1

47 10 1
                                        


كان الفجرُ يقتربُ من الغابة بخطواتٍ متردِّدة، كأنّه يخشى أن يوقظ صمتها العميق. امتدّ ضوءٌ باهتٌ بين الأشجار العالية، يلامسُ أوراقها المبلّلة بندى الليل كلمسةٍ خفيفة تُوقظ ذكرى قديمة. وكان الضبابُ ينسابُ قريبًا من الأرض، يغمرُ الجذور والأغصان الساقطة بهدوءٍ يجعل المشهد أشبه بنَفَسٍ طويلٍ تُخرجه الأرض بعد سهرٍ ثقيل.

لم تُطلق الطيورُ صوتًا بعد؛ كأنّها تنتظر شيئًا لا تسمّيه، أو كأنّ الفجرَ نفسه لم يكتمل ليمنحها الشجاعة. وحدها حركةٌ بعيدة، خفيفة، كسرت ذلك السكون... خشخشةُ ورقٍ يابسٍ تحت قدمٍ مجهولة، كأنّ أحدهم يمرُّ حيث لا ينبغي لأحدٍ أن يكون.

وكانت رائحةُ التراب الرّطب تتصاعد ببطء، تحملُ معها دفءَ يذكّر بما مضى، وبُعدًا يوحي بما سيأتي. وفي أقصى الغابة، ارتفع خيطُ دخانٍ رفيع، يكادُ لا يُرى، لكنّه بدا كعلامةٍ غامضة، أو وعدٍ لبدايةٍ لا تزال تتشكّل في الظلّ.

هكذا وقف المشهدُ كلّه على حافةِ لحظةٍ لا تُفسَّر... لحظةٍ يختلط فيها الحنينُ بالخوف، والسكينةُ بأنفاس شيءٍ يوشك أن يولد.

كان جيمين يجلس هناك، وحيدًا وثقيل القلب، لا يدري إلى أين يمكن أن يمضي. لقد سئم تلك القرية الصارمة التي يخيّم عليها الجهل، ويضيق فيها الهواء على كلِّ مَن يحاول أن يحيا خارج حدودها الضيقة. تمنّى لو أنّ بوسعه الرحيل إلى مكانٍ بعيد... مكانٍ لا يُحاكم فيه الحب، ولا تُكسر فيه القلوب خوفًا من العيون والشرائع.

كان يتخيّل نفسه وجونغكوك في أرضٍ أرحب، حيث يستطيعان أن يُكملا ثمرة حبّهما دون أن يختبئا، وحيث يُسمح لولدين أن يعترفا بما في صدريهما دون خوف أو خجل أو عقاب. مكانٍ يملك فيه الحب حقّ البقاء... وحقّ أن يُسمع صوته.

لم يحتمل جيمين ثِقَل أفكاره طويلًا. كان الصباح شاحبًا، والبردُ يزحف من تحت ثيابه، ومع ذلك لم يتحرّك. ظلّ جالسًا عند طرف الغابة إلى أن بدأت الظلال تتمايل أمام عينيه. شعورٌ غريب اجتاحه... كأن الأرض تميد تحته ببطء، وكأن الهواء يبهت شيئًا فشيئًا. حاول أن ينهض، لكن قدميه لم تستجيبا.

وفي اللحظة التي أطبق فيها الإظلام على وعيه، سمع صوتًا خفيًّا، أشبه بارتطام زمنيّ بعيد... ثم سقط.

--

حين فتح عينيه من جديد، لم تكن رائحة الغابة حوله، ولا دفء التراب الذي اعتاد أن يلمسه حين يفيق. كان السكون مختلفًا... ثقيلًا ولكن ليس طبيعيًّا. رفع رأسه ببطء، فإذا به على رصيفٍ حجريّ غريب، تحفّه مبانٍ شاهقة تقطع السماء بخطوطٍ مستقيمة لا تشبه الأشجار التي اعتادها.

لم يكن هناك حصان واحد... بل آلات ضخمة تجري على طرقٍ سوداء، تُصدر هديرًا كأنها كائنات معدنية تشتعل قلوبها بالنار. أضواء لامعة، ألوانٌ غريبة، أصواتٌ عالية... عالم لا يعرفه.

You've reached the end of published parts.

⏰ Last updated: Dec 01 ⏰

Add this story to your Library to get notified about new parts!

Different worlds |jikookWhere stories live. Discover now