وقفت أثيلة في المساحة الواسعة بعد خروجها من المنصة مباشرة..تفتح ذراعيها بعيون دامعه قبل أن تحتضن إبنتها بقوة ( جوين تليد العماري ) هديتها التي حماها القدر اليها ليبث فيها كل أمل الى غدٍ أفضل..ومهما طال الظلام..سيأتي ضوء النهار لا محالة يسطع بنوره ويبدد كل القهر والالم..قبلت إبنتها ذات العشرة أشهر..ففتحت الصغيرة عيناها بخضرتها الشديدة..تحدق بها مرحبة قبل ان تتعلق بعنقها بشدة..شعرت بذراعي تليد تغمرها هي وطفلتها هامساً:
"مبارك حبيبتي..من كل قلبي أثيلة أتمني أن تكوني وصلتي حقاً لمرساك"
لفت أثيلة ذراعها على خصره وهي تخبره همساً:
"مرساي كان فيك تليد..ورحلة سفينتي داخل قلبك"
تململت صغيرتهم بنزق..قبل أن تهمهم بكلمات غير مفهومة..تشير نحو نقطة ما خلف ظهر أمها إنفصل تليد عنها على الفور يتبادل النظرات الراضية الفخورة والممتنة مع حماه؟! قبل أن يقترب خطاب يفتح ذراعيه للصغيرة التي هللت بقوة عند رؤيته لترمي نفسها عليه باندفاع..إستنكانت صغيرتها في أحضان جدها قبل أن تهمس أثيلة بعينين علقت دمعه شوق فيها:
"أريد ان تضمني في عباءتك أبي"
فتح خطاب طرف عباءته وهو يتذكر نظراتهم التي لم تنقطع وهي على المنصة..ثم قال بوقاره:
"منذ متي كنت تحتاجين للطلب..يا فخر والدك"
إندفعت أثيلة اليه تحتضنه بشدة قبل أن تخبره بهدوء هامس يحمل بعض الخجل:
"شكراً ابي"
سألها خطاب متحيراً:"على ماذا..يا قرة عين والدك"
همست أثيلة وعيناها تتعلق بعيني تليد قبل ان تقول بغصة أحرقت حلقها:
"على منحك لي الطريق نحو..قلبه أبي"
..................
(يا قليل الأدب..هل هذا الوقت او المكان؟!!"
رفع محمد وجهه عنها وهو يقول بخشونة:
"إشتقتك..يا جميلة وأنت تتمايلين هنا وهناك..تتباعدي عن مرمى ذراعي بحجة ذلك المركز وعملك في البنك"
نظرت حياة لوجه محمد..طويلاً تتذكر العام الذي عاشوه سوياً وكان أجمل مما يمكن ان تحلم به..لقد جعلها تكتشف أشياء في الحياة لم تكن تتخيل وجودها يوماً..معنى التضحية..الأمل..الرجولة..الحب والأمان والاحتواء..محمد خلال عام كامل أثبت لها بكل الطرق..طلما أن العالم يحتوي على رجال مثله فمؤكد أن الغد أفضل ويحمل بين طياته النور الذي سيبدد ظلمتهم..تعلقت حياة بعنقه وهي تهمس:
"أحبك يا محمد جداً فوق ما قد تتخيل..وأخبرك الأن وأنا بكامل قواي العقلية ورغم إستفزازك لي ومشاكستك أنك إنسان لا تطاق لأفعالك..ولكني أبداً لن أجرؤ على الابتعاد عنك يوماً"
طوق محمد وجهها بين كفيه قبل أن يخبرها بابتسامة متوسعة:
"وأنا لم أحب أمرأة في حياتي سواك..يكفي أنك أجبرتيني على الاستحمام في اليوم ثلاث مرات"
ضحكت حياة بقوة وهي تقول من بين أنفاسها:
"أنت لا أمل فيك..سألد بسببك"
كتم محمد ضحكاتها بشفتيه سريعاً وهو يقول:
"يكفي عسكري حياة قد تسمعك ضابط الدرك أثيلة وتأتي تطردنا من هنا وتأمرنا بالتحشم.."
ضاعت ضحكات البهجة من حياة بين شفتيه مرة أخري..وهي تتمسك بصدره كما تمسكت بفرصتها في قلبه هامسه مؤكدة لنفسها..الزمن كفيل ان يدمل الجرح والحزن العميق الذي مازال تخبئه في ركن صغير من قلبها..يكفي ان رجل كمحمد..يمنحها الدواء..
..........................
في دار جلال العماري
ضحكت أثيلة وهي تنحني نحو الطفلين التي تضعهم هدير في عربة مزدوجة..قبل ان تقول بمشاكسة:
"ابنتي أحلي منهما..يكفي انهم يحملان ملامحك يا أصيل .ليجعلني اشمت فيك"
أجابها أصيل وهو ينحني يدفع يدها عن ولديه قائلاً:
"هذا لا يعنيك..أن تشمتي في ولداي مرة أخري..سأذكرك بصراخك في عيادة الطبيبة يوم ولادتك..وأنت تخبرينا ان نعيد الطفلة مرة أخرى لبطنك..لأنها لا تحمل عينان زرقاء"
تبرمت أثيلة بضيق وهي تبتعد عنه بغضب..تتوجه لخالتها أحلام التي تداعب إبنتها ببهجه خالصة:
"هل رأيتي زوج إبنتك..كيف يحاول إستفزازي"
إبتسمت أحلام بهدوء وهي تخبرها:
"لا عليك منه..إنه يحب ان يشاكسك فقط ويثير غضبك"
تحدثت نعمة التي حملت أحد الطفلين بين ذراعيها وهي تقول:
"تأدبي أثيلة وأنت تتحدثين عن أخوكِ الكبير..كما أنك تستحقين مالك أنت ومال حفيداي..يكفي أنهم يحملان إسم أخيك..ليكون سبب كل فخر"
رفعت أثيلة طرف شفتيها بإستنكار قبل أن تقول مهاجمة:
"كُفي عن الدفاع عنهما أنت تحبيهم أكثر من إبنتي..وتدلليهم أكثر منها"
هزت نعمة كتفيها بلا مبالة وهي تقول:
"نعم أعترف..إن أولاد أخوكِ سيظلون المميزون عندي..رغم حبي الكبير لابنتك..خوفي وحرصي عليها..وقلبي الذي ينخلع إن أصابها حتي بعض البرد..ولكن مكانة أولاد أخيك لن تضاهيهم مكانه"
وقفت نعمه متوجهه الي الخارج تبحث عن هدير التي ذهبت الي المطبخ حتي تُشرف على النساء وهم يعدون الغداء الضخم الذي أعده أخوها..من أجل أن يجمعهم جميعاً كعادة يتبعوها منذ أن أنجبت أثيلة طفلتهم..كل شهرين على الاقل...
نظرت أثيلة بقنوط في أثر أمها..قبل ان تشعر بيد أحلام تربت عليها بمودة وتخبرها بحكمة:
"أتعلمي إن أمك..لم تستطع ان تفسر ما تقصده صحيح !!"
هزت أثيلة رأسها بنفي..فأكملت أحلام بتوضيح:
"رغم حبي لوتين أول أحفادي وفرحتي ( بأديم..ويامن ) ولكن أبداً مهما بلغ حبي لهم..سيماثلهم حب جوين إبنة الغالي مكانة"
نظرت لها أثيلة وهي تقول بتوسل:"حقاً..أم ترضيني؟!!"
إبتسمت أحلام وهي تداعب وجنة جوين المخملية قبل ان تقول:
"لا حبيبتي..لا أجاملك..أبناء الإبن هم دائماً الوتد وجذوره التي تشبث فروعه في الأرض هم من سيحملون إسمه ويخلدونه..لذا مهما كان كل التميز لطفل الابنة..سيظل هو الضيف..أما إبن الإبن هو صاحب المكان والأرض الزرعة التي نتوق لرمي بذورها ومراعاتها"
............
كانت نجلاء تنظر لحسن بوجع ممتقع وعينين غائرتين دون القدرة على ان تبادر نحوه حتي بالسلام..شعرت أخيراً بيد أيمن تلتف حول خَصرها..يدعمها كعادته وهو يقول:
"ما بك؟لما كل هذا التوتر كرملة..الطبيبة أخبرتك انه خطر على صحه الجنين"
جاوبته نجلاء برقه هامسه:
"طالما أنت بجانبي..أنا لا أهاب شيء..أحبك أيمن"
شدد أيمن عليها بين ذراعيه التي تطوقها بتملك قبل ان يهمس بجوار أذنها بحنان:
"وأنا أحبك يا قلب أستاذك وكرملة حياته"
حاولت نجلاء إغتصاب إبتسامة فلم تستطع وهي تراقب حسن الذي يبادلها نفس النظرة المترددة المتحيرة وتقف بجواره زينة التي تحمل طفلهم ( زين ) الذي صممت زينة ان يكون إسم عمها والد أيمن الذي أكرمها ومنحها دعمه في وقت لم تجد فيه أحد بجانبها قطع النظرات بينهم حسن أخيراً يقترب منها..يمد يده بتردد وهو يقول:
"عسي أن تكوني بخير نجلاء..أتمني أن تستطيعي زيارة أمك..من أجل صلة الرحم فقط يا ابنة أبي"
دمعت عينا نجلاء وهي تتذكر الخبر الذي أتاها منذ ستة أشهر عن الشلل الكامل الذي أصاب أمها أثر الحادث الذي تعرضت له في ( زريبة البهائم ) فتسبب لها بكسر في العمود الفقري؟! حاولت الحديث معها..أو تواصلها وقتها..ولكنها رفضت بقوة حتي مقابلتها..فكانت تطمئن عليها من خلال زينة التي كانت تتحمل من الأصل..مرض أمها..الذي أصبحت أشبه بظل متهالك بائس لا تستطع حتي أن تسقي نفسها؟!إستطاعت نجلاء إغتصاب ما يشبه الابتسامة على شفتيها قبل ان تقول..بعد إنتهاء الغذاء كنت سأذهب لها بالفعل..حتي وإن رفضت هي لن أستطيع ان أنسى أنا أنها أمي"
إبتلع حسن ريقة وهو يقترب بتردد شديد يمسك رأسها بين كفيه ويقبلها بقوة قبل أن يقول:
"إن إستطاعتي أن تنسي يوماً نجلاء..فأنا أنتظر العفو منك يا ابنة أبي"
......................
في تلك الأثناء كان أصيل..يخنق هدير في المخزن الداخلي المستتر للمطبخ وهو يهتف فيها بغضب متوعد:
"ثلاث أيام تجالسين أخوك وتبتعدين عن ذراعي لن أمررها لك يا ست البنات"
بدت عليه هدير بكبرياء مترفع:
"هذا عقاب لك..من أجل ان لا تعود لتلك الحجرة الملعونة بالأطفال من وراء ظهري"
رد عليها أصيل بصلابة قائلاً:
"أخبرتك ان تلك العادة لن أستطيع أن أكف عنها يوماً..فليس لديك الكثير من الخيارات لتتقبلي"
همست هدير وهي تضحك له قائلة:
"لا أريدك ان تتوقف عن شيء ولم أقل أني لم أتقبل عيوبك يا طبيب"
لانت ملامح أصيل قليلاً وهو ينحني برأسه يضمها بذراع واحد من خَصرها والذراع الأخرى تحاول التسلل لشعرها تحت حجابها:
"اذاً ما الذي يغضب ست البنات وسيدة قلبي"
رفعت هدير كفها تحاوط بها وجنته وهي تجيبه بنبرة أمرأة عاشقة:
"أن تشركني معكم في لعبكم وأعدك ان لا أفسد أبداً اللعبة مرة أخرى..بل سأحتويها وأتفهمها دائماً"
إقترب بشفتيه منها يلمس بهما طول وجنتها الناعمة قبل أن يقول بصوت حار:
"بعد أن تنتهي تلك العزيمة..سنرمي الأطفال الثلاث لأمي وأنفرد بك أنتِ في تلك الغرفة ألاعبك كما لم تتخيليي من قبل قط"
ضحكت هدير عالياً ضحكة رائقه قبل أن تستطيل على أصابعها فجأة..وتطبع قبله شغوفه على شفتيه تخبره:
"دائماً وأبداً أنا تحت أمرك يا طبيب غرامي !"
............................
في هذا الأثناء أجفل هدير صوت فاطمة الجزعة تنادي على صغيرتها براءة..التي إستطاعت أن تحتضنها أخيراً بأوراق قانونية أعدها عمها خطاب..ليضم الطفلة قانونياً له ولنعمة..تحت وصايتهم..لعدم تقبل القوانين للاسف يأمرأة وحيدة كفاطمة أن يحملها مسئولية طفل..لقد أتت الفكرة فاطمة بعد أن علمت أن الشرطة ستضع الفتاة في دار أيتام بسبب رفض عمها أن يستلمها..مخبرهم أنها نحس *اذا كانت أوصلت خالها لحبل المشنقة..ماذا قد تفعل فيهم..*ولأن الفتاة بالطبع..لا تماثل حالات بنات الدار..لم يعد لوجودها معنى عند تليد..ومع حزن فاطمة المتواصل على الفتاة كأنها إبنتها حقاً..لم يستطع خطاب او أصيل كسر خاطرها..فقاما بمساعدة تليد ومحمد بإنجاز تلك الأوراق وضم الطفلة لأحضانها..بعدما أصبحت فاطمة ركن أساسي وفعال في دار الفتيات..حتي أنها تنافس الان عبير محبه وتفهم بينهن..
"براءة حبيبتي أين كنت يا حبيبة أمك..ألم أخبرك ان لا تبتعدي عني"
إلتفت براءة ضاحكه تخبرها:
"أسفة ماما ولكن وتين قالت أنها تريد أن تريني شيء هام"
إقتربت فاطمة تقبل براءة أولاً..ثم تتوجه لوتين ترفعها من قمة ملابسها وهي تخبرها بنبرة مشددة مضحكه:
"أنت يا سوسة إبتعدي عن إبنتي..فبرغم أنك الصغيرة هنا ولكني أعرفك يا محلولة اللسان يا مذياع الأخبار..لا تجلبين إلا المصائب"
إمتعضت وتين بطريقة مضحكه قبل أن تنفض شعرها الأسود الغزير المماثل لشعر أمها قبل أن تقول بعينين زرقاوين ينضحان بالقوة والتمرد:
"أنزليني يا فاطمة وخدي إبنتك وأغربي عن وجهي يا خاينة للعيش والملح بيننا"
فغرت فاطمة فمها بذهول وهي تقول:"ماذا..ما الذي تقوليه يا إبنة أصيل"
أخبرتها وتين بنفس النبرة:
"ما سمعتيه عمتي..فأنتِ تركتيني رغم حبي لكِ و إبتعدتي عني"
للحظات شعرت فاطمة بالذنب..قبل أن تدس يدها في جيب جلبابها وهو تخرج لوح شكولاتة جعل عيني وتين تلمع كالنجوم فقالت فاطمة ببطئ متحدي:
"هل إن منحتك هذا الشيء ستعودين لحبي مرة أخري..وتخبريني من لقنك ما تفوهتي به؟!"

عادات خادعةWhere stories live. Discover now