بعد انتهاء التدريب، عاد غاري إلى غرفته المشتركة، يخطو بخطى مثقلة بالتعب، لكن على وجهه ارتسمت لمحة رضا خافتة عن أدائه. فتح الباب بهدوء، وعيناه تجوبان المكان حتى استقرتا على آرثر، الجالس على سريره، غارقًا في صفحات كتاب يبدُو وكأنه ابتلع وعيه بالكامل. لم يصدر غاري أي صوت، بل اكتفى بالنظر إليه للحظات قبل أن يتجه إلى خزانته، اخرج منها ملابس نظيفة، ثم دخل الحمام دون أن يقطع على آرثر عزلته بكلمة.
دقائق مرت، والماء الساخن ينزلق على كتفيه، يمحو إرهاق الساعات الطويلة. خرج غاري بعدها، يلفّ منشفة حول عنقه، وقطرات الماء لا تزال تتسلل من شعره إلى عنقه، وقميصه الجديد التصق بجسده المبتل جزئيًا.
مرر المنشفه الصغيره بين خصلات شعره المبللة، ثم التفت تلقائيًا إلى زاوية الغرفة، حيث لا يزال آرثر في مكانه، لم يتحرك قيد انمله منذ دخوله.
راقبه غاري لحظة، عيناه استقرتا على ملامح آرثر الهادئة والمشدودة في آنٍ معًا، غارقه في سطور الكتاب كأن العالم من حوله لا وجود له.
أراد أن يجرّه من هذا الصمت الساكن، أن يخرجه من انغماسه...او حتى ان ينتبه لوجوده ولو بجملة بسيطة، تنقل بنظره بين الكتاب ووجه آرثر، ثم مال قليلًا للأمام وقال بنبرة خفيفة لكنها مقصودة:"ما الذي بين يديك؟"
لم يرفع آرثر بصره، انهمك بتقليب الصفحة التالية، وأجاب بنبرة هادئة أقرب للبرود:"إنه كتاب...كما ترى."
ارتفع حاجبا غاري قليلًا:"أعلم أنه كتاب" ثم زفر بخفه قبل ان يستأنف حديثه"هل تريد الذهاب معي لصالة الترفيه؟"
تمتم ارثر:"لا..ليس لي رغبة."
غاري لم يتحرك، ظل واقفًا ينظر اليه لبرهه، خيّم الصمت على الغرفة لثوان، ثم قال بنبرة حاول أن يُخفي فيها الخيبة:"كما تحب.."، بعد لحظه تحرك اخيرا وجلس على طرف سريره دون ان ينبس ببنت شفه. يحدّق في الفراغ بصمتٍ ثقيل. وحدها حركة صفحات الكتاب كانت تملأ الغرفة...كأنها تذكّر كلٍّ منهما بأنه اختار عزلته بطريقته.
بينما في الجانب الاخر، كان آرثر جالسًا في سكون، ظهره مسنود إلى الحائط، والكتاب بين يديه مفتوح على صفحة لم يقرأ منها شيئًا منذ دقائق. عيونه لم تكن تقرأ، بل كانت تراقب غاري الذي جلس على طرف السرير، كان هناك شيء في جلسته، في سكونه، في النظرة التي فقدت بريقها للحظة، وذاك الشرود الذي غلّف ملامحه.
كأن شيئًا ما أثقل روحه فجأة. لم يكن هذا الصمت عابرًا؛ كان صمتًا يترك فراغًا بينهما، فراغًا شعر آرثر أنه هو من صنعه.
استعاد في ذهنه اللحظة قبل دقائق، حين ردّ على سؤال غاري ببرودٍ عفوي، أو ربما لم يكن عفويًا تمامًا... بل تلك العادة التي تلتصق به، عادة إغلاق الأبواب بدل فتحها. أدرك الآن أن هذه العادة قد تركت أثرها، وأنه، بطريقة ما، دفع غاري إلى هذا السكون الموحش.
YOU ARE READING
ROACH
Mystery / Thriller"حين يختار الضوء أن يتجسّد في هيئة إنسان، يمشي في المكان فتنبض الحياة من حوله بلا عناء. حضوره وحده يكفي ليحوّل المسار، ليخفف ثقل العتمة، ولينسج حياة حيث كان الفراغ سائداً. كل خطوة منه توقظ شيئًا غائبًا، وكل ابتسامة منه تترك أثرًا في النفوس، كأن العا...
