الفصل 02: عاصفة هوجاء

63 10 5
                                    

إبتعدنا عن اليابسة وكان يحيط بنا الماء من كل النواحي
و بعد عدة ساعات دخلنا إلى المحيط الأطلسي
كانت السفينة تشق أمواج المحيط بسرعة حوالي 12 عقدة أي ميل بحري وكان الوقت المقدر لرحلتنا هو 10 أيام تقريبا.
حلّ الليل و أنارت أضواء السفينة، بدت السفينة وسط المحيط وكأنها نجمة ساطعة وسط السماء السوداء في الليل
كنت جالسا في غرفتي التي تغمرها مصابيح ترمي بضوئها الذهبي على كل أنحاء الغرفة،وتصميمها الكلاسيكي يزيد من روعتها كما أنني علقت لوحة فنية كنت قد إشتريتها ذات مرة هي نسخة لرسمة الفنان ايفان ايفازوفسكي "الموجة التاسعة" حتى سمعت طرقات خفيفة ومتتالية على الباب، نهضت لأُجيب الطارِق و إذا بها إحدى موظفات السفينة جاءت لتقدم لي العشاء، استلمته عنها و عدت إلى مكاني.
لقد كان يبدو عشاءً فاخرًا،وما كدت أشرع في الأكل حتى بالباب يُفتح ويدخل شخص مباشرة دون استئذان.
إنّه سعيد! لقد كان شخصا غير مباليا منذ أن عرفته لكنه وقف معي في العديد من المصاعب التي واجهتني رغم قلة امكانياته ما جعل علاقتنا وطيدة و ربما هو الشخص الوحيد الذي أهتم لأمره، قال لي"ألا تشعر بالوحدة وأنت في عزلة طيلة الوقت، لقد جئت بعشائي دعنا نتشارك الطعام معا فهذا سيزيد الأكل متعة"
تقدم وجلس على الأريكة ثم لمح اللوحة المثبتة على الحائط و قال "لم أعلم بأنك مولع بالفن إنها لوحة رائعة، ما مضمون هذه اللوحة يا فرانك؟"
-أجبته"إنها لوحة للفنان الروسي ايفان ايفازوفسكي و عنوانها الموجة التاسعة و التي رسمها سنة 1850 وكما ترى في اللوحة يوجد موجة كبيرة أغرقت سفينة ما و يوجد أيضا شخصان يمسكان بسارية السفينة الواقعة في الماء، هذا يُظهر غريزة الإنسان ومحاربته من أجل النجاة"
-رد عليّ"اوه هذا رائع، لديك معرفة كبيرة رغم أن هذا ليس مجالك"
-فقلت"صحيح أنّي أدرس الطب لكنّي كنت أمضي وقتا طويلا أطالع الكتب و الروايات، كما أنّ لي هوايات لا أمارسها دائما فلو قلت لك أني أحب عزف الكمان و أحمل معي واحدا في حقيبتي دائما فلن تصدقني"
-انصدم و رد عليّ"هذا مذهل يا فرانك! يبدو أنك شخص عبقري"
-ضحكت ثم رددت عليه"تُكتسب المعرفة بالمطالعة و البحث و استكشاف الحقائق، أغلب الناس يفعلون عكس هذا و لا يحاولون استفسار أي شيئ من حولهم، لكن بالطبع كل شخص يفعل ما يريد"
أكملنا عشاءنا ثم اقترح عليّ أن نتجول بالسفينة لكنني كنت متعبا بعض الشيئ فأخبرته أن نترك ذلك للغد فلا يزال أمامنا وقت طويل للرحلة وكانت السفينة كبيرة جدا و التجوال بها سيكون مُتعِبا، لكن بعد أن ترجاني أن نفعل ذلك وافقت لكن جولة صغيرة فقط.
خرجنا إلى الممر الذي بجانب غرفتي و بدأنا بالسير، كان شكل السفينة من الداخل فخما و يوحي عظمة و ذوق مهندسها، كانت الأضواء مثبتة على طول منتصف الحائط تشبه الشموع بضوئها الذهبي البراق و على طول الأرضية كان مفروش بساط أحمر تتخلله زخرفات فضية.
عند نهاية الممر وجدنا غرفة كبيرة جدا تجمع بها الكثير من الناس، يبدو أنها أكبر غرفة في السفينة وكانت الغرفة صاخبة فقد كانت تحتوي طاولات كثيرة يجلس عليها العديد من الناس فمنهم من يلعب و منهم من يتحاورون بصوت عالٍ، حتى مرّ بجانبنا شخص تفوح منه رائحة الخمر و يمشي على اعوجاج
اِلتفت إلينا وهو يحمل قارورة خمر و قال "مارأيكما أن تجربا القليل من هذا، إن هذه القارورة تحتوي على خمر يدعى جين و أراهن أن جسمكم لن يتحمله ففعاليته قوية جدا"
نظرت إلى سعيد فرأيت في عينيه أنه كان سينقضّ عليه و يشبعه ضربا، فأخذته من يده و انصرفنا من المكان دون إجابة ذلك العربيد
صعدنا إلى سطح السفينة و مشينا إلى حافتها مطلين على المحيط، بقينا نتأمل هدوء البحر حتى فاجأني سعيد بفكرته المتهورة"أتظن يا فرانك أنني لن أموت لو قفزت من هذا العلو الشاهق إلى البحر"
أجبته"سيكون أغبى شيئ تفعله قبل أن تموت، فالمسافة كبيرة جدا و عند ملامسة سطح الماء بعد القفز من هذه المسافة ستجد أنه صلب كالحجارة و يمكن أن تموت على الفور، حتى لو لم تمت فدرجة حرارة المياه هنا منخفضة جدا و ستتجمد حتى الموت"
قال"إنّ هذا مرعب فعلا "
بقينا هناك لمدة معتبرة فقد كان المكان هادئا ثم عدنا إلى غرفنا لننام أول ليلة على السفينة.
في صباح اليوم التالي خرجت من غرفتي بعد أن تناولت فطوري، لاحظت أن قبطان السفينة يقصد الغرفة رقم 20 التي بجانبي كثيرا منذ انطلاق الرحلة رغم أن له غرفة خاصة في حجرة القيادة لكنني كنت أجهل سبب ذلك فتغاضيت عن الأمر
اليوم سيكون يوما رائعا، فسأتفقد فيه كل أركان السفينة
وعدت سعيد البارحة أن نذهب للمسبح اليوم لكنه لم يستيقظ بعد، لذلك قررت أن أترك ذلك فيما بعد، سمعت بأنه توجد غرفة لعزف الموسيقى فتوجهت إليها، كانت تقع في منتصف الطابق الثاني و كانت غرفة واسعة
دخلت إليها وقد كانت تحتوي العديد من الآلات الموسيقية و بعض الأشخاص يعزفون على آلات مختلفة لكن ما جذبني هو عزف إحدى الفتيات على الكمان، كانت محترفة جدا في فعل ذلك
تقربتُ منها ثم جلست على كرسي لكي أنصت بشكل أفضل لها وكانت قد انتبهت لوجودي، كان عزفها الرائع يأخذ عقلي، لكن سرعان ما أصبح العزف يصبح سيئا شيئا فشيئا حتى وصل إلى درجة كبيرة من السوء جعلني أضع يداي على أذناي فقد أزعجني ذلك بحق، ثم توقف العزف فجأة، و نهضت الفتاة و تقدمت إليّ و قالت "أنا آسفة أيها السيد لكنني أرتبك عند مراقبتي من شخص ما فيصبح عزفي هكذا، أرجوك اعذرني"
نظرت إلى وجهها بتمعن و قد كانت شابّةً شديدة الجمال و قد احمرّت وجنتاها بشدة دلالة على خجلها
-رددت عليها"لا داعي للاعتذار فهذا خطئي، لم يكن عليّ التطفل عليك بهذه الطريقة، و بالمناسبة عزفك في البداية كان عزفا ينقلك إلى عالم آخر لشدة روعته"
-قالت"شكرا لك يسرني هذا كثيرا أيها السيد.."
-فقلت"فرانك... فرانك براون"
ردت عليّ"تشرفت بمعرفتك أيها السيد فرانك، أنا أدعى أوليفيا"
ثم دخلت الغرفة فتاة أخرى قامت بمناداتها و يبدو أنها أختها الصغرى فقامت بتوديعي وقالت فلنلتقي في وقت آخر و غادرت.
تملكني شعور غريب لم أشعر به من قبل، لكن أبعدت كل تلك الافكار التي راودتني حينها رغم أني لم أستطع فهم ذلك الشعور إلا أنني حاولت أن لا أفكر به.
عدت ادراجي و صعدت إلى الطابق الأعلى فوجدت سعيد يبحث عني لكي نذهب إلى المسبح كما وعدته.
كنا نتنافس على من يقطع المسبح ذهابا و إيابا و كان يفوز عليّ في كل مرة فقد كان ماهرا بالسباحة
بعدها أخذنا حماما ساخنا أشعرني بالراحة الشديدة
وصل المساء و كان سعيد جائعا جدا لذا أخبرني أنه سيذهب لتناول العشاء في قاعة مطعم السفينة أما أنا ففضلت أن أصعد على سطح السفينة و أشاهد غروب الشمس
وصلت إلى المكان و جلست على مقعد كان مقابلا لهذا الغروب الجميل البراق، ما أجمل اللون الأحمر الذي انتشر في السماء و الشمس تبدو وكأنها تغرق في المحيط
وأنا أتمتع بهذا المشهد الخلاب حتى بشخصٍ يجلس قربي، التفت إلى يميني و إذا بها اوليفيا الفتاة التي التقيتها صباح هذا اليوم
قالت لي بصوت منخفض "أنا آسفة فعلا عمّا بدر مني من قبل"
رددت عليها"لا عليك فليس بالشيئ المهم"
ثم قالت مرة أخرى"أترى مدى جمال هذا المشهد، إنه منظر يفتح النفس"
فقلت"نعم إنه كذلك"
وجلسنا معا نشاهد غروب الشمس حتى غطس قرص الشمس تحت المحيط
عندها شعرنا بشيئ غريب كان كل العمال من طاقم السفينة يتسارعون و كأن شيئا ما سيحدث و في لحظة ما سمعنا صوتا من قبطان السفينة يتحدث من مكبر الصوت "لكل ركاب هذه السفينة، هناك عاصفة كبيرة قادمة نحونا لكن لا تقلقوا سنتعامل مع الأمر ونحاول تفاديها قدر المستطاع فرجاءً منكم فليتوجه كل واحد منكم إلى غرفته كي لا تعيقوا عمل طاقم السفينة"
قلت في نفسي عاصفة؟ كان الطقس رائعا ولا دليل أبدا لقدوم عاصفة
لكن بعد أن دققت وجدت أن سرعة الهواء بدأت تزيد فعلا بنسبة ضئيلة، يبدو أن قبطان هذه السفينة ملاح ماهر و له خبرة كبيرة.
وكما كان الحال توجه كل الركاب إلى غرفهم، وأنا داخل لغرفتي رأيت القبطان يدخل مرة أخرى إلى الغرفة المجاورة لغرفتي حتى في هذه الظروف لازال يقصدها
تغلبني الفضول كي أعرف ما يوجد بها
بعد مدة قصيرة ظهرت غيوم سوداء عملاقة في السماء وزادت سرعة الرياح و ارتفعت الأمواج، بدأ يرتابني بعض القلق وكل ما كنت أفعله هو مراقبة البحر من نافذة غرفتي المغلقة و بالكاد أرى الأمواج القريبة من السفينة فقد خيّم الظلام على المكان.
بعد لحظات أصبحت السفينة تهتز بعنف حتى ظننت أنها النهاية و أننا سنلقى حتفنا جميعا
لم أعرف ما أفعل في تلك الأثناء، فقمت بإخراج الكمان الذي كان في حقيبتي و بدأت بالعزف عليه، لم أكن بارعا في ذلك لكني كنت أفعله على نحو صحيح
بدأت أعزف إحدى السيمفونيات المشهورة لموزارت
فقد كنت أحبها كثيرا، ارتفع صوت كماني في الأرجاء و كان متناسقا مع ضرب الأمواج للسفينة في كل مرة و بعد مدة بدأت الأوضاع تهدأ و قد تعجبت من ذلك، خرجت لأستفسر عن ما حدث فسمعت صوت القبطان على مكبر الصوت يطمئن الركاب على أنهم استطاعوا تفادي العاصفة و أن بإمكانهم نوم ليلة هانئة بسلام
تعجب الجميع من ذلك، أما أنا فقد تعجبت من ذكاء القبطان و خبرته الكبيرة في الملاحة و اكتشافه للعاصفة قبل زمن من وصولها و تحريف مسار السفينة حتى يتفاداها بنجاح.
عدت إلى غرفتي و استلقيت على فراشي ونمت مباشرة فقد تعبت كثيرا هذا اليوم.

أركادياWhere stories live. Discover now