..........

بعد تلك الصدمة قررت أن أتوقف عن لعب دور المحققة. أبلغت الشرطة عن كل شيء لتتصرف عوضا عني.

ثلاث جولات من الفودكا في الحانة القريبة؟ الحل لكل شيء.

لا أدري كم مكثت في تلك الحانة البائسة. فحالما دخلت قطعت العلاقة بالمكان والزمان والذاكرة. كم أتمنى أن أنسى. ياليتني أستيقظ يوما لأكتشف أن كل ما عشته كان حلما.. أقصد كابوسا. ولكن تذكرة النسيان مكلفة.. جدا.

طريق النسيان ليس سهلا ولا جميلا، نحن نشق نسياننا بدموعنا وعذاباتنا، مستغرقين زمنا ليس له علاقة بالوقت.

"أرلينا" قال صوت عسلي متفاجئ من خلفي.

وجهة نظر الراوية

"آوه زين تعال. أنضم الى الحفل" قالت الفتاة البائسة التي كانت تجلس مع شياطينها في زاوية وحيدة من حانة فارغة.

لقد كان المكان يقبع في منتصف الطريق بين منزل أرلينا وزين. وشائت المصادفات جمعهما اليوم هنا، كأنما بعث لمواساتها.

جلس زين بهدوء بجانبها. تأملها. كانت ملتفة بسوادها كمن يحمي حزنه من الآخرين. كانت جميلة وفريدة، حتى بعينيها المحمرتين ثملا. لقد كان الأسود يليق بها. كان لونها وكانت إلهته.

"ما اللذي تفعلينه هنا لوحدك؟" قال زين وقد بدأ يلاحظ حالتها المزرية.

"سمعت بأن النسيان يباع في قارورة وجئت لأجرب" قالت بتهكم.

"تعلمين بأن الشرب ليس حلا. هل تريدين التحدث في مشكلتك أيا كانت؟" لم يكن يعلم زين ما يفعل، هل يتدخل؟ أم يعطيها المجال لتتكلم إن أرادت؟

صمتت. وكأنها تستنجد به دون كلمات. هل إنتبه؟ لا تعلم. ولكنها شعرت بلمسته الخفيفة على كتفها الهش، وكأنه يدري، ويريد تخفيف حملها.

"لا تتعب نفسك بمشاكل الآخرين. مشاكلي كثيرة"

"يستحيل أن تكون أكثر من مشاكلي. ثم أنا لا أمانع مشاكلك أنتِ"

"لطيف"

تنهد زين ولم يقل شيئا، إلى أن بدأت هي بالتحدث:

"كم هي خبيثة الحياة حين تفاجئنا. حين تمسكنا من الخلف بمخالبها. تظفر بأرقابنا دون خجل. تضحك وهي تسمع صرخاتنا تعلوا. يالها من عاهرة تلك الحياة. ننفق حياتنا في إغرائها وهي تتفانى في تعذيبنا"

تفاجئ زين قليلا لكلماتها "وهل مشكلتك مع الحياة؟"

تبسمت بتهكم "مشكلتي مع الذاكرة، ألم تشعر يوما وكأنك مربوط بالماض بخيوط شفافة؟ تسحبك ببطئ نحو الظلام. مقاومتك لها لا تزيدك إلا جروحا وخدوشا، أأستسلم لها؟ أثقلتني جروحي"

طلب زين كأسا من النبيذ الأحمر "الإستسلام ليس خيارا أبدا"

"ولا الألم. إنه ليس خيارا"

"ما اللذي يؤلمك؟" سأل زين هامسا، نصف متأكد بأنه لن يحصل على جواب.

"ما الذي يؤلمك أنت؟"

شرب زين كأسه دفعة واحدة "حاضري. مشكلتي بأنني عالق في الواقع."

"أما أنا فعالقة في الماضي" قالت أرلينا وصمتا بعدها، زين يتسائل ما الذي قد يحزنها هكذا، أرلينا سارحة في عالمها.

أحيانا يكون صوت الصمت أعلى من أي صرخة، أحيانا يكون الصمت مفجعا، وقاسيا، وهاهي تصرخ بكل قوتها صمتا. مستنجدة بأي أحد. لقد كانت هشة وفي أضعف حالاتها. وزين كان فتى زجاجي مكسور، يدري بأنه لا يستطيع لها بشيء أبدا. إن دخل قلبها سيجرحها بكل أطرافه الحادة.

"هل أستطيع شيئا من أجلك؟"

"قبلني. أريد أن أثمل بك"

هل يمكن رفض طلب لإلهة الأسود الحزينة؟ بالطبع لا. ما تفعله هو أنك تنصاع لأوامرها عاشقا منوما مغناطيسيا. ما تفعله هو السماح لها بلمس وجنتيك، بسحب شعرك بخفة، بلفظ أنفاس حارة ببرودتها على طول رقبتك، بوشمها بتلك الدرجة من الأخضر التي لا ترسم إلا على الجسد.

ما تفعله بيداك المرتعشتان هو السماح لهما بالذهاب الى الأسفل، أسفل، أسفل. شاعرا بقلبها يقفز عن خفقاته ويتعثر بها. وقتها فقط، عندما تبتسمان بأنفاس ثقيلة، وتتواصلان بنظرات فيها نجوم. تشعر لمرة، بأن كل شيء بخير، أو سيكون بخير. لأن لديك من ترمي حملك على ظهره.

ستكون بخير، لأن لديها من يسند ظهرها ساعات الفجر الأولى، لديها من تضع رأسها على كتفه، لديها شخص لن يحكم عليها إن تمتمت بكلمات غير مفهومة في حالة من الاوعي. سيكون كل شيء بخير.

ملاحظة: أريد أن أسمع كل توقعاتكم/ملاحظاتكم/أسئلتكم، فعليا يمكنكم إخباري أي شيء، فهذا يعطيني إلهاما للنصوص القادمة. شكرا♡

إبن القمر.  حيث تعيش القصص. اكتشف الآن