الفصل الثاني

9.1K 286 34
                                    

الفصل الثاني
"سالي والآنسات"

العنوسة!! ما معنى هذه الكلمة؟ وهل هي مرض ما؟
كلمة عانس هي بحد ذاتها لقب بغيض يطلقه المجتمع على الفتيات اللاتي تأخرن في الزواج، كلمة تأخر سن الزواج نفسها تصيبني بالغضب! أعني ما معنى هذه الكلمة اللعينة؟!!.
يفترض أننا مجتمع متدين، يؤمن بالقسمة والنصيب وأن الزواج أو عدمه رزق من الله مكتوب في كتابنا قبل مجيئنا، ولهذا لا يوجد أي داع للكلمة اللعينة التي تقال للفتيات "شدي حيلك شويا"، بالله عليكِ أيتها الخالة أخبريني كيف يكون شد الحيل؟!!!.
حسنا لم أنا غاضبة هكذا؟!، ليس لأن هذا الوضع سيء بل كلام الناس هو السيئ، إن أسوأ شيء في تأخر سن الزواج هو كلام وفرضيات الناس التي تبنى حول الفتاة،  ورسم كل حركة من تحركاتها على أنها لجلب عريس ما!.
1 إذا أكملت الفتاة تعليمها الجامعي: حجة للخروج واصطياد العريس!.
2 إذا قررت البحث عن عمل: كي تجد عريسا!.
3 إذا جلست في المنزل بلا حراك: مسكينة تنتظر عريسا!.
حقا إنها فتاة مسكينة لوجودها بهذا المجتمع الذي يقيم ويفسر كل شيء على أهواءه، خاصة السيدات اللاتي من المفترض أن يكنَّ خير معين للفتيات، للأسف لهن النصيب الأكبر من التعاسة التي تصيب هذا الجيل، متناسيات أنهنَّ كنَّ في مثل موقف الفتيات في يوم ما، وأن لهن بنات وأخوات وحفيدات حتى سوف يصبحن آنسات ذات يوم ....
إن العنوسة ليست مرضا يصيب الفتيات، بل هو مرض مجتمع بأكمله.
أنهت كتابتها على الحاسوب بمنتهى الغضب والعصبية والتقطت أنفاسها المتهدجة من الحنق والتفتت خلفها إلى حيث باب الغرفة ولم ترى والدتها، فعضت شفتيها وحلت نظرة الشقاوة محل نظرة الغضب التي كانت موجودة منذ ثواني، ضغطت زر النشر وهي تعلم تمام العلم أن ذلك سوف يشعل والدتها من الغضب.
وقفت سريعا وارتدت طرحتها على عجل وأخذت حقيبتها وأغلقت الحاسوب بسرعة شديدة، واضعة إياه في حقيبته المخصصة له وركضت نحو باب المنزل، وفور فتحها للباب سمعت صراخ والدتها بها
" ســـــــــــــالي إمسحي البوست اللي أنتِ منزلاه ده حالا يا غبية هو إحنا ناقصين.."
أغلقت باب المنزل خلفها قاطعة وصلة السباب والشتائم المعتادة من والدتها لمثل هذه المواقف، وركضت على السلم إلى الأسفل ودخلت سيارتها، وبعد أن أشعلت المحرك أطلت برأسها من الشباك وأرسلت قبلة في الهواء إلى والدتها التي تراقبها ونيران الغضب تشتعل في عينها، توعدتها الأم بحركة من يدها وانطلقت سالي في طريقها إلى العمل.
تناست غضبها وتناست الورطة التي أوقعت نفسها بها وبدأ صوت الإشعارات يدق علي الهاتف إشعارا تلو الآخر، وهي تعلم تمام العلم من سيترك تعليقا على هذا المنشور وما محتوى التعليق الذي سوف يتركه!.
فصديقتها أنجي ستكتب " مالك بس يا ساسو علي الصبح مين اللي مزعلك؟!"
وصديقتها في العمل والأنوثة نجلاء فستكتب "قولي لهم ونبي يا سالي تسلم أيدك علي الصبح".
أما خالتها فستترك تعليقها المعتاد "معلش يا سالي يا حبيبتي بكرة ربنا يرزقك بابن الحلال!!".
أخذت نفسا عميقا ومحت التخيلات من رأسها وأخذت تربت على المقود بحب شديد، كادت أن تنحني وتقبله من شدة ما تشعر به من حماسة وحب لهذه السيارة لولا وجود حزام الأمان الذي يقيد حركتها، فأخذت ترسل لها قبلاتها الحارة عبر الهواء، لقد عملت مطولا كي تأتي بالمقدم الخاص بها وها هي معها منذ شهر وتشعر بالحماسة الشديدة كلما ركبتها.
توقفت في الإشارة وأخذت ترتب هندام السيارة وترتب هندام الدمى المحشوة التي نثرتها بكل مكان في السيارة، تجاهلت طرق المتسولة على الزجاج وتعمدت ألا تنظر لها أبدا، أحكمت قبضتها على المقود ولم ترمش بجفنها حتى، وبعدما ملت المتسولة من الطرق على الزجاج أخذت تسب وتلعن ومضت تجر طفل بائس في يدها، وحالما ذهبت المتسولة وضعت رأسها على المقود بتعب إلى أن فتحت الإشارة وانطلقت في طريقها إلى العمل.
حاولت إزاحة والدتها والغضب الذي سوف تواجهه اليوم عند عودتها مساءا من تفكيرها كي تركز على عملها، فالمقال الذي كتبته سالي ما هو إلا مقدمة لشيء كبير تخطط له، شيء بكل تأكيد سوف يثير غضب والدتها ... .
انتهت من التصميم الذي كان بيدها في حوالي الثانية إلا خمس دقائق ظهرا، رفعت رأسها تفرك رقبتها بيدها ورأت نجلاء تجلس على المكتب قبالتها تغمز لها بعينها ثم سألتها "ها إيه آخر الأخبار؟!".
نظرت في ساعة الحاسوب وتمتمت بعد أن أعادت نظرها لتقيم الغرفة التي صممتها ككل وتمتمت ببروده لنجلاء "خمس دقايق وتعرفي".
تأففت صديقتها منها "مش عارفه أنتِ حنبليه أووي كده ليه دول خمس دقايق مش حاجة يعني!".
هزت سالي رأسها بنفاذ صبر فهي تحدثت مع نجلاء بدل المرة مائة في هذا الموضوع، إنها تعطي العمل حقه بكل ما للكلمة من معنى، فلا تفتح هاتفها ولا أي حساب من مواقع التواصل خاصتها أثناء العمل تحت أي ظرف، كما أنها لا تجيب على الاتصالات الهاتفية إلا إذا كانت هامة للغاية والتي في الغالب تأتيها من والدتها، فوقت العمل مخصص للعمل وليس لشيء آخر، لذلك كانت تقريبا أفضل من يعمل بمكتب الديكور هذا، أنهت الخمس دقائق وأغلقت حاسوبها وسط تأفف نجلاء التي تعبث بهاتفها وحضرت حقيبتها قبل انتهاء العمل بحوالي عشرة دقائق.
أغلقت الحاسوب على الموعد تماما وحضرت نفسها للخروج وذهبت مع نجلاء لكافية قريب ليتمكنا من التحدث في مشروعهما القادم، جلست سالي وطلبت العصير والشطائر ولاحظت توتر نجلاء التي رفعت يدها وبدأت بقضم أظافرها وهز قدمها، حالما ذهب النادل عنهم ضربت نجلاء على يدها بعنف كي تكف عن قضمها ونظرت لها بضيق، ولكن نجلاء لم تعتذر منها كالعادة بل أزاحت يدها ونظرت بضيق للأسفل وعلمت سالي بأن هناك شيء ما، سألتها برقة "مالك بس يا نوجة؟"،
هزت رأسها بأن لا شيء مهم وأطرقت على الطاولة قليلا ثم تمتمت "خطوبة بنت خالي آخر الأسبوع"
"ألف مبروك ربنا يتمم ليها بخير" "يا رب" وسحبت نفسا عميقاً وتمتمت "18سنة".
أغمضت سالي عينها وتنهدت وربتت على يد صديقتها، فهي تعلم تمام العلم ما الذي ستواجهه نجلاء في الفترة القادمة، ليست المشكلة في صغر سن الفتاة أو خطبتها من عدمه، المشكلة في الناس.. في النظرة التي على نجلاء، احتمالها من عائلتها من أقاربها وكل من حولهم، المشكلة في كم المواقف السخيفة التي سوف تتعرض لها والجملة الشهيرة المقيتة التي تقال لهم في مثل هذه الظروف "شوفتي العيلة الصغيرة مش عارفة تشدي حيلك زيها!!" اللعنة علي شد الحيل!.
اغرورقت عين نجلاء بالدموع "ماما من ساعة ما عرفت بتضغط عليا هي ومحمد أخويا عشان أقبل بالعريس اللي جه الأسبوع اللي فات بيقولي أهي أي جوازه والسلام بدل قعدتك دي".
سالي بغضب "لا طبعا أوعي تعملي كده يا نجلاء نبقى عارفين أنو مش كويس وأخلاقه مش كويسة ونوافق بس عشان الاسم يبقى اتجوزنا ؟!!"
مسحت نجلاء دموعها "بيقول بكرة ربنا يهديه، حلفت له أني مش مرتاحة ليه وقلبي مقبوض قعد يقولي دي تهيؤات وانتِ بتتلككِ"
تحدثت سالي بتوسل " اتكلمي معاه تاني قولي..."
ولم تدعها نجلاء تكمل كلامها مطلقة آهة تكهن "أي كلام تقوليه ملوش فايدة على فكرة، ده كان متفق مع خالتي على عروسة يشوفها قالت له مخلصه الجامعة من سنتين قالها لاء أنا عاوزها لسه في الكلية عشان نتخطب سنة وبعدها نتجوز علي طول وهو عنده 33 سنة، هتعملي إيه مع واحد بيفكر بالشكل ده وأخته أقرب الناس ليه عندها 31 سنة وهو مكسوف منها".
ازدردت سالي لعابها بأسى، فأي كلام لا معنى له مع أخٍ يفكر بهذه العقلية، فركت يد صديقتها بحب كي تخفف عنها، وبالفعل ابتسمت نجلاء لها وتمتمت لتغير محور هذا الحديث النكد
"اطلبي لي شاورما فربما لست بخير"
ضحكت سالي "ماشي يا طفسة وأنا اللي هدفع الحساب كمان".
أتي الطعام والعصير وطلبت سالي الشاورما خاصة نجلاء وبدأ الكلام الجدي "المجموعة كملت 1000 بنت امبارح "
اتسعت عين نجلاء "بجد طيب الخطوة الجاية إيه؟ هنلاقي مكان إزاي؟"
سالي بعد أن قضمت قضمة "في بنت اسمها كريمة دخلت الأسبوع اللي فات المجموعة عندها جيم للسيدات وأنا كلمتها لقيتها لذيذة كده يا رب توافق إن اجتماعاتنا تبقي هناك على العموم إحنا هنقابلها النهاردة وأنا متفائلة خير إن شاء الله".
تناولت الفتاتان الشطائر وعادتا إلى العمل مرة أخرى، وفي تمام الخامسة توجهتا إلى حيث تقع الصالة الرياضية الخاصة بالفتاة التي تدعى كريمة، وجدتاها فتاة مرحة في الثلاثين من عمرها ترتدي ثيابًا رياضية وتعقص شعرها في كعكه ضخمة أعلى رأسها، وعلى جبينها رابطة فسفورية اللون. كانت الصالة مخصصة للسيدات فقط، قاعة كبيرة يوجد بها الآلات الرياضية، وعدة غرف أخرى ملئ بالمرايا لعدة أغراض أخرى كتمارين اليوغا وما شابه ذلك.
تحدثت سالي مع كريمة بجدية عن مشروعها الصغير وتحمست كريمة جدا لكلام سالي وبدت مقتنعة إلى حد كبير، سعدت سالي كثيرا عندما علمت بإمكانية التواجد هنا كمقر رئيسي للجمعية الصغيرة خاصتها يومان بالأسبوع، وأيضا حينما وجدت ضالتها، فهي تبحث عن طبيبة نفسية ومحامية جيدين كفاية للانضمام إليهن من أجل حل مشاكل آنسات الجمعية، فصديقة كريمة المقربة محامية جيدة ولديها طبيبة نفسية تمارس معها الرياضة بشكل دوري منذ عامين ووعدت سالي بالحديث معهن، شكرت كل من سالي ونجلاء كريمة كثيرا وانتهى الاجتماع الصغير هذا بتوفير الكثير من الإمكانيات لجمعيتها الصغيرة، والتي تحاول إنشائها آملة كل الأمل بإحداث تغيير ما في حياتها وحياة الفتيات ككل خاصة الآنسات ... .
بعد توفير مكان للجمعية وإن كان بسيطا، عملت سالي على تطوير المرحلة، عن طريق جذب أكبر عدد ممكن من الفتيات إلى تلك الجمعية، حيث التقت بثلاثين فتاة فقط من أصل ألف واللاتي استطعن الحضور على أرض الواقع، بخلاف المجموعة خاصتهم على موقع التواصل "فيس بوك". وعلى الرغم من أن الاجتماع الأول كان صغيرا، إلا أن سالي وضعت به الأسس الخاصة التي تريد أن ترسيها في بنائها الذي تأمل بأن يكون له شأنا في المستقبل، ازدادت الفتيات حماسة بعد الاجتماع الأول وتم نشر فيديو خاص بملخص هذا الاجتماع، بغرض عرضة على المجموعة الخاصة بالآنسات كي تتشجع باقي الفتيات للحضور، غير أن الفيديو الصغير لسالي ذاع صيته على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" ككل وليس فقط مجموعتها الصغيرة، كانت هذه الفكرة لنجلاء وبالطبع كان هناك موجة سخرية موجهة لها ولجمعيتها، كعادتنا دائما وأبدا في إفساد بهجة أي شيء جديد يحاول أي أحد إحداثه من أجل تغير هذا الواقع!.
وبالرغم من أن موجة السخرية التي وجهت للآنسات كانت لاذعة، إلا أنها زادت من مجموعتها الصغيرة التي وصلت في وقت قصير إلى الآلاف، وبدأت الآنسات في ترقب اجتماعات سالي لمعرفة المزيد عن الآتي. كانت الفكرة الأساسية لسالي بسيطة للغاية "العمل"، أجل هكذا وبكل بساطة، وحده العمل هو الحل لخروج الآنسات من موقفهن السيئ هذا في نظر المجتمع، عليهن بتصحيح الصورة المشوهة التي تغذيها الدراما وأقاويل الناس عنهن وعن الشرور التي ينشرونها حولهن، وانطلاقا من قاعدة العمل انطلقت إلى الآتي:
- العمل على نفسك: عليكِ بالعمل على إسعاد نفسك، فالسعادة لن تُقدم لكِ على طبقٍ من ذهبٍ، ولن تأتي في جعبة الفارس الذي ستتزوجينه، فكم من فتاة تزوجت آملة في السعادة تحولت حياتها إلى جحيم مشتعل!. لذلك احرصي أنتِ على إسعاد نفسك دون الاعتماد في ذلك على الآخرين، افرحي أحبي الحياة لا تهتمي بالأقاويل التي تنشر حولك وتسبب لكِ الإحباط، بل على العكس اجعلي منها حافزًا ودافعاً لتنطلقي منه إلى العالم الذي يفتح ذراعيه على مصراعيه ليستقبلك أنتِ وأحلامكِ.
- العمل على تطوير نفسك: الإنسان ما هو إلا مجموعة خبرات اكتسبها عبر الزمن، الخبرات والتجارب هي من تكون شخصيتنا وتحدد ما سوف تصبح عليه هويتنا، أما أخطائنا وزلاتنا فهي تعلمنا وتقوينا أكثر من نجاحاتنا، لذلك لا تخجلي واخرجي إلى الحياة.
- حددي أهدافك في الحياة: ضعي حلما أمامكِ وركزي بكل قوتك على تحقيقه وبإذن الله سوف يتحقق.
- إذا كنت فتاة عاملة: اكتسبي المزيد من الخبرات وخذي الدورات اللازمة، طوري من نفسك ووسعي مداركك.
- إذا كنت باحثة عن عمل ومللت: نصيحة لا تملي أبدا وحاولي تعلم مهاراتٍ جديدة كي تزيدي من فرصك، والله لا يخيب أمل من يسعى.
و إذا لم تكوني لا هذا ولا ذاك، لابد وأن لديك موهبةً ما أو مهارةً اكتسبتها، اعملي على تطويرها وإشغال أوقات فراغكِ بما يفيد ولا يضر.
كانت تلك أهم النقاط الأساسية التي تحدثت بها سالي في اللقاء الأول، مما شجع الكثير من الفتيات على الحضور على أرض الواقع ليبدأ العدد في الازدياد رويدًا رويدًا ... .
عرضت المحامية نهى على سالي الذهاب والتعرف على سيدة أعمال لها جمعية خيرية ومن الممكن أن تساعدها في مشروعها هذا، تحضرت سالي للقائها وجهزت ملفاتها ودعت الله من كل قلبها أن تساعدها تلك السيدة.
***
سحبت أنفاسًا مرتعشة رغم قوة شخصيتها إلا إنها كانت متخوفة من هذا اللقاء، فسيدات الأعمال معروفات عادة بالشدة والجدية، لذلك لم تستطع النوم في الليلة الماضية من شدة توترها. وقفت أمام المصعد وإلى جوارها شابان في أوائل الثلاثينيات تقريبا، يتضاربان بالأيدي ولكن بهدوء ظنا منهما أن لا أحد يراهما، ووقف خلفهما رجل كبير ضخم البنية فارع الطول ينظر إلى السماء ويتمتم بنفاذ صبر "عوض عليا عوض الصابرين يا رب!".
أتت سيدة من خلفهم وتمتمت للرجل الضخم "مساء الخير يا فندم" فهز رأسه بأدب ردا لتحيتها.
ركبوا جميعا المصعد والشاب الأصغر يتحدث إلى صورة على الهاتف ويقبلها بشغف، وما إن أغلق الباب حتى تصارع هو والشاب الآخر ليضربا رقم الطابق، وقال الشاب الأصغر بتحد كبير
"والله العظيم ما حد هيقول لها غيري!"
أما الرجل الآخر فظل على حاله يستغفر وينظر للسماء وبدل جملته إلى "حسبي الله ونعم الوكيل!".
أشاحت هؤلاء المجانين من ذهنها وراقبت السيدة التي تعبث بهاتفها وكأن ما يحدث أمامها شيء عادي اعتادت على رؤيته كل يوم! توقف المصعد في الطابق التاسع عشر وتصارع الشابان مرة أخرى من منهما سيخرج الأول، إلا أن الرجل الضخم أمسكهما من ملابسهما وكأنه قبض على لصوص ما وأشار لها بتهذيب بأن تتقدم، خرجت على الفور وخرجوا هم بعدها ولكن ببطء لأنه كان لا يزال يعيق حركاتهم الصبيانية أما السيدة فصعدت للأعلى.
دخلت المكتب بترقب وبدأ قلبها يدق الطبول، تذاكر وتحفظ كل ما تود عرضه على سيدة الأعمال تلك، وجدت فتاة قصيرة يبدو أنها في منتصف العقد الثاني من عمرها أو أقل بقليل، راكعة على الأرض وتصدر أصوات بفمها وفرقعات من يدها وتتمتم بحنو وأسى في آن واحد "يلا يا حبيبتي تعالي بقى، اطلعي بقى بليز زمانك تعبتي أوي، يا ربي الوقعة دي زمانها جاية الوقتي تقول عليا إيه بس!".
ظلت الشابة الصغيرة راكعة على ركبتيها تناشد الطفلة على الخروجِ، هكذا ظنت سالي التي تنحنحت كي تعلن عن وجودها "احم لو سمحتِ مدام سارة شاكر عبد الحليم موجودة؟!، أنا عندي معاد الساعة اتنين ونص معاها" ونظرت في ساعتها التي تدل على أنها الثانية والثلث
ردت الشابة بأسى "أيوة، ممكن تقفي هنا لو سمحت ولو خرجت امسكيها على طول أوك؟".
رفعت سالي حاجبها وسألت ببلاهة "هي إيه دي اللي أمسكها؟!"
ردت الشابة بتلقائية "أرنوبة!".
ما برج المخابيل هذا؟!!، لم تعيرها سالي أي اهتمام وزمجرت بها
"يا آنسة أنا عندي معاد مهم ميصحش كده!".
ضمت الشابة حاجبيها وتمتمت بأسى "آسفة اتفضلي هنا عشر دقايق بس" وأشارت إلى غرفة مجاورة للمكتب الرئيسي، عندما همت سالي بالدخول وجدت الشابان يركضان باتجاه المكتب بعد أن أطلق الرجل الضخم أخيرا سراح ملابسهما، دلفت سريعا ولم يروها وتدافع الاثنان يصرخان
"سارة، سارة  سااااااااارة"
نظرت نحوهما وعلت الدهشة وجه سالي، سارة! لا يعقل! لابد وأنه تشابه أسماء ليس إلا، تكلم الشاب الأصغر بسرعة شديدة "عارفة يا ست هانم الأستاذ اللي أنتِ طالعة بيه في السما خد رقم واحدة ست النهاردة "
وأردف الشاب الأكبر بسرعة وتهكم بالغ قائلا "قال إيه؟ شغل! هأو!! كان غيرك أشطر بس إحنا مخلصناش وجينا نعرفك على طول آه، أنتِ اختنا واللي منرضهوش على بنات الناس منرضهوش عليكي"
وأردف الأصغر بحماسة كبيرة "أنا أعرف محامي حلو أوي هيخلص الليلة دي ومش هياخد كتير خمس آلاف جنيه"،
أردف الأكبر بتلقائية مؤكدا على كلام الأصغر "يا بلاش والله تغور الفلوس ولا تعيشي مع الغشاش الخاين ده".
دلف الرجل فارع الطول ضخم البنية ذو الشعر الأسود الممزوج بخصلات رمادية وهو يسير بوقار شديد واضعا يديه في جيبه وتبدو عليه هيبة كبيرة، ترى من هذا الشخص؟!، وما علاقته بزوج المجانين هذا؟!.
"إلحقني يا بودي بليز" تمتمت الشابة بأسى
ترى مَن من زوج المخابيل هؤلاء هو "البودي " تساءلت سالي؟!
"خير في إيه؟!"
فغر فاه سالي من الدهشة، ذلك الكائن الضخم الذي يشبه إلى حد كبير مصارعي التلفاز هو "البودي!!!" علي بالفرار من هنا قبل أن أجن، هكذا حدثتها نفسها.
"أرنوبة وقعت هنا ومش عارفة أجبها خالص والاستراحة قربت تخلص وزمان صاحبتها جاية"
مد ذراعه الضخم وأخرج أرنبة صغيرة للغاية ممسكا إياها من أذنها، زمجرت الشابة الصغيرة به "حرام عليك كده ودنها توجعها!" وأخذتها بلهفة منه وأخذت تقبلها وتمرر يدها على فروها الأبيض الناعم.
"حلوة يا بودي مش كده؟" سألت الشابة بمرح وهز الرجل الضخم رأسه موافقا، اللعنة إنه حقا "البودي!"
صاح بها الشاب الصغير "إيه البرودة دي أنتِ مش سامعة بنقول إيه؟"
لم تعره الشابة أي اهتمام وظلت تهدهد الأرنبة الصغيرة ورفعت رأسها لكائن "البودي" الضخم وسألته "ينفع تعيش معانا مش كده وافق بليز وأنا هسمع كلامك والله في أي طلب تطلبه مني"
صاح الشاب الصغير مجددا "على جثتي الشيء ده يدخل البيت ممكن يعمل لحور حساسية!"
نظرت له بغضب ثم توسلت للرجل الضخم "عشان خاطري أنا حبتها أوي"
"طيب هجيب ليكي واحدة"
رفضت ضاربة قدمها بالأرض "لا أنا حبيت دي"
رفض هو الآخر "لا عيب مايصحش إديها لصاحبتها وأنا هجيب ليكي واحدة" كانت لهجته محذرة وكأنه أب يوبخ ابنته.
بدأت سالي تحدث نفسها "جايز والدها وبتقوله يا بودي!، عادي ما أنا كنت بقول لبابا الله يرحمه " أبو الفتوح يا فتتح تتح" وهو اسمه فتحي!!"، هزت رأسها ولعنت حظها تمنت لو تدلف إلى سيدة الأعمال تلك لقد نسيت نصف حديثها الذي كانت ترتب له منذ عدة أيام بسبب هؤلاء المخابيل!.
زمجر الشاب الصغير بهم مرة أخرى "أنا قولت الشيء ده مش داخل البيت"
رفعت الشابة الصغيرة رأسها تتوسل الضخم بعيونها فزمجر بالشبان يوبخهم "على فوق أنت وهو، وهي حرة تجيب اللي هي عاوزاه واحمدوا ربنا إني أصلا مقعدكوا في البيت مفهوم ولا لأ؟!".
قطب الشابين حاجبيهما في أسى وخرجا بهدوء منسحبين وتمتم الأصغر "ده إحنا حتى معرفناش نوصل الموضوع للمحاكم هو أنا خلاص فقدت مهاراتي؟!"
ربت الأكبر عليه "معلش يا محمد هي كده الدنيا معدش فيها خير زمن الشر الجميل انتهى" هزا برأسيهما على ضياع المجد الزائل هذا!! وصعدا، "اللعنة أود الخروج من هنا بأي شكل".
حالما صعدا انحنى الرجل الضخم يوبخها ويتكهن على طريقة كلامها الطفولية  "وطبعا أنتِ بقى من هنا ورايح هنام مع أرنوبة، هأكل أرنوبة، أصلي كنت بكلم أرنوبة، وتركنيني على الرف!"
هزت رأسها نافية "أبدا والله صدقني"
"طيب خلاص هشوف لك واحدة هتستني تروحي معايا ولا هتمشي بدري "
"لا لسه ورايا معاد مع واحدة"
"مين؟"
هزت أكتافها بلا مبالاة وهي تداعب الأرنبة "معرفش واحدة اسمها سالي لسه أول مرة أشوفها".
اختفت سالي في الحائط الخاص بهذا المكتب وضربت مقدمه رأسها بيدها ووبخت نفسها بشدة "فيها إيه يعني لو كنت مسكت لها الأرنبة؟ كنت هتشل!، يا حظك يا سالي؟!!".
فرك الرجل الضخم فرو الأرنبة و تمتم "طيب خلصي واطلعي ليا عشان تساعديني عندي شغل كتير"
هزت رأسها ومضى هو في طريقه، وبعد ذلك هوت سالي في المقعد ودقائق ودلفت لها شابه تسألها "آنسة سالي؟"
هزت سالي رأسها لها موافقة، "مدام سارة في انتظارك يا فندم"
سألتها سالي "أنتِ السكرتيرة؟ "
هزت الشابة رأسها، فتمتمت لها بقهر "روحي يا شيخة ربنا يسامحك أنتِ وأرنبتك" !!!.
دلفت سالي إلى مكتب أنيق ووجدت سارة الصغيرة منحنية تطعم الأرنبة اللعينة بعض الجزر، وقفت وسلمت عليها بترحاب وتهللت أسارير سالي أنها لن توبخها بسبب زمجرتها بها منذ قليل ووجدت أن تلك القصيرة التي تبدو للوهلة الأولى ساذجة، تعرف كل شيء عنها وعن جمعيتها وتتكلم بمهنية شديدة أذهلتها بعد أن انتهتا من النقاش، لم تتردد سالي في سؤالها "حضرتك بقالك كام سنة في المجال ده؟"
ضيقت سارة ما بين حاجبيها "إيه حضرتك دي أنتِ عندك كام سنة؟"
" 31 "
ردت سارة بمرح  "وأنا كمان"
وأغلقت عينا تحاول حساب المدة الزمنية "امم تقدري تقولي كده الجمعية بقالها أربع سنين".
أعجبت سالي بصغر سنها ورغم ذلك كان لها اسما واضحا في هذا المجال وترددت وهي تسألها مرة أخرى "ممكن أعرف وافقتي تساعدينا ليه؟ "
"أمم أولا أنا شوفت الفيديو بتاعك بالصدفة وأعجبت بشخصيتك جدا ومن شجاعتك وإزاي قدرتي تتكلمي بثقة عن لسان الآنسات، وأنا رافضة عموما نظرة المجتمع لتأخر سن الجواز أو النظرة اللي بينظروا ليها للمطلقة دي حاجات خارجة عن إرادتنا ومش المفروض نقبل بالظلم لمجرد أننا خايفين نواجه نظرة المجتمع، ثانيا بقي وده الأهم انتوا محتاجين مشاريع تطلعوا طاقتكوا وامكانياتكوا فيها وأنا محتاجة لمتطوعين يشتغلوا من قلبهم يعني إحنا الاتنين بنكمل بعض".
سرت سالي بلقائها كثيرا، وبعد لقاء واحد فقط نجحت تلقائية سارة في فك أي حاجز وضعته سالي بينهما وأصبحت الفتاتين من أعز الأصدقاء، وبدأتا معا بتأسيس جمعية الآنسات ... .
***
غسل وجهه بعنف بعد أن انتهت سارة من حلاقة ذقنه وخرجت، وأخذ يقذف بالماء على وجهه عدة مرات يريد أن يمسح الصورة التي رآها في الحلم من عقله، ولكنها للأسف أضيفت إلى ألبوم صور كوابيسه اللعين، عليه بفعل شيء ما ولكنه حقا لا يعرف ما العمل؟،  لقد صمت لقرابة الخمس سنوات عن ذلك المظروف اللعين الذي تركه أحمد قبل مغادرته، هل سوف يتحدث الآن ويقيم قيامته بيديه؟! لمجرد أنه يود إراحة ضميره! لا يوجد أي منطق في هذا الأمر، فاق من النظرة الكريهة التي كان ينظرها إلى نفسه بالمرآة على صوت سارة  "يا لا يا عبد الرحمن إتأخرنا" مسح وجهه بالمنشفة وخرج يتكهن عليها محاولا أن يضيع مرارته بمشاكستها
" إحنا تأخرنا بسبب البيض بتاعك يا هانم"
ضحكت هي وارتسمت البسمة على ثغره لضحكتها الصغيرة هذه، ولكن حالما رأى ما تفعله سارة أنسحب اللون من على وجهه، اللعنة أنها تقف على جهاز قياس الوزن!!، عبست عيناها وتمتمت بأسى "أوف أنا زايدة 8 كيلو!"
اللعنة لو تعلم بأن الجهاز يخفي "5 كيلو" أخرى فهو عبث به كي يريح نفسه من تأنيب ضميرها! لفت حجابها وارتدى هو ملابسه وادعى أنه لم يرى ولم يسمع أي شيء بشأن وزنها هذا متبعا نصيحة أخيه محمد الغالية "لما تسألك حبيبي أنا تخنت؟! تنكر تنكر تنكر!".
نزل الاثنان على السلم متجاهلان المصعد متشابكي الأيدي، فهناك مسلسل تلفزيوني صباحي يومي لا يملان من مشاهدته أبدا، تمتما معا بعد التخمين "أمم الأسرة والطفل وبعدين الجزيرة" كان هذا قبل عدة سلالم من منزل حسام ومحمد، وبالفعل نجح تخمينهما وانفتح باب محمد وضحك عبد الرحمن وسارة متمتمين بهمس "الأسرة والطفل".
"روح قلب بابا يا ناس أنا عملت إيه بس عشان أستحق القمر ده يا عالم! خلي بالك من نفسك لحد ماجي وتسمعي كلام ماما وتاكلي الأكل بتاعك كله ماشي يا حور العين والقلب أنتِ" كان هذا محمد الذي يتحدث بهيام لا مثيل له لحوريته الصغيرة، ويحملها ويقبلها ويدللها ويضمها وكأنه مسافر للخليج لمدة عامين وسوف يحرم من ابنته الغالية!.
راقبه كل من عبد الرحمن وسارة بعين زائغة متمتمين معا بلا مبالاة "أوفر!"، أكمل محمد وصلته الصباحية مقبلا رأس آية ومستودعهم الله وهو يترك الصغيرة من على ذراعه بمضض، وشعرت سارة بأنه على وشك البكاء من فرط ألمه من ذلك العالم القاسي الذي يفرق بينه وبين ابنته!.
"يا أخي حرام عليك بقى خلي عندك دم!" كان هذا الصراخ الغاضب لأمل التي تصيح بحسام كي تبدأ صباحها البديع مثل كل يوم، أطلق عبد الرحمن وسارة آهة تكهن متمتمين بخيبة أمل "أخ .. قناة الجزيرة اشتغلت" نزلا السلالم القليلة وألقيا تحية الصباح على جميع الحاضرين وقبلا حور الصغيرة الرائعة وإيهاب أيضا، متجاهلين صوت الصراخ الصادر عن حسام وأمل وصوت البكاء الهستيري للتوأم الصغير، وانتبها إلى طريقة حور الرائعة في الكلام، فمعظم كلامها باللغة العربية الفصحى مثل تلك التي تسمعها بالرسوم المتحركة.
"أبي لا تنسى إحضار الشوكولا من أجلي"
"يا خبر ده أنا أنسى نفسي ومنساش طلبات القمر ده" وقبل وجنتها بحب شديد وأنزلها على الأرض، رفعت يدها تودع إيهاب وانحنى الصبي لها كي تقبل وجنته "أود الذهاب معك يا بيبو إلى المدرسة"
هز الصبي رأسه موافقا "في العام القادم يا حور إن شاء الله" كان إيهاب الوحيد الذي يتحدث معها أحيانا بالعربية الفصحى مثلما تحب هي.
بينما تمتمت سارة من بين ضحكاتها "الله حلوين أوي بيفكروني بقناة سبيستون"، انفتح الباب وخرج الصغير أحمد يفرك وجهه وهو ناعس للغاية، ثم لف حول نفسه بطريقة خرقاء جعلت الجميع يضحكون، فمنامته اللبنية الصغيرة هذه أضفت عليه مظهرًا مضحكًا بالإضافة إلى منظره الأخرق أساسا!، ألقوا عليه تحية الصباح ولكنه لم يجب أي منهم وتوقف يمسح بنظره على الموجودين، وحالما رآه محمد قطب جبينه فهو لا يطيق ابن أخيه الصغير البتة. توقف نظر الصغير على وجه حور وابتسم ببلاهة في الحال ونطق بصوته الطفولي "ثباح  الخير يا حوي "  أي "صباح الخير يا حور"
ردت الصغيرة عليه باللغة العربية الفصحى بصوت عذب "صباح الخير يا أحمد" قطب الصغير حاجبيه وانمحت البسمة من على وجهه وأشار بنفاذ صبر لمحمد بإصبعه الصغير وتذمر تذمرا واضحا "أنت هتخليها تتكلم زينا إمتى؟! أنا مث حكوز انثان آلي!" أي " مش هتجوز إنسان".
اهتاج محمد بشدة وكاد أن يفتك به لولا أن عبد الرحمن كبله فصرخ بعلو صوته "تجوز مين يا فاشل أنت! بنتي أنا تتجوزك أنت؟!!، سبني عليه والله لعلمه الآدب"
قطع عبد الرحمن وصلة ضحكه وهو ممسك بمحمد "اهدى يا وحش أما يبقى يعرف ينطق الكلمة صح الأول! خوش يا أحمد جوا"
رفض الصغير طلب عمه ووقف يدعي البلاهة ويخرج لسانه لمحمد ثم نطق بغيظ واستفزاز "مث بمزاكك!" أي "مش بمزاجك"
هاج محمد كالثور حتى أن عبد الرحمن بكل قوته لم يستطع تكبيله ومنعه عن الصراخ والسباب، ولكن ما أنقذ الصغير هو والدته التي صرخت عليه ليدلف إلى الداخل كي لا يصاب بالبرد، فركض الصغير مرتعبا من صوت والدته. وحالما دخل الصغير خرج حسام يلعن كل شيء حوله وصفق الباب خلفه بعنف وصراخ أمل لم ينتهي بعد، نظر نحوهم بغضب جميعا وتمتم بغيظ "كان يوم أسود!" وركض إلى الأسفل، حزن الواقفون بشدة فخلافات أمل وحسام ازدادت بكثرة في الفترة الأخيرة، وكل مدى تصبح أكثر وحشية من ذي قبل، وما هي إلا ثوانٍ قليلة وانهارت أمل بالبكاء، فهي تصرخ على أولادها من شدة عصبيتها ثم تبكي بشدة ندما على صراخها هذا.
أخذ محمد الصغيرة من آية وتمتم بحزن "أنا هخلي حور مع ماما وأنتِ روحي لها" هزت آية رأسها ونزل الجميع بالمصعد للسيدة نور وآية أغلقت شقتها ووقفت أمام شقة أمل تسحب نفسا عميقا قبل أن تطرق الباب.
***
دلف الجميع إلى شقة والدتهم ونزلت الصغيرة عن ذراع محمد راكضة نحو جدتها وفاء تقبلها وتلقي عليها تحيه الصباح، ومن ثم ركضت إلى جدتها نور الجالسة على السفرة مع فارس الذي يفضل فطور السيدة نور عن فطور والدته، كان هذا الأمر يبهج السيدة نور ويثير حنق السيدة وفاء لتمرد ابنها على طريقة إعدادها للفطور خاصة الفول، يخبرها مرارا وتكرارا أن فول السيدة نور أطيب من خاصتها بكثير!. بعد إلقاء تحية الصباح على الجميع قطبت السيدة نور التي ترتدي الأسود منذ وفاة أحمد ولم تزيحه عنها حاجبيها "وبعدين معاهم بقى الاتنين دول زودوها أوي؟!"
هز محمد رأسه "معلش أنا هتكلم معاه لما نروح المكتب" ودعوا الجميع وانطلقوا إلى الأسفل. ركب محمد وإيهاب وفارس سويا كي يوصلهم محمد إلى المدرسة، وسارة وعبد الرحمن ركبوا السيارة الجديدة الخاصة به التي أتى بها منذ يومين فقط، تحسست المقود بإعجاب ولكنها فوجئت بضربة من يده على ظهر كفها ونطق بنفاذ صبر "متفكريش حتى في الموضوع"
عقدت ذراعيها بغضب "هي موضة ولا إيه حتى سالي مش راضية تخليني أسوق عربيتها!"
تمتم عبد الرحمن وهو يشعل المحرك "بتفهم!".
خرجوا من بوابة المنزل وتوقفوا قليلا عند البوابة لعادة شقية يحب أن يفعلها عبد الرحمن، ألقى حسين عليهم تحية الصباح ردت سارة عليه أما عبد الرحمن فقام بتوجيه المسدس نحوه وقطب جبينه، رفع حسين يده في الهواء تلقائيًا وضحك عبد الرحمن عليه كثيرا، أما سارة فقررت تحريمه هذه العادة السيئة فناولت حسين كيسا ما ونكزت عبد الرحمن كي يسير بالسيارة، وحالما خرج من البوابة انتزعت السلاح من يده وزمجرت به "مش قولت متعملش كده تاني وتخوفه؟!"
" بتسلي! ثم الكيس اللي خده ده غير بتاعي مش كده؟!"
" لا دي السندوتشات بتاعتك عشان تحرم تعمل كده تاني" قالتها بكبر وسيطرة كبيرة
تذمر هو "بس المسدس فاضي!"
ليأتيه الرفض القاطع "ولا فاضي ولا مليان" ...
***
ربتت السيدة وفاء على كتف السيدة نور وتمتمت بهدوء  "أطلعي أنتِ وأنا هفضل قاعدة مع حور"
هزت السيدة نور رأسها موافقة وصعدت بتعب السلم أما السيدة وفاء فوقفت في الشرفة الخاصة بالمنزل تراقب الطريق، فذات يوم نسي عبد الرحمن عدة أوراق خاصة بالشغل وعاد إلى المنزل خلال نصف ساعة من ذهابه وعندما وجد والدته في شقة أحمد انقلب وجهه، ولم يتحدث كل منهما للآخر قبالة الأسبوعين وأصبح عبد الرحمن عصبيًا للغاية، ومنذ ذلك اليوم تقف السيدة وفاء بالشرفة تراقب الطريق كي تجنب كل من السيدة نور وابنتها أي مشاكل من قبالة عبد الرحمن.
دلفت السيدة وفاء إلى غرفة أحمد، سحبت نفسا عميقا وعبئت رئتيها برائحته وذهبت إلى سريره تضم وسادته لها وتقبلها، وتضم صورته وتقبلها وتنزل دموعها دون توقف على فلذة كبدها الذي فارقها في ريعان شبابه، تدعوا الله أن يغفر له ويعفو عنه ثم تدعوه بأن يربط على قلبها ويصبرها ويرزقها برؤيته عن قريب فهي لم تعد تطيق الحياة من بعده، تارة تكون هادئة تشعر بأنه في سكينة وتارة أخرى تشعر بالنيران في قلبها تتأجج بشأنه، وتشعر بأنه في كرب فتتصدق وتدعو إلى أن يشعر قلبها بخير مرة أخرى. كان ألمها غير عادي وتحاول أن تتفادى إظهاره بسبب عبد الرحمن والجنون الذي يصيبه ويجعل المنزل كله في حاله رعب، تتمنى لو تعرف ما الذي يخفيه؟ فهي أكيدة من أنه يخفي شيئا ما، وهذا الشيء بالتأكيد يخص أحمد ...
خرجت من تخيلاتها ومسحت دموعها وأتت بزجاجة عطرة المفضل ورشت منها على وسادته، لأن الرائحة بدأت تخبو عليها وهي تريدها حاضرة دائما، مر عليها حوالي الساعة والنصف بالداخل وبعد أن انتهت من قراءة القرآن الكريم قبلت كل شيء يخصه مرة أخرى وأعادته إلى مكانه، ولمست الجيتار الموضوع بزاوية الغرفة تمسح عنه الغبار لقد كان يخصه، كان يلعب عليه أحيانا أيام الجامعة وعندما علمت سارة بذلك شعرت بالغيرة ورفضت دخوله إلى منزلها فظل هنا بغرفته عند والدته، ابتسمت من بين دموعها لذكرياتها هذه لقد كان شابا رائعا، "كان" تلك الكلمة التي رنت بعقلها جعلتها تشعر بألم بالغ، ألم لم تشعر به من قبل، ألم يزداد كل يوم ولا يخبوا أبدا .... .
أما آية فبعد أن سحبت نفسا عميقا لتواجه ما ستراه بالداخل، طرقت الباب بهدوء كي تدلف إلى أمل التي فتحت الباب بعد أن مسحت دموعها، وجدتها في حالة مزرية للغاية، شعرها ملبد ومبعثر ووجهها ذابل وشاحب بشكل غير عادي وعيونها هي الأسوأ على الإطلاق، لقد كانت هناك كدمتان زرقاوان أسفل عينها وكأن أحدا ما لكمها في كلتا عينيها، ملابسها مهلهلة والمنزل بحالة فوضى كبيرة وكأن إعصارا ما مر به، ومريم الصغيرة تبكي وتصرخ فوق ذراع أمل دون توقف وكريم كذلك لكنه كان نائما على الأريكة، أما عن أحمد فقد كان ملقى بإهمال على إحدى الأرائك يغط في النوم ويده تتدلى من فوقها، سألتها آية بأسى "كريم بيعيط ليه؟!"
تتالت شهقات أمل "عاوز يغير البامبرز خلي مريم معاكي لحظة" ولكن حالما توجهت بالصغيرة ناحيتها ازداد صراخ مريم أكثر بكثير وصرخت أمل بانهيار "حرام عليكي بقى!"
ربتت آية على كل منهما وتمتمت "مش مهم أنا هبدل له الحفاضة نامي أنتِ شوية" رغم أن النوم كان بالنسبة لأمل شيئا مستحيلا ... .
جعل الحمل الثاني لأمل عصبية للغاية بشكل مبالغ فيه، حيث أنها كانت تصرخ وتبكي لأتفه الأسباب على الرغم من أنها في العادة هادئة للغاية، تنفس الجميع الصعداء بعد ولادتها آملين في أن تستقر حالتها بعد ذلك، ولكن الأمر بدأ يزداد سوءا ومنذ ذلك الحين وهو في ازدياد مستمر، فمريم ابنتها الصغرى التي خرجت بعد كريم بعدة دقائق حالة استثنائية بكل ما للكلمة من معنى، إنها لا تنام إلا نادرا، عادة يسهر الأطفال طوال الليل ولكن ينامون بالنهار، أما هذه الطفلة فهي لا تغفو لأكثر من عشرون دقيقة على يد أمل ولا تنام مطلقا لا بالسرير الخاص بها ولا بأي سرير آخر!، وما زاد الطين بلة، تعلقها بوالدتها إلى أقصي درجة، وعند بكائها من المستحيل أن يجعلها أحد تهدأ سوى أمل، التي أصبحت لا تشعر بذراعيها من كثرة حملها لها، فمن النادر أن تصمت الصغيرة مع أحد غير والدتها، مما جعل حياة هذه المسكينة صعبة للغاية فهي مرهقة على الدوام وقلقة على طفلتها وبالكاد تتمكن من العناية بكريم في ظل تمسك مريم الهستيري لها، أما أحمد فقد أهملته كثيرا وحسام هو الآخر بالطبع ولكنها في غيظ شديد منه فلا تهتم لذلك قيد أنملة، أما هي فقد كانت الأسوأ من بينهم جميعا.
بدلت آية ملابس الصغير وحممته وحضرت رضعته الخاصة فهدأ على الفور ونام، إنه هادئ وليس مثل مريم، بعد أن غفي وضعته بسريره وأخذت تراقب تنفسه الهادئ وكفيه الصغيرين البريئين يستندان إلى الأعلى، وتنفسه الهادئ الذي تشوبه شهقة أو اثنتين كل مدة بسبب بكاءه منذ قليل، مررت ظهر يدها برقة بالغة على وجنته الوردية الرائعة يا الهي كم اشتاقت للأمومة مرة أخرى ولكن محمد لا يوافق البتة علي تكرار تلك التجربة، يخبرها مرارا وتكرارا أن الله سترها معهم في المرة الماضية، وهو ليس مستعدا أبدا للخوض في تلك التجربة مرة أخرى، ليس الآن.. أو بعد سنة أو اثنتين ولا بعد عشرة حتى، لقد اكتفى تماما بكل من حور وإيهاب.
فركت وجهها ونزلت دمعة رغما عنها تحمد الله على حور، ولكن الأمومة تجربة رائعة وهي تريد أن تعيدها مرة أخرى وبشدة وليس مرة واحدة بل ثلاث، ازدردت لعابها ووقفت، ستفتح الموضوع معه مرة أخرى لن تيأس. تأكدت من أن الجهاز الناقل للصوت يعمل وأخذت القطعة الأخرى ونزلت إلى الأسفل، تأملت أمل بأسى وهي حزينة عليها وعلى هيئتها شديدة الإهمال، ودموعها التي تنزل بصمت وهي تهدهد طفلتها مريم وتهتز إلى الأمام والخلف بدت شديدة الإرهاق والتعب، جلست آية إلى جوارها وضمتها إليها بشدة لتبكي أمل هي الأخرى بقوة على صدرها، لم تعد تحتمل أي مما يحدث معها، لم تعد تحتمل إهمال حسام لها ولأطفالهم ونزاعاتهم التي أصبحت بدل من صباح الخير ومساء الخير، أرخت رأسها على كتف آية واستسلمت لضغطها على ظهرها "يا إلهي لو فقط يشعر بي ولو قليلا لو فقط يضمني ويخبرني بأنه يقدر ما أفعله ولكنه شديد الجفاف والإهمال في كل شيء".
بعد فترة من البكاء غطت أمل بالنوم رغما عنها على كتف آية، ولكن ما هي إلا دقائق قليلة وانتبهت الصغيرة إلى أن هز والدتها لها قد توقف، فبدأت في البكاء حتى أفزعت أمل وبالطبع لم ترد الصغيرة الذهاب إلى آية، مما جعل أمل تنفجر في البكاء من جديد.
رن جرس الباب ودلفت السيدة وفاء ونظرت إلى منظر المنزل المهمل وإلى ابنتها شديدة التعب، ربتت عليها كي تكف عن البكاء قليلا "تعبت يا ماما خلاص هموت مبقتش قادرة استحمل" وانغمرت في نوبة من البكاء
"آية انزلي لحور عاوزة تنام"
"بس يا ماما .."
"انزلي يا آية" قاطعتها بحزم ونزلت آية وهي مكرهة، أرادت مساعدة أمل ولو قليلا ولكن والدتها تريد الإنفراد بأمل على ما يبدو، أخذت الصغيرة الناعسة فحور غالبا ما تستيقظ من أجل وداع والدها ثم تغط في النوم مرة أخرى ساعة أو اثنتين، ولكن اليوم لم تنم في موعدها حملتها آية وودعت السيدة نور وصعدت إلى شقتها لتودع الصغيرة في سريرها، ومن ثم نزلت إلى حيث مجلسهم مرة أخرى والتفتت بنظرها تجول في الشقة، لقد فتحت النوافذ والمنزل مرتب ونظيف ومغمور بأشعة الشمس، اتجهت إلى الثلاجة حيث ورقة ممغنطة موضوعة عليها ورأت ما حضرته لليوم من طعام، أخرجت عدة أغراض من المبرد ونظرت في ساعتها إنها العاشرة أمامها سبع ساعات تقريبا قبل عودة محمد إلى المنزل، بإمكانها الآن أن تختفي في مكانها السحري، صعدت إلى الغرفة الأخيرة بالطابق الثاني وفتحت الباب وهي مبتسمة فخورة بأحدث فستان صممته، كانت الغرفة مجهزة بالكامل من أجل التصميم، هوايتها التي تحب بشدة وبها كل شيء من أجل ذلك، ماكينة خياطة وأنواع كثيرة من الأقمشة ولوحات لعرض الرسومات الخاصة بتصميماتها، غرفة رائعة مليئة بالحياة والألوان، فتحت الحاسوب وبدأت العمل على فستانها الجديد إنه فستان مميز للغاية، فستان حور
"هديه عيد ميلادها ...".
***
"استهدي بالله يا بنتي واهدي كده إيه اللي حصل؟"
أخذت أنفاسها بصعوبة شديدة "اللي حصل أني أتعس وأفشل واحدة في الدنيا سايبني لوحدي في كل حاجة وكمان مش عاجبه!!، مش عاجبه شكلي ولا لبسي ولا أكلي ولا تربية ولادي بيقولي أنتِ فاشلة في كل حاجة .. طيب هو بيعمل إيه؟ ناجح في إيه عشان يبهدلني كده كل شويا!! .."
تتالت شهقاتها وربتت والدتها علي ظهرها "هو الراجل يا أمل بيشتغل وبيتعب عشان يقدر يصرف على البيت، والمفروض يجي يلاقي البيت رايق وهادي عشان يرتاح"
هتفت أمل بوالدتها "حرام عليكي بقى يا ماما بطلي تطلعي له أعذار كل شوية عشان هو الراجل .. عشان هو الراجل .. طيب ما محمد جوز آية راجل وبيشتغل نفس شغله وشوفي بيساعد آية إزاي وبيهتم ببنته إزاي، حتى إيهاب اللي مش من لحمه ولا دمه بيهتم بيه أكتر ما الأستاذ بيهتم بأحمد، وفي الآخر يعيب عليا كل شواية ويقولي الواد طالع غبي لمين؟ وطالع مبيفهمش كده ليه؟" تتالت شهقاتها المقهورة "حتى سارة وعبد الرحمن بيعملوا كل حاجة مع بعض في الشغل وفي البيت، أنا بس اللي وحدي ورامي عليا كل الحمل و يا ريت بيعجب لا كمان مش راضي عني بسلامته!" وأخذت تنوح بشدة "أنا عملت إيه بس يا ربي عشان يحصل فيا كل ده؟!".
زفرت السيدة وفاء الهواء بتعب لهذا صرفت آية كي تتمكن من الحديث معها، فأمل تشعر بالنقص الشديد بسبب مثالية آية ومحمد في تربية أبنائهم واهتمامهم بأمور منزلهم، تعلم أن ابنتها لا تغير من أختها أو تحقد عليها ولكنها تشعر بالعجز والفشل مقابل ما تحققه آية من إنجازات في منزلها وفي تربية أطفالها، والجميع يشيد لها بما تفعله بينما هي غارقة في قاع الحياة اليومية البائسة الخاصة بها والتي لا تثمر عن أي شيء ... .
"استغفر الله العظيم ! حرام كده يا بنتي تعترضي على إرادة ربنا"
غطت أمل وجهها وبكت بشدة الصداع يفتك برأسها فتك لقلة نومها "ليه أنا دايما حظي كده؟! نفسي مرة واحدة بس يجي يقول لي هاتي مريم ساعة واحدة وادخلي نامي نفسي أنام ساعة واحدة بس زي البني آدميين تعبت منه ومن إهماله ومن أنانية، امبارح كنت بموت من التعب خلاص هيغمى عليا اتحايلت عليه ياخدها شوية بس أريح دراعي أول ما خدها عيطت رجعها ليا وقالي خليكي تحت مش تطلعي فوق عشان أعرف أنام مش بعرف أنام من زنها ومشي وسابني، وأنا؟ أنا أعمل إيه؟" وصرخت بقهر وأفزعت صغيرتها "هو أصلا لزمته إيه كده في البيت؟!!"
بكت الصغيرة أكثر وصرخت أمل بها "حرام عليكي بقى كفاية قلبك هيوقف من كتر العايط هتموتيني!" أخذت والدتها الصغيرة منها ولكن مريم بكت أكثر وأخبرتها أمل بأنها لن تكف عن البكاء ولكن والدتها أصرت عليها "سبيها تعيط شوية مش مهم اطلعي خدي دوش سخن واغسلي شعرك ده كويس" وسألتها باستنكار "آخر مرة سرحتي أمتي؟!" وهزت رأسها بأسى منها "والبسي حاجة كويسة بدل البهدلة اللي انتِ فيها دي!"
صعدت أمل وهي على حالها لازالت تبكي، ولكن فرصة الاستحمام دون القلق على مريم فرصة رائعة لن تضيعها من يدها. أخذت السيدة وفاء تهدهد الصغيرة، تعلم أن ابنتها مرهقة للغاية ولكنها لا تريد تشجيعها على إهمالها لنفسها ولمنزلها هكذا، نظرت بأسى للصغير الملقى على الأريكة الذي ركل الأريكة وسقط أرضا ولم يرف له جفن! وأكمل نومه وهو قرير العين، هزت رأسها غير مصدقة بلاهة هذا الصغير.
نزلت أمل بعد خمس دقائق وبدت أفضل قليلا وأصرت والدتها عليها بتمشيط شعرها الذي تساقط بغزارة فهي لا تتذكر متى آخر مرة وضعت به المشط!، ومن ثم رفعت أحمد على الأريكة وهي آسفة على حاله، بكت مريم أكثر فهي لا تحتمل رؤية والدتها أمامها دون أن تكون على ذراعها وتذمرت السيدة وفاء من الصغيرة "يا ربي منك نكدية!" أخذتها أمل بتعب "اطلعي نامي وأنا هفطر أحمد هتتغدي معايا النهاردة " "بس يا ماما الشقة مبهدلة لازم أروقها" ،
تكلمت بحزم "على فوق يا أمل"
صعدت متعبة وبدأت السيدة وفاء بالترتيب ومحاولات جمة من أجل إيقاظ الصغير كي يتناول فطوره ... .
***
سألت سارة "علا" على عجل وهي تدلف إلى مكتب عبد الرحمن "مين جوا؟"
ردت علا بسرعة "أستاذ حسام وأستاذ محمد"
دلفت وهي تنفخ اللهب من أنفاسها تقريبا وتغلي من الغضب، رفع عبد الرحمن وأخوته الذين يشمرون عن أكمامهم وينحنون على مخطط ما رؤوسهم وسأل عبد الرحمن بوجل "خير يا سارة في ايه؟!".
رفعت في مواجهته ورقة وانسحبت الدماء من عروقه، نظر لا إراديا إلى اللوحة الموجودة بالمكتب ثم نظر لها مرة أخرى "بالذمة مش مكسوف من نفسك؟!"، دقت الطبول بقلب عبد الرحمن ثم اقتربت سارة وتأكد من أنها ليست الورقة التي يخفيها وجلس فجأة بتعب علي الكرسي، بينما رفعت هي الورقة بيدها في مواجهته دون أن تعير أي من حسام أو محمد أي انتباه "المفروض أنك قولت لي أن المهندس راح من اسبوعين الوقتي التقرير ده جالي بيقول إن مفيش أي جديد ومحدش راح عشان يحفر البير عارف الناس بتمشي قد إيه عشان تجيب ماية؟!" ونظرت إلى كوب المياه الموضوع إلى جوار قهوته وأخذته عنوة "من هنا لحد ما البير ده يتحفر يا عبد الرحمن مش هتشرب ولا هتستحمى عشان تحس بالناس دي شويا"
"المعدات مش نافع... "
رفعت يدها بحزم تقاطعه "مش عاوزة أسمع أعذارك الواهية البير يتحفر قدامك يومين اتنين" وغادرت المكتب وهي غاضبة ومعها كوب المياه!.
توجه عبد الرحمن إلى المهندس المعني وهو غاضب هو الآخر وتبعه حسام ومحمد ليراقبوه، دلف مكتب المهندس عنوة "أنا مش كلفتك بحفر بير الصعيد يا بشمهندس؟!"
"أيوة يا فندم بس المعدات مش .."
"مش عاوز أعذار واهية الحفر يبتدي النهاردة" وسحب زجاجة المياه خاصته "من هنا لحد ما البير يتحفر متشربش ماية يمكن تحس بالناس شويا!" وعاد إلى مكتبه وتهالك على كرسيه يضع رأسه بين يديه.
ضحك حسام بشدة وأشار بإصبعه عليه "الأوزعة دي بتترعب منها كده!" وضحك ضحكة خرقاء للغاية
هز محمد رأسه بتكهن "وبتسأل ابنك جايب الغباوة دي منين؟!".
تكلم عبد الرحمن بتعب شديد "محمد عاوز خزنة بالبصمة "
"ليه، وبعدين هجيبها منين؟!"
بنفاذ صبر "اتصرف يا محمد وشوف ليا واحدة" هز محمد أكتافه دلالة على المحاولة "خلينا نكمل بعدين"، قالها عبد الرحمن باقتضاب.
خرج محمد وحسام وهم يستغربون عبد الرحمن بشدة ما الذي حدث له؟
"منظره مسخرة وأبو طويلة ده خايف من الأوزعة دي" تكلم حسام وهو يضحك بشدة
نفي محمد "تؤ الموضوع في حاجة تانية عبد الرحمن مش طبيعي بقاله كام يوم" ونظر إلى حسام الذي ابتعد عن مكتبة وسأله "رايح فين؟!"
" هشوف حاجة حلوة جعان" وذهب إلى الكافتيريا الخاصة بالشركة فيما استغرب محمد أيضا حسام إنه يأكل كثيرا جدا هذه الأيام ومع ذلك وزنة ينقص!، نفضه عنه وذهب لمتابعة أعماله.
أغلق عبد الرحمن باب مكتبه بالمفتاح واتجه إلى اللوحة المعلقة على الحائط والتي تخفي خلفها خزنة حديدية، ضرب الرقم السري وفتح الباب وأخرج مظروفا وعبث به إلى أن وجد الورقة التي تؤرق عيشه منذ عدة أيام بشدة، لمَ؟ ولمَ الآن أصبح يتذكرها بشدة ليل نهار؟! لقد جلبها من خزينة منزله خشية أن تقع في يد سارة وتهدم كل ما بناه، تحدث الصوت الذي بداخله "احرقها وانثر رمادها بعيدا لا تجلب لنفسك المتاعب كل شيء يسير على ما يرام، هيا تشجع واحرقها لا تكن جبان" ضغط عليها بشدة، الورقة اللعينة التي تركها له أحمد قبل سفره لو سقطت بيد سارة سوف يحدث ما لا يحمد عقباه، وعندما دلفت اليوم وبيدها الورقة الخرقاء الخاصة بالتقرير ظن أنها وجدتها، فهي تعلم أيضا الرقم السري لهذه الخزنة ولكنها لا تفتحها مطلقا إلا بأمره، لم يعد يحتمل هذا الهراء مطلقا، زم شفتيه بعزم وهم بتمزيق الورقة ولكن أحمد وقف أمامه يميل بعلياء على الخزنة ويسأله باستهجان
"هي الورقة دي تخصك لوحدك عشان تقطعها؟!"
أغمض عينه بشدة وفرك وجهه بسرعة اللعنة لم الآن؟، لم بعد كل هذه السنين عاد إليه مرة أخرى؟، صباحا رآه في المنام يضم سارة والآن يقف أمامه، ما الذي يحدث؟ لمَ عاد؟!!.
***
حان ميعاد العودة إلى المنزل ودلف الجميع إلى الحديقة، محمد يقبل ابنته ويرحب بها بشغف مبالغ فيه، وحسام حمل الصغير أحمد على كتفه وأخذ الصغير يصيح وكل من السيدة نور ووفاء ترحب بالشباب، أما سارة فركضت لتبدل ملابسها وتحضر طعام الغداء، وبعد أن جلس عبد الرحمن مع الصغار بالحديقة صعد ليبدل ثيابه، ودلف حسام إلى المنزل وصاح بإهمال "أنا جيت"
نزلت أمل التي تحمل الصغيرة وقالت ببرود "حمد الله على سلامتك"
سأل هو الآخر ببرود "الغدا جاهز؟! ولا زي كل يوم متأخرة" وداعب الصغيرة من وجنتها وقبلها
كتمت غيظها "ماما عزمانا على الغدا النهاردة"
صعد السلم وهو يضحك بسخرية "طنط عزمانا ولا أنتِ اللي معرفتيش تطبخي أصلا".
جلست غاضبة، لا فائدة منه مطلقا، لقد رتبت المنزل ورتبت هيئتها إلى حد ما ولم يعلق بكلمة واحدة جيدة، ثم نظرت إلى صغيرتها "شاطر بس يحبك وأنتِ على إيدي يشيلك شوية عشان أرتاح؟ مستحيل!".
صعد محمد هو الآخر بعد أن لعب مع الصغار قليلا بالحديقة، واستقبلته آية مبتسمة وهي في قمة أناقتها وشعرها الغجري الذي يعشقه يلتف حولها، قبل وجنتها بمرح وسألها مشاكسا "مش هتبطلي حلاوة بقى!"
لتضحك آية بشدة وتشعر بأن كل جهودها لم تذهب سدى، ضم كل منهما الآخر وساعدته على تبديل ثيابه ودردش كل منهما فِيما فعل الآخر اليوم، اطمأنت على أمور عمله وسألها هو عن الفستان الذي تصمم لحور وأكد عليها "آية أنا عاوزة بالظبط زي الفستان اللي في الفيلم"
"متقلقش  حبيبي"
"طيب هتعمليه وردي ولا لبني زي اللي شوفناه؟"
"امم بفكر أعمله باللون الأصلي هي عندها فساتين وردي كتير"
هز رأسه مستحسنا الفكرة ثم ضم قبضتي يده من فرط حماسه "مش قادر استنى لحد ما أشوفها وهي بتصرخ أنا متأكد أنها هتصرخ من كتر الفرحة"
ربتت آية على كتفه بحب ونسقت خصلات شعره التي تبعثرت أثناء تبديل ملابسه، ووقف كل منهما في الشرفة يراقبان الأطفال وهم يلعبون، ظلا لعدة دقائق ثم نكزت آية محمد وغمزته بمكر "مش عاوز توضب السفرة معايا "
"يا سلام وأنا أطول!" ضحكت آية بشدة لأنه يغازلها دائما ودلف الاثنان معا.
وفي الحديقة حيث يلعب كل من إيهاب وحور، سأل أحمد بصوته الطفولي ولكنته العجيبة في الكلام " تعالي يا حوي اتميجحي معايا هنا" وأشار على أرجوحة حديدية.
همت الصغيرة بالذهاب معه ولكن إيهاب انتبه لهما ومنعهما عن الذهاب "حور بابا منبه مفيش حد يتمرجح عليها لحد ما يصلحها تعالي العبي على الزوحليقة"
أنصتت حور لأخيها فهي تحبه وتحترمه، أمسكت بيده وذهبت معه، بينما الصغير غضب بشدة "ثيبها يا حشيي إحنا بنلعب ثوا، مالكث دحوة بينا " " سيبها يا حشري احنا بنلعب سوا ملكش دعوة بينا!".
زفر إيهاب بتعب فهو لا يعلم مصدر كره الصغير له بشدة هكذا؟ "تعالى يا أحمد هنا المرجيحة دي خطر متلعبش عليها"
غضب الصغير أكثر وقذف إيهاب بالرمل من حوض الرمل المخصص للعبهم وسحب حور من يدها رغما عنها فسقطت الصغيرة وبكت، زمجر إيهاب بغضب به "عجبك كده؟!" وأوقف حور ومسح دموعها وأخذ ينظف ثيابها من الرمل، فهي تكره الوسخ بشدة بينما أحمد فر راكضا بعيدا عنهم "ها بقيتي كويسة؟"
تتالت شهقات الصغيرة وفركت عيونها "أشعر بالعطش"
"طيب يلا نطلع"
"لا أريد اللعب لم ألعب بعد!" وضربت بقدمها الصغيرة الأرض.
نظر حوله وأخرجها من حوض الرمل وأجلسها على كرسي صغير وحذرها بألا تقرب الأرجوحة وأنه سوف يأتي بالمياه في الحال، صعد الصغير إلى منزله وقطع محمد وآية وصلة الضحك والغزل خاصتهم بعد سماع الباب وخرج محمد وسأله "إزيك يا بيبو حور فين؟"
"عاوزة تشرب"
أمسك بالزجاجة خاصتها وهم بالنزول ولكن والده تحدث "الجو حلو أوي النهاردة ماتيجي ناكل تحت؟"
رحبت آية بالفكرة كثيرا "خلاص يا إيهاب هات الطريبزة الصغيرة وننزل كلنا سوا" عمل الثلاثة على تجهيز الطاولة وجرها محمد ونزل ثلاثتهم بالمصعد، ولكن محمد لم يجد حور في مكان الألعاب!.
"هي حور فين يا إيهاب؟" سأل بتوتر 
أجاب الصغير بتوتر هو الآخر "أنا سايبها على الكرسي ده"
انصرف محمد ينادي باسمها ويبحث في أنحاء الحديقة وخلف المنزل في الحديقة الخلفية ولكنه لم يجد لها أثر، أخذ يصرخ باسمها في هستيرية شديدة حتى خرج كل من بالمنزل على صراخه...
ركض المنزل كله تقريبا إلى الأسفل، وبدأ حسام يسأل بهستيرية عن أحمد ابنه وطمأنته السيدة النور بأنه لديها منذ مدة، ركض عبد الرحمن إلى البوابة وسأل الحارس حسين عن حور فأجابه في رعب "أنا كنت بجيب علبة سجاير سعادتك من على أول الشارع"
صرخ عبد الرحمن "والبوابة كانت مفتوحة؟!"
هز الحارس رأسه برعب بأنها كانت مفتوحة، دخل مسرعا إلى غرفة الحراسة كي يبحث في الكاميرات ولكن حسين أجابه بصوت مرتعش "الكاميرا اللي على البوابة في التصليح يا باشا بقالها أسبوع"
صرخ عبد الرحمن به "أنت بتهرج!" هدر بأنفاسه وصرخ عليه بأن يجلب شرائط المراقبة من المنازل المحيطة بهم، وطار بسيارته إلى الخارج يبحث عن أي سيارة مريبة الشكل.
وقف محمد مذهولا لا يصدق فقدانه لابنته العزيزة ودموعه تنزل بشدة، وآية تشد ملابسه وتصرخ به "جبلي بنتي يا محمد أنا عاوزة بنتي"، كتمت سارة صراخها غير مصدقة وفتشت المنزل كله بكل الشقق الموجودة به هي والسيدة وفاء صارخين باسمها، آملين بأنها موجودة بداخله ولم تذهب بعيدا عنهم، أما حسام فبدأ بالتوجه ورؤية الأشرطة المحيطة بمنزلهم عله يجد أي خيط أو أي شيء، فتش كل الأشرطة ولم يجد أي شيء ومحمد هو الآخر أخذ هاتفه وأخذ يركض يسأل المارة إذا ما رأوا هذه الصغيرة، بدا كالمجنون حينها، ومع انتشار حوادث الخطف البشعة التي يسمعون عنها كل يوم في الإعلام ومواقع التواصل، ارتسمت بعقله أسوأ السيناريوهات المحتملة.
طلب حسام عبد الرحمن ومحمد وأمرهم بالعودة، فهو بحث في جميع الأشرطة ولا شيء أبدا سوي خروج حسين من بوابه المنزل وعودته بعد ثلاث دقائق بالضبط . تجمعوا مرة أخرى بمنزل السيدة نور والرعب والبكاء سيدا الموقف، حاول عبد الرحمن تمالك أعصابه وسأل إيهاب للمرة المائة أين ترك حور بالضبط ؟ وما الذي كانت تفعله؟ ومتى صعد بالضبط ؟ وأجاب الصغير وهو يبكي بشدة  وأضفي علي إجابته أنها كانت تبكي لأن أحمد أوقعها أرضا وصعد هو من أجل جلب المياه لها، مسحت سارة دموعها على الفور  بعد أن سمعت تلك الملاحظة وتوجهت نحو أحمد الذي انزوى على نفسه في ركن ما وبدا هدوئه مريب "تعالى يا حبيبي لما أغسل وشك" حملته وصعدت إلى الأعلى وفطنت عليها السيدة نور، بينما السيدة وفاء كانت تحاول إسكات كريم الذي يبكي بشدة.
حاولت سارة جلب أي هدوء إلى صوتها وهي راكعة أمام أحمد وتغسل له وجهه "أنت يا حبيبي كنت بتلعب مع حور، مش هتقولي كنت بتلعب إيه عشان ألعب معاكوا؟"
هز الصبي رأسه بتوتر، ودلفت السيدة نور بهدوء شديد تحاول الابتسام له كي يرد على سارة "وإيهاب كان معاكوا؟"
لوى الصغير شفتيه في قرف "وإيهاب مث رضي ألعب معها خالث فخدتها المخسن عثان أقول لها على الثر" " وإيهاب مش راضي ألعب معاها خالص فخدتها المخزن عشان أقول لها على السر".
كان الصغير يتلعثم بشدة ويزدرد لعابة بين كل كلمة ويعض على شفتيه بكثرة، لمعت عين سارة بسرعة "المخزن اللي في الحديقة اللي ورا؟"، هز رأسه فتركته وركضت إلى الأسفل بسرعة البرق وانتبه الجميع لها وصرخت هي بشدة "حور في المخزن"
كان محمد أول الواصلين ووجد الصغيرة على الأرض مغشي عليها!، أخذ يحمد الله بصوت عال ويبكي بشدة ويضم ويقبل الصغيرة بكل جزء منها ولكنها لم تفق، أصر عبد الرحمن وسارة عليه بخروجهم من هذا المكان العفن، فالجو مشبع بالرطوبة والعنكبوت يرتع ببيوته في كل مكان، وفي ضوء الشمس أخذ عبد الرحمن يفحصها مع سارة لربما تعرضت لقرصة ما ولكن جسدها كان سليما تماما دون أي جروح، غسلت السيدة وفاء وجهها بالقليل من الماء علها تفيق بينما محمد كان يصرخ بهستيرية "اطلبوا دكتور .. حد يجيب دكتور بسرعة".
نجحت محاولة السيدة وفاء وبدأت الصغيرة تستعيد وعيها، كان وجهها محمرا بشدة ويبدو أنها بكت كثيرا، ليحدثها محمد بلهفة هو وآية "فوقي يا حببتي .. فوقي يا حور .. اللي حصلك يا حبيبتي مالك؟"
تتالت شهقات الصغيرة ورمت برأسها على صدر والدها ونظرت إلى جميع الحاضرين الذين ينظرون لها بقلق بالغ، وحينما وقع نظرها على أحمد بحثت سريعا عن إيهاب وداهمها البكاء على الفور وهي تشير إلى إيهاب بإصبعها تحاول نطق اسمه ولا تستطيع! "إي ... إيهــ ... إيهـــ"
ارتعب محمد وآية بشدة، فحور لا تتلعثم أبدأ وبدا وكأنها فقدت قدرتها على النطق، كما وأنها لا تناديه ب إيهاب مطلقا!!، أشتد ذعر محمد وآية أكثر من أي وقت وبدأ الجميع بالنظر لإيهاب الذي يتصبب عرقا ووجهه محمر للغاية، ولكن الصغيرة ظلت على حالها لأكثر من أربعة دقائق وبدأت التشنجات تصيبها، وانفلت لسان حسام من الغضب هو وأمل "ده اللي أنا قولت عليه معتش ينفع يفضل في البيت هنا" وضمت أمل صغيرتها بشدة إليها مؤيدة كلام زوجها.
لمع الغضب بعين محمد ولكن حور تمسكت به وبكت أكثر "لا لا إيهاب أخويا" وتخلت عن اعتدادها بلغة الرسوم المتحركة من فرط رعبها، أسقتها سارة القليل من الماء، وبعد مدة استطاعوا تجميع الكلمات المبهمة التي تتحدث بها "أحمد .. بيقول إيهاب .. مش أخويا .. وهيمشي من هنا"
عاند الصغير بصوته الطفولي الغاضب "أيوا مث أخوكي أنا اللي أخوكي"
صرخت الصغيرة به "كــــداب" واشتد بكاؤها بشدة، لا تستطيع استيعاب تلك الحقيقة أبدا!.
امتقع وجه الجميع والتفتت سارة إلى أمل وحسام صارخة بهما، فلا أحد يتحدث في هذا الموضوع مطلقا سواهما، والجميع يعلم أيضا أن أحمد لديه عادة لعينة وهي التلصص على الأحاديث "انتوا مجانين؟!"
ابتأس حسام في البداية ولكنه عاد ليتواقح "دي الحقيقة وكويس إن الموقف ده حصل عشان الوضع ده مينفعش يفضل أكتر من كده"
نظر محمد لأبنائه، إيهاب الذي يبكي ويتمنى أن تشق الأرض وتبتلعه وابنته التي تنهار من البكاء، ولا يعلم كيف سوف تستوعب وهي صغيرة بأن إيهاب ليس أخاها الشقيق، صرخ بحسام بغضب بالغ "أنت مختل إزاي تقول لأبنك على حاجة زي دي؟!!"
تركت حور أبيها وذهبت لإيهاب تتمسك به صارخة "كدابين كدابين"
لكن إيهاب أخبرها بخزي "لا يا حور أنا مش اخوكي".
أخذت تصرخ وتضربه وتتهمه بالكذب ثم ضمته لها بشدة وأخذت تقفز وتتوسل له بهستيرية "شيلني يا إيهاب شيلني" بلكنتها الطفولية حملها الصغير وهو يبكي بشدة وهي عصرت رقبته تقريبا وتبكي وتتوسل بألا يتركها.
حاول محمد وآية أخذها ولكن صراخها ازداد واشتدت قبضتها على ثياب أخيها حتى كادت أن تتمزع، ولم يحتمل محمد الانهيار الذي يتعرض له أولاده فنظر بقهر لحسام والدموع تتساقط من عينه "حسبي الله فيك، حسبي الله فيك" وحمل إيهاب الذي يحمل حور وصعد بهم وخلفهم آية الباكية على أبناءها.
كان الجميع في حاله سيئة للغاية وأكثرهم سارة، تبكي بشدة لم ترى حور مطلقا تبكي من قبل بهذا الشكل، كما وأنها صغيرة للغاية لا تستطيع استيعاب أن إيهاب أخاها بالتبني، كانت الصدمة قاسية على كل منهما بشكل مجحف لم يتحمل ألمها الكبار فما بالك بطفلة صغيرة، نظرت بغضب إلى حسام "أنت معندكش ذرة قلب"
وتوجه عبد الرحمن للصغير "عيب كده يا أحمد إيهاب أخوك"
بعند شديد " لا مث أخويا وهيمثي من هنا حوي أختي أنا محدث بياخد حاجة مني" "لا مش أخويا وهيمشي من هنا حور أختي أنا ومحدش بياخد حاجه مني"
وقف عبد الرحمن غير مصدق أبدا لهذا الصغير، اللعنة هذا الصغير يشبهه في كل شيء وليس ملامح وجهه واسمه فقط!، وهمس دون وعي منه وهو يبحلق للصغير "شبهه في كل حاجة .. كل حاجة" ولم ينتبه إلى سارة التي سمعت بهمسه ...











نهاية الفصل


أحب أشيائي
أحب أغراضي
أحب أن يعطيني من أعرفهم ما أستحق من اهتمام
لي أنا وحدي
ومع ذلك أفقد أغراضي كلها رغم عنايتي الشديدة بها
ويفر مني من أحبهم
لم؟
لا أعلم
فأنا ...



" حائر "

Please vote if you like it 😍 😊

مذكرات حائر الجزء الثاني "الحلم الضائع" بقلم هالة الشاعر Where stories live. Discover now