغراضها وتبديل ملابسها "هجيب سارة عرفت إن الشقة بتاعت عبد الرحمن"
"أوف أنتي مكونتيش قولتلها؟!"
"لا يا ماما مجتش مناسبة وبعدين الشقة كانت مناسبة ليها جدا"
"طيب متتأخريش تعالي على طول".
ذهبت سالي لها لتجد حالتها يرثى لها، وبعد الكثير من البكاء والنواح والصراخ من سارة أخذتها إلى المنزل، وصلت وهي مدمرة من الصدمة تماما فلم تشاكسها السيدة شادية والدة سالي مثلما اعتادت، أجلستها سالي وأشارت لها والدتها "شوفي بيجامة لسارة وانتِ" ونكزت سارة "أدخلي خدي دوش وفوقي كده على ما أحضر العشا"
تمتمت سارة بصوت واجم ضعيف "أنا عاوزة أنام".
جهزت سالي غرفتها وبدلت سارة ملابسها وتكورت على السرير وتسللت سالي إلى جوارها بحذر شديد "لسه زعلانة مني؟"
"خلاص يا سالي"
تنهدت سالي بشدة ونامت إلى جوارها، لكنها وضعت ذراعها أسفل رأسها وأخذت تتأمل سقف الغرفة الذي تحفظه عن ظهر قلب "بستغربك أوي يا سارة "
"أزاي؟"
تنهدت سالي بحيرة "يعني إيه اللي يخليكي تتجوزي 3 مرات! أنا عارفة إن الموضوع مش بإيدك بس مش نهاية العالم إنك هتبقي لوحدك".
صمتت سارة قليلا "أنا مش زيك يا سالي لا في التربية ولا في الأحلام"
التفتت سالي لها وفكت سارة أسر ساقيها التي كانت تضمها إلى صدرها بشدة "أزاي؟!"
"من وإحنا صغيرين بابا معودنا إن لازم يكون في راجل معانا في كل حاجة، حتى لو هو مش قادر يسيب الشغل .. خالي، عمي، ابن خالي .. المهم حد راجل معانا، طبعا هو كان بيحمينا بس أنا كبرت وأنا متعودة على الفكرة دي ، مش زيك عمو فتحي كان جنبك لكن في نفس الوقت كان معودك تبقي قوية وتعملي كل حاجة بنفسك ومتخليش كل اعتمادك على راجل.. أنتِ كان نفسك تكوني مهندسة شاطرة وأنا كان نفسي أكون زوجة وأم عشان كده كان لازم أحاول لأني عاوزة بيت مش عاوزة شغل!" فركت رأسها بحدة "بس اللي حصل إني فشلت حتى في الشغل .. خسرته هو كمان" نظرت إلى سالي وتأملتها قليلا "كان نفسي أكون زيك أوي أو زي آية قوية وبعرف أتصرف لوحدي، بس أنا بخاف" وارتعشت شفتيها "وبكره أوي إني أكون لوحدي".
ربتت عليها سالي "بس أنتِ مش ضعيفة أنتِ بتعملي حاجات كتير وناجحة جدا في شغلك وكل الناس بتحبك"
أطلقت سارة ضحكة تكهن مريرة "في فرق إنك تكوني بتعملي حاجة عشان بتحبيها وعاوزاها أو بتعمليها عشان متبقيش لوحدك واللي حواليكي يطمنو عليكي.. مش هنكر إني اتعلقت بالشغل الوقتي لكن ده حصل مع الوقت " أغمضت سارة عيونها بتعب "مش هتفهميني"
أمسكت سالي بكفها وسألتها هامسة "جربيني!"
"يمكن الجواز مزعج ومسؤولية لكن .. لكن في نفس الوقت في إحساس أنك مسؤولة من حد وعن حد .. فيه مشاركة فيه ..." انفجرت بالبكاء رغما عنها وأخذت تنعت نفسها بالفاشلة البائسة التي لا تجيد فعل أي شيء على الإطلاق، وأخذت سالي تهدئ من بكائها إلى أن غفت الصديقتان إلى جوار بعضهما البعض.
***

كانت صدمة السيدة نور كبيرة لدرجة أنها جلست إلى أقرب كرسي تذرف الدموع بقهر وحزن لم تعهده من قبل، تعض على شفتيها وتمسك بقلبها الذي انشطر إلى نصفين، لطالما كذبت نفسها، لطالما أخبرت نفسها بأن ذهاب أحمد إلى مروة مجرد تخاريف وهذيان.. لا تصدق أنه أضاع خمس سنوات أخرى من عمره بسبب تلك الملعونة!، لا تصدق أنه تخلى عنها وعن أبيه وإخوته وزوجته من أجل تلك الفتاة.
شعرت بألم بالغ وكأن هناك من غرز خنجرا بظهرها حتى أنها فقدت قدرتها الجيدة على التنفس، لم تشعر في حياتها كلها بكل هذه الخيانة، تتمنى لو أنها اختفت من الوجود قبل أن تعلم بأن أحمد قد غدر بها وبعائلته من أجل وغدة تسببت في إصابته بالعمى ثم تركته وهو طريح الفراش دون أن تلتفت وراءها.
أما حسام فكان يشعر بغضب بالغ، يجلس ويهز قدمه بعصبية شديدة، جاء صغيره يسأله ما الذي يحدث فصرخ به كي يصعد إلى والدته، فركض الصغير باكيا إلى الأعلى.
ومحمد هو الآخر جلس بإحباط ووضع رأسه بين كفيه وكأن الهواء قد نفذ من العالم، وكأن النور لن يظهر مرة أخرى، مئات آلاف الأسئلة تنهش بعقله.. لم فعل أخيهم بهم هكذا؟ لم تركهم وراءه دون أن يلتفت؟ لم ضحى بكل شيء من أجل اللاشيء؟!، كل هذا الحزن والبكاء واللوعة ليس من أجل حلمه اللعين بل من أجل انتقامه فقط لا شيء آخر.. دمر نفسه وأطاح بأبيه وأمه ومنزله من أجل انتقامه، أخرج نفسه بأعجوبة من الأسئلة التي دقت بعقله على صوت نداء خافت متعب من والدته " م.. محمد .. الحقني" هرع هو وحسام إلى والدتهما وناولها حبة الدواء الخاصة بقلبها، وأخذ يفرك يدها ويقبل رأسها إلى أن أشارت بيدها على ألا يقلقا. جعلها تستلقي إلى الخلف ونظر بحزن شديد إلى فمها الذي ارتسم عليه حزن وقهر لم يره من قبل قط!.
أما أحمد فقد وقف خلفهم يتكئ على عكازه بتوتر، فقد النطق وفقد معه كل شيء، يكاد رأسه أن ينفجر حرفيا، لقد ضاع كل شيء، لقد ذهب كل شيء بلا عودة، حالما استعادت السيدة نور وعيها رجع إلى الخلف قليلا وتنفس الصعداء، لم يكن يتكلم، لم يعرف ما الذي عليه التحدث به. خرج إلى الشرفة عل أي من ذرات الهواء تدلف إلى رئتيه البائستين، لقد ضاع كل شيء ولن يثبت أبدا أن عبد الرحمن هو من فعل به هذه الفعلة الشنعاء، لقد ضاعت سارة وخسر تعاطف كل من بالمنزل أيضا.
أخذت أنفاسه تعلو وتهبط بعصبية شديدة واشتعل الغيظ به كما لم يحدث من قبل، حاول كبح جماح جنونه بالضغط على أسنانه ولكن الغضب بداخله تصاعد إلى درجة لم يعد يحتمل فيها كبحه، أخذ يصرخ ويضرب برأسه في باب الشرفة "حقير، حيـــوان .. هنتقم منه .. هقتله .. هو السبب في كل اللي أنا فيه"
لم يتحرك أحد من مكانه ليمنعه، كان الغضب بداخل عائلته أكثر من أي شيء، حتى أن السيدة نور لم تلتفت له، لقد صدقت بأنه سافر من أجل العمل وقرر العودة وندم على فعلته، أما الآن فهي لا تصدق أي من كلامه لا هي ولا إخوته!.
توقف عن ضرب رأسه وأخذ يلهث ويرجوهم كي يلتفتوا له "والله العظيم عبد الرحمن كان عارف .. أنا .. فين .. عبد الرحمن هو اللي عمل فيا كده.. هو كل همه يدمرني عشان تصدقوه، هو... "
قاطعة محمد بصراخ همجي كما لم يصرخ به من قبل قط "كفاية بقـــى!" أخذ يهدر بأنفاسه هو الآخر بعد تلك الصرخة، صعق أحمد منه ووقف بلا حراك "شماعة عبد الرحمن اللي أنت واخده حجة لكل مصايبك خلاص اتكسرت، أرحمنا وأرحم نفسك بقى!" توجه محمد ناحيته بغضب كبير وهو يشير له "إحنا اللي عملنا فيك كده إحنا اللي خلقنا الإنسان الحقير اللي جواك، أنا وحسام وماما وبابا الله يرحمه وأولنا عبد الرحمن" وأردف من بين أسنانه بغضب بالغ " وكلنا بندفع تمن ده الوقتي وأولنا عبد الرحمن".
قال أحمد بتوسل وارتباك شديد "أنا.. أنا مخنتكوش .. أنا مخنتش سارة"
"أنت أكبر خاين يا أحمد بس مش أنت المسؤول لوحدك إحنا كمان مسؤولين زيك بالظبط" وأشار إلى نفسه بعذاب وخيبة أمل، وحين التفت إلى حسام ووالدته واجهته الدهشة والتساؤلات في عينيه، بينما كانت السيدة نور تهز برأسها بهدوء شديد موافقة على كلامه.
جاوب نظرات حسام بعصبية شديدة "أيوة إحنا اللي عملنا البني آدم الأناني ده، مليون واحد بيحصلهم حادثة ويفقدوا نظرهم أو عضو من أعضائهم، ملاين الناس بتبقى عاجزة.. لكن بيقوموا ويكملوا حياتهم تاني" والتفت إلى أحمد وصرخ به "كلنا حذرناك منها وعملت اللي في دماغك وخطبتها كلنا، كلنا اترجيناك متسافرش وراها بالليل في عز الشتا لكن حضرتك عملت روميو وعملت اللي في دماغك وجريت وراها.. اتعميت قدر ربنا .. كلنا كنا معاك وفي ظهرك حتى لو بتتحرك في الشقة مكناش بنسيب إيدك، مكناش بنخليك تشيل هم أي حاجة مع إن المفروض كنت تقوم أقوى من الأول وتتحمل مسؤولية نفسك، استغليت حبنا وحب بابا وماما عشان تعمل اللي أنت عاوزه وتاخد اللي أنت عاوزه، غدرت بأقرب الناس ليك عيشته الجحيم عشان بس تبقى مبسوط"
صرخ أحمد بعذاب "هو السبب هو اللي عمل فيا كده!"
"كــــداب" صرخ محمد "كداب يا أحمد خلاص مبقاش في حد في البيت ده هيصدقك تاني خلاص، أنت أناني بتعمل اللي أنت عاوزه بصرف النظر عن علاقة ده بأي حد فينا أنت خنتنا كلنا".
تمتم أحمد بتوسل "الموضوع مش زي ما أنت فاهم اديني بس فرصة أشرح لك"
ولكن الشرخ لم يكن بالسهل على الإطلاق، سحب محمد نفسا عميقا وقال ببطء "عارف أنك مش خاين يا أحمد بالمعنى، بس صدقني اللي عملته وجعنا كلنا كأنك خاين بالضبط" نظر محمد للأرض بأسى وقال بهدوء " أنت كنت بتنتقم"
فرك أحمد وجهه، لا يصدق أن محمد فهم عليه والذي سأله بعتب "انتقمت؟!"
هاج أحمد كالثور "كنت عاوزني أعمل إيه بعد ما سابتني مرمي زي الكلاب في السرير؟!، طبعا كنت عاوز أنتقم!"
سبه محمد "أنت غبي، أنت أغبى مخلوق على وجه الأرض يا أحمد.. انتقمت؟ مبسوط بالانتقام بتاعك؟!، أنت انتقمت من نفسك بنفسك، ربنا سلط عليك نفسك يا أحمد عشان غرورك وأنانيتك، محدش بياخد كل حاجة في الدنيا وأنت مشكلتك عاوز كل حاجة ليك، عاوز سارة وعاوز عبد الرحمن، مش مهم بقى أخوك تبقى حالته إيه.. عاوز تسافر وعاوز عيلتك .. عاوز تنتقم من خطيبتك وعاوز تحقق حلمك" صرخ بقوة في وجهه "غبــــي" والتقط أنفاسه "أنت غبي يا أحمد محدش يباخد كل حاجة والنتيجة إنك خسرت كل حاجة .. كل حاجة يا أحمد .. حتى خسرتنا" واتجه إلى باب المنزل ليصعد ولكنه تذكر شيئا وعاد "أما بالنسبة لعبد الرحمن .. فعبد الرحمن لو هو اللي رماك زي ما أنت بتقول كان أبسط شيء عمله سلم لينا الجواب اللي أنت كاتبه بخط إيدك وورانا تقارير الرسايل والمكالمات بينك وبين مروة وأولنا سارة، لكن هو اشتراك واشترانا كلنا حتى وأنت ميت عشان منحسش بالمرارة والغدر اللي حاسين بيه الوقتي"
"عبد الرحمن هو اللي رماني... "
قاطعة محمد بواقعيه "كداب يا أحمد وكدبك ملوش دليل" وصعد إلى الأعلى وتركهم، طلب من آية النزول إلى والدته وجلس بلا حراك على أريكة منزله.
توجه أحمد إلى والدته وركع بصعوبة على قدمه السليمة أمامها "ماما.. ماما أرجوكي ردي عليا.. ماما"
هزت رأسها بألم شديد رافضة ونطقت بصعوبة "حسام .. خدني من هنا .. مش قادرة أتنفس" أمسك بها وقابلته آية وأخذاها إلى الأعلى حيث السيدة وفاء، وما إن جلست على الأريكة حتى لفظت أنفاسها بصعوبة شديدة وتساقطت دموعها بحسرة وقالت بلوعة "يا رب .. يا ..رب" ثم غابت عن هذه الدنيا البائسة وقام محمد بنقلها إلى المشفى حيث مكثت هناك يومان.
***

"انت يا بنت منك ليها؟!"
فزعت كل من سالي وسارة على صراخ السيدة شادية، فركت عيونها بطفولية "حرام عليكي يا ماما هو انتي بتصحيني لوحدي في عندنا ضيوف!"
تثاءبت بعدها بشدة وضمت الوسادة لها كي تعود إلى النوم، لكنها تراجعت لأن سارة بعدما فركت عيونها المتورمة نظرت بهلع حولها وصرخت "أنا فين؟! أنا فين؟!" وسحبت الغطاء على نفسها بشدة!.
صفعتها سالي عدة صفعات متتالية كي تصمت "فوقي فوقي أنتِ عندنا جبتك أمبارح لحقتي تنسي!"
زمجرت بها السيدة شادية "فوقي المجنونة دي أحسن الجيران يفتكرونا خاطفنها!"
أزاحت سارة يد سالي التي ظلت تصفعها وزمجرت هي الأخرى "اتنيلت أفتكرت بطلي ضرب!"
"الحق عليا عاوزة أتأكد"
تحدثت السيدة شادية بلهجة آمرة "الساعة 9 يا بروطة أنتِ وهي أنا من 6 الصبح قاعدة لوحدي، قدامي انتو الاتنين".
غطت سارة وجهها بالغطاء ببؤس وعادت للنوم، تمتمت عندما نكزتها سالي "أنتو جايبني هنا تذلوني يا ستي أقوم بكرامتي لأي أوتيل!"
هزهزتها سالي بكل جدية "قومي بدل ما تخوش بالخرزانة"
"هي مامتك مارحتش الشغل ليه؟!"
"طلعت على المعاش"
"هي كانت بتشتغل إيه؟!"
"ناظرة مدرسة"
"آه عشان كده"
"لا يا حبيبتي مش أي مدرسة دي كانت ثانوية بنين وأقسم بالله كانت ممشية المدرسة والمدرسين على العجين ميلخبطوش"
صرخت من الخارج "هعد من واحد لتلاتة لو ملقتكوش قدامي والله لهغرقوا بماية ساقعة"
جذبت سالي سارة وجرتها بسرعة إلى الخارج وعاتبت والدتها "جرى إيه يا شوشو بقالك سنة معاش أنسي جو الجيش ده بقى!"
"جيش يا جيل مستهتر يا جيل فاشل اغسلي وشك منك ليها مناظركوا تسد النفس على الصبح!"
"أنا هدخل الحمام الأول" ذهبت سالي وجلست سارة على الطاولة بتعب ثم ألقت برأسها على ذراعيها وهي تتحدث مع نفسها ببؤس شديد، وفي وسط غمغماتها البائسة هذه غفت رغما عنها،صفقت السيدة شادية كل يد بالأخرى وصاحت بسارة "أنتِ يا بت!"
فزعت سارة وأخذت تنظر حولها ببلاهة مرة أخرى وسألت برعب "أنا فين؟!"
نفخت السيدة شادية "أنتِ متخلفة يا بت أنتِ؟! أنا شادية أم سالي جبناكي هنا أمبارح فوقي!" وصفعتها صفعة صغيرة على وجهها، بحلقت لها سارة لبرهة ثم تذكرت ما حدث معها البارحة وبدأت في البكاء والنواح، نفخت السيدة شادية الهواء بعنف ونظرت إلى السماء "هو صباح باين من أوله صبرني يا رب"
خرجت سالي وتناولت قطعة خيار وأخذت تقضم فيها بينما تساءلت والدتها بعجب "هي البت دي مش بتعيط من امبارح لسه مشبعتش عياط؟!"
قالت سالي بلا مبالاة وهي تتناول طعامها "أصلها من النوع النكدي بتحب تدي كل حاجة وقتها بالذات النكد "
صرخت السيدة شادية "ســـارة!" رفعت رأسها بأعجوبة وهي تفرك عيونها المتعبة "أنتِ مش عيطتي أمبارح هي شغلانة؟! المفروض هتعيطي لسنة كام مش فاهمة؟"
مسحت سارة وجهها بكمها " أنا نفسي في أوضة ظلمة محدش يعرف مكاني فيها أعيط براحتي لحد ما أموووووت" قالت كلمتها الأخيرة مؤكدة عليها وانفجرت بنواح جديد.
"أستغفر الله! ليه يا ماما كده بتقفلي على النكد ماتسيبة يروح مع اللي راحوا!"
"أنا عاوزة أمووووت"
"بطلي يا بنتي الكلام ده حرام"
"يا رب خدني أنا مليش فايدة، لما هما مش عاوزني بيتجوزوني أصلا ليــــــه ربنا ياخد الرجالة كلها" وأخذت تنوح بشدة.
ضربت السيدة شادية على صدرها "ربنا ياخد الرجالة كلها!، قطم رقبتك أنتِ اتجوزتي وشبعتي جواز أنا لسه عاوزة أفرح ببنتي"
نطقت سارة بكل بلاهة العالم من بين بكائها "متتجوزيـــــش" استنفرت السيدة شادية ووقفت ولكن سالي أمسكت بها وأخذت ترجوها بأن تتركها وشأنها وأنها لا تعي ما تقوله، لكن سارة تمتم بغباء "لا أنا عارفة أنا بقول إيه الرجالة كلهم خاينيــــــن ".
صرخت السيدة "وربنا لجبها من شعرها البت دي، بت! قومي على الحمام واغسلي وشك وشوفي حل لشعرك ده يا أونة ليهم حق يطفشو منك، يخرب بيت نكدك"
فتحت سارة فمها بنواح أعلى وأخذت تفرك عيونها بشدة، ذهبت بخطى مترنحة بهيئتها المشردة ناحية باب الشقة "أنا محدش عاوزني يا رب في الدنيا دي أنا همشي من هنا معتوش هتشوفوا وشي تاني" ولكنها توقفت وأخذت تفرك عيونها بقوة ونطقت بهلع " أنا مش شايفة أنا اتعميت!، عموني .. عموني منهم لله يا رب خد الرجالة كلها عااااا" أخذت تصرخ ببكاء شديد ووجدتها السيدة شادية فرصة رائعة لتجرها على الحمام، فتحت المياه وأوقفتها بالقوة أسفلها، كانت المياه باردة، أخذت سارة تصرخ من برودتها ونسيت عيونها ورجال الأرض وترجو السيدة شادية بأن تتركها وشأنها، لكنها سكبت المنظف فوق شعرها الأشعث وأخذت تفركه بالقوة، حاولت سالي إنقاذها ولكن غضب والدتها كان كبيرا.
بعد نصف ساعة كانت سارة تجلس على الأريكة تحاول ألا تبكي كي لا تعيد السيدة شادية الكرة، تمتمت السيدة شادية بترفع كبير وهي تشاهد التلفاز "خلاص نزلي الكمادات من على عينك"
أنزلت سارة القطن المغموس بمياه مثلجة من على عيونها بحذر شديد وبدأت بفتح وغلق عيونها إلى أن استعادت الرؤية، قفزت سالي في الصورة لها "دول كام؟!"
"بطلي سخافة أنا شايفة!"
"أيوة بردو دول كام؟!"
"3"
"الحمد لله".
التفتت إلى السيدة شادية فتوعدتها "والله لو شوفتك بتعيطي ولا بتدعي على الرجالة لهكون مكسرة عليكي الخرزانة دي أنتِ فاهمة ولا لاء، دلع البنات ده مش عندي" هزت سارة رأسها موافقة ببؤس.
كانت السيدة شادية تسعد كثيرا مع سالي بمشاهدة التلفاز ومتابعة المسلسلات والبرامج سويا، فهذه هي التسلية الوحيدة المتاحة لديهما، لذلك حالما بدأ المسلسل الخاص بهما نادت سالي "سالي هاتي اللب الإعادة بتاع الحلقة أهه اللي مشوفنهاش أمبارح " جلبت سالي البذور وجلستا تتابعان التلفاز باهتمام وتضحكان على هذا المسلسل الكوميدي الرائع، حاولت سارة الانسحاب ولكن حالما وقفت زمجرت "الشاويش" شادية بها حسب قول سالي! "راحة فين؟!"
"هخوش الأوضة مش عاوزة أتفرج"
"طبعا الضحك والفكاهة مش في قاموس النكد بتاعك، أزاي العيوطة بتاعتنا تضحك!"
"أنا عاوزة أبقى لوحدي"
"سيبيها يا ماما تخرج اللي جواها جايز تهدى بعدها وبعدين دي بتعيط من أمبارح الظهر أديها ساعتين كمان وهيغمى عليها" وصفقت بيدها " هتجيب منين؟!".
تحدثت السيدة شادية بجدية "أيا كان اللي حصل ومزعلك أوي كده من الرجالة، خلاص اللي حصل حصل فوقي لمستقبلك الدنيا مش بتوقف لحد ولا على حد"
تمتمت سارة ببؤس "وعمري اللي راح وأنا مخدوعة؟ وليه عملوا فيا كده؟!"
"أنتِ قولتيها بلسانك عمرك اللي راح يعني كفاية أوي كده اللي راح عمره ما بيرجعش لكن اللي جاي هو ده مستقبلك هو ده اللي بأيدك، ميستهلوش منك أنك تضيعي عمرك كله عشانهم طالما شيفاهم خاينين التفتي لنفسك ولشغلك"
جلست سارة بإرهاق تفكر بكلام السيدة شادية المنطقي، فبعد ما عرفته عن فعلة أحمد كانت لتسجن نفسها حوالي العام قبل أن تفوق من صدمتها هذه، دمعت عيونها "بس .. بس..أنا.."
قالت السيدة شادية بنفاذ صبر "خير يا عيوطة؟!"
"أنا خسرت شغلي مفيش حاجة أشتغلها خلاص هشتغل إيه؟"
"يعني إيه مش عارفة هتشتغلي إيه، هو أنتِ عندك سبعين سنة! دول واحد وتلاتين سنة عمي، خدي كورسات وأتعلمي من أول وجديد وقدمي في كل وظيفة لحد ما تتقبلي، محسساني أنك هتتخرجي من الدنيا خلاص!"
قالت سالي بعد أن بصقت قشور البذور "أنا عارفة الأشكال دي تشغلي لها أيها الراقدون تحت التراب، تلاقيهم يندمجوا أوي".
ربعت سارة يدها ولم تغب عنها النظرة البائسة، فالكلام سهل أما ما تشعر به من مرارة وغدر وانهيار وخيانة لن يستطيع أحد فهمه أبدا.
***
عادت السيدة نور إلى المنزل بعد يومين من المستشفى ولكن حالتها النفسية كانت سيئة للغاية، حاولت كل من آية وأمل الاهتمام بها ولكن كلامها كان قليلا جدا وطعامها أقل.
أما السيدة وفاء فقد طلبت من محمد أن يجد لها شقة، وذهب هو للمستأجر الذي وافق على الخروج مبكرا عن الموعد المتفق عليه ولكن بعد شهر رمضان المبارك كي يجد هو الآخر شقة أخرى لنفسه، ووافقت السيدة وفاء حينها على مضض كي ينتهي فارس هو الآخر من أداء الاختبارات بتلك المدرسة التي نقله عبد الرحمن إليها.
عادت سارة هي الأخرى بعد ثلاثة أيام إلى شقتها الصغيرة لأنها لم تحتمل الجلوس بلا بكاء مثلما تجبرها السيدة شادية، لكنها لن تنكر أبدا أن هجوم والدة سالي عليها جعلها تغير كثيرا من طريقة تفكيرها وحزنها، حاولت تجميع شتات نفسها قدر الإمكان وتجاهل الخراب الذي حل بحياتها فجأة من حيث لا تعلم ولملمة شتات وبقايا أي شيء، فنقودها نفذت تقريبا وما معها يكفي بالكاد لطعامها، وكل من ميراث السيدين شهاب وشاكر دفعت به في الأشهر المنصرمة مصاريف الجمعية ويكاد ينفذ منها هو الآخر.
بدأت بلملمة أوراقها وطلبت المساعدة من عدة جمعيات خيرية كانت قد تعاونت معها فيما مضى كي يتحملوا مسؤولية عدة حالات لديها، فقوبلت طلباتها أحيانا بالرفض واعتذار في أحيان أخرى لأن لديهم ضغط هائل، فدب اليأس فيها أكثر مما مضى، فهي لا تريد أن تذهب إلى عبد الرحمن كي تطلب منه أي مال، وبعد محاولات عديدة أرسل الله لها الحل على هيئة سيدة أعمال طلبت الملفات من سارة عندما علمت ببحثها عن رعاة وتنفست هي الصعداء، فالمبلغ المتبقي سيمكنها من إعالة الدار لشهرين متتاليين، لكنها لم تجد راعيا لدار صغارها بعد، وبما أنها سوف تفقدهم مثلما تفقد كل شيء في حياتها البائسة هذه قررت المكوث معهم هذه الفترة، حضرت نفسها واتجهت إلى هناك وأعطت سالي مكرهة ملف الدار كي تسلمه إلى عبد الرحمن.
هزت سالي كتفيها "أنا مالي قولي له أنتِ هو أكيد هيوافق لو أنتِ قولتي له"
تنهدت سارة بغيظ "أستغفر الله! سالي لو عبد الرحمن ما أخدش رعاية الدار الولاد وإحنا هنتفرق للأبد كل حاجة تانية خلاص خلصت، مبقاش فاضل إلا الدار" أكملت طي الملابس الخاصة بصغار الدار ونطقت بوجوم " وبعدين أنا متأكدة أنه مش هيرفض".
***
ذهبت سالي بخطى مترددة لعبد الرحمن ولم تنتظر سوى دقيقتين ثم سمحت لها علا بالدخول، كان يبدو عليه الفضول الشديد على حال سارة لكنه لم يسأل، إما كبرا منه أو كي لا تخبرها سالي بهذا وتفر سارة وتبتعد أكثر، لم تستطع سالي تحديد ذلك بعد.
أما عبد الرحمن فكان يعتصر من الألم وهو يراها تطرق باب الجميع تقريبا، تتخلى عن كل شيء عملت لأجله لأكثر من أربعة أعوام كاملة وتتنازل عنه بعد أن سألت الجميع المساعدة، طرقت باب الجميع عدا بابه هو...
ابتلعت سالي ريقها ورفعت الملف بحذر "أنا الحقيقة، كنت عاوزة أعرض على حضرتك رعاية الدار لحد ما نلاقي راعي مناسب بصفة مستمرة، دي مصاريف الدار وحضرتك هتلاقي أن التكاليف مش كتيرة لأن أغلب الأغذية مزروعة عضوية بأرض الدار والطاقة كمان أغلبها شمسية، المصاريف هي مصاريف التعليم والملابس والمدرسين والمصاريف الطبية وكمان إحنا بنحاول... "
استمع إلى كلامها بوجوم، ما الذي تخبره إياه؟ ألم تخطط سارة معه بموضع كل حجر وطوبة في بناء هذه الدار؟! لقد بناها الاثنان جنبا إلى جنب وشهدا على رعاية صغارها منذ أن كانوا رضعا، أما أنظمة الاكتفاء التي تخبره بها هو من نظمها وأسسها.
توقفت سالي عن الحديث فعبد الرحمن بدا وكأنه لا يستمع لها، ظنت أنها خسرت مبتغاها منه لكن ذهنه شرد في أيام تخطيط تلك الدار وكم كانت سارة ودودة مرحة ومشاكسة معه في تلك الأيام، تعلق كل منهما بالآخر على نحو جديد وفهما الكثير عن بعضهما البعض، وقع كل منهما في الغرام يوم افتتاح الدار، وظلت تبكي بسعادة وتضمه وتقبله وتخفي رأسها بصدره غير مصدقة، ومن يومها لا تختبئ إلا به.
قالت سالي بخيبة أمل قاطعة عليه ذكرياته الجميلة "واضح إن حضرتك مش فاضي... "
مد يده لأخذ الملف ووقع بآخر صفحة "موافق عليه" وأخرج دفتر الشيكات وحرر لها شيكا وتحدث بهدوء شديد "أنا المسؤول عن الدار مفيش داعي تدوري على راعي والشيك ده هيبقى موجود عندك كل شهر بس بشرط"
"اتفضل "
"سارة هي اللي تبقى المسؤولة"
أعادت سالي له الشيك وهزت برأسها رافضة " آسفة بس الشرط ده مش هقدر أحققة "
أغمض عينيه بتعب، اللعنة سارة تعرفه جيدا ولكن ما الذي عساها تفعله بعيدا عن أطفال الدار وبلا عمل؟! هز رأسه وتحدث بتعب شديد "علا برا هتنسق معاكي ولو احتاجتي أي حاجة برا المصاريف الشهرية أنا المسؤول" وأعاد لها الملف "أنا عاوز المصاريف الأصلية أنا عارف الدار بتتكلف كام كويس كل شهر الأطفال ملهومش ذنب"
عضت سالي شفتيها فقد اقتطعوا الكثير من المصروفات كي يتمكنوا من تقليل النسبة المطلوبة من الراعي، شكرته وخرجت إلى علا كي تنسقا أمور الدار معا.
***
كان أحمد يبكي كل ليلة كي تسامحه السيدة نور، إلى أن اشتدت آلام ظهره فجر يوم وأخذ يصرخ بكل قوته، رق قلبها الحنون، فغضبها هذا نابع من حسرتها على عمره الذي أضاعه من أجل اللاشيء.
ذهبت له وارتمى في حضنها فصراخه كان عاليا للغاية في تلك الليلة، وكلمة "الحقيني يا ماما " الذي تأوه بها شطرت قلبها إلى نصفين، كان عاري الصدر ويركع على ركبته ويعض في الملاءة خاصته من شدة الألم، حالما نظرت إلى جروحه وجدتها حمراء ملتهبة للغاية، جلبت المنشفة وغمرتها بمياه مثلجة وأخذت تضعها عليه علها تهدأ قليلا، بكي بشدة في حضنها كي تسامحه وغاصت يدها في شعرة الكث وهي تبكي وتمسد رأسه " عملت في نفسك .. وفينا كده ليه؟.. عملت في نفسك وفينا كده ليه ؟!"
جلب المصحف وهو يزحف تقريبا وأقسم عليه "والله العظيم عبد الرحمن هو اللي سابني هو اللي مدفعش الفدية عشان كده مبلغكوش بالرسالة عشان كده ساب مصر .. إيه اللي يخليه يتحمل إن سارة تكرهه المدة دي كلها؟! لما كان ممكن يقولها بكل سهولة من أول يوم.. هو سكت وخبي عشان محدش يعرف حاجة عني ويشك فموتي .. مش بعيد هو اللي يكون حرق العربية عشان محدش فيكو يعرف الحقيقة .. أنا مش عاوز حقي أنا مش عاوز أي حاجة من الدنيا غير إنك تسامحيني ، سامحيني يا ماما والله هموت لو ما سمحتنيش أنا خسرت كل حاجة مبقاش ليا غيرك خلاص".
لم تحتمل بكائه ولا لوعته وضمت رأسه إلى صدرها بشدة، سامحته ولكنها إلى الآن لا تعلم أين هي الحقيقة، من منهم الصادق ومن منهم الكاذب؟!.
***
استعاد أحمد رويدا رويدا ثقة والدته وتكرر السؤال بعقلها مليون مرة، لم لم يخبرهم عبد الرحمن بالرسالة التي تركها أحمد، وتقارير الرسائل التي بينه وبين مروة كانت أكثر من كافية لجعل سارة تمحي ذكرى أحمد من عقلها وقلبها وتقبله زوج لها، حاولت الحديث معه أكثر من مرة ولكنه لم يجبها بشيء يقنعها، وحاول هو إخبارها بأنه فعل ذلك كي يحافظ عليهم وعلى ذكرى أحمد ولكنها رفضت إجابته، فكف هو الآخر عن الحديث وعن إعطاء أي مبررات لأي كان حتى والدته التي انقلبت عليه مرة أخرى.
***
بدأ أحمد بإرسال الهدايا والورود إلى سارة بالدار، بل وذهب إلى هناك أكثر من مرة ولكن كان الحارس مأمورا بألا يدلف أي من أحمد أو عبد الرحمن إلى الدار بوجودها، بينما لا تزال هي تحارب مع صديقتها المحامية كي تحصل على حريتها من الاثنين ومن هذا الوضع المقيت.
ركضت شيماء نحوها وهي تحمل باقة ورود وعلبة شوكولا تبدو غاية في الروعة "مش هتحني على الغلبان ده بقى؟ شوفي الورد حلو أزاي، ممكن أخد وردة؟"
نظرت الفتيات إلى الورود التي تأتي لسارة كل يوم فلم تجرب معظمهن هذا الشعور من قبل، تمتمت دون أن ترى الورود "الورد والشوكلاتة ليكي أنتِ والبنات"
"بجد!"
هزت سارة رأسها موافقة وهي تبتسم لشيماء واستقبلت اتصال الحارس وردت مثل كل مرة "لا يا عم كمال قول له مش موجودة".
مر أسبوعين على هذا الحال وسارة لا تلتفت لأي من الأشياء التي يرسلها أحمد، أما البطاقة فكانت تمزقها وتلقي بها دون أن تفتحها حتى، وأمرت شيماء بتوزيع الأغراض على الفتيات دون أن تريها إياها.
تركت كل شيء ورائها ودفنت نفسها بتجهيز أغراض الشهر الكريم بالتعاون مع جمعيات أخرى، ورغم أنها لا تقبل بأي تبرعات في سياستها الخاصة بالجمعية إلا أنها تنازلت هذه المرة، ففتيات جمعية الآنسات كثيرات ولهن عائلات والجميع يود المساعدة في شهر البر والإحسان، فقبلت بالتبرعات المجمعة من الفتيات وبدأ العمل على قدم وساق لتجهيز الحقائب الرمضانية وتوزيعها على المحتاجين، وقبل حلول الشهر الفضيل بثلاثة أيام هاتفها حارس الأمن يخبرها بوجود سيارة نقل مرسلة من قبل عبد الرحمن، نزلت إلى الأسفل هي وسالي كي ترى ما بتلك السيارة العملاقة، وعندما فتحها السائق اندهشتا لكمية البضائع والمنتجات الغذائية الموجودة بها، تجمهر الصغار حول السيارة وبدأ الحمال والحارس والسائق بإنزال ما بها وأخذها إلى قاعة الطعام الكبرى الخاصة بالدار.
أفرغ الصغار الصناديق وشرحت لهم سارة أهمية فعل الخير ومساعدة المحتاجين خاصة في شهر رمضان، وطلبت منهم المساعدة في توضيب الأغراض فوافقوا بصدر رحب، حدث الكثير من الهرج بطبيعة الحال فالعمل مع الصغار ليس هينا أبدا، إلا أن ضحكات الجميع علا صوتها وترددت في أرجاء الدار.
لن تنكر سارة التي شردت أثناء لعب الصغار وسباقهم في ملئ الصناديق أن قلبها انقبض بشدة لأن عبد الرحمن احترم رغبتها، لكنه ظل يساعدها من بعيد دون أن يتعرض لها أو يحدثها مثل أحمد، كما وأن الأمور أصبحت أوضح لها الآن، ترى ما الذي كان سيحدث لها إذا علمت بتلك الأخبار قبل خمس سنوات؟! حينها كانت تعشق التراب الذي يسير أحمد عليه، متيمة به حد الجنون، تنصت له في كل الأمور دون اعتبار لأي شيء تريد، لقد دمرها عشقه، وابتلي قلبها بلعنة الحب الأعمى.
***




نهاية الفصل.

Please vote if you like it 😍 😊

مذكرات حائر الجزء الثاني "الحلم الضائع" بقلم هالة الشاعر Where stories live. Discover now