1- جدها الثري المستبد

5.5K 83 0
                                    

أقتربت أبريل من أبنة خالها الهادئة , وقالت لها بأندفاع ندمت عليه فيما بعد :
" روزالبا! ما رأيك في الذهاب معي هذا العام ألى سيتا ديل مونتي ؟".
فتحت قريبتها عينيها بأستغراب بالغ لمجرد سماعها أقتراحا للقيام بشيء خارج عن النمط العادي المألوف في حياتها , وأجابتها بتلعثم واضح:
" لا.. شكرا يا أبريل! لا أقدر على ذلك!".
قالت السمراء الجذابة لنفسها أن آخر شخص تود أختياره لمرافقتها في رحلتها السنوية المرتقبة ألى صقلية هو قريبتها المحافظة ألى حد التطرف , والتي لا تعرف عن الحساة شيئا سوى عملها وبيتها , ومع ذلك , فقد حدقت بها وقالت لها بأنفعال :
" لم لا , أخبريني بربك , لم لا؟ أنت لا تذهبين ألى أي مكان ولا تفعلين أي شيء على الأطلاق , بأستثناء مساعدة والدتك في عملها والتقوقع في البيت ثم.....ثم أن الجد روسيني يتمنى عليك القيام بزيارته.
أنتظرت أبريل رد فعل روزالبا , وهي تشعر ضمنا بخجل شديد بسبب أسلوب الخداع الذي تستخدمه مع أبنة خالها ابريئة , فهي لا توجه أليها هذه الدعوة حبا بها أو رغبة في الترفيه عنها , ولكن لأن جدهما الثري المتسلط طالبها بها في العام السابق ....بلهجة حازمة وصارمة , تذكرت كلامه فيما كانت جالسة قربه على المقعد الخلفي في سيارته الفخمة التي يقودها سائقه ومرافقه الخاص كانا متوجهين آنذاك لتعود منه ألى عملها الممل في بلاد الضباب والمطر والبرد , تاركة وراءها حياة الترف والجاه والدفء , هل يليق بحفيدة الكونت بياترو روسيني ديل سيتا ديل مونتي ذي النفوذ الهائل والثروة الطائلة , أن تعيش في هذه البلدة البريطانية المتواضعة كأي فتاة عادية لا تحصل على لقمتها ألا بعد التعب والعذاب ؟ هل يعقل أن تنسى تلك الفيللا الجميلة على شاطىء باليرمو , وتلك القلعة التاريخية التي بناها مؤسس هذه العائلة العريقة منذ أجيال عدة على أعلى قمة في الجزيرة , ووسط مساحات شاسعة من البساتين والحقول الغنية بكافة أنواع الفاكهة والخضار؟ وماذا أيضا عن تلك المبالغ المذهلة التي ينفقها عليها جدها القاسي بدون حساب , وكذلك تلك الثياب الفخمة التي يطلبها لها من أشهر دور الأزياء العالمية ؟
منتديات ليلاس
 قالت لها قبل وصولهما ألى المطار ببضع دقائق أنها تتوق ألى الأقامة معه بصورة نهائية ودائمة , ولكنه أبتسم بسخرية وتجاهل السؤال بشكل تام , كريم , سخي , ومستعد لغض النظر عن معظم الأخطاء السخيفة التي قد ترتكبها في حضوره وغيابه , نعم , ولكنه بالتأكيد ليس عاطفيا أو حنون القلب أطلاقا , أنها تعرف حق المعرفة أن جدها يتمتع بوجودها معه , ويتباهى كثيرا بحفيدته الرائعة الجمال أمام جميع أصدقائه وأقرانه , ولكنها تعرف أيضا أنه يجد لذة فائقة في أستخدام قوته ونفوذه معها , ويسعد ألى درجة كبيرة في أبقائها معلقة أمامه كتفاحة حمراء شهية ..... ألى أن يحين موعد قطافها ورميها على طائرة العودة! داعب المقبض المرصع بالجواهر الثمينة لعصاه الأثرية النادرة , وسألها فجأة بصوت ناعم يرهق الأعصاب:
" هل ترين أبنة خالك كثيرا , عندما تكونين في بريطانيا؟".
تذكرت أبريل الدهشة القوية التي شعرت بها في تلك الآونة وبخاصة لأنه لم يتحدث أبدا قبل ذلك عن حفيدته الأخرى , أجابته بلهجة هادئة ألى حد ما , وهي تحاول قدر الأمكان أخفاء حيرتها وأستغرابها :
" أزورها بين الحين والآخر , ولولا ذلك لما كانت هناك بيننا أي لقاءات تذكر , فهي لا تخرج أبدا من البيت ...... ويبدو أنها سعيدة جدا بمساعدة أمها طوال النهار في أعداد الحلويات وبيعها , وبمجالستها والتحدث معها في المساء , على أي حال , لم تهتم أي منهما أطلاقا بالحياة الأجتماعية وتبادل الزيارات .....حتى عندما كان خالي أنجيلة حيا يرزق".
لاحظت أبريل فورا مسحة الألم في ملامح وجهه القاسي , لمجرد سماعه أسم أبنه الراحل , ولأنه قرر على ما يبدو تحميلها مسؤولية ذلك الضعف الذي أظهره للحظة وجيزة , فقد قال لها بنبرة باردة تحمل في طياتها القساوة والعنف اللذين تعرفهما جيدا عن هذا الرجل :
" أريد رؤية أبنة خالك معك , عندما تأتين لزيارتي في العام المقبل , أذا تمكنت من تحقيق ذلك , فلن تذهب جهودك دون مكافأة". أفاقتها الخسارة المحتملة لأمور عدة من أحلام اليقظة , وأعادتها ألى عالم الواقع , شبه المظلم الذي تعيشه حاليا..... بالمقارنة مع الحياة المترفة التي تصبو أليها , فناشدت قريبتها الصامتة بالقول :
" روزالبا , أنت مدينة لجدنا بزيارة واحدة على الأقل , ألست , على أي حال , الطفل الوحيد لأبنه البكر .. والحفيدة الوحيدة التي تحمل أسمه ؟ ثم ...... ثم أنه لم يرك بعد أطلاقا , وقد أصبح المسكين ....".
توقفت أبريل عن متابعة كلامها , وهي تتظاهر بأنها غصت من الحسرة والألم , ثم تنهدت ومضت ألى القول , غير عابئة بكذبها وخداعها :
" تدفعه الشيخوخة والأمراض المتلاحقة ألى حافة قبره بسرعة ودون شفقة أو رحمة , وأمنيته الوحيدة في هذه الأيام هي أن يراك ولو لمرة واحدة قبل موته , كيف يمكنك حرمانه؟".
غطت أبريل وجهها بسرعة , وكأنها على وشك الأجهاش بالبكاء , وما أن أعادت يديها ألى مكانهما وفتحت عينيها الخضراوين الساحرتين ,حتى شاهدت ما كانت تتمناه وتتوقعه , رأت الحزن والأسى يخيمان في عيني قريبتها الزرقاوين , وملامح الألم والتأثر بادية بوضوح في نظراتها وعبر جبينها وحاجبيها , تنهدت روزالبا الطيبة القلب , وقالت لأبنة عمتها بصوت يوحي بمدى الصعوبة البالغة التي تجدها في التصدي لهذا الأبتزاز العاطفي الصريح :
" يحز في نفسي كثيرا أن أكون سببا في أيلام جدنا , وبخاصة في أواخر حياته , ولكنك تعرفين الظروف التي أدت ألى هذا الوضع المؤسف , يا أبريل , ولا داعي بالتالي لذكر تفاصيل السبب الذي يجعل من أحتمال زيارتي له أمرا مستحيلا , أنها مسألة أخلاص ووفاء أتجاه والدتي , وكذلك بالنسبة لذكرى والدي , رحمه الله".
تضايقت أبريل من رفض روزالبا القاطع , وذلك بالنظر ألى الآمال الكبيرة التي عقدتها على نجاح أسلوبها الذكي المقنع في حمل أبنة خالها على تعديل موقفها من جدها , ألا أنها أصرت على أبقاء لهجتها رقيقة وصوتها ناعما , عندما قالت لقريبتها وهي تتظاهر بالأبتسام:
" أوه! أنها قصة قديمة جدا وقد حان الوقت لطي صفحتها ألى الأبد ! ".
نظرت روزالبا ألى أبنة عمتها بشكل يوحي بالرثاء والشفقة , وقالت لها مؤنبة معاتبة :
" موقفك هذا بعيد كل البعد عن حدة الطباع التي يشتهر بها أهالي صقلية , وأنت تعرفين ذلك حق المعرفة".
أغتنمت أبريل فرصة الحديث عن الأصل والأنتماء , وقالت لها بزهو كأنها حققت أنتصارا معنويا بارزا :
" ولكنك نصف بريطانية ووالدتك بريطانية مئة في المئة , ولا يجوز لك بالتالي التمسك بهذا العذر أو تطبيقه , ألا تذكرين المشاجرات العديدة التي كانت تقوم بيننا في الماضي , والمحاضرات المطولة التي كانت تلقيها علينا أمك بعد كل منها , حول حسنات الغفران وتناسي الأحقاد..... والحاجة ألى أخذ آراء الآخرين بعين الأعتبار ؟ هل تحاولين األأيحاء الآن بأنني كنت واهمة ومخطئة تماما... في أقتناعي بأن والدتك تطبق كافة القيم والمبادىء التي علمتنا أياها؟".
كانت أبريل تعلم أنها ليست قادرة على أثارة أعصاب روزالبا الهادئة , بغض النظر عما تقوله لها , ولذلك , فأنها لم تشعر بأي دهشة أو أستغراب عندما سمعت قريبتها ترد عليها بصوت رقيق ناعم:
" لم تحدثني أمي أبدا عن أقربائنا في صقلية , كل ما أعرفه عن الموضوع هو أن نزاعا نشب بين أبي والجد روسيني , وأن والديّ تعرضا نتيجة لذلك ألى معاناة شديدة وعذاب لا يطاق , وبما أن أيا من أبي أو أمي لم يكشف لي قط أي تفاصيل عما جرى , فأنا بالتالي لست قادرة على البدء بتوزيع التهم جزافا أو ألقاء مسؤولية ما حدث على هذا الفريق أو ذاك".
صمتت روزالبا برهة , فلاحظت أبريل للمرة الأولى في حياتها ملامح الأنفة والأفتخار التي يتميز بها أفراد عائلة روسيني تبرز واضحة جلية في نظرات أبنة خالها وعلى وجهها وجبينها , وسمعتها تنهي جملتها بالقول :
" أذا قررت والدتي يوما أطلاعي على تفاصيل ما جرى , فسوف أكون متأكدة وواثقة عندئذ من أن كل كلمة تقولها ستكون الحقيقة..... كل الحقيقة ودون زيادة أو نقصان , فأنا لم أعرفها يوما ألا سيدة صادقة , أمينة , وعادلة حتى التطرف , ألا توافقينني على هذا القول؟".شعرت أبريل بتأثر بالغ وبخجل عميق لأنها حاولت التشكك ,ولو جزئيا أو هامشيا , بسيدة أحبتها وأحترمتها أثناء طفولتها ..... ألى درجة أنها كانت تمضي الساعات الطوال بأنتظار ظهور هالة القدسية فوق رأس زوجة خالها..... أو خالتها , كما تسميها وتناديها دائما , ومما زاد في تعلقها بهذه القريبة الطيبة الكريمة , أن أمها الأيطالية كانت ولا تزال تلقى من زوجة أخيها معاملة أنسانية ورقيقة للغاية كلما أستنجدت بها أو لجأت أليها ..... وكم كانت تلك المرات عديدة ومتلاحقة ! وهل يمكنها أن تنسى الجملة المأثورة , التي كانت ترددها والدتها مرارا كتعبير عن أمتنانها اللامتناهي لزوجة أخيها؟
" شكرا , شكرا , يا أغلى أنيتا في الدنيا , أنت ملاك لتتحملي أعبائي ومتاعبي , ولا أدري ماذا سيحل بي لولا وجودك أيتها الحبيبة ".
ومع أن روزالبا ورثت عن أمها الطباع الهادئة والتعقل والحنان , ألا أنها ليست بعيدة جدا عن التفاخر والعناد أياهما اللذين حالا دون رأب الصدع القائم بين أفراد عائلة روسيني , فأذا أرادت أبريل الحصول على تلك المكاسب والمكافآت المغرية التي علقها جدها أمامها , كما يعلق الطعام أمام عيني الحمار ليركض بسرعة وأندفاع نحو الهدف , فما عليها ألا أقناع أبنة خالها بمرافقتها ... ولو أضطرت لتحقيق ذلك ألى أستخدام كافة أنواع الكذب والأحتيال , وضعت يدها على كتف روزالبا ثم تنهدت وقالت لها مناشدة متوسلة:
" أتمنى أن تعيدي النظر في موقفك هذا , يا عزيزتي , فالأمر هام جدا بالنسبة ألي كشابة في مقتبل العمر ,ذلك أن رحلة القطار من هنا ألى لندن , وبخاصة عندما تكون الشابة وحدها , مملة وموحشة ........ ومخيفة أحيانا , فبعض الرجال يعتبرون الفتاة الوحيدة لقمة سائغة وفريسة سهلة , وفي كل عام تزيد الأمور سوءا عن الأعوام السابقة , قد أقرر ألغاء رحلتي هذه السنة , أن لم توافقي على الذهاب معي , فمجرد التفكير بالذهاب وحدي وأحتمالات تعرضي للأعتداء , وربما للقتل , يرهق أعصابي ويوترها بشكل غريب.
منتديات ليلاس
 أخفت أبريل الأرتياح والسرور , عندما شهقت روزالبا وسألت أبنة عمتها بأنفعال ظاهر :
" لماذا تذهبين أذن؟".
أستخدمت أبريل جميع طاقاتها ومواهبها التمثيلية والأحتيالية لأقناع قريبتها بمرافقتها ألى صقلية , فقالت لها بصوت حزين جدا وعينين شبه دامعتين :
" أذا أختبرت يوما مثلي مدى سرور الجد روسيني وسعادته أثناء ترحيبه بي وملاقاته لي , لو شاهدت نظرات التفاؤل والفرح في عينيه كلما تطلع نحوي وتحدث معي , أو سمعت كلامه الرقيق العذب ألى أصدقائه عن أقدام حفيدته كل عام على القيام بهذه الرحلة المرهقة لا لشيء ألا لرؤية جدها العجوز والتخفيف مؤقتا عن عذاب وحدته وشيخوخته , أو رأيت الحزن والألم العميقين في عينيه المتعبتين كلما حان موعد ذهابي وشعرت بالآمال الضخمة التي يعلقها على أحتمال عودتي في السنة المقبلة. .... أذا حدثت معك هذه الأمور مرة واحدة , يا روزالبا , فصدقيني أنك لن تضطري أبدا بعدها ألى توجيه سؤال كهذا!".
أزداد تفاؤل أبريل بنجاح خطتها وأسلوبها , عندما شاهدت أبنة خالها تقطب حاجبيها وتغرق في التفكير والتحليل العميقين , فعدم الرفض الفوري والقاطع ,هو , بحد ذاته , خطوة كبيرة نحو الأنتصار , لم تحاول قطع الصمت المطبق الذي خيم عليهما فجأة , بل راحت تتأمل بهدوء وروية التبدل الواضح والمتلاحق في ملامح قريبتها الجميلة , كان التمنع في بداية الأمر سيد الموقف ,ثم تحول ألى تردد وعدم قدرة على أتخاذ القرار المناسب , ومنهما ألى صراع نفسي وتأثر وأنقباض .... ثم ألى أستسلام وقبول , فحتى روزالبا نفسها كانت تجهل أنها مؤمنة كليا وحتى التطرف بمبدأ الأخلاص للعائلة , الذي يوليه أبناء صقلية أهمية فائقة ويطبقونه دون تردد , وأنطلاقا من أيمانها بالروابط العائلية القوية , وخوفها مما قد يحدث لأبنة عمتها أثناء الرحلة الطويلة , رفعت روزالبا رأسها بتمهل وقالت :
" لن أعدك بشيء, يا أبريل , ولكنني سأتحدث مع أمي بصدد الشعور ذاته بالنسبة ألى موضوع الأخطار التي قد تتعرضين لها ,أذا سافرت بمفردك ".
رقصت أبريل فرحا وبهجة , وهي تتخيل الهدايا الثمينة التي سيغدقها عليها جدها , وقالت لروزالبا بسرور بالغ:
" أنه قرار عظيم! شكرا , شكرا , يا روزالبا , أذا تمكنت من أقناع والدتك على ذهابك معي , فلن تندمي على ذلك أطلاقا ... لا بل أنك ستتمتعين جدا بهذه الرحلة , بحيث أنك ستظلين ممتنة لي طوال حياتك!"هزت روزالبا رأسها , دونما أي تعليق على كلام أبريل , فهي لم تكن أصلا راغبة في السفر ألى الخارج , أو ألقاء ذلك الجد الذي لا يهمها أطلاقا... على الرغم من تأثيره السلبي والمؤلم على حياة والديها , أليس جدها الرجل الذي يكفي ذكر أسمه فقط أمام والدتها , حتى تتحول البشاشة شبه الدائمة في وجهها ألى عبوس ..... والفرح والسرور في عينيها ونظراتها ألى حزن وأسى ؟ ألم يتجاهل والدها وجوده بصورة تامة , ويتجاهل بسببه كل ما هو أيطالي من عادات وتقاليد ولغة ...... وحتى أطباق الطعام اليومية ؟
أنتظرت روزالبا حلول وقتها المفضل , لمفاتحة والدتها بموضوع الذهاب ألى صقلية , تناولت وأمها طعام العشاء الخفيف , ثم نظفتا المائدة وتوجهتها ألى قاعة الجلوس الصغيرة لشرب فنجان من القهوة , جلست روزالبا في مكانها المعتد .... في الزاوية الشرقية لتلك الغرفة الجميلة , التي أرادها والدها حصنا منيعا يحمي زوجته وأبنته الحبيبتين من قساوة العالم الخارجي وشروره , قالت لأمها , بعدما تأكد لها أنها أصبحت مرتاحة تماما :
" هل ستحزنين وتتألمين , يا أمي , أذا أقترحت أمر ذهابي مع أبريل في رحلتها المقبلة ألى صقلية؟".
أعادت الأم الهادئة فنجان القهوة ألى الطاولة , وقالت :
" لن أستخدم كلمة الحزن أو الألم لوصف رد فعلي على هذه الفكرة أو شعوري أتجاها , ولكنني قد أختار كلمة القلق.... لأنها تفسير أفضل وأقرب ألى الحقيقة.
" وأنا قلقة أيضا , يا أمي , فقد أخبرتني أبريل أنها تجد الرحلة في القطار من هنا ألى لندن مخيفة ومرعبة , ويبدو أنها تعرضت في أكثر من مناسبة لمضايقات مرعبة للغاية".
حاولت أمها الأبتسام , وهي تقول لها بلهجة هادئة نسبيا:
" وأنت تريدين مرافقتها , لتأمين الحماية الضرورية لها ؟".
أحمر وجه روزالبا خجلا , لدى سماعها ذلك الأستهزاء الذي لم تألفه من قبل , وقالت بشيء من التأثير :
" لا يا أمي , فأنا أعرف قدراتي الضعيفة في هذا المجال , ولكن ألا تعتقدين بأن أحتمالات تعرض أبريل ألى مضايقات الرجال الأشرار تكون أقل بكثير , عندما تسافر برفقة شخص آخر؟".
منتديات ليلاس
 أغمضت السيدة روسيني عينيها , وهي تحاول تحديد مدى سذاجة أبنتها في هذا المجال , ثم سألتها بصراحة ودون مواربة :
"هل أستخدمت أبريل فعلا مسألة الخوف من السفر بمفردها , كسبب لحملك على مرافقتها؟".
ذهلت روزالبا لسماعها تلك السخرية غير المعهودة في كلام أمها , فأكتفت بهز رأسها , ولكنها أزدادت حيرة وأستغرابا , عندما مضت والدتها ألى القول بنبرة قوية :
"لا أصدق ذلك بتاتا ! فأبنة عمتك قادرة تماما على الأعتناء بنفسها , ولا يمكن بالتالي أن يكون السفر سببا حقيقيا لهذا الطلب , لا شك في أن لديها دافعا ما نجهل حقيقته , ولا أستغرب أطلاقا أن يكون جدك المحرض على هذه الدعوة ".
أبعدت الأم وجهها بسرعة هن أبنتها , ألا أنها لم تتمكن من أخفاء الدموع التي أنسابت على وجنتيها , أحست روزالبا بتأثير شديد , فجلست على الأرض ووضعت رأسها على ركبتي والدتها , قائلة بمحبة وأخلاص :
" آسفة! آسفة جدا! يا أمي! آخر شيء أريده في هذه الحياة هو أيلامك أو ألحاق الأذى بشعورك النبيل , أنسي الجد روسيني , وصقلية , وكل كلمة قلتها بهذا الخصوص , لن أذهب ألى صقلية أو ألى أي آخر , أذا كانت الفكرة تؤلمك وتحزنك!".
وضعت الأم يدها على رأس أبنتها بحنان ورقة , وقالت بصوت رقيق ناعم عادت أليه السكينة المعتادة :
" أهدأي يا صغيرتي الحبيبة , فأنا لم أتأثر بسبب فكرة ذهابك ألى صقلية , ولكن.... لأنني تذكرت والدك الطيب كنتيجة لذلك".
ثم أضافت بصوت يرتعش تحسرا , حتى على الرغم من محاولاتها الجاهدة للسيطرة عليه :
" مضى الآن عامان على وفاته , ومع ذلك.... ومع ذلك , فلوعة خسارته وألم فقدانه لا يزالان في ذروتهما وكأن الحادثة وقعت أمس أو اليوم ".
دمعت عينا روزالبا لدى سماعها كلام أمها عن أبيها المحب , وقالت متمتمة :
" هل كان سيوافق على ذهابي ألى صقلية ومقابلة جدي؟".
" لا , يا عزيزتي , وأعتقد أن الوقت قد حان لأطلاعك على سبب ذلك ".
شعرت روزالبا بأن ما ستسمعه من والدتها لن يكون مجرد أيضاح لمشكلة عائلية معقدة , بل مشاطرة سر دفين وتخفيف عبء معنوي ثقيل.قالت لها الأم الرصينة :
" لكي تفهمي موقف والدك جيدا , علي أولا التحدث قليلا عن شخصية جدك وبعض صفاه , ومع أن كل ما سأقوله لك سيكون بالطبع نقلا عما سمعته , ألا أن ثقتي العمياء بصدق أبيك وعدم تحيّزه المثالي حتى ألى نفسه , تحملني على تكرار كلماته دونما أي تشكك في صحتها المطلقة".
وضعت الأم يدها على كتف أبنتها , وكأنها على وشك البدء برواية قصة لا أساس لها في التاريخ المعاصر , ثم مضت ألى القول:
" كانت عائلة روسيني منذ قرون عدة , ولا تزال حتى الآن , عائلة ثرية للغاية وذات نفوذ عظيم , وقد يفسر هذا الأمر ألى حد ما سبب طغيان جدك وتسلطه , حتى مع أفراد عائلته , لم يكن أحد يجرؤ على التردد لحظة في تنفيذ أوامره , وتلبية طلباته , وتحقيق رغباته , ونشأ كل من والدك وعمتك كاترينا منذ صغرهما على أطاعته بصورة عمياء , ودون أي أعتراض , أو مناقشة , وأعتبار كلامه قانونا صارما يجب تطبيقه حرفيا وبشكل فوري , كان حازما مع الجميع...... مع زوجته وخدمه وعماله ولكنه كان قاسيا ألى درجة مذهلة مع ولديه , أصر على أن يعملا يوميا الساعات الطوال في الحقول والبساتين , ومشاركة العمال والفلاحين أعمالهم وطرق حياتهم ومعيشتهم , حرمهما مقابلة رفاقهما القلائل ألا نادرا , لأنه لم يمنحهما سوى فترات قصيرة للراحة أو للعب".
أحست روزالبا بأشمئزاز شديد , ولكنها لم تحاول مقاطعة والدتها ...... التي بدت وكأنها تجد صعوبة في تذكر تفاصيل لم تسمعها ألا مرة واحدة قبل سنوات عديدة , هزت الأم رأسها , ومضت ألى القول:
" المعروف أن الصقليين لا يعطون أولادهم ثمن أتعابهم , بل يضعون كافة الأرباح والمداخيل في صندوق العائلة .... الذي يستخدم أيضا لتغطية جميع النفقات , بما فيها ثمن خاتم الخطوبة الذي يبتاعه الرجل لزوجة المستقبل , وهذا يعني أن الأبن لا يحق له الأنفراد بأي مبلغ من المال , مهما كد وأجتهد في عمله ".
منتديات ليلاس
 " وماذا يحدث أذن عندما يريد الزواج , وتأسيس بيت خاص به؟ ".
" لا يحدث أي شيء يذكر , سوى أن والده يخصص له ولعروسه غرفة أو أكثر..... حسب كبر البيت أو صغره".
" لا للأقطاعية والتسلط!".
" ألغت الحرب عددا لا بأس به من العادات والتقاليد القديمة , وذلك في معظم المدن والقرى الكبيرة , أما الحياة في المناطق الريفية البعيدة والمنعزلة.وبخاصة في القرى الجبلية النائية , فلا تزال كما كانت منذ قرون عدة , وعلى الرغم من نفوذ جدك الكونت والمحاولات الكثيرة التي قام بها , فقد أستدعي والدك ألى الجندية خلال الشهر الثاني لنشوب الحرب وكان آنذاك في العشرين من عمره , وفي الليلة التي سبقت ألتحاقه بفرقته , أبلغه أبوه أنه أعد له كافة الترتيبات اللازمة لزواجه من فتاة لم يشاهدها في حياته ألا مرة أو مرتين فقط , وبما أن وقته كان ضيقا للغاية , فقد قرر عدم الأعتراض على كلام والده وتأجيل البحث في الموضوع حتى عودته ألى البيت , في أول أجازة يمنحها له الجيش".
" وجدتي؟ ألم تكن قادرة على التدخل والأعتراض؟".
" لم يتحدث والدك عنها سوى مرة واحدة , وذلك عندما تمنى تسميتك روزالبا ..... تيمنا بها , ولكنني أذكر جملة لعمتك كاترينا , قالت فيها أن جدتك توفيت عندما كانت هي ووالدك في سن المراهقة".
" أكملي , أكملي , يا أمي! أخبريني بربك كيف تمكن أبي من الهرب!".
تخلت السيدة روسيني عن جديتها , التي لم تفارقها منذ بداية الحديث , وضحكت بصوت عال قائلة:
" من أغرب المفارقات أنه تمكن من الهرب , كما تقولين , عندما وقع في الأسر قبل بضعة أيام من موعد أجازته الأولى , وقد أحضر ألى بريطانيا , وأرسل ألى معسكر لا يبعد ألا بضعة كيلومترات عن المكان التي كنت أعيش فيه ".
" هل أسر أبي حقا وسجن وعذّب؟".
أبتسمت أمها وقالت :
" لا , يا حبيبتي! فالسلطات العسكرية هنا كانت تعامل الأسرى الأيطاليين بكل أنسانية وتساهل , وتسمح لهم بالخروج يوميا من معسكراتهم للعمل في حقول ومزارع قريبة , وكنت أنا حينئذ أعمل في المزرعة ذاتها التي أرسل أليها والدك , فحدث اللقاء الذي غير مجرى حياتنا".
" يا له من لقاء بعيد عن الرومانسيةأبتسمت الأم ونظرت ألى أبنتها بعينين حالمتين , ثم قالت :
" كم أنت مخطئة يا حبيبتي! على أي حال ,فأنا لا أنوي الأسترسال في هذا الموضوع ...... وكل ما سأقوله لك أننا أحببنا بعضنا وتزوجنا فور أنتهائها الحرب.... والآن , يا روزالبا , ما رأيك في أعداد أبريق آخر من قهوتك الطازجة اللذيذة ؟ لقد جف حلقي ولساني من كثرة الكلام".
" الآن , ولكنني أريد معرفة رد فعل جدي .... وعما حدث بالنسبة للفتاة التي كان يفترض بأبي أن يتزوجها , هل......".
" سأخبرك ذلك في وقت لاحق , يا بنيتي ! أنني أرفض الأستمرار في سرد هذه القصة , ما لم تحضري لي بعض القهوة".
هبت روزالبا واقفة , وقالت بلهجة مرحة تحمل شيئا من الجدية :
" حقا , يا أماه , هل تعرفين أنك قادرة أحيانا على أزعاج الآخرين بطريقة ذكية ...... وخبيثة ؟".
أرتاحت الأم قليلا بعد ذهاب أبنتها ألى المطبخ , ففتح الجروح القديمة مسألة مرهقة للأفكار والأعصاب , لم تكن بحاجة ألى القهوة , بل ألى فترة تأمل وراحة , أرادت تقوية القلب الذي كاد ينهار فجأة أمام أستعادة ذكريات رجل شاطرته حبا عظيما , كان عشية مماته أقوى وأعمق مما كان عليه يوم زواجهما , ولأنها لا تريد في الحياة شيئا أكثر من تحقيق سعادة مماثلة لأبنتها , فقد جاء رد فعلها عنيفا , على فكرة قيام روزالبا بزيارة قلعة الينابيع , التي عاش فيها زوجها السنوات العشرين الأولى من حياته , والتي لم يعرف بين جدرانها وفي حقولها سوى الألم والعذاب والتعاسة.
أرتجف جسمها فجأة عندما تذكرت ما قالته يوما لزوجها , بعد المصاعب والمصائب المتعددة والمتلاحقة التي تعرضا لها منذ قراره أختيار بريطانيا موطنا دائما له:
" ألى متى ستظل هكذا , يا أنجيلو , قبل أن تشعر بالندم لزواجك مني ؟ ألى أي مدى ستقبل بهذا العذاب قبل أن تتمنى العودة ألى موطنك الأصلي.. ألى بيتك الرائع تلك القلعة التاريخية التي تتوج أعلى جبل في صقلية ؟".
ضمها زوجها الحبيب بين ذراعيه , وأجابها برقة وحنان :
" لم تكن قلعة الينابيع أبدا موطني وبيتي , بل مسرحا كبيرا لوالدي يكتب نصوص رواياته ويحدد أدوارها حسب أمزجته المتقلبة ومشاعره المتضاربة , موطني هنا وبيتي هنا , حيث أنا دون سواي النجم الأول والأخير لكافة المسرحيات والتمثليات , وجمهوري العاشق المحب مؤلف من أعز شخصين على قلبي ...... أنت وروزالبا !".
منتديات ليلاس
 عادت أبنتها مع القهوة التي تفوح منها رائحة طيبة ولذيذة , وصب لها فنجانا كبيرا .......ثم جلست على الأرض وأتكأت على ركبتها قائلة بلهفة واضحة:
" والآن أكملي , يا أمي , فأنا أتحرق شوقا لمعرفة المزيد من هذه التفاصيل ".
" لم يعد هناك الكثير يا عزيزتي , فكل ما في الأمر أن والدك كتب ألى جدك يبلغه بأمر زواجه وقراره البقاء في بريطانيا , أستشاط غضبا وأرسل عمتك كاترينا وزوجها ألى هنا , في محاولة يائسة لأقناع والدك بالعودة , وعندما فضلا هما أيضا فقر الحرية على ثراء العبودية , وأختارا البقاء هنا بدلا من العودة ألى صقلية , قرر جدك التنكر لولديه وحرمانهما من كل شيء...... بما في ذلك أمتعتهما وثيابهما التي تركاها في القلعة.
تعذبنا كثيرا لبضع سنوات , ولم نتمكن من جني القليل من الأرباح , ألا بعد مرور فترة طويلة , وعندما أحتفلنا بالذكرى العاشرة لزواجنا , ووجدنا أن الفرن ومعمل الحلويات يحققان دخلا جيدا وثابتا , قررنا التحول من زوجين كادحين ألى عائلة صغيرة قادرة على مواجهة تحديات الحياة ومصاعبها".
صبت الأم فنجانا ثانيا من القهوة , ومضت ألى القول:
" فوجئت عمتك كاترينا قبل حوال أربع سنوات بأستلام رسالة من جدك , يستفسر فيها عما أذا لديه أي أحفاد ويتمنى قيامهم بزيارته , ومع أنه لم يوجه أي دعوة مماثلة لأي من ولديه في تلك الرسالة التي صاغها بعبارات حزينة , فقد شعرت عمتك بالأسى والمرارة وأمضت بضعة أشهر في حالة يرثى لها من البكاء والعويل وطلب الغفران ..... لأنها أهملت والدها العجوز , والغريب في الأمر أن أباك لم يتأثر أطلاقا بتلك الرسالة , ورفض السماح لك بزيارة جدك , لم يكن قراره ذاك نابعا من حقد أو كراهية , بل من عدم ثقة بدوافع جدك , لم يكن قراره ذاك نابعا من حقد أو كراهية , بل من عدم ثقة بدوافع جدك وأهدافه , هذه هي القصة بكاملها ,أيتها الحبيبة الغالية".
" أعتقد أن الجد روسيني شخص مقيت ومثير للأشمئزاز سأبلغ أبريل بأن عليها السفر وحدها , لأن التفاصيل التي سمعتها الآن محت من نفسي أي رغبة ضئيلة كنت سأشعر بها أتجاه الزيارة المحتملة ".
" حسنا تفعلين , يا عزيزتي , لأن جدك يعد بالتأكيد خطة لعقد قرانك على أحد أبناء العائلات الثرية هناك , الأفضل لك أن تبقي هنا وتتزوجي شابا بريطانيا هادئا ,لا ........".
أختفت الأبتسامة الخفيفة من عيني الأم وشفتيها , عندما قفزت روزالبا من مكانها وقاطعتها بأنفعال قائلة قبل خروجها :
" لن أتزوج أبدا , يا أمي , وهذا قرار نهائي لا رجوع عنه".
صعقت أمها لدى سماعها هذا الكلام الخطير , الذي كشف النقاب عن أمور بالغة الأهمية , وقالت مناجية روح زوجها الغائب :
" كم كنا متطرفين ومجنونين في أنانيتنا يا أنجيلو! أنظر ألى ما فعلت بها حمايتنا العمياء لها , فهي لا تزال حتى الآن سمكة صغيرة لا تعرف العيش ألا في هذه البركة الصغيرة , ساعدني على أخراجها ألى بحر الحياة ! ساعدني , أرجوك!".

على حد السيف - مارغريت روم - روايات عبيرالقديمةWhere stories live. Discover now