الحديث الخامس

Start from the beginning
                                    

فصل
في بيان جذور المفاسد الخلقية
 سبق القول بان الايمان ، الذي هو حظ القلب ، غير العلم الذي هو حظ العقل . ثم ان جميع المفاسد الاخلاقية والعملية تنشأ عن كون القلب غافلا عن الايمان ، وان ما يدركه العقل عن طريق البرهان العقلي او عن طريق اخبار الانبياء لم يوصله الى القلب ، ولذلك فالقلب لا يعرف عنه شيئا . 
 ان من بين المعارف التي يصدقها الحكماء والمتكلمون وعامة الناس من اهل الشرائع ، ولا يشكون فيها ابدا ، هو ان ما جرى به قلم الحكيم المطلق جلت قدرته من الوجود والكمال ومن بسط النعمة وتقسيم الآجال والارزاق ، جاء على خير تقدير واجمل نظام ، وهو يتطابق كل التطابق مع المصالح التامة والنظام الكلي لاتم نظام متصور . ولكن يعبر كل واحد ـ من الحكماء والمتكلمين ـ بلسانه الخاص واصطلاحه الذي يختص بفنه الذي اتخذه وسيلة لتبيان هذه النعمة الالهية والحكمة الكاملة . 
 يقول العارف : ظل الجميل جميل على الاطلاق . ويقول الحكيم : النظام العيني المطابق للنظام العملي خال من النقص والشرور ، والشرور المتوهمة الجزئية هي من اجل ايصال الكائنات الى كمالاتها التي تليق بها . ويقول المتكلم واهل الشرائع : افعال الحكيم 

الاربعون حديثاً114
تكون على اساس من الحكمة والصلاح ، وان ايدي العقول البشرية الجزئية المحدودة قاصرة عن ادراك المصالح العالية في التقديرات الالهية . هذا الموضوع يدور على ألسنة الجميع ، وكل يستدل على ذلك بادلة تتناسب مع مدى سعة علمه وعقله . ولكن بما انه لم يتعد حدود الاقوال الى حيث القلوب والاحوال ، فان ألسنة الاعتراض مطلقة ، وان من لم يكن له حظ من الايمان يقوم بتفنيد برهانه وتكذيب قوله . وعلى هذا الاساس تكون المفاسد الاخلاقية . 
 وليعلم من يحسد الناس ويتمنى زوال النعمة عن الآخرين ، ويحقد في قلبه على اصحاب النعم ، انه لا ايمان له بان الله عز وجل من باب معرفة الصالح اسبغ نعمه على اولئك ، وان ادراكنا لذلك قاصر . وليعلم ايضا انه لا يؤمن بعدل الله تعالى ولا يرى التقسيم عادلا . انك في اصول العقائد تقول ان الله عادل ، وما هذا الا مجرد لفظة على لسانك . ان الايمان بالعدل يناقض الحسد . انك اذا كنت ترى الله عادلا ، لرايت تقسيمه عادلا ايضا . وقد جاء في الحديث الشريف : يقول الله عز وجل : «ان الحسود يشيح بوجهه عما قسمته بين العباد ، وهو ساخط على نعمي» . 
 ان القلب يخضع بالفطرة للقسمة العادلة ، وينفر بالفطرة للقسمة العادلة ، وينفر بالفطرة كذلك من العسف والجور . ان من الفطرة الالهية الكامنة في اعماق البشر حب العدل والرضى به ، وكراهة الظلم وعدم الانقياد له . فاذا راى خلاف ذلك فليعلم ان في المقدمات نقصا . فاذا سخط على النعمة واعرض عن القسمة ، فذلك لانه لا يرى ذلك عدلا ، بل يراه ـ والعياذ بالله ـ جورا . وليس معناه انه يرى القسمة عادلة ثم يعرض عنها ، او انه يرى الخطة المرسومة مطابقة للنظام الاتم والمصلحة التامة ، ثم يسخط عليها بل يرى ان هذا جور ومغاير للعدل . اسفا علينا ! ان ايماننا ناقص ، ولم تخرج ادلتنا العقلية من نطاق العقل لتصل الى حدود القلب . ليس الايمان بالقول والسماع والمطالعة والمباحثة والنقاش فحسب وانما يتطلب ايضا خلوص النية . ان الباحث عن الله يجده لا محالة ، والذي يطلب المعارف يبحث عنها ، «ومن كان في هذه اعمى فهو في الآخرة اعمى واضل سبيلا ...(1)ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور» (2) . 

الاربعون حديثاًWhere stories live. Discover now