الفصل الثالث: كنة (الجزء الأول)

29 19 1
                                    

الفصل الثالث

عزيزي سليم، لقد حولوا متجر الكتب القديم إلى حانة. هل تصدق هذا الهراء؟
أتذكر تلك الأريكة التي كنا نجلس عليها كل أحد! أتساءل أين ذهبوا بها!

أكاد اقسم ان المدينة التي كانت يوما كلوحة شطرنج مرتبة بدقة...بعد مماتك، أصبحت وكأنما أمسك بها أحدهم وألقى كل قطعة منها في مكان.

لا شيء فيها بقي على حاله، كل شيء يبدو غريبا، لقد قضيت الساعات الماضية أتجول في المدينة، وأنا أحاول أن أستوعب مدى التغيير الذي طرأ عليها منذ أن كنت فيها آخر مرة.

أتعلم ماذا رأيت أيضا؟ في طريقي لمتجر البقالة، مررت بذلك الكرسي الخشبي الذي اعتدنا أن نجلس عليه ونحن ناكل المثلجات. لقد جلست عليه اليوم وحدي...لكم وددت أن تكون بجانبي فربما حينها لم يكن الناس لينظروا إلى كما نظروا إلى اليوم.

لقد بدا لي أن جميع من في المدينة كانوا مرتاحي البال لا يحملون للدنيا هما. يتجولون هنا وهناك وكأن حياتهم تسير في اتجاهها الصحيح، وكأنهم لا يخشون انقلاب حياتهم رأسا على عقب. يعيشون كل لحظة بلحظتها ولا يدرون بقلوب الامهات الذين يتجولون من غير بناتهم.

ربما لم يكن من الصواب أن آتي إلى هذه الحانة في أول ليلة لي هنا؛ وليس ذاك لأن لدي مشكلة مع الكحول، ولكن أخشى أن يدري أبويك أنني أتيت إلى هذه الحانة قبل أن أذهب إليهم في منزلهم.

كنت أظنه ما زال متجرا للكتب...ومتاجر الكتب عادة ما تقدم القهوة ولكن عندما دخلت اصبت بخيبة امل كبيرة؛ فقد كان اليوم طويلا وشاقا لسفري بالترام لساعات طويلة قبل أن أستقل سيارة الأجرة. لذا فقد كنت في حاجة ماسة لكافيين اكثر مما يمكن ان يزودني به هذا المشروب الخالي من الدهون.

خطر على بالي أنه ربما كانت الحانة تقدم قهوة... فأنا لم أسأل حتى!

عندما كنت في السجن كنت مشتاقة لفنجان قهوة من هذا النوع الغالي ذو الثمانية دولارات... بالكراميل والكريمة المخفوقة والمزين بحبات الكرز. كنت مشتاقه اليه كثيرا فلم نكن نتذوق شيئا مثله في السجن، كما اشتقت اليك...اشتقت إلى تلك القهوة الغالية، وإليك.

سألني النادل: "هل تريدين شيئا اخر" نظرت اليه فلاحظت أن لون قميصه بنفسجي داكن، ذلك اللون الذي لا تراه في السجون إلا لماما...هذا إن رأيته أصلا.

لم أفكر حقا في كثرة الألوان من حولنا ومدى تأثيرها علينا إلا عندما دخلت السجن. فلا تدرك النعم إلا بعد فقدها؛ لقد كان عديم اللون، وخاليا من كل مظاهر الحياة، فارغ كفراغ قلبي تماما. وبعد فترة تجد أنك لم تعد تتذكر أي شيء... حتى لون الأشجار في الخريف.

سألته: "هل لديك قهوة"

فرد: "بالتأكيد! بالكريمة والسكر؟"

سألته: "هل لديك كراميل؟ وكريمة مخفوقة؟"

ألقى بخرقة على كتفه وهو يقول: "بالطبع هل تريدين شيئا آخر؟ حليب صويا، حليب خالي الدسم، حليب اللوز، أو ربما حليب كامل الدسم"

قلت له: "حليب كامل الدسم من فضلك"

ضحك وهو يقول: "لقد كنت امزح هذه حانة وليس مقهى، هناك فقط إبريق قهوة كنت قد اعددته منذ أربع ساعات ويمكن أن تختاري ما بين القشدة أو السكر، أو كلاهما، أو لا شيء على الإطلاق".

لم يعد به اي شيء يعجبني الآن، لا لون قميصه ولا أي شيء آخر...هذا الغبي! تمتمت أقول: "أحضر أي شيء اذن " .

ما يذكرني به Where stories live. Discover now