داعش..ما أشبه البارحة باليوم

336 7 3
                                    

شهدت العصور الإسلامية الوسطية طائفة إسلامية متشددة من طوائف النزارية المتمردة على المذهب الإسماعيلي الرسمي، بعد وفاة الخليفة الفاطمي المستنصر بالله سنة 487هـ، بزعامة الحسن بن الصباح الذي اتخذ من قلعة أَلَمُوْت بإيران مقرا له، وامتلك عددا من القلاع المجاورة في طبرستان وأصبهان بإيران أيضا، وامتد نفوذه إلى بعض القلاع في بلاد الشام.
وقد عمل الحسن بن الصباح على تنظيم جماعته تنظيما محكما أساسه الطاعة العمياء له من أتباعه، إذ كان يهدف إلى تأسيس دولة كبيرة له، ولمن سيأتي بعده من خلفائه؛ لذلك قسم دعوته إلى عدة مراتب، أهمها مرتبة شيخ الجبل الذي هو الحسن بن الصباح نفسه، ومن حوله من رؤساء الدعوة الذين جمعوا في قبضته بين شؤون الدنيا والدين، أي الدولة والدعوة، فكانوا يصدرون تعاليمهم إلى أتباعهم في بلاد فارس والشام وسواهما من البلاد التي لهم فيها أتباع، أي خلايا بين نائمة ونشطة، بحسب تعبيرنا في هذا العصر.
ومن مراتب تلك الدعوة أيضا، مرتبة الفداوية أو الفدائيين، وهؤلاء يُختارون بعناية ممن يتصفون بالشجاعة إلى درجة التهور، وكذا بالقوة البدنية التي تمكنهم من تنفيذ مهامهم الخطيرة بدقة ونجاح، فكانوا على استعداد تام للتضحية بأنفسهم بناء على أوامر رئيسهم الذي سخرهم للقيام بجميع الاغتيالات التي طالت زعماء المسلمين والصليبين على حد سواء.
لذلك اهتم شيخ الجبل بتدريب الفداوية تدريبا خاصا يركز على الجانبين الروحي والمادي، بما في ذلك التدريب على حياة الزهد والمخاطرة والرغبة في التضحية.
ومن أوجه ذلك التدريب والتهيئة والاستعداد للمخاطرة والتضحية بالنفس، ما ينقله المؤرخ سعيد عبدالفتاح عاشور في كتابه: “الحركة الصليبية، ج1، ص552-553” عن الرحالة البندقي ماركو بولو ونصه يفيد: “بأن شيخ الجبل أنشأ بالقرب من مقره في قلعة أَلَمُوْت حديقة حرص على أن يجعل لها جميع صفات الجنة من أنهار فيها خمر لذة للشاربين، ولبن لم يتغير طعمه، وعسل مصفى، وفواكه شهية من كل الثمرات، وفتيات حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، وغير ذلك من مختلف أنواع المغريات التي جاءت في أوصاف الجنة.
وبعد أن يتسامر شيخ الجبل مع الفتية الذين يتم اختيارهم، يعطيهم مشروبا مخدرا من نبات الحشيش، مما جعل اسم الحشيشية يلصق بتلك الطائفة، ويصبح علما عليهم في التاريخ.
فإذا فقدوا وعيهم حُمِلُوا إلى تلك الجنة حتى إذا أفاقوا حسبوا أنفسهم في الجنة فعلا على أنهم لا يتركون في جنتهم طويلا، إذ يُخَدَّرُوْن مرة أخرى ليُحْمَلوا في أثناء غيبوبتهم إلى دار شيخ الجبل حيث كان المجلس الأول.
وعندما يفيقون يسألهم أين كانوا؟
فيؤكدون له أنهم كانوا في الجنة.
وعندئذ يعدهم شيخ الجبل بالخلود في تلك الجنة إذا هم قتلوا فلانا وفلانا من الأشخاص الذين يحددهم لهم.
بذلك يثير فيهم الحماسة لتنفيذ تعاليمه. ويشعرون بالرغبة في التضحية بكل شيء في سبيل العودة إلى الجنة التي سبق أن رأوها وأحسوا بلذة الإقامة فيها” أ.هـ.
وقد سميت هذه الطائفة في تاريخ تلك الحقبة بالحشاشين، وبقي ذلك الاسم علما عليهم في كثير من مصادر التاريخ العربية والإفرنجية حتى اليوم.
بل إن الفعل الإنجليزي: To Assassinate بمعنى يغتال أو يقتل، والاسم منه: Assassin بمعنى قاتل، إنما هو مشتق من لفظ الحشاشين، وهم أولئك الفداوية الذين اشتهروا بالقتل والاغتيال في تلك الفترة الزمنية للحملات الصليبية على المشرق.
والصليبيون على ما يبدو هم الذين نقلوا هذا الاسم إلى اللغات الأوربية، لا سيما الإنجليزية.
وقد أسرف الفداوية في الاغتيال والتضييق على المسلمين حتى في أثناء قتالهم مع الصليبيين.
من ذلك، ثورتهم في حصن شيزر بالشام سنة 509هـ على حين غفلة من أهله وامتلاكه، وانتزاعه من أصحابه بني منقذ، وهو من الحصون المتقدمة في مواجهة الصليبين “أسامة بن منقذ، كتاب الاعتبار، ص77”.
وقبل ذلك، قتلهم الوزير السلجوقي نظام الملك سنة 485هـ، فخسرت دولة السلاجقة المسلمة السنية بمقتله شخصية من أعظم الشخصيات في تاريخ الإسلام السنّي.
وأسف الناس عليه لما كان عليه من العدل والنصفة والإحسان إلى أهل الدين، وطلاب العلم “ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق، ص121”.
وغير الوزير نظام الملك اغتال الفداوية المئات من زعماء الإسلام في العراق والشام ومصر وحتى الحجاز، وكذا اغتالوا أمثالهم من الصليبين.
ولم تسلم البشرية من شرهم إلا حينما حاصر القائد المغولي هولاكو قلاعهم في بلاد فارس بما في ذلك قلعة أَلَمُوْت، وغيرها من المعاقل التي زاد عددها على المئة، وأجبر زعيمهم شيخ الجبل الذي كان -حينذاك- ركن الدين خورشاه على الاستسلام في سنة 654هـ، فأشخصه هولاكو إلى قراقروم، حاضرة المغول، فأمر إمبراطور المغول -حينذاك– منكوخان بإعدامه، فقتل، وقتل كل من كان معه من أسرته.
فتلقى المسلمون خبر القضاء عليه بفرحة عظيمة عبرّ عنها مؤرخ الجويني بقوله: “لقد كان هذا العمل مَرْهَماً لجراح المسلمين، وتداركا للدين من الخلل، حقا لقد كان كأسا طافحا، وريحا عاتية، ولكنها أخمدت”. “سعيد عاشور، الحركة الصليبية، ج2، ص114-115”.
استحضرت هذه المعلومات، ونحن جميعا نتابع ما تحدثه داعش في زماننا هذا من الاغتيالات والقتل والتدمير وإحراق الحرث والنسل على أيدي شباب مغرّر بهم، خُدعوا بوعود خيالية كاذبة كتلك التي وعد بها شيخ الجبل فداوية زمانه، بأن لهم الجنة، وما فيها من نعيم مقيم.
وما علموا أن الجنة ليست بيد أحد من البشر، وإنما هي بالعمل الصالح، وفعل الخير وملازمة جماعة المسلمين، ومن شذ عنهم شذ في النار.

خيوط جامعة تربط بين التنظيمات “المتطرفة” على اختلاف مشاربها المذهبية، وما يفصل بينها من مدى زمني قد يمتد قروناً عديدة.

في أواخر القرن الـ11 الميلادي، أسس حسن الصباح حركة “الحشاشين”، أو “الدعوة الجديدة” كما كانوا يطلقون على أنفسهم، وذلك بعد عودته إلى إيران، مدشناً دعوته إلى المذهب الإسماعيلي، مستغلاً تذمر السكان في بلاد فارس من حكم السلاجقة.

الصباح، الذي وصل أصفهان العام 1081، راح ينشر أفكاره وتكبر دائرة أنصاره.. دخل قلعة “ألموت” سنة 1090 بمساعدة عدد من مؤيديه المتواجدين داخلها، ليسيطر عليها تالياً، ويبدأ فصل جديد من تاريخ “النزاريين” استمر نحو 3 قرون.

“الحشاشون” اتخذوا “ألموت” مكمناً حصيناً لهم، وهي القلعة التي تقع في أعالي جبال “البرز” جنوب بحر قزوين، في منطقة وعرة. قاصدين ذلك كي يكونوا بعيدين عن هجمات خصومهم. في الوقت الذي أسسوا فيه لـ”استراتيجية عسكرية” لا تقوم على المواجهات والقتال التقليدي، وإنما على عمليات الاغتيال، والانتحار. وهي الاستراتيجية ذاتها التي تتبعها في الوقت الحالي التنظيمات “المتطرفة” مثل “داعش” و”القاعدة”.

التشابه بين “الحشاشين” من جهة و”داعش” من جهة أخرى، رغم التضاد المذهبي، مرده الطبيعة العنيفة للطرفين، والرغبة في النيل من الخصوم، وتوجيه ضربات استباقية تحدث “خلخلة” لدى معسكر الطرف الآخر، كونهم يعلمون أن هنالك خللا في ميزان القوة بينهم وبين الجهات والدول التي يواجهونها، ولذا يعمدون إلى اغتيال الشخصيات.

الحشاشون اغتالوا شخصيات عدة، منهم الوزير السلجوقي نظام الملك، و”القاعدة” حاولت العام 2009 اغتيال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف الذي كان مساعداً لوزير الداخلية حينها. ونفذت وخططت تالياً هي و”داعش” لاغتيال رجال أمن وضباط في مناطق مختلفة من المملكة.

الاستراتيجية الأخرى التي تشترك فيها “داعش” مع “الحشاشين” هي “الانتحار”، وذلك بعد أن ينفذ المُجند عمليته، خوفاً من إلقاء القبض عليه من جهة، ومحاولاً عدم البوح بأسرار الحركة والتنظيم من جهة أخرى، وأملا في “الفردوس المزعوم”!.

إضافة إلى ذلك، كانت كلا الحركتين تعمدان لتنظيم عمليات بشكل علني، سواء في الأماكن العامة، أو تحت مرأى الناس، لإحداث حالة من القلق والخوف في النفوس، محاولة أن تلعب على الوتر النفسي.

هو “العنف” و”القتل” له جذر واحد، وإن تعدد منفذوه، وإن اختلفت المسميات والمذاهب.

الحشاشونWhere stories live. Discover now