32 | حقيقتها لغز ..

ابدأ من البداية
                                    

تهللت أسارير كايرو وابتسم قائلاً:" أوه، إنه أنت ! " حيّاه تحيةً غريبة، ثم أضاف مفسراً:" زنزاناتنا كانت مظلمة، ومن ذلك لم أحفظ شكل وجهك تماماً في عقلي حقاً. من الجيد أنك بخير. "

-" بالطبع أنا بخير، كيف لي أن أقحم نفسي في مشكلةً جديدة بعد مدةٍ قصيرة من نجدتك لي من الموت نفسه؟ " ألقته إليس بنظرةٍ متسائلة في حين تجاهلها. أبعدت فكرها عن حديثهما ونظرها عنهما، لاحظت عن بعد الحراس يُحادثون جنوداً آخرين قُبيل أن يتفرعوا في أنحاء الغابة فيما يبدو أنه بحثٌ عن شخصٍ ما. استدارت لتطلعهما لكن كايرو سبقها في القول:" فلنذهب، وسيأتي معنا ! "

لم تعترض وأومأت، فسارع الثلاثة يبتعدون شيئاً فشيئاً حتى باتت شلالات المدينة الكُبرى المهيبة صغيرةً من موقعهم، كما لم يُلمحوا ولم يُلاحقوا من آخرين ما بثّ بعض السكينة في نفس إليس.

مرّت الأيام، بين الغابات والقرى عبروا، لا اتجاه لهم سوى الأمام ولا عائق إلا التعب والتذمر.

بإحدى الليالي الحالكة وعلى ضوء نارٍ صغيرة مشتعلة، اتكئت إليس على إحدى الأشجار القريبة، تقوم بهوايتها الغريبة في تأمل رقص اللهب ولا يشغل عقلها الكثير فعلاً. كان لهذه الهواية نتيجتان تختلفان كل مرة، فإما أن تُريح بالها وتُفرغ نفسها من أغلب الأفكار الثقيلة، وإما أن تُضاعفها فتدخل في دوامةٍ متشابكة منها.

لكن، وفي أعماقها، تترك قلقاً طفيفاً لديها.

إن للنار تدرجات ألوان أعمقها هو الأحمر. كانت لها هي بدورها عينان حمراوتان. ولا تدري بتاتاً، دائماً حينما تراه أو تسأل نفسها، هل تحبه أم تبغضه.

-" إلى أين نتجه؟ " سألت كايرو، في محاولةٍ منها لتغيير مسار فكرها.

كان الأخير يقرأ في مخطوطات الأداة الخاتمة، يُحاول استنباط أيّ معلومات جديدةٍ منها. أجاب دون إبعاد نظره:" مدينة سارين. اقتربنا منها، أي من حدود كومين وماركون، لديهم بوابةٌ تُفتح أحياناً لبعض التجار المرخصين كي يعبروا. باستخدام مهارتكِ في الاخفاء، سنمر من خلالها. "

-" أنا أعلم هذا، إنما ما أعنيه هو ثم ماذا؟ إلى أين؟ بعد الوصول لماركون؟ " لم يردّ وفي الأغلب لم يملك إجابةً محددة. حركت عينيها نحو آرو النائم؛ والذي قررّ مرافقتهما رغم جهله بهويتهما الحقيقية أو هدفيهما حتى اللحظة، لا يسعى شخصياً إلا لايجاد عملٍ ما ينفعه وهو ما بدا له ممكناً إن رافق هاذين ولو فترةً نحو بلديهما. لعلّها ستكون مطلع الخير في حياته.

نظرت للسماء، وكانت نجومٌ عديدة منتشرةً بها تزداد كلما أطلت نظرك. تساءلت:" تُرى كيف هي ماركون الآن؟ كيف حال مؤسساتها وكيف حال شعبها؟ هل تغيّر أيّ تفصيل في النظام؟ هل هم ما زالوا كما تصوروا أني أريدهم، بفقرٍ وأسى؟ "

همهم كايرو. " أليس هذا نفس الشعب الذي ساند تنحيتك؟ "

عبست. " بالطبع. لكن إن أردتُ حكمهم، عليّ تنحية فكر الأطفال هذا. هم لا يهتمون بي. لا يهتمون إن كسروا قلب فتاةٍ شابة لم يسبق وأن نوت لهم أيّ شرّ، هم يهتمون لأمانهم. يهتمون لحفظ طمئنينتهم، يهتمون لتوفير مقومات الحياة الكريمة وعدم زوالها. يهتمون لحيواتهم. وإن وجدوا أنها مهددةٌ إن استمرت على يدي، تحركوا للدفاع عنها. " نظرت له واستطردت بجدية:" هذه ماركون. لها شعبٌ حيثما يرى مصلحته، يتحرك لذاك الاتجاه. لم نسمح يوماً، ومهما كانت قواتنا ضعيفة أو قليلة، لباقي البلدان أن تطئنا وتمحي هويتنا تحت هويتها الخاصة. لم يفهم أيٌّ من الحكام السابقين طينة سكان أرضهم، ولهذا السبب فقدوا ثقتهم بهم .. كما فقدنا أراضيٍ وأرواح دون فائدة. وهذا الخطأ لن يتكرر. "

ابتسم لها كايرو. هاهي تظهر، تلك الروح التي يراها جميلةً بها. لم تكن كأيّ روح يُتوقع أن توجد في أيّ أميرةٍ حصل وأن تُرك العرش لها واضطرت للتعامل معه، بل كانت روحاً مقاتلة؛ وإن لم تُحب المُلك بحدّ ذاته كما يفترض بالملوك أن يفعلوا، كانت تُحب ذاك الفخر الذي سيأتي بعد رؤيتها لنتائج أفعالها نحو من تهتم لهم. مثلَّ ذاك النصر سعادتها الكبرى.

لكنه لم يتوقع ما قالته لاحقاً. " رغم ذلك، أنا خائفة. " حرّكت عينيها مجدداً للنار، وأضافت:" ماذا لو أنني مثلما اعتقدوني في الواقع؟ ماذا لو أنني أنانية، وأن مصلتحهم لم تكن أبداً معي بل مع غيري؟ ماذا لو أنني أوهم نفسي فحسبُ هذه الثقة في حين أني أملك عكس ما أزعم أنه لدي؟ "

أنزل الأوراق أرضاً، وتساءل مستغرباً:" ماذا تعنين؟ "

هزّت كتفيها. " لا أدري يا كايرو. أحياناً، أحسّ أني لا أكنه حقيقتي. " بدا عليها بعض التردد، لكنها أضافت بالنهاية:" أحياناً أحسّ أني وآزون الذي لا أستحب متشابهان. أفكر أنه وإن أتيحت لي الفرصة، من الممكن أن أعيث فساداً أكثر مما أصلح. أحياناً وحينما أرى الدماء، أستمر بتأملها. تأتيني رغبةٌ مفاجئة في لمسها واللهو بها حتى. إنه مقزز. أفكر أنني شيطان. " تصاعدت الحيرة لديه، في حين اتخذت بضع ثوانٍ للتفكير قالت مع نهايتها:" كلاّ، بل مسكنه، مسكن شيطانٍ لعوب لطالما وجد باب عقلي مفتوحاً له. إنه أمرٌ مخيف. "

انتابه الشك، فحرّك عينيه نحو ختم يدها. لم يطرأ عليه أيّ تغيير، مما ينفي احتمالية تأثير أيّ أحدٍ بها.

شعر بالتوتر إذ لم يعرف بما يرد. كان يرغب في توضيحٍ ما، في سؤالها أسئلةً عديدةً أخرى، لكن ومن شكلها، لم يبدو أنها مستعدةٌ للإجابة على أيّ شيء.

تحركت لتغير مكانها وتجلس قربه، أمسكت بيده، ظلّت مركزةً نظرها عليها كأنما ترى فيها معضلةً ما. قالت:" الغريب أن وجودك يبطل هذه الأفكار السوداء، بطريقةٍ ما. عادةً وحينما تأتيني، هي لا تتوقف أبداً حتى تغلبها رغبة جسمي في النوم، والصباح الذي يتليها يتجاهل عقلي أفكاره السابقة ويُحضرنا فحسب ليوم جديد. لكنك تبطلها. فعلت هذا أيضاً وقتما كنت مريضةً بفعل اللعنة. " استلقت على العشب، غطّت نفسها بغطاء من نسيج، ثم أعادت امساك يده.

قرر في النهاية التزام الصمت. حمل أحد المخطوطات وشرع يقرأ مجدداً.

-" شكراً. " سمعها تقول. " على وجودك. "

ولم تطلّ حتى غطت في النوم. ظلّ هو مستيقظاً أغلب الليل، يحرسهم، يعالج المخطوطات تارة؛ ويعالج أفكاره حول إليس بأخرى، سؤالٌ داخله أخذ يتشكل: من هي أنتِ يا إليس؟ 

•|🍎🍌|•

عرش الساحرةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن