١٨

25 3 10
                                        

⁦♡ولكنني هذه المرة سأمضي وأنا أعرف أنني أحبك، وسأظل أنزف كلما هبت الريح على الأشياء العزيزة التي بنيناها معاً..⁦♡⁩

غسان كنفاني

كانت الليالي تمرّ سريعًا على العالم ذي الضجيج العظيم، لكنّها كانت تمرّ عجافًا على تلك الأرض المنسيّة.
مرّت الشهور وكأنّها دهر، وبضع سنوات ثقال، فارغة ومؤذية.
ولم يتحسّن الوضع أبدًا، فالحرب حين تندلع لا تنتهي إلا إمّا بمجد مرفوع الراية، أو بخسارة شريفة يحتضنها التراب، ورايتها تُدعى الجهاد والموت من أجل القضيّة.

وكذلك كانت الأحوال حينها؛ لا الحرب تترك الرجل رجلاً كباقي رجال الدنيا، ولا المرأة تبقى امرأة كباقي نساء الدنيا، ولا الطفل يظلّ طفلًا كما كان.
الحرب تجعلنا ننسى، وتؤذينا حتى من نسيمٍ خفيف.

-

عزيزي جيون،
لأول مرة أكتب… وليست أول مرة حقًا، لكن المختلف في الأمر هذه المرة أيها العزيز أنني أكتب كامرأة حرب تشكو لنقيب شهم مثلك، لا كمحبّة تتودّد مشتاقة لمحبوبها.

لعلّي وطوال تلك الأشهر والسنين كتبت لك عن حلمي ببيت صغير يجمعنا، برقصة أسفل الظل وبين زخّات المطر اللذيذ. وكلمتك عن الخبز، والحب، والشعر، والكنزة الصوفية، والقمر، ولون الأقحوان. وكلمتك عن شوقي، وبكيتك حينًا، وغازلتك حينًا آخر.

لكنني سأكتب لأول مرة عمّا فعلته الحرب بي أيها النقيب، وعساك بخير ككل مرة كسابقتها. لا زال ملمس فمك عالقًا في شفتي، والعالق أكثر تلك الدمعة المالحة التي تسربت من جفنيك خفية عني وعنك، تشكو لي ما فعلته بنا هذه الحرب.

طوال تلك الفترة عانينا، ولعل صوت الرجال يعلو في مجامع الرجال، ولعل بكاء الطفل يصدع فيلامس عطف الفؤاد، ولكن ماذا عنهن؟ من صوتهن لا يُطاق وعارٌ أن يندفع، من دموعهن شكواهن الساكنة التي لا تُسمع. ماذا عنهن اللواتي أعتبرهن جنود الخفاء في كل هذا؟

ماذا عنّا يا جيون، نحن النسوة الأحرار؟ لعل صبرنا يجعلنا ننسى، لكنني عشت في البلدة أثناء غيابك، وكانت تتوافد عليّ النسوة إلى العيادة يومًا بعد يوم. لقد انتهكنا العدو يا جيون، وليس فقط انتهاك حدود الوطن وحدود الجسد، وإنما حتى أرواحنا انتُهكت. كنّ يسرن بأقدام ملتوية هربًا من الوحش، نازفات مرهقات، وكنا ننسى أن لنا شأنًا لأجسادنا؛ فلا حيض له قيمة، ولا حمل له قيمة. كنا ننزف ليلًا طويلًا، لنخرج ونكافح في الصباح دون أي عطف أو رحمة.

كنا نحارب جسدنا الخائن، والدخيل المحتل، والجوع والعطش، وألم الفراق، وأذى الفقد ولوعة الشوق لما يُدعى بالحرية.

في احضان الوطن || جِ•كِWhere stories live. Discover now