الفصل الأخير

19.9K 453 61
                                    


أنتفض فارس بفزع من نومه ، ليمسح حبات عرقه المتناثره بغزاره علي وجهه ، فظلت نبضات قلبه تدق بقوه حتي أصبح يشعر بالأختناق ، فنهض من علي فراشه .. وسار بخطي مُترنحه ضعيفه وهو يصارع ذلك الحلم المتكرر الذي يشعره بعجزه فقد كانت تمد يديها له كي ينقذها من تلك العتمه ، فألتقت بضيق علبة سجائره الموضوعه علي تلك المنضده الصغيره بجواره... ووقف امام تلك الشرفه التي تطل علي منظر الجليد وهو يهطل بغزاره ، وبدء يُنفث دخان سيجارته بعشوائيه وهو يتذكرها.. حتي قال وهو يُصارع حنينه الجارف اليها : حاسس أنك قريبه مني ، مش عارف ليه حاسس أن روحي بتنسحب في البلد ديه
.................................................. .................جلست أمال بتنهد وهي تدعوا الله بأن يتحقق ما أخبرها به هشام ، حتي أقتربت منها نيرة بطفلها الرضيع الذي لا يتعدي الخمسة اشهر وربطت علي كتف عمتها قائله : ان شاء الله خير ياعمتي ، وحسام هيوفي بوعده .. ثم صمتت قليلا حتي قالت : حد كان يصدق ان محمود هو اللي يطلع خاطف هنا ، وكل ده ليه عشان ينتقم من فارس وبابا ، لاء وكمان يقول انه هو اللي بيحبها وأحق بيها من اي حد ... غير انه طول المده ديه ... بيضحك علينا ويقول لو احتاجتوا حاجه هتلاقوني معاكم ، انا خايفه علي فارس من المفاجأه والصدمه
فنظرت اليها أمال بتوتر بعدما لمعت عيناها : اخيراً هشوف ابن فارس ، هنا سمته مراد علي اسم مراد اخويا .. ثم ابتسمت وهي تنظر الي الطفل الذي تحمله نيره : وبقي عندنا في العيله فارس ومراد واحمد
لتنظر نيره الي طفلها الذي يشبه زوجها تماماً ، فتتذكر رحلة مرضها وعلاجها لتقول بأبتسامه : انا لحد دلوقتي مشوفتش هنا غير في الصور وبس
فتنهض امال ، وتمسك الجريده متأمله أسم ابن أخيها اللامع قائلة بسعاده : يارب النهارده يبقي الفرح في قلبك فرحتين يافارس
.................................................. ..............
كانت الأنوار تُضاء من حوله كي تعلن عن نجاحه بذلك المشروع الذي كلفه عناء عامين .. ليأتي طيفها امامه ..حتي تفر دمعة لم يلمحها أحداً من هؤلاء الصحفين الذين يتدفقون حوله بعد ان ترجل من أحد السيارات ومعه ذلك الشريك الانجليزي ...
فأقترب منه هشام بعدما استشعر بحزنه قائلا : المفروض النهارده تكون فرحان بنجاحك يافارس ، شايف العالم كله مش مصدق المشروع اللي انت عاملته وصممته في لندن .. مشروع الهنا يااا ده كان حلمك من سنين
وكأنه قد وضع بالملح علي جرحه .. فنظر اليه فارس بشرود وهو يسير في ذلك الممر المؤدي الي تلك المنصه كي يُلقي كلمته ،وكيف انجز ذلك المشروع في عامين
ليخفض هشام بوجهه أرضاً وهو يقول متأسفاً : انا أسف ياصاحبي ، انا بحاول انسيك كل اللي حصل .. بس للأسف بزود حزنك وهمك
فيربط فارس علي كتف هشام مبتسما قائلاً بحب : عارف ياهشام ، عشان كده ولا يهمك
وتابع سيره الي ان وصل لذلك الحلم الذي تمني دوماً بأن يحققه ، وعندما بدء يصعد درجة درجه من درجات ذلك السلم كي يقف علي تلك المنصه امام هؤلاء الحضور الذين حضروا كي يهنئونه علي أفتتاح اضخم المشروعات التي تحققت في ذلك الوقت ، فبدء يتذكر كل لحظاته معها ، لحظة زواجهم وبكائها بين يديه ، وعندما اخبرته بحملها ... الي ان وصل لتلك اللحظه التي لم يكن يعلم ان الوداع فيها سيطول ... حتي وصل لاعلي المنصه ووقف أمام ذلك الميكروفون والمصورون من حوله يلتقطون له عدة صور .. فتذكر ابشع كلمة قد سمعها وهو شارد في حنينه: مراتك محدش يعرف حاجه عنها يابشمهندس ، يمكن تكون هربت مع حد غواها واستنيت فرصة سفرك .. وكل ده كان تدبير منهم هما الاتنين
ليأتي علي مسمعه أيضاً تلك الصرخه التي اصدرها في هؤلاء الرجال الذين فشلوا في العصور عليها
حتي بدء يسمع صوته وهو يلقي بخطابه ، بعد ان فاق من حنينه الجارف اليها ....
.................................................. ................
اما هي وقفت تحتضن طفلهما الذي يشبهه حقاً ، ضمته اليها بحنان وهي تغالب دموعها : هنروح لبابا خلاص يامراد ، أكيد نفسك تشوفه زي ما انا كمان نفسي اشوفه .. النهارده هو بيحتفل بنجاحه تفتكر هيكون لسا فاكرنا
فتقدم حسام نحوها بعد ان سمحوا له هؤلاء الرجال الذين يقفون أمام قاعة المؤتمرات .. فأبتسم وهو يطمئنها : يلا ياهنا ، اكيد فارس هيفرح لما يشوفك ، وسامحيني ياهنا عشان فضلت ساكت من زمان ومعرفتش أساعدك
فتذكرت المعاناه التي تعرضوا لها كي يستطيعون الخروج من ذلك القصر الذي يضم اكبر عدد من الرجال ، ولولا مساعدة حسام وروز واستغلالهم رحلة سفر محمود لامريكا لكانت ظلت سجينة لديه طيلت العمر هي وابنها
فسارت خلف حسام بخطي بطيئه .. حتي وقفت عند سماع صوته الذي ذلذل بكيانها وذكرها بكل ما مضي ، فرفعت عيناها لأعلي كي تتأمل كل جزءً فيه ...
.................................................. ...............
بكده أنا قدرت اوصل ليكم فكرة المشروع ، اللي تعبت فيها سنتين كاملين وانا متفرغ لحلم عمري ، فأخفض فارس رأسه للحظات قبل ان يرفعها قائلاً : دلوقتي انتوا عايزين تعرفوا أزاي انا قدرت اصمم المشروع ده بأتقان واعمل اكبر قريه سياحيه في الريف الانجليزي ويكون الاسم المصري هو اساس تصميمها ده طبعاً بمساعدة صديقي جون ، اما السؤال التاني انتوا سألته ليه اسم مشروع المنتجع اطلقت عليه اسم ( الهنا ) ..... فأحدث الصحفين بعض المناقشات العاليه .. حتي صمتوا عندما بدء هو يتحدث ثانية ولكن هذه المره بالعربيه
الظروف ساعات بتخلق مننا أشخاص تانين .. والكسره اللي بتموت ساعات بتقويك مش عشان قلوبنا بقيت حجر .. بس عشان نسكن الالم اللي جوانا ..ونقدر نكمل حياتنا واحنا عايشين زي الالات المتحركه وبس لكن للأسف مبيكونش ده أحياناً أختيارنا.. ثم أخفض برأسه وهو يتحدث ثانيه : اسم المشروع الهنا .. ده علي اسم زوجتي اللي افتقدتها أكتر من عاماً ونصف ، زوجتي وابني او بنتي اللي معرفش عنهم حاجه .. انا بهدي ليها المشروع ده حتي لو بأني احط اسمها عليه .. كنت اتمني في اللحظه ديه تبقي هي اول واحده واقفه جنبي ومعايا ، اول واحده أسمع منها كلمة مبرووك
كلكم قولتولي الكلمه ديه بس .. منها هي كانت هتكفيني ..
ليبدء الحضور في التصفيق حتي يرفع هو صوته قائلاً : اصنعوا القوه من نفسكم ديماً .. بس خلوا ديماً عندكم ثقه في العداله الالهيه لان الفرح او الحزن شئ مقدر لينا .. اما حسن الظن في عدل الخالق ده اختيارنا
أسف اني طولت عليكم .. وعارف ان في بعضكم مش هيفهمني عشان انا قررت في اخر خطابي اتكلم بالعربيه ، وبشكركم جميعاً علي تلبية الدعوه
وينتهي من كلماته حتي يجد كل هذا الحشد يجتمع حوله ، فيرسم ابتسامة علي شفتيه ، ويأتي هشام ويحتضنه وهو يهنئه قائلاً : اكيد هتلاقيها في يوم ياصاحبي
لتتحرك هي بقدميها نحوه ، ودموعها تهطل من كلماته ، فللحظات قد ظنت انه قد نساها ، وللحظات اخري ظنت بأنه يحتاجها وينده عليها كما هي تحتاجه ، وللحظات ظنت بأنها ستظل أسيره لذلك الرجل الذي حرمها من حياتها
حتي وقفت وهي تمسح دموعها التي رفضت ان تتوقف ، وبصوت ضعيف : فــــارس
ليمسح هو علي شعره وكأنه يصارع الصوت
لتقول هي ثانية : فــــارس
فألتف باحثاً حوله وسط هؤلاء الصحفين والاعلامين
حتي نطقتها بصوت اقوي متقطع يتخلله دموعها : فــــــــــــارس
ويبتعد عنهم جميعاً ويظل يجول في انحاء المكان بقلبه قبل بصره ... ويقف عند تلك اللحظه
لحظه قد استكان فيها القلب ، وهدأت فيها عاصفة الفراق ،وأعلن فيها القدر وقت العوده من جديد ، فتسير الذكريات بقوتها نحو تلك الفتره الطويله من ألم وفراق .. فيسير نحوها حتي مد بأيديه المرتعشه وهو يقول : انتي حقيقه ياهنا مش حلم هصحي منه
فأتبعه هشام من الخلف .. حتي سقطت دموعه وهو يتأمل صديق عمره، ونظر الي حسام الذي يقف بعيداً ليشكره بنظرات أعينه بأمتنان علي ذلك الوعد الذي نفذه
فأقترب فارس منها اكثر وهو يتأمل ذلك الطفل الذي يتعدي عمره السنة والنصف قائلا بشوق : ده ابني ياهنا صح
فنسي كل شئ وهو يمد لها ذراعيه ، ويحتضنها بقوة حتي تأوهت من قبضته ، ليرفع الطفل صوت بكائه .. فينظر الي طفله قائلا بدموع : انا بابا يا ...
فترفع هنا بوجهها من بين احضانه قائله : مراد فارس مراد القاضي
ليضمها أكثر .. قبل ان يبعدها قليلا ... ممسكاً بوجهها ، متأملاً ابنه الذي يضحك بعفويه .. حتي مدّ بذراعيه اليها فأخذه منها وضمه الي صدره قائلاً : مكنتش مصدق انك ممكن في يوم تسبيني وتروحي .. كان عندي أمل انك ترجعيلي ، اختيار قلبي ليكي مكنش غلط ياهنا ، من اول يوم شوفتك حسيت ان قلبي هو ليكي ، وانك نصي اللي كان ناقصني.. انتي طفلتي
فاغمضت عيناها وهي تتذكر صفعات وضرب محمود لها عندما كان يراها تنده بأسمه او تمسك تلك الجريده التي ألقها عليها يوماً كي يخدعها بخبر وفاته قائلة بصوت يكاد أن يخرج : انا عايزه ارجع مصر يافارس ، عايزه امشي من هنا ... ارجوك
فتأمل نبرة صوتها بألم وهو يراها تنطق حروف الكلمات بعجز، فعلم أن ماعانته كان كفيلاً بأن يجعلها هكذا .. فنظر اليها طويلا وكأنه يريد ان يعلم كل ماحدث
لتخفض رأسها بأسي وهي تُعيد شريط ذكرياتها
.................................................. .................
علم بكل ماحدث ، ظل عقله يأتي له بصورتها عندما رئه يضمها الي أحضانه ويقبل طفله بشوق ، فوقف حسام خلفه بعد أن وضع بيده علي تلك الكدمه التي في وجهه
حسام : صدقني اللي عملته ده يامحمود في صالحك انت هتفضل لحد أمتا عايش في وهم الانتقام ، انت من أمتا كنت بتفكر في امك اللي هي عمتي ، ولا أمتا كنت بتفكر في والدك مش دايما كنت شايفه أناني
فألتف اليه محمود بوجه جامد حتي قال حسام : عيبك يامحمود حاجه واحده من يوم ما كنا اطفال ديما مبتحبش حد يكون سعيد في حياته وانت لاء .. يعني لما حد فينا كان بيبقي معاه لعبه كان لازم يبقي معاك اللعبه ديه حتي لو مكنتش هوايتك .. بس المهم تجرب فرحة غيرك بالحاجه اللي في أيده ... مع ان الطبيعي ان كل واحد فينا ليه حاجه مختلفه عن التاني بيحبها وبتفرحه
فأمتقع وجه محمود حتي قال بصوت قوي : مش رجعتهاله خلاص ، وعرف مين دلوقتي الي كان خاطفها .. ارتحت ياحسام دلوقتي
ثم هوي علي اقرب مقعد فقال : انا حبيتها ياحسام
فضحك حسام بسخريه حتي قال : حبيت مين يامحمود ، مش أيناس برضوه كنت بتحبها ، وانت اللي بعت ليها واحد يوقعها في حبه بعد ما شغلته في شركة فارس ، وبعدين قلبت الطربيزه عليهم وخليته يقتلهم زي ما انت عايز .. اوعي تفتكر اني مش عارف لاء انا أعرف حاجات كتير عنك يامحمود ، انت لازم تتعالج يامحمود وجودك في حياة اللي حواليك شر .. منهم أيناس صحيح كانت تستاهل بسبب خيانتها ، طب هنا ذنبها ايه
ليجلس محمود علي أقرب مقعد ، واضعاً بوجهه بين راحتي كفيه وهو يعلم بأن كل كلمة يقولها حسام صحيحه ..
.................................................. ...............
أسدل الليل ستائره ، واصبحت النجوم تلمع في السماء ببريقها الآخذ حول ضوء القمر الناصع، حتي أعلن الفجر عن بزوغه وسط تلك العتمه القويه ..
بدء الهواء يداعب وجهها ، وهي تتأمل كل شئ حولها ... تنفست ببطئ لتشم رائحة الهواء ، وأغمضت عيناها لتسمع زقزقة العصافير حولها علي غصون الأشجار التي أخيراً قد أبدلت اوراقها وأصبحت مهيئه أستعداداً لأستقبال الربيع
لتأتي خلفها ريم وهي تتنفس بصعوبه من أثر ركضها : أبله هنا مراد بيعيط ، وعمو فارس بيسأل عليكي
وتسمع صوت نيره التي تضحك ،أتيه خلف ريم وتحمل طفلها : نفسي اعرف أيه عشقك للمكان ده ياهنا ، ده انتي عدتيني ، وبقيت بعشقه زيك انتي وعمتو
فأبتسمت هنا بعدما جلست علي ذلك الجزع قائلة بسعاده : المكان هنا ليه سحر خاص ، بياخدك معاه لدنيا تانيه
فتضحك نيره قائله : اه دنيا ولا في الاحلام ، قولي قولي ياشاعره
لتلتف اليها هنا ضاحكه : اقول ايه وانتي مشغوله بمص القصب ، ثم نظرت الي ريم التي تلهو مع بعض الطيور قائله : انتي متأكده يانيره انك من ولاد الزواد
فضحكت نيره حتي قهقت بقوه ، ثم ألتفت حولها لتجد أحد الفلاحين ينظر اليها بغرابه .. فنظرت الي هنا قائله بصوت منخفض: هو بيبصلي كده ليه !!
ثم نظرت بعيداً قائله : مش ديه سلمي ونور ..
فقفزت ريم معلنة عن فرحتها بوجودهم، لتتذكر صديقها بندق قائله : ياخساره كان فاضل بندق
حتي اقتربوا الفتاتان منهما ، فتتأمل هنا سلمي قائله بسعاده : فاكره ياسلمي .. لما نور وريم كانوا يروحوا المزرعه ويجيبوا توت وعنب ويجوا لينا هنا عشان يحكوا لينا عن مغامراتهم اللي انتي احياناً كنتي بتشاركيهم فيها .. وتابعت بأعينها نيره المنهمكه في مص القصب وابتسمت
فتأتي ريم من خلفها قائله بطفوله : وانا قولتلك انك هتتجوزي امير حلو ، وهيبقي عنده مزرعه حلوه اووي وانا هلعب فيها... وانتي روحتي ضحكتي عليا .. شوفتوا اللي مش بيصدق ريم .. وتخرج لسانها لأختها التي تكبرها : شايفه يانور عشان لما اقولك انك هتبقي كاتبه بتكتب قصص حلوه تصدقيني .. المهم اكتبي عن بندق وانتي هتنجحي اكتر
فيضحكوا جميعهم ، حتي وقفت نيره بجانبهم : والأمير كان فارس ، طول عمره اخويا اسم علي مسمي
ويحل الصمت للحظات بعد أن داعبتهم الذكريات، حتي بدء الهواء ينعش أرواحهم ، ويصطفوا بجانب بعضهم فتضحك هنا قائله : انا نفسي اعمل حاجه اوووي ... ثم نظرت الي بنات عمها واخت زوجها... وسارت من امامهم وهي تلوح بأيديها ... هتلاقوني عند شجرة التوت
وتركض ريم خلفها وهي تضحك ، وبعد لحظات كانت تقف امام تلك الشجره وهي ممسكه بأحد العصايات قائله : كفايه كده ياريم ولا لسا
فترفع ريم بوجهها المنحني علي حجر بيجامتها الصغيره : لاء لسا ، هزي الشجره تاني
فيأتي خلفهم وهو يحمل طفله ضاحكاً : انا مصدقتش لما نيره ونور قالولي انك عند شجره التوت ، وبتجيبي توت ياهنا
فظل الصغير يتحرك بقوة علي ذراعيه .. حتي قال وهو يضعه أرضاً : اكيد عايز تروح لماما الهابله ياحبيبي ، اللي سايبه بابا متبهدل بيك وهو مهندس قد الدنيا وليه اسمه ، وقاعده بتعيد الذكريات
فألتفت اليه حتي نظرة بطرف عينيها ليقترب منها هو : مش كفايه لعب بقي ياحببتي ، انتي كبرتي خلاص
فرفعت بقدماها كي تستطيع ان تصل بعصايتها الي تلك الفرع المثمر بكثره ... فضحك فارس بقوه وهو يتأملها ويتأمل طفله الذي يجلس أرضاً ويأكل من حبات ذلك التوت قائلاً وهو يرفعها بين ذراعيه : حتي أبنك ماصدق ، شايفه مراد ياهانم
فنظرت اليه هي بفزع وهو يحملها ، حتي أبتسمت بعدما رأت طفلها يلهو بسعاده قائله : طيب اتحرك شويه كده يافارس عايزه اجيب التوته ديه شكلها حلو
فتأمل كلماتها وهي تنطقها حتي ضحك بقوه : هو حتي في التوت في شكل حلو وشكل مش حلو ، ده كله توت ياهنا
فأخفضت برأسها لتتأمله بعيونها : بتتريق عليا ، علي فكره أبنك التاني هو اللي عايز وشيل براحه عشان ميزعلش
فنظر اليها طويلاً حتي انزلها بسرعه جعلتها تترنح قائلا بأسف : انتي بتقولي ايه ، ثم نظر الي بطنها : يعني انا هكون اب تاني .. بجد ياهنا
وقربها منه ليضمها بفرحه : أنا شكيت برضوه في موضوع التوت ، بس قولت مش معقول هنكرر التجربه من تاني ، طب هو مافيش تنوع في الفاكهه ولا ايه يامدام
فضحكت وهي تتأمله بحب حتي نظرت الي ابنة عمها التي تتأملهم بأعين طفله تري فارس أحلامها في مهدها .. وابعدته عنها بخجل : فارس عيب كده
فألتف حوله قائلاً بهمس : عندك حق ياحببتي ، مراد وريم معانا يقولوا علينا أيه
ثم هبط بجسده ليحمل طفله ،ناظراً الي ريم التي تأكل التوت بأفتراس : يلا ياريم
وعاد بنظرات أعينه الي طفله الذي يحمله علي ذراعيه قائلا : ولا اقولك يامراد خليك انت فوق ، ورفعه علي كتفيه العراض ، فيضحك قائلا : مراد عيني ، عايز اشوف
ليزحزح الطفل احد اصابعه ويلهو في شعره قائلا : بابا
فيبتسم علي افعال صغيره الذي اصبح عمره عامين ،ويقربها منه ، ليضمها الي صدره فتسير بجانبه ، وتركض ريم امامهم ليقول هو بسعاده وهو يقبلها علي راسها المغطي بحجابها : بـــــحــــبـــــكــ يا طـــفـــلــتـــي يا ام أطـــفالــي
.................................................. ...............
وهدأت رياح قصتنا .. وتوقف النخيل عن الترنح .. وثبتت دقائق الساعه عند المنصتف.. واغلقت الأعين بعد ان تحركت ريموشها.... فهبطت تلك الدمعه التي هزت بكل شئ داخله
فيفيق محمود وتفيق معه كل صيحات الماضي .. وهو يشعر بكيف للزمن أن يكون دائراً .. حتي قال بصوت مُتعب وهو يتحسس شيب رأسه : عد 35 سنه علي كل اللي حصل يابنتي
ثم نظر الي سكون أبنته ليحركها وهو يقول : انتي بنتي ياهنا ، اوعي تفتكري انك كنتي كدبه في حياتي .. انا فضلت أتعالج في المصحه سنه بسبب شخصيتي العدوانيه ، انا اللي حبيت اتعالج من الشخصيه اللي كونها جدك فيا ، ثم ضحك بسخريه : كان هو برضوه عنده نفس الشخصيه العدوانيه المريضه الا مبتفكرش في حاجه غير انها تأذي في سبيل الأمتلاك ... ثم ضحك اكثر : احنا عيله ينطبق عليها مثل (الدبه اللي قتلت صاحبها ، او القطه اللي اكلت ولادها عشان خايفه عليهم ) ... ثم حل الصمت ثانية واصبح ينتظر حديث ابنته : بعد رحلت علاج دامت سنه ، خرجت ورجعت تاني أسس اسمي من جديد .. صحيح هو اتهز لفتره بس رجعت تاني لاسمي بمساعدة عمك حسام .. حسام هو اللي وقف معايا وواجهني بحقيقة مرضي اللي كنت بصارعه وكأنه وباء .. رغم اني أذيته هو كمان وكنت حاطط معظم ثروته تحت أيدي بعد ما ماخليته يمضيلي علي شيك ... حطيت فيه الرقم اللي انا عايزه لما بعتله واحده من الستات اللي اعرفهم تضحك عليه لما عرف بحكاية هنا وقرر يساعدها ، وخلافي مع فارس دام سنين طويله حتي بعد ما اتعالجت.. اما امك فكانت سيكرتيره عندي ، كانت طالبه جايه بعثه في لندن ، بس ظروف رحلتها اضطرتها انها تدور علي شغل وفي يوم كنت قاعد باخد فنجان القهوه بتاع كل يوم قبل ما اروح الشركه ولقيتها بتبكي بعد ما دفعت لصاحب المطعم اخر بملغ كان معاها ، فكرتني بهنا واتعاطفت معاها اووي وشغلتها عندي وبقيت سكرتيرتي وبعد ماحكيت ليها حكايتي وكنت اكبر منها ب 20 سنه اتجوزتها وانا في عمر ال45 .. فضلت عشر سنين عايش من غير حب لحد ماشوفت امك وجبتك للدنيا وانا راجل عجوز بقي فاقد الامل في الحياه .. ثم ادمعت عيناه وهو يقول بحسره : بس حتي امك سابتني لوحدي وانتي كنتي لسا طفله مكملتيش العشر سنين ... انا في ذنب ناس كتير كان في رقبتي يابنتي منهم جوليا اللي استغلتها عشان تقضيلي مصالحي ، ومنهم فارس اللي اذيته في شغله مكنش مكفيني اني حرمته من مراته وابنه مراد ، لاء وكمان أستغليت فترة حزنه عليها وبقيت ادخله في مشاريع وهميه ، ولولا هشام ومازن ووقفهم جنبه مكنش قدر يتخطي الأزمه لوحده، وغير صفقاتي المشبوه اللي اتخلصت بمعظم ثروتي بسببها
ثم صمت قليلا ليقول بعدما سقطت دموعه : انا السبب يابنتي .. في كل اللي حصل في حياتنا هربت من أفلاسي بتعاطي المخدرات لحد ما أدمنتها ولولا مساعدة حسام مكنتش اتعالجت ولا عرفت انزل مصر تاني بيكي .. حولت حياتك من حياه مرفهه لحياه بائسه .. كنت بتقطع وانا بشوفك بين شغلك وجامعتك عشان تعرفي تكملي مصاريف دراستك ، وتقدري تصرفي علي اب مريض
فبكت وهي تتأمل والدها والشر الذي كان يمتلكه في الماضي ، حتي تذكرت كل مافعله امجد لكي يتزوجها .. منذ بداية رؤيته في ذلك السبق الذي اخذتها فيه فرح معها وعندما عاشت معه في احلامها قصة حب ، أصدمها الواقع بخبر زواجه من أخري فيوم أن عشقت .. عشقت رجل متزوج .. وعندما تهدم ذلك العشق الذي أحتل قلبها عامان ، أنجرف بها قلبها .. بحب شخصاً .. ولكن قد اشتراه هو بذلك العرض المغري بأن يصبح اعلامياً مشهوراً كما كان يحلم .. لتتذكر صوته وهو يقول لها : اكيد انتي مش هتكرهي اني اوصل لأحلامي ياهنا ، امجد بيه اداني فرصه عمري ما كنت أفكر احلم بيها ... اوعدك اني مش هنسي اي ذكري حلوه جمعت بينا ..
فأبتسمت بسخريه وهي تكمل مشاهدة ذلك الشريط الذي أحتل عقلها لتتذكر كل ما مرت بيه منذ دخولها لعالمهم

رياح الحب ونسمات الألمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن